النور الساطع في الفقه النافع المجلد 2

اشارة

نام كتاب: النور الساطع في الفقه النافع

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى

تاريخ وفات مؤلف: 1411 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 2

ناشر: مطبعة الآداب

تاريخ نشر: 1381 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: نجف اشرف- عراق

الجزء الثاني

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

و به نستعين

[الديباجة]

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله و صحبه الطيبين الطاهرين. و بعد: فيقول المفتقر إلى اللّه تعالى علي ابن المرحوم الشيخ محمد رضا ابن المرحوم الشيخ هادي قد ساعدني التوفيق الإلهي على إنجاز الجزء الأول من كتابي (النور الساطع في الفقه النافع) و قد كان يشتمل على القسط الأوفر مما وضعته مقدمة للبحث في مسائل الفقه من مباحث الاحتياط و الاجتهاد و المجتهد. و هذا الجزء الثاني منه يشتمل على ما بقي مما وضعته مقدمة له من مباحث التقليد و شروطه و ما يعتبر في المقلد و المقلد فيه و أحكام ذلك. و من اللّه نستمد الصواب و التوفيق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 4

مباحث التقليد

[بحوث تمهيدية]

تعريف التقليد
معناه اللغوي

التقليد: في اللغة مصدر مأخوذ من قلد بتشديد اللام فهو نظير التقديس المأخوذ من قدس و ليس بمأخوذ من تقلد زيد السيف فان مصدره تقلد بفتح القاف و ضم اللام نظير التدحرج المأخوذ من تدحرج و الظاهر انه من المصادر الجعلية المأخوذة من المواد الجامدة نظير حجّر المأخوذ من الحجر فهو مأخوذ من القلادة و لذا فسره غير واحد من أهل اللغة كما هو المحكي عن الصحاح و مجمع البحرين بتعليق القلادة في العنق فإنه مرادهم تعليق الشخص القلادة في عنق الغير لا تعليق الشخص القلادة بعنقه نفسه فان هذا يناسب معنى التقليد لا التقليد.

و صاحب الفصول لما فسر التقليد في اللغة بذلك تخيل بعضهم ان مراده تعليق الشخص القلادة بعنقه نفسه فأورد عليه بأن هذا تقلد لا تقليد و ما درى ان مراده هو ذلك، و كيف كان فالتقليد بالمعنى الذي ذكره اللغويون يصلح للتعدية لمفعولين الأول منهما القلادة و ما

هو بمنزلتها و الثاني منهما ذو القلادة و منه قول الفقهاء في كتاب الحج يجب تقليد النعل الهدي فإن مرادهم تعليق النعل الذي صلى فيه بعنق الهدي، و منه في حديث الخلافة قلدها رسول اللّه (ص) عليا (ع) أي ألزمه بها و جعلها في عنقه، و منه قول العامة للمجتهد «قلدتك أمور ديني أو قلدتك أعمالي الدينية» أي جعلتها في عنقك و يكون فيه تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول لأن المقصود من ذلك انه قد جعل أمور دينه و أعماله الدينية مرتبطة بالمجتهد و في عهدته و منوطة به و ملزمة برأيه فكانت أعماله الدينية و أموره الإلهية كالقلادة للمجتهد باعتبار ارتباطها به كارتباط القلادة بعنق الغير و جيد الفتاة حيث كانت منوطة به و موضوعا عهدتها عليه لا انه جعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 5

المجتهد مرتبطا بأمور دينه و منوطا أمره بها و إلا لكان المجتهد بمنزلة القلادة لأمور دينه لا أن أمور دينه بمنزلة القلادة للمجتهد. و منه أيضا تقليد الولاة الأعمال و قد يعدى للمفعول الثاني بنفسه و للأول بالباء أو بفي فيقال قلدتك في معرفة القبلة و قلدتك بمعرفة القبلة.

[معنى التقليد اصطلاحا. المراد من (العمل) في تعريف التقليد]
اشارة

و في اصطلاح الفقهاء هو العمل بقول الغير من غير حجة كما هو في القوانين و المعالم، و المحكي عن السيد الصدر في شرحه على الوافية و العضدي و المدارك في مبحث القبلة و النهاية و الأحكام، و من الغريب ما ذكره بعض أساتذة العصر في تقريراته ان التقليد باق على معناه اللغوي عند عرف المتشرعة و هذا يخالفه الوجدان لتبادر هذا المعنى الخاص إذا أطلق في كلماتهم دون أن يحتملوا معنى آخر مضافا إلى تصريح

أهل العرف بذلك و هم أرباب النقل و أهل البيت أدرى بالذي فيه، و لا بد لتوضيح هذا التعريف من التكلم في أجزائه:

(الأول) منها هو العمل و لتحقيق المراد منه نقول: ان بعضهم أبدل العمل في التعريف بالأخذ كما في الفصول و هو المحكي عن المقاصد العلية و بعضهم أبدله بالقبول كما عن مجمع البحرين ناسبا له لاصطلاح أهل العلم و كما هو المحكي عن الوافية و الإيضاح و جامع المقاصد و شرح المبادي لفخر الإسلام و بعضهم أبدله بالمتابعة، فهل هذا كله اختلاف في التعبير و المقصود واحد و هو تطبيق الحركات و السكنات على قول الغير بإرجاع الجميع إلى ظاهر لفظ العمل و يكون المراد من الأخذ و القبول هو العمل و الجري على مقتضى قول الغير و قد استعمل الأخذ بهذا المعنى في كثير من الموارد مثل من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات فان المراد به العمل بها و مثل الأخذ بأعدلهما و الأخذ بما وافق الكتاب، و يشهد لكون المراد بالأخذ هو العمل تمثيل بعض من فسره بالعمل (بأخذ العامي من مثله) كصاحب القوانين و المعالم، و ذكر القبول في المحكي عن النهاية بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 6

تعريفه بالعمل. أو المقصود من الجميع هو الأخذ و القبول لقول الغير لأجل العمل به عند الحاجة و إن لم يتعقبهما العمل لعدم تحقق الحاجة إليه بمعنى جعل قول الغير مستندا له و معتمدا عليه و جعل مؤداه حكما في حقه و التوطن على العمل به وقت الحاجة و إن لم يتعقبهما العمل بأن يرجح ظاهر لفظ الأخذ و القبول الواقعان بعد تعريفهم التقليد بالعمل كما تقدم على عكس

ما تقدم و يكون المراد بالعمل هو الأخذ أو أن ذلك اختلاف منهم في معنى التقليد فبعض يفسره بالعمل و بعضهم يفسره بالأخذ و القبول. (و بالجملة) التقليد في عرف المتشرعة دائر بين معنيين:

(أحدهما) هو جعل قول الغير مستندا له و جعله طريقا إلى نفسه بالنسبة إلى الوظائف الدينية و جعل مؤدى فتوى الغير حكم اللّه الفعلي في حقه الذي هو من أفعال القلوب، و هذا يتحقق بأخذ الرسالة بهذا القصد أو التعلم للفتوى بهذا القصد أو بعقد القلب على الرجوع في أمور دينه لهذا المجتهد و ان لم يعرف فتاواه على سبيل التفصيل و لم يعمل بها فعلا.

و (ثانيهما): العمل على طبق قول الغير الذي هو من أفعال الجوارح و هذا لا يتحقق بأخذ الرسالة و لا التعلم للفتوى و لا بعقد القلب المذكور إذا لم يعرف الفتوى و يعمل بها أو أن معنى التقليد مختلف فيه بينهم، و قد ذهب جماعة من المتأخرين إلى الأول، و في تعليقة المرحوم عمنا: التقليد كالبيعة و العهد يتحقق بإنشاء الالتزام و حجتهم في ذلك أمور:

[الأدلة على ان التقليد هو الأخذ لا العمل]

(الأول) انه الأقرب إلى المعنى اللغوي كما تقدم من أنه يكون بالانقياد و الاعتماد على قول الغير وقت الحاجة قد جعل قلادة عمله في رقبة ذلك الغير و قلده إياه بخلاف مجرد العمل على طبق قول الغير فإنه ليس فيه جعل كذلك. و قول أستاذنا المشكيني (ره) و المناسب لهذا المعنى كون التقليد في قولهم قلد المجتهد هو أخذ قوله فكأنه جعل قوله و فتواه قلادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 7

في عنقه فيكون المجتهد مفعولا أولا بمنزلة القلادة لكون فتواه كذلك فاسد لأن هذا المعنى يناسب تقلد

لا قلد. و يمكن الجواب عن هذا الوجه الأول بأن الأقربية لا نسلم انها موجبة لكون الاصطلاح كذلك.

(الثاني) ان الأغلب عند المتشرعة استعماله في هذا المعنى فإنهم يقولون وقع هذا العمل عن تقليد لا عن اجتهاد. فإنه ظاهر في ان التقليد قبل العمل مضافا إلى أن كثيرا ما يطلقون على من التزم بذلك انه مقلد و إن كان فاسقا لا يعمل بقول مقلده بل بعضهم ادعى تبادر هذا المعنى من لفظ التقليد اصطلاحا و عدم صحة السلب عنه اصطلاحا و لذا في محكي مجمع البحرين علل تسمية قبول قول الغير بالتقليد بأن المقلد يجعل ما يعتقده من قول الغير قلادة في عنقه (الثالث) إن التقليد لو كان هو العمل امتنع وقوع العمل على وجه العبادة إذا كان مما اختلف في عباديته كصلاة الجمعة في زمان الغيبة و صلاة القصر في أربعة فراسخ فان وقوع العمل على صفة العبادية لا يتحقق إلا بالتقليد، ضرورة انه لو لم تقم الحجة على عباديته لم يكن يعلم انه عبادة حتى يوقعه العبد على صفة العبادية. و بعبارة أخرى: إن العمل العبادي موقوف على العلم بمشروعيته للعامي و العلم بمشروعيته له موقوف على تقليده للغير إذ مع عدم تقليده له لا يعلم بمشروعيته له فلو كان التقليد موقوفا على العمل لزم الدور و هكذا يمتنع تحقق العمل على وجه الوجوب أو الندب فيما اختلف فيهما كغسل الجمعة بعين التقريب المذكور، بل يقال ان العمل الذي يراد إتيانه لإحراز الواقع موقوف على التقليد و التقليد موقوف عليه لفرض انه نفس العمل. (و دعوى) انه متوقف على الأخذ بالفتوى و الاعتماد عليها و هو ليس بتقليد فلا دور (فاسدة) فإنه إذا فرض

توقف العمل على الأخذ بالفتوى و الانقياد لها و هو ليس بتقليد لزم توقف العمل على غير الاجتهاد و التقليد و الاحتياط و هذا لا يلتزم به أحد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 8

فلا بد من الالتزام بأن الأخذ بالفتوى هو التقليد. (و دعوى) ان المعتبر في العمل هو وقوعه على وجه التقليد أي صدوره مطابقا لرأي الغير عند المكلف فالعمل لا يتوقف على سبق التقليد و لا يلزم من عدم سبقه كون العمل بلا تقليد فصحة العمل لا تتوقف على أزيد من كونه صادرا ممن يرى مطابقته لفتوى الغير كشرط الاستقبال للصلاة فلا دور و المكلف يعلم بأن العمل الموافق لفتوى الغير هو المكلف به فيقصد القربة بالعمل الكذائي. نعم لا بد من العمل بقول الغير و فتواه من العلم بأن العمل الكذائي مطابق له. و لا ريب ان مجرد العلم لا يكون تقليدا. و الحاصل ان الواجب على المكلف هو إيجاد العمل على طبق فتوى الغير و هو يتوقف على العلم به فالمقدمة ليست بتقليد فلا بد أن يكون هو العمل (و بعبارة أخرى) منع توقف العمل على سبق صفة العبادية عنده بل الإتيان به على صفة العبادية كاف فمشروعية العمل و عباديته أو وجوبه موقوفة على وقوعه على وجه التقليد لا على تقدم التقليد عليه (فاسدة) لأنه إن كان مراد الخصم ان العمل يكون صحيحا بمجرد المطابقة للفتوى و إن لم يستند إليها فمسلم لكن في هذه الصورة لا يوجد تقليد أصلا، فإن الجاهل إذا وافق عمله فتوى المجتهد من دون استناد إليها لا يقال له مقلد و إن كان غرضه ان العمل بعد استناده لقول الغير يكون تقليدا فصحته

موقوفة على الاستناد لقول الغير لا على التقليد فهو فاسد لما عرفته في جواب الدعوى الأولى من لزوم توقف صحة العمل على غير الاجتهاد و التقليد و هو لا يلتزم به أحد، و أما دعواه ان مجرد العلم لا يكون تقليدا ففيها انا لا نقول ان العلم هو تقليد و إنما الاستناد و الاعتماد على قول الغير هو التقليد.

(الرابع) انه لو كان عندهم التقليد هو مجرد العمل لكان العامي في عرف المتشرعة مقلدا للمجتهد إذ أتى بالعمل مطابقا لفتوى ذلك المجتهد بحسب الصدفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 9

و الاتفاق مع إنه قطعا لا يسمى عندهم بمقلد له (و جوابه) ان هذا يخرج عن التعريف لمكان الباء فإنها ظاهرة في الاستعانة و ان العمل كان بواسطة قول الغير فهي يستفاد منها لابدية استناد العمل لقول الغير في تحقق مفهوم التقليد.

(الخامس) ان التقليد مقابل الاجتهاد، فكما ان الاجتهاد مقدم على العمل فكذلك التقليد (و بعبارة أخرى) ان التقليد خلاف الاجتهاد فاذا كان الاجتهاد هو أخذ الأحكام عن الدليل كان التقليد هو أخذها من الغير بلا دليل و إذا كان عمل المجتهد لا بد في صحته من سبق أخذه الحكم من الدليل كان عمل المقلد أيضا لا بد من سبق أخذه للحكم من غيره بلا دليل فالاجتهاد و التقليد أمران سابقان على العمل لا محالة. و أجيب انه لا تقابل بينهما و إنما التقابل بين العمل بهما نظير الاحتياط فان العمل بنفسه احتياط مع انه يقابل بالاجتهاد و التقليد باعتبار ان عمله مقابل لهما.

(السادس) ان العمل متفرع على الاجتهاد و التقليد و لا يصدر ممن يخاف اللّه إذا لم يحتاط إلا عنهما و كما

ان الاجتهاد مقدمة للعمل فكذلك التقليد، لأن التقليد يقوم مقامه و هو بديل عن الاجتهاد. (و جوابه) ان للخصم أن يناقش في ذلك و لا يسلمه.

(السابع) ان التقليد الذي هو محط البحث هو تقليد العوام للمجتهد في أمور دينه و أعماله الدينية، و من رجع إلى العوام وجدهم انهم قبل العمل يقولون قلدنا فلانا أو قلدناك أيها المجتهد ثمَّ يعملون و هذا ما يدل على ان التقليد الذي هو حجة عند العوام بفطرتهم مرتبته سابقة على العمل و متقدمة عليه و لعل كل إنسان قد قلد يجد ذلك من نفسه.

(الثامن) ان التقليد لو كان هو العمل لزم أن لا يتحقق العدول من التقليد و لا يتصور البقاء على تقليد الميت أصلا لأن لكل حادثة جزئية حكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 10

جزئي خاص فصلاة الظهر في يوم الجمعة لها حكم غير صلاة الظهر في يوم السبت فيكون كل عمل موجبا للتقليد بالنسبة لحكمه الخاص و لا يكون مقلدا بالنسبة لحكمه في الواقعة الثانية فلا يتصور العدول و لا يتصور البقاء على تقليد الميت لتجدد الحوادث. (و جوابه) ان مرادهم بالعمل هو مجرد الإتيان بفرد واحد مضافا إلى أن الحكم هو الأمر الكلي الذي أفتى به المجتهد و الأحكام الشخصية أحكام عقلية منتزعة منه فالعمل به إنما يكون بإتيان فرد منه.

(التاسع) ما حكي عن صاحب الفصول ان العمل مسبوق بالعلم فلا يكون سابقا عليه. (و فيه) ان العلم سابق على الأخذ أيضا لأنه ما لم يعلم لم يأخذ (و ذهب إلى الثاني و هو ان التقليد نفس العمل) المتقدمون لأن كلامهم بين مصرح بأن التقليد هو العمل و بين ما يمكن إرجاعه إلى

ذلك و لم ينبه أحد على وقوع الخلاف فيه بل نسب صاحب القوانين تفسيره بالعمل إلى علماء الأصول و يمكن استفادة ذلك من استدلالهم على حرمة التقليد بما دل على المنع من العمل بغير العلم و استدلوا على ذلك بأمور:

[الأدلة على ان التقليد هو العمل لا الأخذ]
اشارة

(أحدها) أن الأخذ بقول الغير لا يصح أن يكون هو التقليد لأنه ان كان المراد به مجرد العلم بقول الغير و العلم بأن فتواه كذا فهو ليس بتقليد لان المجتهد يعلم بفتاوى غيره من المجتهدين مع انه ليس بتقليد و ان كان المراد به التعبد و الالتزام بمقتضى قول الغير بحيث يكون هنا واجب آخر متعلق بالجنان من قبيل الالتزامات و التدينات فلزومه على المكلف ممنوع و توقف صحة العمل عليه غير مسلم و إذا بطل كون معناه الأخذ تعين كون معناه العمل لعدم وجود معنى ثالث عندهم (و لا يخفى ما فيه) فإنك قد عرفت ان المراد بالأخذ هو جعل قول الغير مستندا له و معتمدا عليه بمعنى جعل مؤداه حكم اللّه في حقه نظير جعل المجتهد أحد الخبرين المتعارضين مستندا له و طريقا للواقع بل نظير جعله الأمارة المعينة طريقا له بل نظير جعل المجتهد رأيه في المسألة طريقا له عند الحاجة للعمل به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 11

فيسجله ليعمل به عند ما يحتاج الى ذلك بخلاف ما إذا سجله لا للعمل به كما في بعض الكتب الاستدلالية فإنه قد يبدي رأيه لا للعمل به فليس مجرد العلم بقول الغير تقليدا و لا التدين به تقليدا و انما التقليد هو جعل قول الغير مستندا له و مرجعا له نظير الاجتهاد في أخذ الرأي من الأدلة للعمل به و الاعتماد

عليه وقت الحاجة لا مجرد إبداء الرأي. و سيجي ء إنشاء اللّه بيان وجوب ذلك عند الجواب عن الدليل الرابع.

(ثانيها) أن تفسير التقليد بالعمل يطابق معناه اللغوي إذ العامي يقلد المجتهد عمله من حيث المخالفة و الموافقة. (و فيه) أن التقليد استعماله في تقليد الغير للمجتهد استعمال مجازي باعتبار ان ارتباط عمل العامي بالمجتهد يشبه ارتباط القلادة بالعنق فالتقليد عبارة عن هذا الارتباط و ما يتحقق به هذا الارتباط: و الأخذ المذكور هو نوع من الارتباط بين العمل و المجتهد.

(ثالثها) ان الاستعمال للفظ التقليد عند الفقهاء في الأغلب انما هو في العمل و الشي ء يلحق بالأعم الأغلب نحو قولهم يحرم على المجتهد تقليد غيره و يحرم على العامي تقليد مثله فان متعلق التحريم لا يكون إلا العمل إذ مجرد الأخذ لا حرمة فيه و هكذا الآيات و الروايات الناهية عن التقليد انما هي ناظرة إلى العمل بقول الغير لا مجرد الاعتماد عليه و الاستناد له. (و فيه) انه لا اشكال ليس المراد بالحرمة الحرمة الشرعية إذ العمل لو كان موافقا للواقع كان صحيحا و لا عقاب عليه و انما المراد بالحرمة عدم الصحة في الاعتماد على رأيه و الأقرب للحرمة بهذا المعنى هو إرادة الأخذ من التقليد في تلك الاستعمالات و ان الأخذ بقول الغير غير صحيح لأنه لا يجوز الاعتماد من المجتهد على قول غيره.

(رابعها) ما ذكره المرحوم آغا ضياء في مقالاته و تعرض له صاحب تقريراته من أن التقليد واجب و الأخذ بقول الغير لا يصلح ان يكون متعلقا للوجوب لان مفاد أدلة حجية التقليد هو وجوب تصديق رأي المجتهد عين مفاد دليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 12

حجية الخبر و

هو وجوب تصديق الرواية الذي يرجع بالأخرة إلى وجوب المعاملة مع الخبر و الرأي معاملة الواقع و العمل به تعبدا و من المعلوم انه لا يجب على العامل بالرواية الالتزام بشي ء و التدين بشي ء مقدمة للعمل و لا يجب في حقه الا العمل بل صريح فتاواهم ان المقلد لو عمل و اتفق عمله على طبق فتوى المجتهد المنحصر حجية فتواه في حقه اجزئه (و بعبارة أخرى) ان الالتزام و التدين بقول الغير مقدمة للعمل لا تقتضيه أدلة التقليد و لا يكون له دخل في حجية الفتوى و لا في صحة العمل لأن الأدلة للتقليد انما تدل على حجية قول الغير من دون تقييد له بالتدين و الالتزام فالتدين بقول الغير أمر مستقل في نفسه يحتاج وجوبه الى قيام دليل عليه بالخصوص فهو أجنبي عما دل على وجوب التقليد من السيرة و العقل الفطري الارتكازي و سائر الأدلة الشرعية هذا كله على فرض انحصار المجتهد في معين الذي تكون فتواه حجة في حقه. (و اما) مع فرض عدم انحصار المجتهد و اختلاف فتاواهم مع تساويهم في الفضيلة فلا محيص من الالتزام بفتوى أحدهم لعدم إمكان حجية الجميع في حقه لتنافي فتاواهم و تكاذبها و لا احدى الفتاوى لا على التعيين لابهامها و عدم استفادة الحكم منها و لا احدى الفتاوى على التعيين للزوم الترجيح بلا مرجح و لا تساقطها رأسا عن الحجية و الرجوع الى غير الفتوى لكونه خلاف الإجماع فلا محيص من ان يكون حجية خصوص أحدهما مشروطة بأخذه و الالتزام بحجيته و طريقيته (و الحاصل) انه يتعين عليه التخير في الأخذ بإحدى الفتاوى طريقا للواقع نظير التخير في الخبرين المتعارضين و في مثله يتعين

الحجة بما يختاره فيجب عليه عقلا الاختيار بمعنى الالتزام بالعمل على طبق احدى الفتويين أو الفتاوى معينا و ليس الأخذ بمقدمة للعمل و انما هو مقدمة لتحصيل الحجة على امتثال الاحكام بمناط حكم العقل في الشبهة قبل الفحص بوجوب تحصيل الحجة على الجاهل المتمكن من تحصيلها لا بمناط وجوب رجوع الجاهل للعالم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 13

و حجية فتواه لأن حجية كل من الفتاوى مشروطة بالأخذ بها بمعنى الالتزام بحجيتها إذ قبل الأخذ بأحدها لا تكون واحدة منها حجة في حقه. و لو سلمنا وجوب الأخذ و الالتزام مطلقا و انه مقدمة للعمل ينتزع منه عنوان التقليد إلا ان وجوبه حينئذ لا يكون إلا عقليا بمناط تحصيل الحجة على امتثال الأحكام الشرعية لا شرعيا مولويا بل لو ورد دليل شرعي على وجوبه يكون إرشادا لحكم العقل و انما الوجوب الشرعي متعلق بالفتوى في ظرف اختيارها كما حققنا ذلك في الأمر بالتخير في الخبرين المتعارضين و حينئذ فلا مجال للتشبث على وجوب التقليد بالمعنى المذكور بمثل السيرة و سائر الأدلة الشرعية و لا بالعقل الفطري الارتكازي الحاكم بوجوب رجوع الجاهل الى العالم لأنها ناظرة إلى إثبات حجية فتوى المجتهد نظير أدلة حجية خبر الواحد فإنها ترجع الى وجوب العمل على طبق فتوى المجتهد لا الى وجوب تحصيل الحجة على امتثال الاحكام لان البرهان على وجوبه هو حكم العقل المستقل بوجوب تحصيل الحجة على المتمكن منها مقدمة لامتثال الاحكام. (و الجواب) عن ذلك ان في مقام التقليد عندنا مرحلتين:

(الاولى) حجية قول الغير و هي لا تقتضي إلا وجوب العمل على طبق قوله سواء عند العمل كان ملتزما بقول الغير أم لا آخذا به

أم لا فان مقتضى الحجية ليس إلا أن يكون مؤداها هو الواقع، أما وجوب التدين به و الالتزام بأنه هو الواقع المسماة بالموافقة الالتزامية فليست تدل عليها أدلة حجية قول الغير و لا أدلة حجية كل شي ء حتى الخبر الواحد و إنما تدل على وجوب كون العمل على طبقها و ان صحته بمطابقتها، سواء كان حجيتها بحكم العقل كالظن عند الانسداد أو بحكم الشرع كخبر الواحد و سواء قلنا بالسببية أو بالطريقية.

و (الثانية) وجوب تحصيل قول الغير الذي هو الحجة و الاستناد اليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 14

في مقام الامتثال و العمل فرارا من العقاب فهذا أمر يحكم به العقل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، و من باب وجوب الإطاعة لأنه مقدمة لها، و لو ورد به أمر فهو إرشادي و هذا لازم على المجتهد و على المقلد في مقام عمله و ليست حجية الامارة موقوفة عليه فإنها حجة استند إليها أم لا اتخذت أم لم تتخذ فحجية فتوى الغير كحجية الخبر الواحد لا تتوقف على الاستناد إليها و الأخذ بها بدليل أن حجيتها مقدمة على الأخذ بها و الاستناد إليها إذ لا يؤخذ إلا بالحجة و لا يستند إلا إليها فهي موضوع لذلك، و إنما الاستناد و الأخذ واجب عقلي آخر لأجل الامتثال و العمل الخارجي، و هكذا وجوب تحصيل الحجة أمر عقلي لتوقف الاستناد للحجة في العمل عليه من دون توقف الحجية عليه بدليل ان الذي يحصّل و يعيّن هو الحجة فالحجة موضوع للتحصيل

فظهر أن المكلف قبل الامتثال و العمل لا بد له من أمور ثلاثة:

(الأول) حجية الامارة كالخبر أو فتوى الغير في حد ذاته و هي لا تقتضي إلا وجوب العمل على طبقها من دون دلالة لها

على وجوب الالتزام بأن مؤداها هو الواقع و لا وجوب التدين المسمى بالموافقة الالتزامية، و هذا لا يتوقف على التحصيل و التعيين للأمارة و لا الاستناد إليها في مقام العمل و الامتثال.

(الثاني) تحصيل الحجة و تعيينها و هو واجب عقلي لأجل وجوب امتثال التكليف و إطاعته لأن اطاعة التكليف لا يحرزها العبد إلا بتحصيل الحجة عليه، و الإحراز للاطاعة واجب عقلي من باب دفع الضرر المحتمل.

(الثالث) الاستناد إلى الحجة التي حصلها و عينها و هو واجب عقلي من باب وجوب الطاعة و الامتثال إذ لو حصلها و لكنه لم يستند إليها عند العمل لم يحرز إطاعة التكليف و امتثاله و الإحراز للاطاعة واجب من باب دفع الضرر المحتمل. إذا عرفت ذلك فالظاهر ان الخصم لما رأى ان نفس فتوى الغير ليست

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 15

بتقليد قطعا و تحصيلها ليست بتقليد قطعا لأن المجتهد لو حصل فتوى مجتهد آخر لم يكن مقلدا له فيتعين الاستناد لقول الغير و الأخذ به و هذا أيضا لا يكون تقليدا عند المتشرعة لأن المتشرعة بين منكر لجواز التقليد و بين من يقول انه واجب شرعي و بين من يقول انه واجب عقلا و بين من يقول انه واجب بحسب الفطرة فلو كان التقليد هو الأخذ و الاستناد لقول الغير لما صح هذا النزاع لأن الأخذ كما عرفت واجب عقلي لا مجال للنزاع من المتشرعة فيه فيتعين أن يكون معنى التقليد العمل بقول الغير فإنه يتصور فيه النزاع المذكور عند المتشرعة. و لكن غير خفي فساد ذلك لأنك قد عرفت ان مرادهم بالأخذ هو الاستناد و الاعتماد الذي هو الأمر الثالث من الأمور المتقدمة لا ان

مرادهم به الالتزام و التدين و هو كما عرفت يحكم به العقل، و توهم ان هذا لو كان معنى التقليد لما صح النزاع في انه واجب عقلا أو شرعا لوضوح كون وجوبه عقلي فاسد، لأن النزاع في أن التقليد واجب شرعا أو عقلا أو فطرة باعتبار متعلقه و هو قول الغير فمن يقول بأن قول الغير حجة عقلا لانسداد باب العلم و العلمي قال ان التقليد وجوبه عقلي و من يقول بأنه حجة شرعا قال ان وجوبه شرعي و من يقول فطرة و ارتكازا قال وجوبه ارتكازي نظير ما حرره الأصوليون من أن العمل بخبر الواحد عقلي من باب الانسداد أو شرعي من باب النقل فان العمل هو الأخذ و هو واجب عقلي و إنما وصف بالشرعي عند بعضهم و العقلي عند آخرين بالنظر لمتعلقه و هو الخبر، و هكذا قولهم العمل بالاستصحاب عقلي أو شرعي نظرهم إلى ذلك.

(خامس الأدلة) على أن التقليد هو العمل

ما ذكره المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ره) من أن ما يقتضيه الأدلة للتقليد من السيرة و الأدلة النقلية و العقلية هو العمل بقول الغير لا عقد القلب عليه و لا الانقياد اليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 16

و الالتزام به قلبا و لا أخذه بوجوده الكتبي أو بوجوده العلمي فإن الظاهر من السيرة هو العمل بقول العارف و هو الذي يقتضيه العقل، و ان اللازم بحكم العقل لمن لا يتمكن من الحجة هو الاستناد عملا إلى من له الحجة لا الانقياد قلبا و الأخذ كتبا أو علما، و آية النفر على فرض دلالتها على وجوب التقليد لا تدل إلا على العمل على طبق ما أنذر به المنذر فإنه المراد من التحذير القابل

لتعلق الوجوب به و هو الذي يقتضيه الخوف عادة، و آية السؤال إن كانت مسوقة لوجوب القبول بعد الجواب، فالمراد به القبول عملا لا قلبا و إن كانت مسوقة لتحصيل العلم فهي أجنبية عن التقليد التعبدي (و لا يخفى ما فيه) فان المراد بالأخذ الذي فسر التقليد به ليس هو عقد القلب و إنما هو الاستناد إلى الحجة قبل العمل من باب وجوب الطاعة كما تقدم في جواب الدليل الأول و الدليل الرابع، و الأخذ بالرسالة أو تعلم فتوى الغير إنما يكون تقليدا إذا كان بداعي الأخذ و الاستناد فإنه يصير تقليدا باعتبار تحقق الأخذ و الاستناد بهما كما تقدم. و أما ما ذكره من الأدلة فهي تقتضي حجية قول الغير و أما لزوم الاستناد اليه عند العمل فهو يقتضيه العقل كما اعترف به. و من هذا ظهر لك فساد ما ذكره بعض شارحي العروة من أن مقتضى الأدلة جواز العمل بالفتوى بلا توسيط الالتزام فلا يكون دخيلا في حصول الأمن من الضرر، و وجه ظهور فساده ما عرفته من أن المراد بالأخذ هو الاستناد لا الالتزام القلبي، و لا ريب ان الاستناد في العمل لقول المجتهد له تمام الدخل في الأمن من الضرر لأن من يعمل بلا اعتماد على شي ء لا يأمن على نفسه في أن يقع في خلاف الواقع.

(إن قلت): ان الاعتماد على قول الغير في أعماله المستقبلة ليس بلازم و لا واجب عليه. (قلت): عدم وجوبه لا ينافي كونه تقليدا للمجتهد في الأعمال المستقبلة و من قال بوجوبه إنما يقول به من جهة حرمة العدول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 17

ثمرة النزاع في أن التقليد هو الأخذ أو العمل

و قد ذكروا لثمرة النزاع في أن التقليد

هو العمل أو الأخذ، جواز البقاء على تقليد الميت في الفتاوى التي التزم بها في حياته و لم يعمل بها.

فان من قال بجواز البقاء على تقليد الميت ان ذهب إلى أن التقليد هو الأخذ جواز البقاء على تقليده في تلك الفتاوى التي لم يعمل بها، و إن ذهب إلى أنه هو العمل لم يجوّز ذلك لعدم صدور التقليد منه، و هكذا كل مسألة أخذ في موضوعها التقليد نظير مسألة حرمة العدول عن تقليد الحي فإن من ذهب إلى أن التقليد هو الأخذ لم يجوّز العدول عن الفتاوى التي أخذ بها و من ذهب إلى أنه هو العمل جوّز ذلك لعدم تحقق التقليد بالنسبة إليها (و قد ناقش) في هذه الثمرة بعض أساتذة العصر بأنه لا فائدة في البحث عن معنى التقليد و انه هو العمل أو الأخذ لأنه لم يؤخذ عنوان التقليد في أدلة تلك المسائل و موضوع المسألة سعة و ضيقا تابع لدليل المسألة. (نعم) في رواية ضعيفة عن تفسير العسكري قال (ع): فللعوام أن يقلدوه. و لا يخفى ما في هذه المناقشة فإن بعض أدلتها الإجماع و هو مأخوذ فيه عنوان التقليد بل في تلك المسائل بعضهم لم يعتمد إلا على الإجماع، و أما ما ذكره من ضعف الرواية فهو منجبر بشهرتها بل و العمل بها.

[المراد بالباء الداخلة على (القول) في تعريف التقليد]

(الثاني) من اجزاء التعريف للتقليد هو الباء الداخلة على لفظ القول و الظاهر انها نظير الباء الداخلة على القلم في قولهم: كتبت بالقلم. فهو للاستعانة، و عليه فلا يشمل التعريف العمل المطابق من دون اعتماد عليه.

[المراد (بالقول) في تعريف التقليد]

(الثالث) من أجزاء التعريف هو لفظ (القول) و المراد به الرأي فلا يشمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 18

العمل بالرواية فإنه لا يسمى تقليدا و يشمل الرأي في المسألة الفقهية أو الأصولية أو الاعتقادية أو الفرعية، و لا ينافي هذا التعميم كون بعض أقسامه تقليدا فاسدا فان هذا التعريف ليس للتقليد الصحيح.

[المراد (بالغير) في تعريف التقليد]

(الرابع) من أجزاء التعريف (الغير) و المراد به الأعم من واحد معين كأن يأخذ بفتوى العلامة (ره) أو غير معين كفتوى واحد من علماء العصر لا يعينه بخصوصه أو فتوى جماعة كأن يأخذ بجواز صلاة الجمعة باعتبار انه فتوى لعلماء عديدين معينين أو غير معينين و سيجي ء إن شاء اللّه في شروط المفتي وجوب الاستناد إلى الفتوى و عدم لزوم تعيين المفتي

[ما في تعريف السيد في العروة للتقليد]

و به يظهر ما في تعريف السيد (ره) في العروة للتقليد حيث اعتبر فيه تعيين المجتهد فعرفه بالالتزام بالعمل بقول مجتهد معين، إلا اللهم أن يدعى السيرة و الإجماع على لزوم التعيين للمجتهد في التقليد و سيجي ء إن شاء اللّه تحقيق ذلك في شروط المفتي.

[المراد (بغير دليل) في تعريف التقليد]

(الخامس) من أجزاء التعريف (من غير دليل) و الظاهر تعلقها بالقول لا بالعمل لأن العمل بقول الغير من غير حجة يختص بعمل العامي بقول مثله و المجتهد بقول مثله فإنه يكون من غير دليل على العمل و هذا فرد نادر، و اما عمل العامي بقول المجتهد فهو بدليل و هو حكم العقل أو السيرة أو الآيات أو الأخبار، و اما إذا علقناه بالقول فالتعريف يشمل الجميع لوضوح دخول الفردين الأولين فيه لكون العمل من غير دليل على قول الغير، و اما الفرد الثالث و هو عمل العامي بقول المجتهد فان عمله به و إن كان يستند إلى تلك الأدلة لكن قول المجتهد لم يكن دليل عليه عند العامي. و الحاصل فرق بين العمل بالقول و نفس القول.

و الدليل في التقليد الصحيح على الأول دون الثاني.

[ما يورد على تعريف التقليد]

و قد أورد على التعريف باعتبار أخذ (من غير دليل) فيه (أولا) بالمحكي عن القوانين بأن المراد من لفظ التقليد إن كان ما ليس عليه دليل فكيف يجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 19

في الفروع و إن كان مما ثبت عليه دليل فكيف لا يجوز في الأصول. و أجاب عنه (ره) بأن التقليد في الفروع يحمل على اصطلاح جديد و هو الأخذ ممن قام الدليل على جواز الأخذ منه، و التقليد في الأصول يحمل على ما عرفوه فإن أخذ قول الغير في الأصول أخذ من غير دليل، (و لا يخفى ما فيه) فان التقليد فيهما بمعنى واحد و من غير دليل متعلق بالقول و لكن الأخذ في الأصول لا دليل عليه و الأخذ في الفروع عليه الدليل. نعم القول في كل منهما لا دليل عليه.

و (ثانيا) انه

على تقدير رجوع (من غير دليل) إلى العمل فقد عرفت يلزم أن يخرج عن التعريف رجوع العامي إلى المجتهد، و على تقدير رجوعه إلى (قول الغير) فيلزم أن يدخل فيه الرجوع إلى المعصومين (ع) فانا نرجع إليهم من غير دليل على صحة أقوالهم، و هكذا الرجوع إلى الإجماع و الشهرة بناء على حجيتهما فإنه رجوع إلى الغير من غير دليل عليه، و هكذا الرجوع إلى الشهادة أو الشياع و حكم الحاكم و أخبار ذي اليد و المترجم و الإجماع المنقول و فتوى الواحد في السنن بناء على التسامح في أدلة السنن فإنه رجوع إلى الغير من غير دليل على قولهم. (و دعوى) بأن المراد من غير دليل على صحته و مطابقته للواقع و المعصومين عليهم السلام بواسطة العصمة يكون لنا دليل و هو العصمة على مطابقة قولهم للواقع بخلاف قول المجتهد فإنه لا دليل لنا على صحة قوله و مطابقة للواقع (مدفوعة) بأن هذا إنما يتم في المعصومين و اما في الشهرة و في الشهادة و حكم الحاكم و الشياع و المترجم و الإجماع المنقول بناء على حجيته و أخذ الفتوى من جهة أدلة التسامح في السنن فلا يتم لعدم الدليل على صحة قول الغير و مطابقته للواقع و إنما يجب العمل به تعبدا نظير ما نقوله في فتوى المجتهد (و دعوى) ان الدليل على رجوع العامي للمجتهد دليل واحد عام و هو ان هذا ما أفتى به المفتي و كل ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقي (لا تنفع مدعيها)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 20

لأن التعريف للتقليد قد أخذ فيه (الدليل) و هو يشمل الواحد أو المتعدد مضافا إلى

أن الشهرة و ما ذكر أيضا ترجع إلى دليل واحد عام فيقال هذا ما اشتهر بين أصحابنا و كل ما اشتهر بين أصحابنا حكم اللّه في حقي فهذا حكم اللّه في حقي.

(إن قلت): ان هذا يؤخذ من الروايات و باقي الأدلة (قلنا) الدليل المذكور أيضا يؤخذ من الأدلة العقلية و النقلية و غيرها (و دعوى) إنما يثبت قول المفتي على العامي و يصير في حقه حكما شرعيا بعد أخذه به فهو يأخذ ما لا دليل عليه حال الأخذ و إن قام الدليل عليه بعده بخلاف الأخذ بأخبار ذي اليد، و قول الشاهد و نحو ذلك فان ما دل على حجيتها دل على ثبوت مقتضاها في الظاهر أخذ به أو لم يأخذ. (مدفوعة) بأن الآيات و الأخبار التي استدلوا بها على التقليد لا تدل على ذلك إذ هي تثبت قول المفتي على العامي سواء أخذ به أم لا نظير إثباتها ذلك لخبر واحد بل الكثير منها استدل به لخبر واحد كآية السؤال و النفر فإنهم يستدلون بها على حجية الخبر و على حجية الفتوى،

[الاولى في تعريف التقليد]

و الأولى أن يقال في تعريف التقليد أنه الأخذ بقول الغير من غير دليل عليه يجوّز الفتوى بمضمونه.

(و قد أورد) على تعريف التقليد أيضا بأن هذا التعريف يشمل العمل بقول الغير في الأحكام النحوية و الصرفية، و غير ذلك، فكان عليهم أن يقيدوه بالأحكام الشرعية كما هو المحكي عن شرح المبادي لفخر الإسلام، و لكن يمكن الالتزام بأنه عند المتشرعة يسمى ذلك تقليدا و لذا يقال قلد في معرفة القبلة و الوقت عند الفقهاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 21

الأدلة على جواز التقليد
اشارة

الحق جواز التقليد كما ذهب اليه نوع علمائنا (ره) و المراد بالجواز صحته و كونه عذرا عند المخالفة لا الجواز بالمعنى الأعم كما تخيل بعض أساتذة العصر فإنه ليس الكلام في هذا المقام في الحكم التكليفي و إنما في الطريقية للواقع و المؤمّنية عن العذاب و قد خالف في ذلك بعض قدماء الأصحاب و فقهاء حلب كابن زهرة في الغنية و كابن حمزة و أبى صلاح و سلار و معتزلة بغداد و الأخباريين و قد تقدم منا نقل كلماتهم و توضيح آرائهم ص 256 ج 1 في مسألة وجوب الاجتهاد كفائيا، و الدليل على جواز التقليد أمور:

(أحدها) العلم القطعي اليقيني للعوام بجواز رجوع الجاهل بشي ء لمن يعلم

بذلك الشي ء و هذا العلم و القطع قد حصل لهم بفطرتهم و جبلتهم و مرتكز في قرار نفوسهم لا من مقدمات علمية و لا برهان عقلي بل خلقه اللّه لهم في نفوسهم نظير علمهم بأن الإحسان حسن و الظلم قبيح و لهذا ما اشتهر من رجوع العالم إلى الجاهل. و العلم القطعي حجة بنفسه لا يحتاج إلى إمضاء الشارع و لا شي ء آخر و يدل على ذلك انه لو لم يكن ارتكازي تقتضيه النفوس بصرف طباعها لما أمكن حصول العلم لهم بجواز التقليد إذ الفرض انهم عوام لا يقدرون على الاجتهاد و لا يعرفون شيئا من الأدلة و لا يحسنون استعمالها فالكتاب و السنة لا يعرفون شيئا منهما و لا يحسنون شرائط الاستنتاج منهما. و الدليل العقلي لا يعرفون طرق جمع مقدماته و لا العلم بها. و لا يمكن أن يقلدون في هذه المسألة و هي جواز التقليد للزوم التسلسل أو الدور لأنه يصير جواز التقليد في المسائل موقوفا على جواز التقليد في هذه المسألة، فاما أن تذهب

السلسلة فيلزم التسلسل أو يقال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 22

بأن جواز التقليد في هذه المسألة موقوف على جواز التقليد في المسائل و هو الدور نظير ما لو أثبت حجية الخبر بحجية الخبر فاذا ثبت ان مسألة جواز التقليد ليس للعامي دليل يفيده العلم و القطع بها مع انه وجدانا كثير من العوام عالمين بها لما نراهم يعملون بها في سائر قضاياهم و وقائعهم فلا بد أن يكون علمهم بها ارتكازي تقتضيه فطرتهم التي فطرهم اللّه عليها بصرف طباعهم، و (دعوى) انه ليس لنا قطع بأن علم العامي بجواز التقليد فطري لأن له ما يوجب قطعه بجواز التقليد و هو دليل الانسداد، و تقريبه أن يقال ان العامي يعلم إجمالا بوجود تكاليف عليه و لا يمكنه الاجتهاد فيها للعسر و الحرج المنفيين في الشريعة و لا الاحتياط فيها لعدم معرفته بموارده و للعسر و الحرج لو احتاط في جميع التكاليف فيحكم عقله السليم بلزوم الرجوع إلى قول العالم لكونه أقرب الطرق عنده إلى الواقع (فاسدة) فإن ذلك مضافا إلى عدم علم أغلب العوام البسطاء بهذه المقدمات إذ لا يعلم أغلب العوام البسطاء بأن الاجتهاد أو الاحتياط فيه عسر عليهم و لا يعلمون ان العسر منفي في الشريعة بحيث يوجب رفع التكليف و لا يعرفون الاجتهاد الصحيح من غيره، و لو سلمنا علمهم بتلك المقدمات فهي لا توجب علمهم بجواز التقليد و الرجوع إلى العالم و عدم الرجوع إلى ظنونهم المخالفة لقول العالم فإنها أقرب في نظر الظان إلى الواقع أو إلى طرق أخرى غير التقليد. و عليه فيجوز للمجتهد أن يفتي بجواز التقليد للعامي لوجود العلم القطعي للعامي بذلك و إن كان

لا يحتاج العامي إلى التقليد في هذه المسألة لقطعه بها و تكون فتواه من قبيل التنبيه على ما في نفسه من العلم بها و إلا فلا يجوز له تقليده فيها.

(الدليل الثاني لجواز التقليد) نقل الإجماع على جوازه

عن جماعة من العلماء منهم السيد المرتضى (ره) في الذريعة و الشيخ (ره) في العدة و المحقق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 23

في المعارج و العلامة في النهاية و ولده الفخر في الإيضاح و الشهيد في الذكرى و الآمدي في الاحكام و العضدي في شرح المختصر و غيرهم من الخاصة و العامة (و لا يخفى ما فيه) فقد عرفت مخالفة فقهاء حلب و الأخباريين و إيجابهم للاجتهاد و قد أجيب عن ذلك بأن خلافهم لا يضر لاستفاضة نقل الإجماع و لأن خلافهم مسبوق بالإجماع على الجواز و ملحوق به.

(الدليل الثالث) السيرة

، و قد تقرر بالسيرة الجارية بين المسلمين على الإفتاء و الاستفتاء من غير نكير من الصدر الأول، و قد تقرر بالسيرة على رجوع العالم إلى الجاهل في العرف و العقلاء و المتدينين في أمور معاشهم و معادهم و قد تقرر السيرة على الرجوع إلى أهل الخبرة و قد أمضاها الشارع، إذ لو كان قد ردع عنها لنقل ذلك إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. (و قد أورد) على السيرة أن الإفتاء في الصدر الأول إنما كان بنقل الرواية بألفاظها أو بمضمونها فهي من أدلة حجية الرواية لا حجية الفتوى. (و قد أجيب) عن ذلك بأنا لو سلمناه فنقول: ان نقل الرواية منهم في مقام الإفتاء بالواقع إنما كان باعمال الرأي و النظر في حكم المسألة و الاجتهاد في استفادته من ظاهر الرواية لا بصرف نقل الرواية عن الامام بما هي رواية فان صرف نقل الرواية لا يوجب عمل السامع و إنما هو يعمل بما هو رأيه قد أدّاه بلفظ الرواية (و قد يقال) بأن الشارع قد منع السيرة و لم يمضها بالآيات و

الاخبار المانعة من العمل بغير العلم و باستصحاب عدم حجية التقليد و حرمة العمل به. (قلنا) قد أجبنا عن ذلك بأنه لو تمَّ لسقط الاستدلال بالسيرة في جميع الموارد.

و التحقيق ان مثل هذه الأمور لا توجب عدم الإمضاء و المنع لعدم التفات العوام لها، فلو كان الشارع يريد منعها لنص على ذلك كما نص على القياس.

بل يمكن أن يقال ان هذه السيرة قبل ورود المنع من الشارع قد تمَّ حجيتها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 24

و كانت أخص من تلك الروايات و الآيات فتكون مخصصة لها، هذا مع دعوى انصرافها إلى الأمارات الغير الحجة عند العقلاء.

(الدليل الرابع) دليل الانسداد

بتقريب أن العامي يعلم إجمالا بالتكليف و بطلان الاجتهاد و الاحتياط في حقه للزوم العسر و الإخلال بالنظام، و الاستدلال على الخواص صعب فكيف على العوام فيتعين التقليد حيث لا طريق ثالث اليه.

(إن قلت) ان الاجتهاد الناقص بالنحو الذي ذكره فقهاء حلب أو الأخباريين كما تقدم لا عسر فيه عليه و لا حرج. (قلنا) ان النحو الذي ذكره فقهاء حلب محتاج إلى ملكة الاستنباط المفقودة في أغلب العوام البسطاء مع عدم مساعدة وقت العالم على تعليم عشر من ذلك مع انه ليس في نظر العامي ان هذا الاجتهاد أقرب للواقع من فتوى المجتهد و لا دليل له على حجيته.

(الدليل الخامس) إطلاقات أدلة حجية الخبر الواحد

لأن المفتي بفتواه ينقل مقتضيات الأصول و القواعد المقررة في الشريعة فيكون ذلك نظير نقل مضمون الرواية (و بعبارة أخرى) لنقل الرواية مراتب: أولها نقل الألفاظ المسموعة بنفسها ثمَّ نقلها بترجمتها و ذكر مرادفها في العربية أو غيرها ثمَّ نقل المتحصل منها من دون زيادة أو نقيصة المسمى عندهم بنقل المضمون ثمَّ نقل المتحصل منها و من غيرها بعد ضم بعضها إلى بعض و ترجيح النص على الظاهر. و منه نقل مقتضيات الأصول من التخيير و البراءة و الاحتياط و الاستصحاب بعد فقدان الحجة الفعلية فكأن المجتهد بفتواه يخبر بمقتضيات القوانين المجعولة في الشريعة.

(و دعوى) انصراف الأدلة عن الاخبار الحدسية و اخبار المجتهد عن ذلك حدسي فهو ليس بحجة (مدفوعة) بأنا إنما نسلمه بالنسبة الى غير الحدسيات القريبة من الحس أو المنتهية إلى العلم و لذا كانوا يقبلون الجرح و التعديل، و أخبار المجتهد بالوظيفة الشرعية أخبار علمي مستند إلى مبادي قطعية و مقتضى عموم حجية الخبر هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 25

شمولها للأخبار العلمية و قد أصر على ذلك أستاذنا الجليل المحقق الشيخ كاظم الشيرازي (ره) و لكنه لا يخفى ان الفتوى هو الاخبار عن حكم اللّه بحسب الاعتقاد المستند الى الخبر و غيره فلا تخلو عن إعمال الظنون الاجتهادية و بذلك تفارق النقل بالمعنى و لأجله منع الأخباريون عن الإفتاء دون النقل بالمعنى بل لم يحكي المنع عن الثاني عن أحد.

(الدليل السادس) [آية الذِّكْرِ و هي]

عموم قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* بناء على أن الذكر هو القرآن أو مطلق العلم. (و قد أورد) على الاستدلال بها انها إنما تدل على وجوب إظهار الواقع و ليست فيها دلالة على وجوب التعبد بقول أهل الذكر حتى لو لم يفد القطع بالواقع فيكون المراد بالآية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* حتى تعلموا (و يمكن الجواب) عنه بأن تقييد جواز العمل بقول أهل الذكر المستفاد من الآية بصورة حصول العلم بالواقع يدفعه الإطلاق فإن ظاهر الآية في مقام القبول مضافا الى الملازمة العرفية بين جواز السؤال و جواز القبول مضافا الى ان ظاهرها بقرينة إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* ان السؤال بنفسه موجب للعلم من دون حاجة الى ضم شي ء آخر و هو إنما يكون كذلك إذا كان مجرد الجواب حجة و لو لم يحصل العلم منه (و قد أورد) على الاستدلال بها أيضا ان الآية بحسب سوقها يكون المراد فيها (بأهل الذكر) أهل الكتاب و بحسب بعض التفاسير الواردة فيها الأئمة (ع) و في بعضها علماء اليهود و على أي حال فهي أجنبية عن حجية الفتوى و الرواية. (و جوابه) ان مقتضى الجمع بين ذلك هو حملها على بيان المصاديق لأهل الذكر فالمراد بها مطلق أهل الذكر

(و قد أورد) على الاستدلال بها أيضا بأنها في مقام السؤال عن بشرية الأنبياء لأن الآية كما في سورتي النحل و الأنبياء وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 26

لٰا تَعْلَمُونَ. و يمكن الجواب عنه بأن تعليق السؤال على خصوص عدم العلم يدل على ان الحكم لا يختص بخصوص السؤال عن البشرية على أن نزول الآية في مورد خاص لا يوجب اختصاصها بذلك المورد لأن التعبير فيها كان بجهة العموم مضافا الى ما دلت عليه الروايات المتضافرة من أن القرآن لا يختص بمورد دون مورد و قد رواها صاحب تفسير البرهان في مقدمة كتابه المسماة بمرآة الأنوار، و في بعضها تعليل ذلك بأن القرآن لو نزل في قوم فماتوا لمات القرآن.

(الدليل السابع) [آية النفر و هي]

عموم قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ فإنه يشمل الإنذار بالفتوى و يقتضي ذلك الحذر من عدم قبولها (و قد أورد) على الاستدلال بها (أولا) ان المراد بها الإنذار بنحو الرواية لا الفتوى (و لا يخفي ما فيه) لإطلاق الإنذار مع ان ظاهر الإنذار بما تفقه فيه هو الإنذار بالفتوى لا في الرواية كيف و ظاهر الإنذار هو ان الشخص لا ينذر إلا بما هو معتقده و رأيه.

و (ثانيا) بمنع اقتضائها وجوب الحذر مطلقا و لو مع عدم حصول العلم للمنذرين و يكون المراد لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ عند حصول العلم لهم من المنذرين بواسطة تظافر أخبارهم بذلك، و يشهد لذلك انه لا شك في دلالة الآية على التفقه في أصول الدين و فروعه، و لذا استدل

الإمام بالآية الشريفة على وجوب نفر جماعة من كل بلد لمعرفة الإمام اللاحق إذا حدث على الامام السابق حدث كما في رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه (ع) عند ما سأله عن الإمام إذا حدث عليه حدث كيف يصنع الناس؟ فقال (ع): أين قول اللّه عز و جل:

فَلَوْ لٰا نَفَرَ الآية. مع وضوح انه لا يجوز الحذر عقيب الإنذار في أصول الدين بدون حصول العلم إجماعا. و منها الإمامة فإنها لا تثبت إلا بالعلم فلو كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 27

المراد بها القبول بمجرد الإنذار و لو لم يفد العلم ما استشهد بها الامام (ع) و لا ريب ان اخبار جماعة بشي ء موجب للعلم عادة. (و الجواب عنه) إنا لا نسلم دلالتها على التفقه في أصول الدين لأن ظاهر التفقه التفقه في فروع الدين و الخبر المذكور لا نسلم حجيته. سلمنا ذلك لكن تقييد بعض أفراد المطلق بصورة خاصة بمقيد منفصل لا يستدعي تقييد سائر أفراد ذلك المطلق، ألا ترى انه لو قال أكرم العالم ثمَّ قال لا تكرم النحوي الفاسق فإنه لا يوجب تقييد العالم في أكرم كل عالم بغير الفاسق و إنما يقيد خصوص النحوي منه و فيما نحن فيه كذلك فإن الإجماع على وجوب تحصيل العلم في أصول الدين الذي ادعاه الخصم يكون مخصصا منفصلا لبعض أفراد الآية بصورة العلم و لا يوجب تخصيص جميع أفرادها بذلك.

(و أورد على الاستدلال بها ثالثا) ان المراد بالنفر الواجب المشتملة عليه الآية إنما هو النفر إلى الجهاد بقرينة قوله تعالى قبلها وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فيكون المراد بالتفقه هو التبصر بمشاهدة آيات اللّه و غلبة أوليائه على

أعدائه و سائر ما يشتمل عليه حرب المؤمنين مع الكفار مما يوجب قوة الايمان و تأكد اليقين و البصيرة لهم في الدين و المراد بالإنذار هو الاخبار بما شاهدوه لقومهم المتخلفين إذا رجعوا إليهم و المراد بحذرهم هو الحذر من مخالفة الدين فان ذلك هو الذي يحصل بالنفر للجهاد فالآية أجنبية عن التقليد (و الجواب) عنه ان سوق الآية في آيات الجهاد بل و حتى ظهور النفر فيها في النفر للجهاد لا ينافي ظهورها في وجوب التفقه في معرفة أحكام الدين فان اللّه تعالى يطلب منهم أن ينفروا للجهاد مع رسول اللّه (ص) ليصاحبوه حتى يتعلموا منه الأحكام الشرعية فتكون الآية على تقدير ظهور النفر فيها للجهاد قد اشتملت على بيان فائدة للجهاد و هو تعلم أحكام الدين في أثناء القيام بهذه المهمة، و يرشدك إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 28

إرادة التفقه في معرفة أحكام الدين من الآية رواية الفضل بن شاذان في علله عن الرضا (ع) قال: إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه و طلب الزيارة إلى أن قال: و نقل أخبار الأئمة إلى كل صقع و ناحية كما قال عز و جل فَلَوْ لٰا نَفَرَ الآية.

(و أورد على الاستدلال بها رابعا) ان الآية تخص الرواية و لا تشمل الفتوى و ذلك لأن الاجتهاد لم يكن متعارفا في ذلك الوقت و إنما المتعارف فيه هو الرجوع للحجة أو الرواية عنه و لذا تمسك بها الأصحاب على حجية الخبر، مضافا لما تقدم في جواب الإيراد الثالث من استدلال الامام (ع) بها على مطلوبية نقل الاخبار في كل صقع و ناحية (و فيه) ما لا يخفي فان عدم وجود فرد أو

نوع وقت نزول الآية لا يوجب انصرافها عنه و إلا لما دلت أغلب الآيات و الروايات على أحكام هذا العصر، مضافا إلى أن الفتوى كانت موجودة أ فهل ترى ان الناس كلهم كانوا يراجعون الحجة و هل كلهم عند ما يريدون معرفة الحكم الشرعي يقول لهم العارف به أروي أو روى فلان لي سلمنا ذلك و لكن تكون الفتوى منهم بلسان الرواية، و الاجتهاد كان عندهم سهل المؤنة.

(و أورد على الاستدلال بها خامسا) ان الآية إنما تدل على وجوب الحذر إذا كان المنذر عالما بما ينذر به لا ما إذا كان ظانا به، و المهم إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنية إذ الفتاوى العلمية تحصل من إجماع أو ضرورة فالعامى لا يحتاج إلى التقليد فيها لكونها معلومة لديه، و لو فرض إمكان ذلك فالقدر الثابت حينئذ جواز التقليد تعبدا في صورة حصول الفتوى عن علم (و لا يخفي ما فيه) ان الإنذار يحصل بالفتوى سواء كانت عن علم أو علمي فإن الدليل فإذا قام على الحكم صح الإنذار به كما هو المتعارف سلمنا لكن ليس كل فتوى عن علم يكون العامي عالما بها و لا يقلد فيها إذ لعلها عن خبر قد حف بالقرائن القطعية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 29

أو التواتر أو الإجماعات التي لم يلتفت إليها العامي و إذا ثبت جواز التقليد في ذلك فبضميمة الإجماع المركب يتم المطلوب.

(الدليل الثامن على جواز التقليد) آية الكتمان

و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ. و تقريب الاستدلال بها ان حرمة الكتمان يستلزم وجوب القبول عند الإظهار و إلا لكان

الإظهار لغوا، نظيره ما عن المسالك من الاستدلال على وجوب قبول قول النساء في العدة بقوله تعالى:

وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ، و لكن يمكن المناقشة في دلالتها بدعوى عدم الملازمة المذكورة و ان المطلوب إظهار الحق فقط حتى يراجع في شأنه إذا حصل الشك فيه، إلا اللهم أن يدعي الملازمة عند العرف. و نوقش فيها أيضا بأن موردها كتمان اليهود لعلامات النبي (ص) فلا دلالة فيها على التقليد في التعبديات (و فيه) ان تخصيص المورد لا يخصص الوارد. إلا اللهم أن يقال ان المورد لا يجوز فيه التقليد فلا يعقل خروجه إلا اللهم أن ينكر كون ذلك موردها.

(الدليل التاسع على ذلك) آية النبإ

و هي إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ الآية و يرشدك إلى دلالتها على جواز التقليد استدلال العلماء بها على عدالة المفتي فلو لا دلالتها على التقليد لم يكن وجه لذلك (و فيه ما لا يخفي) فإنك قد عرفت ان الفتوى غير النبإ فإنها اخبار عن الرأي و النبإ اخبار عن الواقع.

(الدليل العاشر) الأخبار الدالة على جواز التقليد

صريحا أو فحوى (منها) ما في الوسائل عن الاحتجاج للطبرسي و عن تفسير العسكري عن الصادق:

«فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه». و قد يورد عليه (أولا) بأن مورد هذا الكلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 30

هو أصول الدين و هو النظر في أمر رسول اللّه (ص) و معجزاته و لا شك ان التقليد لا يجوز في ذلك، فلا بد أن يكون مراد الامام (ع) بالتقليد غير هذا المعنى (و لا يخفي ما فيه) فان موردها مطلق الأحكام و كان ذكر أمر رسول اللّه (ص) و معجزاته من باب زيادة النقد على اليهود و انهم يتابعون فساق علمائهم حتى في هذا الأمر البين الواضح فراجع الاحتجاج و لو لا ان الرواية طويلة لذكرتها لك.

و (ثانيا) بما في الوسائل ما حاصله من انه لا يجوز الاعتماد عليها لضعف سندها بالإرسال إذ التفسير المذكور لم يثبت تواتره عن العسكري (ع) و لا نقله عنه على وجه يعتمد عليه و احتمل حملها على التقية و قال أيضا: انها معارضة بمتواتر قطعي السند (و فيه) ان ضعف سندها مجبور بمصير معظم الأصحاب إلى جواز التقليد و استنادهم إليها، و أما احتمال الحمل على التقية فمدفوع بالأصل و لو لا الأصل لارتفع الوثوق بأكثر الأخبار. و أما

دعوى كونها معارضة بالمتواتر فممنوعة، فان المقطوع به عدم التواتر في منع التقليد في الفروع، إلا أن يكون المراد به العمومات المانعة من التقليد أو العمل بغير العلم و هي لا تصلح للمعارضة لأن الرواية أخص منها.

و (منها) ما دلت على وجوب التعلم من أهل العلم مثل رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع): فتعلموا العلم من حملة العلم. و قد أورد على الاستدلال بها بأن قبول أخبار الغير من غير دليل على المخبر به يصدق عليه التقليد عرفا و هو ليس بعلم بخلاف المعرفة من الروايات فإنها يصدق عليها العلم فتكون هذه الطائفة من الأخبار مختصة بالروايات (و فيه) انا لا نسلم ان العلم لا يصدق على المعرفة الحاصلة من التقليد.

و (منها) ما تدل على إظهار الفتوى مثل قول أبي جعفر الباقر (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 31

لأبان بن تغلب: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك. فان جواز الإفتاء يلازم عرفا لجواز القبول.

و (منها) ما ورد من إرجاع الأئمة إلى مثل أبي بصير و زكريا بن آدم و زرارة و محمد ابن مسلم و ابان بن تغلب و يونس بن عبد الرحمن و أمثالهم من ثقات أصحابهم (ع) في معرفة المسائل الشرعية. و اما ما في الكافي عن أحمد بن إسحاق قال: سألت أبا الحسن (ع) و قلت له: من أعامل أو عمن آخذ و قول من أقبل؟ فقال (ع) له: العمري ثقة فيما أدى إليك عني، فهذه الرواية ظاهرة في حجة الرواية لا الفتوى.

و (منها) ما تدل على النهي عن الفتوى بغير علم و هي كثير روى الكثير منها في الكافي،

ففي الصحيح عن أبي جعفر (ع) قال: من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه، و مثل قوله (ع): أنهاك عن خصلتين- الى أن قال-: و أن تفتي الناس بما لا تعلم.

و قوله (ع): أن تفتي الناس برأيك. و قوله (ع): من أفتى بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة، الحديث. و قول أبي الحسن (ع) فيما كتبه لعلي بن سويد: لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا اللّه و رسوله. و قوله (ع): من أفتى الناس و هو لا يعلم الناسخ من المنسوخ و المحكم من المتشابه فقد هلك.

و (منها) ما تدل على وجوب قبول حكم الحاكم مثل مقبولة ابن حنظلة ففيها (ينظر من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرض به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا و لم يقبل منه فإنما بحكم اللّه استخف) الحديث. و قد عرفت ان المراد انه إذا حكم بالحكم الذي ينسبه إلينا يجب القبول بقرينة انه لو كان المراد بالحكم المعلوم عند سامعه انه حكمهم (ع) لا يكون حينئذ حاجة الى قبوله من الغير و الرجوع اليه فيه مضافا الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 32

ان تتمة الحديث الدالة على اختلاف الخبر صريحة في جهل السامع بالحكم فيكون المعنى فاذا حكم بحكم ينسبه إلينا و دلالتها على قبول الفتوى اما أن يقال بأن المراد بالحكم أعم من أن يكون بعد الترافع أو قبله فيشمل الفتوى أو يقال ان قبول الحكم يستلزم

جواز التقليد بطريق أولى أو يقال ان جواز الترافع قد يكون باعتبار اشتباه الحكم و الرجوع فيه الى الحاكم تقليد أو يقال انه لا قائل بالفصل بين الفتوى و الحكم كما التزم بذلك بعضهم.

و (منها) ما دل على الرجوع للعلماء مثل ما رواه البرقي في المحاسن عن أبي جعفر (ع) قال: و بقول العلماء فاتبعوا. و ما رواه الصدوق في كتاب الإكمال و الغيبة و الاحتجاج عن صاحب الزمان (ع): و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه عليهم. و دعوى ان المراد بالوقائع المرافعات و لا عموم فيها لكون اللام للعهد فاسدة. لوجود (اما) دون أن يقول و الحوادث. و دخول اللام على الجمع يوجب الظهور في الاستغراق سلمنا لكن لا خصوصية للحوادث المذكورة سلمنا لكن التعليل بأنهم حجتي عليكم يقتضي العموم، و ما رواه الكشي و ذكره الشيخ في الاختبار و هو ان أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث (ع)- أسأله عن أخذ معالم ديني و كتب أخوه أيضا فكتب (ع) إليهما: فهمت ما ذكرتما فاعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا و كل كثير القدم في أمرنا فإنهم كافوكما إن شاء اللّه. و ما رواه الصدوق (ره) في علل الشرائع في الصحيح عن محبوب عن يعقوب السراج قال لأبي عبد اللّه (ع): هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم؟ فقال: إذن لا يعبد اللّه يا أبا يوسف. و رواه الصفار أيضا في البصائر مع اختلاف يسير.

و (منها) ما روي عن احتجاج الطبرسي و عن تفسير العسكري عن

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 2، ص: 33

الرضا (ع): ان الرجل كل الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر اللّه و قواه مبذولة في رضاء اللّه يرى الذل مع الحق أقرب من العز في الباطل- الى أن قال:

فذلكم نعم الرجل فتمسكوا بسنته، الخبر.

و كيف كان فمن مجموع هذه الأخبار يحصل اليقين بصحة التقليد و جوازه فلا يصغي الى ما يقال كما قيل على الاستدلال بالسيرة من ان الإفتاء في الصدر الأول كان بالرواية لا بالرأي فهي حجة على قبول الرواية لما عرفت من أن الإفتاء بنقل الرواية للجاهل بالحكم إنما كان باعمال الرأي و الاجتهاد فهو إبداء للرأي بنقل الرواية نظير ما يستعمله بعض فقهاء العصر في مقام الإفتاء و إلا فصرف نقل الرواية لا يكون إفتاء لحكم المسألة و لا يصدق عليه عنوان الفقيه و العارف بالأحكام الذي أفيد في تلك الأخبار. (ثمَّ لا يخفي) ان الحق ان مادة الإفتاء بلسان الشرع غير متقومة بالرأي و النظر المخصوص بالمجتهد كما في قوله تعالى:

يَسْتَفْتُونَكَ (قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ) فِي الْكَلٰالَةِ بل لا يختص بالأحكام كما في قوله تعالى فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً فيصح إطلاقه على الأخبار بالحكم.

أدلة المانعين عن جواز التقليد
اشارة

(أحدها) ان المستفتي يجوز على المفتي الخطأ و ذلك يمنع من قبول قوله لعدم الأمن من الاقدام على القبيح (و فيه) منع كون تجويز الخطأ مانعا من العمل و إلا لمنع المجتهد من العمل برأيه بل الامارات بأجمعها يجوز فيها الخطأ و مع هذا نعمل بها، فالميزان هو قيام الحجة على صحة العمل به و تلك الأدلة حجة على ذلك.

(الثاني من أدلتهم) انه لا يجوز التقليد في الأصول و إذا كان العبد مكلفا بالاجتهاد و العلم في الأصول فلا بد

أن يكون متمكنا منه و إلا لزم التكليف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 34

بالمحال و من تمكن من الاجتهاد في الأصول تمكن من الاجتهاد في الفروع أيضا لأنها أشكل من الفروع و أكثر شبها منها. (و فيه) ان مسائل الأصول مطلوب فيها الاعتقاد فلا بد فيها من الاجتهاد بخلاف المسائل الفرعية مضافا الى ما ذكره صاحب القوانين (ره) من منع كون الاجتهاد في الأصول أصعب فإنها مبنية على قواعد عقلية و شواهد ذوقية و دلائل وجدانية يسهل إدراكها إجمالا لكل من التفت إليها و ليس المطلوب فيها إلا الدليل الإجمالي. مع ان مسائلها قليلة غاية القلة في جنب الفروع الفقهية، و أدلة الفروع جزئيات متشتتة و أكثرها مبنية على مقدمات عقلية و مدلولات خفية محفوفة باختلافات و اختلالات لا يرجى زوالها في كثير منها.

(الثالث من أدلتهم) ان الأخذ بقول المجتهد يكون من التمسك بغير الكتاب و السنة لأنه تمسك بقول الغير فهو ينافي أخبار الثقلين. (و جوابه) ان التمسك بقول الغير باعتبار انه مستند الى الثقلين يكون من التمسك بالثقلين قطعا لا سيما و ان العامي لا يتمكن من التمسك بهما إلا بهذا النحو فيكون أقرب طرق التمسك بهما للعامي هو ذلك.

(الرابع من أدلتهم) ان التقليد عمل بغير علم و قد نهى الشارع عن العمل بغير العلم (و جوابه) ان الأدلة الناهية مخصصة بالأخبار المتقدمة مضافا الى انها لو تمت لمنعت حتى من الاجتهاد.

(الخامس من أدلتهم) ما دل على الذم على التقليد من الآيات و الأخبار (و فيه) انها على فرض شمولها للتقليد في الأحكام الشرعية فتخصص بالتقليد في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها العلم و اليقين لكون أغلب مواردها ذلك فيكون هو

مقتضى الجمع بينها و بين ما دل على جواز التقليد أو تخصص بتقليد الفسقة من العلماء في الفروع الفقهية كما يشهد بذلك المروي في الاحتجاج من قوله (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 35

و كذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر و العصبية الشديدة و التكالب على حطام الدنيا- الى قوله (ع)-: من قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم اللّه سبحانه بالتقليد لفسقة فقهائهم أو تخصص بتقليد الجاهل لجاهل مثله بقرينة قوله تعالى أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً بعد قوله تعالى قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا.

(السادس من أدلتهم) ان أدلة التقليد المذكورة لو كانت تامة لوجب اتخاذه طريقا للأحكام الشرعية و ما كان يصح الاجتهاد لعدم تقييدها بذلك.

(و جوابه) ان مقتضى الجمع بينها و بين الأدلة الدالة على جواز الاجتهاد هو جواز التقليد مع عدم التمكن من الاجتهاد كما سيجي ء إنشاء اللّه في أن المجتهد أو من عنده ملكة الاجتهاد لا يجوز له التقليد.

(السابع) ان الحجة إن كانت مشتملة على الحكم الشرعي الذي له مساس بالمجتهد عملا و ان صح أن تكون حجة في حق العامي و لكن حجيتها مختصة بالمجتهد دون العامي لعدم تحقق موضوع الحجية و شرائطها بالنسبة اليه. و عليه فلا يشترك العامي مع المجتهد في مدلولها و إذا كانت مشتملة على حكم لا مساس له بالمجتهد كما إذا كانت مشتملة على مسائل الحيض و النفاس فلا معنى لجعل حجيتها بالنسبة إليه. (قلنا) نعم لكن بواسطة أدلة جواز التقليد يكون قيام الحجة بمنزلة قيامها عند العامي المقلد و يكون مساسها بالعامى يوجب المساس لها بالمجتهد على ان المانع من

الاشتراك هو اختصاص الحكم لا اختصاص الحجة به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 36

ثمرة البحث في جواز التقليد و عدمه

قد يقال بل قد قيل ان هذا البحث لا ينفع العامي لأنه عالم بجواز التقليد و لأنه لا يجوز له أن يقلد في هذه المسألة و إلا لزم التسلسل أو الدور و لا يمكنه الاجتهاد فيها لعجزه عن الاجتهاد و لا ينفع المجتهد لأن المجتهد لا يجوز له التقليد قطعا. (و قد أجيب) عن ذلك بأن البحث عنها يثمر من حيث إطلاق الجواز و تقييده فإن الأدلة الدالة على الجواز إذا عرفناها استطعنا أن نعرف أنها مطلقة من حيث الأعلمية و الحياة و الوثاقة أو مقيدة، ثمَّ ان المجتهد لو يثبت عنده عدم الجواز ردع العامي عن التقليد، كما انه لو ثبت عنده الجواز جاز له حث العامي على التقليد، على أن هذا البحث ينفع العامي خصوصا من عنده بعض المبادي من العلوم فان جل أدلة التقليد واضحة يتفهمها العامي.

شروط التقليد

اشارة

قد عرفت ان الاجتهاد يعتبر فيه أمور، فهكذا يعتبر في التقليد أمور يفسد التقليد بدونها، و حيث ان هذه الأمور بعضها يرجع للمقلد (بالكسر) الذي هو المستفتي، و بعضها في المجتهد المقلّد (بالفتح) الذي هو المفتي، و بعضها في الحكم الذي يقلد العامي المجتهد فيه وقع الكلام في جهات ثلاثة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 37

(الجهة الأولى) فيما يعتبر في المستفتي
اشارة

و يعتبر أمور في الشخص الذي يقلد الغير و يعمل بفتواه بحيث يترتب على التقليد آثاره من صحة عمله و عدم جواز عدوله و نحو ذلك:

(أحدها) أن يكون عاقلا

حال تقليده للمجتهد فلا عبرة بتقليد المجنون حال جنونه كأن عقد قلبه على الأخذ بقول المجتهد و عمل به في تطهير ثوبه أو بدنه أو استبرائه. نعم لو قلد حال العقل ثمَّ جن فذهب صاحب الفصول إلى استقرار التقليد في حقه و تظهر الثمرة في حق وليه و حقه بعد الإفاقة و لكن يمكن القول بتبدل الموضوع (إلا اللهم) أن يدعى ان الجنون مثل النوم و الغفلة و الاغماء لا يجوز معها العدول لأنها أعذار عقلية لا توجب ارتفاع التكليف من أصله و إنما توجب رفع تنجزه، و عليه فعلى وليه أن يعمل على طبق قول من قلده المجنون حال تعقله حتى لو كان الولي مجتهدا و لا يجوز له العدول عنه عند الإفاقة و سيجي ء ان شاء اللّه في موارد جواز العدول التعرض لذلك.

(ثانيها) أن يكون بالغا

فلا عبرة بتقليد الصبي و إن كان مميزا و قلنا بأن أعماله تمرينية. قال صاحب الفصول: و لو جعلنا أعماله شرعية لزم ثبوت التقليد في حقه لأنه منها و لتوقف شرعية غيره غالبا عليه. و (تظهر الثمرة) فيما لو بلغ عشرا و قلد من يقول بصحة عتقه فأعتق مملوكه فان جعلنا تقليده شرعيا انعتق عليه المملوك و لو جعلناه للتمرين لم يلزم الانعتاق عليه و في عدوله عند من يمنع من العدول فيجوزه على القول بكونه تمرينيا و لا يجوزه على القول بكونه شرعيا، و كذا الكلام في استصحاب تقليده إلى ما بعد البلوغ إذا مات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 38

مفتيه قبل البلوغ عند من يقول بالبقاء، و يعتبر في تقليده شرعيا أو تمرينيا وقوعه بعد البلوغ المقطوع به فلو قلد قبله أشكل اعتباره بكونه دوريا،

و لا فرق في ذلك بين تقليده في الوجوب و التحريم و غيرهما إذ لا يعتبر في صحة التقليد فعلية الحكم و إلا لم تثبت بالنسبة إلى فاقد الشرط ا ه. و لعل وجه الدوران شرعية التقليد في حقه تثبت بالتقليد الشرعي فكيف يثبت التقليد الشرعي في حقه. و قد أورد عليه بعض المحققين (ره) ان وجوب التقليد مقدمي و هو توصلي معاملي لا عباديا و التمرينية و الشرعية على الخلاف فيما بين الفقهاء إنما يجريان في العبادات دون المعاملات، ضرورة انه لا معنى له في المعاملة فكون بيعه و شرائه و عتقه و نحو ذلك تمرينيا مما لا محصل له لأن البيع إن كان شرعيا أثر و كان نافذا و إلا فلا يجوز أخذ المال منه و لو بالمبادلة و على وليه قبض يده من إعطاء ماله لا أمره بذلك كما لو كان تمرينيا إلا أن يريد من الأعمال خصوص العبادات فيكون المقصود ان عبادات الصبي لو جعلت شرعية كان التقليد أيضا شرعيا لأن شرعية العمل تستلزم شرعية مقدماته بخلاف ما لو كانت تمرينية فان التقليد حينئذ لما لم يكن شرعيا لا أثر له لا انه تمريني لكنه لا يلائم قوله لأنه منها و لا بعده فافهم، مع انه ينتقض بمثل غسل ثوبه أو تطهير بدنه أو غير ذلك من مقدمات العبادة فان نفي شرعية العبادة لا يستلزم نفي الآثار المترتبة على المقدمات التوصلية و أيضا الظاهر دخول العتق في المعاملات المجمع على صحتها من الجاهل المقصر دون العبادات المختلف فيها و إن كان له جهة عبادة أيضا فقصر صحة عتقه في كلامه على سبق التقليد و شرعيته لا وجه له ظاهرا و أيضا

التقليد إن كان هو العمل فيلغوا أكثر ذلك الكلام و إن كان الأخذ للعمل فبعضه، و أما مجرد الأخذ فلا قول به. (و الحاصل) ان القول بنفوذ التقليد في حق الصبي بل المجنون بعد تحقق موضوعه في حقهما بأن قلنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 39

أن التقليد هو الأخذ للعمل و لو بعد البلوغ أو الإفاقة أو هو العمل مع صدور عمل شرعي بأن قلنا بشرعية عبادة الصبي فصلى على طبق الفتوى آخذا بها مما لا مانع منه إلا أن يتمسك بظهور إطباقهم على نفي الأثر عن فعل المجنون بل الصبي إلا ما ثبت فتدبر ا ه. و لا يخفى ان مراد صاحب الفصول (ره) بالشرعية هو الاعتبار الشرعي و الصحة و ترتب الأثر لا ما فهمه المشكل و سيجي ء إنشاء اللّه في التنبيه الثامن من تنبيهات مبحث البقاء على تقليد الميت ما ينفعك هنا فراجعه.

(ثالثها) ما ذكره صاحب الفصول أن يكون المقلد مؤمنا

حال التقليد إذا كان المفتي مؤمنا فلا عبرة بتقليد الكافر و المخالف له لعدم كونه آخذا بقول المجتهد المؤمن حقيقة لكونه على خلاف معتقده. نعم لو فرض انه اعتقد جواز تقليد المؤمن كما في الكافر بالجحود أو بهتك الشعائر و المرتد الذي لم يقبل منه الإسلام لم يبعد ترتب أحكامه عليه (و تظهر الثمرة) في جريان أحكام التقليد عليه من صحة عقوده و إيقاعاته و في ارتفاع الإثم عنه إذا أفتى له بإباحة ما هو محرم واقعا و في جواز عدوله بناء على عدم جوازه و في جواز بقائه على تقدير موت المفتي، و الكافر لو قلد المجتهد من أهل مذهبه في أحكام وضعية من ملكية أو صحة أو فساد لزمه تلك الأحكام بالنسبة إلى الوقائع

التي قلد فيها حال كفره فيحكم بصحة عقوده و إيقاعاته و تستمر تلك الأحكام الى إسلامه لو أسلم ما لم يمتنع استمراره فيه كالبقاء على نكاح المحارم أو على ما فوق النصاب و من هذا الباب بقائه على نكاح زوجة لاط بأخيها قبل النكاح و لا يقدح في ذلك كونه عندنا معاقبا على الفروع إذ لا منافاة بين صحة العقد و تحريمه. نعم لا يبعد اختصاص ذلك بالكافر المعتقد لحقية دينه. و أما الكافر المعتقد لحقية الإسلام فجريان ذلك في حقه غير واضح و كذلك المخالف إذا قلد لأهل مذهبه و يزيد على الكافر بصحة عباداته إذا استبصر بعد فعلها عدى ما استثني انتهى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 40

(رابعها) أن لا يكون مجتهدا
اشارة

و قد تقدم الكلام في ذلك ص 173 ج 1 و لا بأس بتنقيح البحث مرة أخرى فإن الإعادة لا تخلو من الإفادة فنقول: ان المجتهد ان كان عارفا بالمسألة فلا يجوز له التقليد من غير فرق بين من عرفها بالعلم أو بالظن المعتبر و ذلك لعدم جريان أدلة التقليد في حقه لظهورها في الجاهل الغير العالم، و حكي الإجماع على ذلك عن النهاية و التمهيد و الأحكام. و استدل على ذلك أيضا بالعمومات المانعة من التقليد خرج منها بعض الصور و لم يعلم خروج محل البحث عنها. و استدل أيضا بأصالة عدم صحة التقليد. و استدل أيضا بفحوى ما دل على عدم جواز التقليد للمجتهد في القبلة أو الوقت لغيره.

[عدم جواز تقليد المجتهد المتوقف بالمسئلة لمجتهد آخر عارف بها و عليه ان يرجع للأصول]

و أما المجتهد المتوقف في المسألة لعدم الدليل فيها أو لتعارض الأدلة فيها فوظيفته الرجوع الى الأصول دون التقليد لحكومة أدلة الأصول على أدلة التقليد و لقيام السيرة و الإجماع على عدم جواز التقليد و لاعتقاده بخطإ المجتهد المدعي للدليل فلا يكون رجوعه رجوعا للعالم و قلما يحتمل وجود مستند صحيح عند غيره.

(و الحاصل) ان الأصول العملية تكون أحكامها منجزة في حقه لتحقق موضوعها بالنسبة إليه فهي تمنع من تنجز حكم آخر في حقه الا أن يرتفع عنه موضوعها.

(ان قلت) انه عند الفحص و اليأس عن الدليل أو عند التعارض يتنجز في حقه حكم الأصل في المسألة و التقليد لأن كلا منهما موضوعه و هو عدم العلم قد تحقق في دفعة واحدة (قلنا) ان أدلة التقليد مقيدة بمن لم يعلم وظيفته الشرعية أو العقلية، و مع تحقق موضوع الأصول يعلم بتحقق الوظيفة بخلاف الأصول فإن موضوعها عدم معرفة الواقع لا الوظيفة بدليل ان ما

لا يعلمون في قوله (ع) رفع ما لا يعلمون ليس هو الوظيفة لأنه يعلم بالوظيفة العقلية بخلاف أدلة التقليد فان ما لا يعلمون يمكن الأخذ بإطلاقها لمن لا يعلم وظيفته و لا حكمه الواقعي.

(ان قلت) ان عدم العلم بالحكم الواقعي المأخوذ في الأصول ان كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 41

حتى عن طريق التقليد فالأصل لا يجري لفرض وجود طريق التقليد للحكم الواقعي و ان كان عما عدى طريق التقليد فيلزم التقييد و لا دليل عليه. (قلنا) التقليد لم يكن من العلم المأخوذ عدمه في الأصول فإن المنصرف منه هو المعرفة من غير طريق التقليد و لذا المقلد لا يقال له عالم فتأمل.

[عدم جواز تقليد المجتهد المتوفى حتى في الحكم الظاهري لمجتهد آخر]

و أما المجتهد المتوقف في المسألة حتى في الحكم الظاهري و ما هو مقتضى الأصل فيها. فالحق عدم جواز تقليده للغير لبعض الوجوه المتقدمة و للسيرة و الإجماع و لانصراف أدلة التقليد عنه لأنها ظاهرة فيمن جهل الحكم عن نقصان في طرف المعرفة و عدم كمال في قوة الاستنباط.

(ان قلت) ان استصحاب جواز التقليد جار في حقه فيما لو كان قد بلغ و لم يكن مجتهدا فإنه و ان بلغ مرتبة الاجتهاد لكن الظاهر ان الموضوع عند العرف من لم يتمكن من معرفة الوظيفة و العاجز عنها. (قلنا) لا نسلم ان الموضوع ذلك بل نحتمل ان الموضوع عند العرف هو من جهل الحكم لنقصان في قوة الاستنباط و طرق المعرفة لا من كان قوة استنباطه كاملة و طرق المعرفة موجودة عنده، و عليه فيرجع لحكم العقل.

[عدم جواز تقليد المجتهد الملكي لغيره حتى عند عدم استنباطه للحكم]

و أما المجتهد الذي عنده ملكة الاجتهاد و لكنه لم يعملها و لم يجتهد بعد في المسألة فوظيفته أن يعمل ملكته و يجتهد لتحصيل الحكم الشرعي في المسألة و لا يقلد فيها و المحكي عن الشيخ الأنصاري (ره) انه المعروف عندنا بل لم ينقل جواز التقليد عن أحد منا و انما حكي عن مخالفينا على اختلاف منهم في الإطلاق و التقييد، و قد حكي عن السيد (ره) في مناهله جواز التقليد، و في الضوابط حكايته عن بعض أهل العصر، بل المحكي عن صريح جدنا كاشف الغطاء تعين التقليد عليه و لا حجية لظنه لا بالنسبة اليه و لا بالنسبة لغيره، و قد استدل على صحة تقليده للغير (أولا) انه إذا لم يكن مستنبطا لقدر معتد به من الأحكام بحيث يعد فقيها عرفا على حد صدق سائر

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 2، ص: 42

ما يشتق من أسامي العلوم على أربابها فهو ليس بفقيه لأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية و هو ليس بعالم و إنما هو قادر على العلم بالأحكام الشرعية و وظيفته الرجوع إلى الفقيه لما دل على ان الناس صنفان: فقيه و غير فقيه و ان وظيفة الثاني الرجوع إلى الأول.

[تحقيق قاعدة الناس صنفان فقيه و غير فقيه]

(و فيه) ان هذه القاعدة إنما هي متصيدة من أدلة التقليد، فإنه يستفاد منها ان الناس قسمان عالم و متعلم يرجع اليه فلا بد أن ننظر في مقدار دلالتها، و الظاهر منها ان المجتهد الملكي داخل في العالم لا يرجع لغيره لأنه لو كان المراد بها العالم الفعلي دون من كان يعلم بالحكم لو رجع إلى ما عنده لزم أن تكون وظيفة سائر المجتهدين الذين لم يستحضروا فتواهم الرجوع إلى الغير و هذا خلاف ما فهمه الأصحاب منها بأجمعهم.

و (ثانيا) ان المذكور في مقبولة عمر بن حنظلة اعتبار معرفة أحكامهم عليهم السلام و هو جمع مضاف يفيد العموم و لا أقل من العموم العرفي و هو غير صادق بمجرد عموم الملكة ما لم يكن عالما بالفعل بقدر يعتد به بحيث يصدق عليه عرفا أنه عارف بالأحكام. (و جوابه) انها مختصة بالحكم و لا نظر لها إلى الفتوى على أنها غاية ما تدل عليه عدم الرجوع إلى من لم يعرف ذلك لا على جواز رجوعه للغير. و لا ريب في أن من لم يستنبط حكما لم يرجع إليه إذ لم يعرف الحكم فعلا.

و (ثالثا) أن كثيرا من الناس في عصر الأئمة (ع) يرجعون للرواة مع تمكنهم من معرفة الحكم من الامام (ع). و جوابه انه لا نسلم ذلك إلا مع عجزهم

عن معرفة الحكم من الامام (ع) أو لزوم العسر و الحرج عليهم بذلك أو أعمالهم للاجتهاد في المسألة إذا كانوا من أهل الرأي لا تقليدهم للغير و إنما يأخذون الرواية.

و (رابعا) استصحاب جواز التقليد له (و فيه) ان موضوعه القاصر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 43

عن الاستنباط و الفرض انه قد انتفى لأنه قد صار متمكنا من الاستنباط على أنه لا مجال للأصل مع وجود الدليل على عدم الجواز كما سيجي ء إنشاء اللّه، مضافا الى ان الحالة السابقة و هي وجوب التقليد و الثابت فعلا قطعا هو عدم وجوبه للإجماع على جواز الاستنباط لهذا الرجل إلا أن يناقش في الإجماع لمخالفة مثل جدنا كاشف الغطاء (ره) على ما هو المحكي عنه، و لعدم معروفية المسألة مضافا الى ان الإجماع قد قام على التخير بين التقليد و الاجتهاد و الاحتياط للعامي.

و (خامسا) عموم آية السؤال و النفر و قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و العلماء من أولي الأمر. فعلى المجتهد الملكي الرجوع لهم.

(إن قلت) انهما يدلان على وجوب التقليد و هو منفي عنه بالإجماع و إنما الكلام في جوازه له. (قلنا) قد عرفت الجواب عن دعوى الإجماع المذكورة في الدليل الرابع. (و فيه) ان الظاهر ان المراد بعدم العلم في آية السؤال هو العجز عن المعرفة إلا عن طريق السؤال بقرينة الأمر بالسؤال مع انه لا إشكال في وجود طرق أخرى للمجتهد الملكي يرجع إليها فمن حصر الأمر بالسؤال عند الجهل يستظهر ان المراد العجز عن المعرفة إلا عن طريق السؤال. (و بعبارة أخرى) انهم لو كانوا متمكنين من معرفة الواقع بغير السؤال لأمروا بالرجوع إليه أيضا

مضافا إلى ان المراد بأهل الذكر هم أهل العلم و هم المتمكنون من تحصيل العلم لا المستحضرون له فإن الأهلية للشي ء إنما تحصل بالتأهل له و لا يلزم حصوله بالفعل. و على هذا فتختص الآية بسؤال من ليس أهل الذكر و العلم و هو العامي لمن هو أهل له مضافا إلى ما سبق من القرينة و هو الإجماع على عدم جواز السؤال لمن نسي الحكم الشرعي الذي اجتهد فيه و كان مسجلا عنده بحيث بمجرد الرجوع اليه يعرفه فلو كان المراد بها عدم العلم الفعلي لجاز لمثل هذا الرجل أن يرجع إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 44

الغير فتعين أن يكون المراد عدم العلم الفعلي و الملكي. (و اما آية النفر) فجعل التفقه غاية للنفر يوجب ظهور الآية عن عجز الطائفة عن معرفة الأحكام من غير السؤال ضرورة انه لو كان عندهم ما يمكنهم معرفة الحكم به لما أمروا بالنفر لمعرفة الأحكام و لما علل النفر بالتفقه إذ التفقه لا يكون حينئذ علة للنفر لتحقق التفقه إذ ذاك بدون النفر. (و اما آية أولي الأمر) فلأن الظاهر منها هو الإطاعة في القضاء و الأحكام. و لو سلمنا بواسطة حذف المتعلق حيث يقتضي العموم، فالجواب عنها يظهر مما سبق في الجواب عن آية السؤال.

(خامسا) لزوم الحرج على المجتهد المذكور في التزامه باستنباط جميع أحكام أعماله الشرعية بمجرد وجود الملكة عنده (و جوابه) ان المتعين عليه حينئذ الاجتهاد في المسائل التي هي محل ابتلائه الأهم ثمَّ الأهم و يحتاط في ما عداها و إن لزم عليه العسر و الحرج في الالتزام بالاجتهاد أو الاحتياط يقلد بمقدار ما يرتفع به الحرج و (الحاصل) ان كل

مسألة ابتلى بها إن لم يكن عليه حرج في الاجتهاد بها أو الاحتياط فيها ارتكب أحدهما و إن كان في ذلك حرج لعسر الاحتياط و عدم تهيأ أسباب الاجتهاد أو وجود مانع منه أو لاشتغاله بأهم منه تعين عليه التقليد إلى أن يتمكن من الاجتهاد أو الاحتياط فيها و إذا تمكن من الاجتهاد أو الاحتياط في أحد المسائل لا على التعيين اختار الأهم منها و مع التساوي في نظره أو عدم معرفة الأهم اختار واحدة منها.

أدلة القائلين بالمنع من تقليد المجتهد الغير المستنبط لغيره

استدل القائلون بمنع المجتهد الملكي من التقليد لغيره بوجوه:

(أحدها) الأصل حرمة العمل بالتقليد أو أصالة الاشتغال كما في الضوابط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 45

و لا يخفى ما فيه فان الخصم بعد ما أقام الأدلة على الجواز لا مجال للتمسك بهذا الأصل في قباله.

(ثانيها) ما ذكره جملة من العلماء كالشيخ محمود صاحب القوامع و غيره عموم ما دل على الرجوع إلى الكتاب و السنة خرج منه القاصر فيبقى غيره تحت العموم. و بعبارة أخرى: ان أدلة الأحكام الشرعية إنما لا يجوز للعامي التمسك بها من جهة قصوره عن معرفتها، و المجتهد الملكي غير قاصر عن ذلك فيكون مخاطبا بالعمل بها و تكون حجة في حقه، و أدلة التقليد إنما هي ناظرة لمن لا حجة عنده يرجع إليها. و قد تقدم ص 184 ج 1 ما ينفعك في المقام عند التعرض للقول المنسوب لجدي كاشف الغطاء (ره).

(ثالثها) بناء العقلاء، فإنه لا ريب في انهم لو كانوا أهل صنعة و كانوا متمكنين من الصنعة مع فرض وجود الاختلاف بين أهل تلك الصنعة لم يكونوا يرجعون إلى غيرهم، و أدلة التقليد إنما جاءت مؤكدة لحكم العقل و الفطرة.

(رابعها) ترجيح

المرجوح على الراجح فإن الأمر يدور بين العمل برأيه أو العمل برأي الغير، و لا شك ان العمل برأيه أرجح، و فيه ما لا يخفى.

(خامسها) نقل الإجماع من الإمامية على حرمة التقليد إذ لم نجد منهم من قال بالتخير بين الاجتهاد و التقليد إلا من خروجه غير ضائر بالإجماع و عدم لزوم الاحتياط عليه للإجماع فيتعين في حقه الاجتهاد. فالحق وجوب الاجتهاد على المجتهد الملكي مع التمكن من الاجتهاد و عدم تعسره عليه، و اما مع عدم التمكن من الاجتهاد أو تعسره لضيق الوقت أو لعدم تهيأ أسباب الاجتهاد له أو نحو ذلك فمخير بين الاحتياط و بين التقليد لأن أدلة التقليد تشمل من كان عاجزا عن المعرفة إلا عن طريق السؤال و هذا عاجز فعلا عن المعرفة إلا عن طريق السؤال و لو قلد ثمَّ تمكن من الاجتهاد وجب عليه الاجتهاد لحصول مقتضية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 46

و انتفاء المانع منه و لو اعتراه مانع من الاجتهاد بعد ذلك جاز له تقليد غير من قلده سابقا و ان منعنا من العدول لأنه تقليد ابتدائي وفاقا لما ذكره صاحب الفصول (ره).

(إن قلت) ان الواجب عليه الرجوع إلى الاحتياط لا إلى التقليد لأنه موجب لحصول العلم بالواقع. نعم مع تعسر الاحتياط و الاجتهاد يجوز له التقليد (قلنا) لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال في العامي أيضا ذلك مع انه حكي الإجماع على عدم لزوم الاحتياط على من تعسر في حقه الاجتهاد مطلقا مع انه قد تقدم من الروايات ما تدل على جواز التقليد مطلقا من غير تقييد لها بصورة عسر الاحتياط. (نعم) لو قلنا بالتقليد من جهة حكم العقل بعسر الاحتياط،

ففي هذه الصورة يقدم الاحتياط على التقليد لعدم عسر الاحتياط.

[عدم جواز تقليد المجتهد المتجزي لغيره]

و أما المجتهد المتجزي: ففي المسائل التي اجتهد فيها أو كان له ملكة الاجتهاد فيها فحكمه حكم المجتهد المطلق في حرمة التقليد و أما ما عداها فيقلد فيها. و هكذا يجوز للمجتهد تقليد الآخر إذا كان باشتغاله بالاستنباط أو بالاحتياط يفوت وقت الواجب و هكذا يجوز للمجتهد تقليد الغير إذا أشكل عليه طريق الواقعة و تعذر عليه الاستنباط فيها بحيث لا يعرف حتى الأصل العقلي الذي يرجع له و لم يتمكن من العمل بسوى التقليد، و لعل هذا يلحق بالمتجزي. و أما من شك في نفسه انه بلغ مرتبة الاجتهاد حتى لا يجوز له التقليد أو انه بعد لم يبلغها فحكمه التقليد استصحابا لعدم حصول الملكة له فإن الملكة مانعة عن التقليد فيستصحب عدمها، و أما استصحاب جواز التقليد أو عدم وجوب الاجتهاد فهو لا يصح لاحتمال تبدل الموضوع لاحتمال انه صار ذا ملكة و إن كان ينبغي له معرفة ذلك اما بشهادة أهل الخبرة في حقه إن قلنا بحجية الشهادة أو بأن يجرب نفسه في عدة من المسائل فيبحث عن المسألة و يجيل نظره فيها فإنه إذا رأى ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 47

الطريق الذي سلكه في الاستنتاج عين طريق من تقدمه قد يحصل له الاطمئنان بالاجتهاد و نحو ذلك من المناقشات و النزاعات التي قد تولد له الاطمئنان بالاجتهاد

(خامس الشروط التي تعتبر في المستفتي) أن يكون عالما بجواز التقليد

فلو قلد مع عدم علمه بذلك لم يكن تقليده صحيحا و معتبرا لعدم تحقق الأخذ في حقه حقيقة و تظهر الثمرة فيما لو انكشف الخلاف كذا في الفصول، و الأولى أن يعلل ذلك بأنه لم يكن التقليد حجة له يأمن بها من العقاب.

(سادسها) أن يثبت عند العامي جامعية مرجعه في التقليد لشرائط المرجعية
اشارة

من اجتهاد و غيره من الشرائط للزوم إحراز الموضوع عند ترتيب الآثار عليه و لأنه بدون ثبوت ذلك فالاستصحاب يقتضي عدم جامعيته للشرائط و عدم جواز تقليده و لاحتمال العقاب باتباع أقواله لعدم ثبوت حجيتها، فاذا عرفت لزوم ثبوت جامعية المرجع،

[طرق ثبوت صلاحية المجتهد للمرجعية]

فاعلم ان ثبوته اما أن يكون بالعلم الحاصل من المعاشرة أو من الشياع أو من الاختبار بأن كان العامي من أهل الخبرة و المعرفة و لم يبلغ درجة الاجتهاد أو غير ذلك من الأسباب الموجبة للعلم فان القطع حجة من أي سبب كان، و لا وجه لما في عروة السيد (ره) في هذه المسألة من جعل العلم الحاصل من الشياع مقابلا للعلم الحاصل من الاختبار.

و قيل يثبت بأمور أخرى:
(أحدها) انه يثبت بشهادة العدلين

وفاقا للمحكي عن المعالم و المقاصد العلية و المفاتيح و خلافا لما يظهر من الذريعة و المعارج و الجعفرية و الوافية على ما حكي عنهم و هو المحكي عن صاحب الرياض و استشكل المحقق الثالث في ذلك و قد يستدل على ذلك بأن ولاية القاضي المنصوب من الامام (ع) في زمن الحضور تثبت بذلك فيثبت الاجتهاد بها في زمن الغيبة لظهور عدم الفرق بين أفراد المجتهدين و تحقيق الحال يطلب من ما سيجي ء ان شاء اللّه في الطريق الثاني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 48

لإثبات العدالة فراجعه.

(ثانيها) انه يثبت بخبر العدل الواحد

حكي عن صاحب الضوابط القول به و عن المفاتيح الميل اليه و تحقيق الحال يعلم من مراجعة الطريق الثالث لإثبات العدالة، هذا و ان بعض محشي العروة استدل على ثبوته بخبر الواحد الثقة بعموم ما دل على حجيته في الأحكام الكلية الشرعية قائلا: إذ المراد منه (أي مما دل على حجية قول الثقة في الأحكام الكلية) ما يؤدي إلى الحكم الكلي سواء كان بمدلوله المطابقي أم الالتزامي و المقام من الثاني فإن مدلول الخبر المطابقي هو الاجتهاد، و من هذه الجهة يكون اخبارا عن موضوع لكن مدلوله الالتزامي هو ثبوت الحكم الواقعي الكلي الذي يؤدي إليه نظر المجتهد.

(و لا يخفى ما فيه) فإنه على هذا ينبغي أن يقبل قول الثقة في كل موضوع خارجي يترتب عليه أثر شرعي فإن ما نحن فيه ليس إلا من قبيل الاخبار عن موضوع خارجي للأثر الشرعي المذكور لا من قبيل المتلازمين فهو نظير الأخبار عن العدالة و كون هذا المائع خمرا فإن المحشي المذكور لا يلتزم بحجية خبر الثقة بذلك.

(ثالثها) انه يثبت بالشياع

اما المفيد للعلم فلا اشكال فيه لأن العلم حجة كما عرفت، و اما غير المفيد للعلم فثبوته به و عدمه يعرف من الكلام في الطريق الخامس لإثبات العدالة.

(رابعها) انه يثبت بمطلق الظن

، و قد ذهب إلى كفاية الظن صاحب المفاتيح و التهذيب و النهاية أيضا و شارح المبادي و الشهيد في الذكرى و صاحب المحصول على ما حكى عنهم (ره) و ظاهر المحكي عن الحاجبي في المختصر و صريح العضدي في شرحه و صاحب المبادي الاتفاق على جواز الاستفتاء عند الظن باجتهاد المفتي و عدالته و يحكى عن بعضهم جواز ذلك حتى مع التمكن من تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 49

العلم و انه بمجرد ما إذا رآه منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق و اجتماعهم عليه و الانقياد إلى ما يفتيهم به و إقبال المسلمين على سؤاله يثبت بذلك اجتهاده و جامعيته لباقي الشرائط و قد استدل على حجية الظن هنا بأن تحصيل العلم غير ممكن غالبا لأغلب الناس و أهل البلدان النائية لأن تحصيل العلم به اما من اخبار المخبرين أو بالصحبة المتأكدة و الثاني لا يحصل به العلم إلا بأن يكون للمكلف قوة و مرتبة وافية من العلم يميز بهما المجتهد عن غيره كما لا يخفى. و تحصيل تلك القوة لكافة الناس متعذر و متعسر جدا. نعم في حق بعض الطلاب المستعدين أمر ممكن بلا عسر و لا صعوبة و لكنه نادر لا يلتفت إليه ضرورة ان مناط التكليف هو الغالب من المكلفين، و اما الثاني لندورة تكاثر أخبار أهل الخبرة بحيث يحصل العلم لكل الناس باجتهاد المجتهد و إذا كان تحصيل معلوم الاجتهاد لأغلب الناس في غالب أحوالهم متعذرا أو متعسرا فلا

بد من كفاية الظن و تجويز العمل برأي مظنون الاجتهاد.

(إن قلت) يرجع للاحتياط. (قلنا) مضافا إلى تعسره و تعذره فهو خلاف السيرة و الإجماع.

(إن قلت) ان الأمر غير منحصر بالتقليد لمظنون الجامعية للشرائط و بالاحتياط بل هناك شق ثالث و هو تقليد الميت ابتداء المعلوم الجامعية للشرائط كالشيخ و الفاضلين و الشهيدين و غيرهم ممن نقطع باجتهادهم و جامعيتهم الشرائط فلا عسر على أحد في تحصيل معلوم الاجتهاد لأنه موجود في الأموات (قلنا) مضافا إلى عدم تمامية ذلك عند من يقول بعدم جواز تقليد الميت ابتداء انه لا يجي ء في المرافعات و المسائل المستحدثة التي لم يجتهد فيها المجتهد الميت و لا يجي ء في سائر تصرفات الحاكم في أموال الغيب و الصغار و المجانين لامتناع تصرف الميت في أموالهم، و إذا ثبت لزوم الرجوع إلى مظنون الاجتهاد الحي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 50

في المرافعات و غيرها من المذكورات ثبت في غيرها من الفتاوى بالإجماع المركب إذ لم نجد مفصلا من تلك الجهة. (و جوابه) ان دعوى عدم القول بالفصل في مثل هذه المسألة غير مسلم كيف و جملة من العلماء من جوّز تقليد الميت ابتداء التزم في هذه المسائل بتقليد الحي مضافا إلى عدم تعسر العلم و إمكان تحصيل البينة على الاجتهاد و الشرائط و تحقيق الحال يعلم من مراجعة الطريق السابع لإثبات العدالة.

(خامسها) انه يثبت بالوثوق

بذلك كما إذا رآه منتصبا للفتوى في جماهير الناس و الناس الأخيار تسأل منه مسائلهم و هم يأخذونها بالقبول منه و تحقيق ذلك يطلب من مبحث العدالة في الطريق السادس.

(سادسها) انه يثبت بإخبار العدل عن نفسه بأنه مجتهد جامع للشرائط
اشارة

و يصح للعامي تقليده مع عدم قرينة تكذب دعواه

[الأدلة التي يستدل بها على حجية اخبار العدل عن نفسه]
اشارة

و الذي يمكن أن يستدل به على قبول دعواه وجوه:

«الأول» قاعدة حمل فعل المسلم و قوله على الصحة

فالعدل المخبر عن اجتهاده يصدّق قوله حملا لقوله على الصحة و هو الصدق (و جوابه) انه ليس بناء الأصحاب على قبول قول المسلم و حمله على الصدق و ترتيب الآثار عليه في مثل ما نحن فيه بمجرده ما لم يقترن به أمارة معتبرة و لذا لا يقبلون دعوى المدعي على الغائب في الوكالة عنه في طلاق زوجته أو بيع أمواله و نحو ذلك و لا دعوى القيمومة على الصغير و لا الوصاية عن الميت ما لم تكن معها بينة شرعية. نعم قد يكتفي بالوصف في اللقطة على اشكال معروف بينهم و فيما نحن فيه بناء الناس على ذلك أيضا فإن من يدعي لنفسه شيئا كمنصب و نحوه لا يقبلون منه ذلك ما لم يكن على طبق أمارة معتبرة (مضافا) إلى أن قاعدة حمل فعل المسلم على الصحة لا تقتضي جواز تقليده بمجرد دعواه الاجتهاد كسائر المدعين بل هي إنما تقتضي عدم تكذيبه و عدم جواز مزاحمته و ردعه عما يباشره من الأمور المختصة بالمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 51

و الحاكم مثل تصدي الإفتاء و التصرف في أموال الأيتام و الغيب و الأوقاف و نحوها كما لا يجوز مزاحمة مدعي الوكالة و ردعه عن التصرفات ما لم يعلم كذبه فغاية ما يمكن أن يقال ان اللازم من الحمل على الصحة إنما هو هذا المقدار فقط و عليه فلا يجوز أخذ الفتاوى منه و لا الترافع اليه و لا رفع أموال الغيب و الصغار و المجانين اليه و لا يلزم إنفاذ حكمه و تصرفاته بمجرد ذلك كما لا يخفى.

(إن قلت) كيف يقبل قول

مدعي الفقر (قلنا) إنما قبلت بدليل خاص فان تمَّ قلنا به و إلا فالتمسك في سماعها على مجرد ان قول المسلم محمول على الصحة في غاية الإشكال، مضافا إلى أنه لو صح التمسك بالقاعدة المزبورة لزم قبول قول مدعي الاجتهاد و الجامعية للشرائط و ان لم يعلم عدالته.

«الثاني» ان الاجتهاد و شرائطه من الملكات النفسانية الخفية

التي صاحبها أدرى بها من غيره فيندرج في قاعدتهم المعروفة من سماع قول القائل فيما لا يعلم إلا من قبله كاحتلام الصبي و حيض المرأة و طهرها و يأسها و قول الوكيل في شراء شي ء لنفسه أو لموكله و أمثال ذلك. (و فيه) المنع من كونها من الأمور التي لا تعلم إلا من قبله بل هي من الأمور الجلية و ليست من الخفية و ذلك لأنها بالنسبة إلى العارف ظاهرة لتمكنه من الاستكشاف بالمعاشرة، و اما بالنسبة إلى غيره فلتمكنه من الرجوع إلى العارفين و لو سلم فكلية الكبرى ممنوعة إذ ثبوت حكمها في الأمثلة المذكورة لا يفيد الاطراد و لذا لا يثبت كل أمر خفي بمجرد دعوى صاحبه.

«الثالث» ما دل على حجية خبر الواحد

فإنها تشمل قبول خبر العدل عن نفسه بالجامعية لشرائط التقليد. (و جوابه) يعلم مما قررناه في قبول خبر العدل فان الجواب هو الجواب عن ذلك لأن الجامعية للشرائط من الموضوعات الخارجية فإن كانت دلت على قبول خبر الواحد فيها كما في الأحكام فقد دلت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 52

هنا و إلا فلا بل لو سلمنا دلالتها على قبوله في الموضوعات فلا نسلم في صورة الاخبار عن نفسه لا نصرفها عن ذلك.

(سابعها) [ثبوته بإجازة مجتهد معلوم الاجتهاد له]

انه يثبت الاجتهاد و شرائط المرجعية في التقليد بوجود اجازة من مجتهد معلوم الاجتهاد في يده و تصديقه له بالاجتهاد كما هو متعارف في زماننا هذا (و الحاصل) انه يثبت اجتهاد المفتي بمجرد تصديق مجتهد له به و التحقيق عدم ثبوته بمجرد تصديق المجتهد الآخر له إلا إذا قلنا بقبول قول العدل الواحد في ذلك و هو غير مسلم.

(إن قلت) ان ذلك حكم منه بالاجتهاد نظير حكمه بالهلال و حكمه نافذ مطلقا لعموم قوله (ع) في المقبولة فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا و لم يقبل منه فإنما بحكم اللّه استخف، و قوله (ع): و الراد عليه راد على اللّه، و قد أجيب عن ذلك بأنه لم يظهر من الأخبار أزيد من نفوذ حكمه في الأحكام فان القدر المستفاد منها انه إذا حكم في موضوع بما عرفه من الأحكام الشرعية كأن يحكم بأن هذا المال لزيد و بأن المرتضعة مع الرجل عشرة رضعات محرمة عليه، و اما حكمه بالموضوع الصرف الذي لا ربط له بالحكم مثل قوله هذا ماء و هذا كافر أو هذا فاسق أو عادل فلا دليل على نفوذ حكمه فيها و لذا

استشكلوا في ثبوت الهلال بحكمه و مع الشك في نفوذ حكمه فاللازم هو العمل بالأصول و هي قاضية بعدم النفوذ و عدم جواز الاتكال على مجرد حكمه في إجراء الأحكام المخالفة للأصل. (و لا يخفى) ما فيه فإنه قد أثبتنا في محله نفوذ حكم الحاكم في الموضوعات و الأولى أن يقال ان ما تعارف في هذا الوقت من قبل الشهادة من المجتهد في حق حاملها و لذا لا تقبل لأنها من شهادة الواحد إلا إذا انضم إليها شهادة مجتهد آخر و اما لو كان من قبيل الحكم و كان جامعا لشرائط الحكم فهو نافذ و يجب قبوله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 53

(سابع الشروط) المعتبرة في العامي المستفتي و عمله بالفتوى
اشارة

أن يكون عند العمل بالفتوى تكون الفتوى ثابتة عنده لا انه ظان بها أو محتملا لها و إلا لم تكن تحصل بها المعذورية عن الواقع لعدم حجية ما عمل به عنده

[طرق ثبوت الفتوى عند العامي. ثبوتها بالعلم بها. ثبوتها بالبينة. ثبوتها بظواهر ألفاظه. ثبوتها بخبر الثقة بها]

و هذا الثبوت يحصل بأمور:

(أحدها) بالعلم بالفتوى مشافهة له أو بالتواتر عنه أو الخبر المحفوف بالقرائن أو بالمعاشرة له كما لو رآه ملتزما بالصلاة عند سقوط القرص فإنه يعلم بأن فتواه في هذه المسألة هو دخول الوقت بسقوط القرص لا بذهاب الحمرة المشرقية.

(ثانيها) بالبينة أعني أخبار عدلين لما ذكرناه في الطريق الثاني لإثبات العدالة (ثالثها) بظواهر الألفاظ فإنها حجة لبناء العقلاء و بها يثبت عموم الفتوى و خصوصها و يشخص المراد منها.

(رابعها) خبر الثقة عن (فتوى المجتهد) الضابط لا كثير السهو و النسيان فإنه حجة في هذا الباب و يجوز للعامي العمل به و ذلك لأنه ان كان نقل الفتوى من قبيل نقل الأحكام الشرعية فيكون حال نقل الثقة حال نقله عن الامام (ع) و ان كان من قبيل نقل الموضوعات كما استقر به أستاذنا المحقق الشيخ المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي و لا أقل من خروجه من منصرف حجية أخبار الآحاد كما هو المتيقن من جملة أدلتها فكذلك لا إشكال في حجيته للسيرة القطعية الجارية بين المسلمين حيث يتلقون فتاوى المجتهدين من الثقات. و للإجماع المحكي عن السيد في المصابيح و الشهيد في الذكرى و الشيخ حسن في المعالم و غيرهم على جواز تعويل العامي على خبر العدل عن فتوى المجتهد. و لبناء العقلاء في كل ملة و نحلة في الرجوع إلى أهل الخبرة على الاكتفاء بنقل الثقات عنهم و لا يلتزمون بأخذ الحكم منهم مشافهة. و للعسر و الحرج بتحصيل العلم الوجداني

بفتوى الفقيه فان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 54

تكليف العباد من الرجال و النساء و العبيد و الإماء في أقصى الأرض و أدناها بالعلم موجب للعسر العظيم بل اختلال النظام بل و عسر تحصيل العلم الشرعي. و الاستشهاد من العدلين على كل مسألة فإن فيه عسر عظيم و حرج شديد أصعب من لزوم مشافهة المفتي و عسر الاحتياط لو اقتصر على أخذ الفتاوى المعلومة. و من هنا ظهر لك فساد ما ذهب اليه بعض محشي العروة من أن كفاية أخبار شخص موثوق بفتوى المجتهد مبني على عموم حجية خبر الثقة في الأحكام الكلية لمثل المقام من جهة دلالة الخبر عن الفتوى بالالتزام على ثبوت الحكم الكلى، و ذلك لما عرفت من حجية خبر الثقة في الفتوى و لو لم نبني على ذلك مضافا الى ما سبق منا في الرد عليه عند الكلام في ثبوت اجتهاد المجتهد بخبر العدل مضافا إلى ما عرفت من انصراف أدلة حجية خبر الواحد عن مثل هذا الخبر عن الفتوى.

هذا و قد بقي الكلام في هذا المقام في جهات:
(الاولى) [جواز الاعتماد على اخبار الواحد عن الفتوى حتى مع التمكن من العلم بها]

انه هل يجوز أن يعتمد على الخبر عن الفتوى مع التمكن من العلم بالفتوى للتمكن من الرجوع الى نفس المجتهد بدون عسر عليه و قد خالف في ذلك شارح المبادي فذهب إلى أن المستفتي ان وجد المجتهد لم يجز له الاستفتاء عن الحاكي، و لكن الظاهر ان الإجماع المنقول و بناء العقلاء و سيرة المسلمين تقتضي جواز الرجوع إلى الحاكي الثقة مع التمكن من الرجوع للمحكي عنه نظير الرواية عن الامام (ع) مع التمكن من الرجوع للإمام (ع).

(الثانية) [جواز رجوع الحائض إلى زوجها في معرفة الفتوى]

ان جماعة ادعوا الإجماع على جواز رجوع الحائض إلى زوجها في نقل الفتوى و قد حكي هذا الإجماع عن الذكرى و صاحب المعالم و صاحبي المفاتيح و المصابيح و هو بإطلاقه يشمل حتى صورة فسق الزوج و صورة التمكن من الرجوع للمجتهد و لكن المحكي عن الضوابط جواز الرجوع للزوج الفاسق في حكاية الفتوى عن المجتهد مع الحرج و العسر عليها في معرفة فتوى المجتهد، و اما مع عدم العسر فلا لأن الضرورات تقدر بقدرها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 55

(الثالثة) [عند نقل الفتوى خطأ يجب اعلام المنقول إليه]

إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأ يجب عليه اعلام من تعلم منه و كذا إذا أخطأ المجتهد في بيان فتواه يجب عليه الاعلام، و قد بينا ذلك مفصلا في وجوب اعلام المجتهد مقلديه إذا تبدل رأيه فإن ما يصلح لدليله هناك يصلح هنا.

(الرابعة) [صحة الاعتماد على رسالة المجتهد و ان كانت بخط غيره]

الوجدان للفتوى في كتبه و رسائله سواء كانت بخطه أو بخط من يوثق به كالمطابع التي يعتمد عليها في طبع الكتب أو نفس المجتهد أو وكيله أعطاه إياها للعمل بها أو كانت ممضاة من قبله لأن الكتابة للرسالة بخط الغير تكون من قبيل الاخبار عن فتوى المجتهد فلا بد من حصول الوثوق بها و المذكورات من الأمور الموجبة للوثوق بها و الدليل على اعتبار الرسالة هو جريان السيرة على ذلك فإن كتابة القرآن و كتابة الروايات كلها يؤخذ بها و يعمل عليها و هكذا كتابة سائر الآراء و المعتقدات.

(خامسها) [تعارض الأدلة الدالة على الفتوى]

إذا تعارضت الأدلة الدالة على الفتوى فإن أمكن الجمع الدلالي بحمل الظاهر على الأظهر و غير النص على النص كما يجمع بين الأخبار المتعارضة تعين ذلك لأنه جمع عرفي قامت الحجة على صحته (و دعوى) انه إنما يصح إذا كان من متكلم واحد أو متكلمين في حكم الواحد و أما مع تعدد المتكلم موضوعا و حكما فلا وجه لصرف ظاهر كلام أحدهما بكلام الآخر إذ لا يكون كلام أحدهما قرينة على كلام الآخر (فاسدة) فإن ما نحن فيه من قبيل المتكلمين في حكم متكلم واحد لأن كل منهما ينقل رأي شخص واحد نظير الروايتين المتعارضتين هذا إذا أمكن الجمع الدلالي و إذا لم يمكن الجمع الدلالي فإن كان أحد الأدلة دال على الفتوى الفعلية الحالية للمجتهد دون الآخر أخذ بالدال على الفتوى الفعلية لأن الآخر إن كان دالا على فتواه السابقة فاستصحاب بقائها لا يجري لقيام الحجة على خلافه و إن كان الآخر مطلق أو ساكت أخذ بالدال على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 56

الفتوى الفعلية لأنه أصرح منه فيقدم عليه بمقتضى الجمع

الدلالي و لا وجه لما ذهب له بعضهم من أن العدول عن الرأي إذا كان محتملا و كان التاريخ مختلفا تعين العمل بالمتأخر فإن مجرد صدور أحد المتعارضين متأخرا لا يوجب التقديم على صاحبه مع اتحادهما في الدلالة و احتمال العدول يوجد في كل منهما إذ لعل المتقدم صدوره كان هو المشتمل على الرأي المتأخر للمجتهد فالحق هو ما ذكرناه من تقديم ما دل على الفتوى الحالية الفعلية، و إذا لم يكن أحدهما قد دل على ذلك فيؤخذ بالقطعي منهما دلالة و صدورا لان الظني إنما يكون حجة مع عدم القطعي، و إذا لم يكن أحدهما قطعي فقد قيل بالرجوع الى المرجحات في باب الاخبار و التخير عند التساوي بدعوى ان نقل الفتوى مثل نقل الاحكام فيتعدى من الترجيح و التخير فيها الى الترجيح و التخير فيما نحن فيه مضافا الى أن عموم أدلة نيابة الفقيه عن الامام (ع) في تبليغ الأحكام تقتضي ثبوت أحكام أقوال الإمام (ع) لقول الفقيه و من جملة ذلك الترجيح بالمرجحات المذكورة فيها (و لا يخفى ما فيه) اما الأول فلأنه قد تقدم منا في الرد عليه عند الكلام في ثبوت اجتهاد المجتهد بخبر العدل مضافا الى ما عرفت غير مرة من انصراف تلك الأخبار الدالة على التخير عند التساوي و الترجيح عند عدمه عن نقل الفتوى لان موضوعها الأخبار المتعارضة و الخبر ظاهر في نقل الحكم الشرعي الإلهي بخلاف نقل الفتوى فإنه نقل لرأي المجتهد في الحكم الشرعي. و اما الثاني فلأن أدلة النيابة ليست فيها هذه السعة و إنما تدل عند من قال بعموميتها على أن الوظائف الثابتة للإمام (ع) بعنوان الإمامة تثبت للمجتهد لا انه يثبت له

كل شي ء كان ثابتا للإمام (ع) و الأولى أن يقال أنه في هذه الصورة إن كان المجتهد المفتي جعل قانونا لصورة التعارض بأن قال يؤخذ بالرسالة أو يؤخذ بأعدل الناقلين كما صدر من بعضهم فهو و ان لم يجعل قانونا فمع التمكن من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 57

الرجوع اليه لاستيضاح الحال وجب الرجوع إليه لأن الأدلة التي أقمناها على حجية رسالة المجتهد أو نقل فتواه أو غير ذلك إنما القدر المتيقن منها هو حجيتها في غير صورة ابتلائها بالمعارض مع التمكن من معرفة رأي المجتهد. و أما إذا لم يتمكن من معرفة رأي المجتهد تخير بينهما لما عرفت من أن الأصل عند التعارض بين الحجج عندنا هو التخير ما لم يكن أحدهما أوثق من الآخر، و قلنا بانصراف دليل الحجية عن غير الأوثق أو أن الأوثق هو القدر المتيقن منها في صورة التعارض أو هو المقدم عند التعارض قدم الأوثق منهما و بهذا ظهر لك فساد ما ذكره السيد في عروته من تقديم السماع شفاها من المجتهد على النقل إذا تعارضا معللا له بعضهم بأن النقل طريق للسماع فالعلم بالسماع المخالف للنقل يستوجب العلم بمخالفة النقل للواقع. و وجه الفساد ان السماع منه ان كان يوجب القطع بفتواه قدم على النقل كما ان النقل عنه ان أوجب القطع بفتواه قدم على السماع لما عرفت من تقديم القطعي على الظني و إن كان السماع يفيد الظن كالنقل و كان أحدهما أوثق و قلنا بتقديم بالأوثق أخذ به و إلا فإن أمكن أن يستوضح منه الحال وجب ذلك و إلا فيتخير. و دعوى ان النقل طريق للسماع فاسدة. فإن النقل طريق للرأي كالسماع

فهو حاكي عن الرأي بواسطة السماع أو الكتابة أو القرائن أو نحو ذلك و طالما يشتبه المجتهد في نقل فتواه. و قد رأينا جملة من المجتهدين عند ما يسئل عن المسألة مع انه مفتى بها من قبل ينسى فتواه. و من هنا تعرف فيما ذكره (ره) من تقديم السماع على ما في الرسالة عند التعارض و من تقديم الرسالة على النقل و ما في تخصيص بعضهم الرسالة بكونها بخط المجتهد، فان المجتهد قد يخطأ في خطه.

و الحاصل ان هنا مسائل كتبناها فيما قبل:
(الاولى) في حجية كتاب المفتي

و الحق جواز الاعتماد على تأليف المفتي و كتابه و ما يكتبه في جواب المسائل وفاقا لجم غفير و جمع كثير بل لم نجد مخالفا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 58

في ذلك و هو المحكي عن النهاية و التهذيب و المبادي و المنية و الذكرى إلا انهم قيدوها بصورة الأمن من التزوير و هو خيرة المفاتيح و المصابيح لأنه لو لم يكن حجة لزم سد أبواب التكاليف و المعاملات و لأنه المعهود من سيرة المسلمين و لولاه لزم العسر العظيم و الحرج الشديد كما لا يخفى و عليه بناء العقلاء في أمور معادهم و معاشهم و معاملاتهم و تكسبهم فان كلها على الرجوع إلى كتب السلف و المكاتبات المرسولة من بلد إلى بلد فلو لم يكن حجة لزم اختلال نظم العالم و هدم أساس عيش بني آدم، ضرورة ان بنائهم مستقر على ذلك في كل ملة و نحلة و شيوع عملهم بكتب السلف من الأطباء الماضين و أهل التواريخ و غيرهم (و بالجملة) لا ريب في جواز التعويل على كتابه بل الظن الحاصل من كتابه أقوى من الظن الحاصل من قول العدل و لذا يقدم الكتاب

على خبر العدل حين التعارض عند العقلاء.

(الثانية) [يشترط في الرجوع الى كتاب المفتي ثبوت نسبة الكتاب له]

هل يشترط في جواز الرجوع إلى كتابه العلم بكونه من الفقيه الذي يريد تقليده أو ما يقوم مقامه من قول العدلين أو أخبار المفتي بأنه كتابه أم لا بل يكفي مطلق الظن في ذلك الحق هو الأول لما مر مرارا من عدم حجية الظن في الموضوعات الصرفة لعموم الأدلة الناهية ثمَّ هل يكفي إخبار الوكيل و ذي اليد بأنه كتاب المجتهد الفلاني و تأليفه أم لا فيه وجهان كما ان في قول العدل الواحد بأن ذلك تأليفه وجهان و لعل الأوجه هو الاكتفاء بالعدل الواحد و الوكيل و ذي اليد مع الأمن من التزوير.

(الثالثة) [كفاية كون كتاب المفتي بخط غيره و الظن بعدم تحريفه]

هل يشترط في ذلك أن يكون الكتاب بخط المفتي أم يكفي و إن كان بخط غيره و الحق هو الثاني لسيرة المسلمين و لزوم العسر و الحرج الشديد في الاقتصار على المكتوب بخطه. ثمَّ هل يشترط فيه العلم بكونه صحيحا ليس فيه غلط و لا ترك و لا زيادة و لا نقيصة و لا تصحيف و لا تحريف أم يكتفى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 59

بالظن به الحق هو الثاني لتعذر حصول ذلك العلم حتى للأشخاص الذين كانوا يقابلون ذلك الكتاب مع نسخة الأصل لاحتمال السهو و النسيان بل يتعذر إقامة العدلين على ذلك و شهادتهما بصحته، فإن غاية ذلك أن يكونا طرفي المقابلة و مع ذلك لا يحصل العلم للقاري بما في يد المستمع بل لا يحصل للمستمع العلم بما في يد القاري، و على فرض الإمكان بتكرر المقابلة بأن يأخذ أحدهما نسخة الأصل فيقرأه لصاحبه مرة و يستمع منه أخرى ثمَّ يعطيها لصاحبه و يأخذ منه النسخة التي كانت في يده فيقرأها له مرة ثمَّ يستمع

منه أخرى ليصير كل منهما شاهدا على صحة تلك النسخة و مطابقتها لنسخة الأصل فهو في غاية التعسر كما لا يخفى فالحق كفاية الظن في المقام حذرا من لزوم العسر و الحرج.

(الرابعة) [حجية ظواهر كلام المفتي و صحة الأخذ بها]

لا ريب في حجية نصوص كتابه لكن ظواهر ألفاظه كعامها و مطلقها و مفهومها و غيرها هل هي حجة أم لا (و بعبارة أخرى) هل يشترط في العمل بما دل عليه كتابه حصول العلم بأنه مراده من ألفاظه أم يكفي الظن بمراده الحق هو الثاني لأن الظنون الحاصلة بالمراد من الألفاظ الصريحة و الظاهرة كالعمومات و المطلقات حجة إجماعا. نعم لا عمل بمجملات ألفاظه و لا بمتشابهاتها و اما مفاهيم كلامه كمفهوم الشرط و الغاية و الحصر و غيرها مما قلنا بحجيته فهل هي حجة كالمناطيق أم لا؟ ذهب بعضهم إلى الأخير قال لأنا بعد ما استقرينا و تصفحنا في كلماتهم و فتاويهم وجدناهم غالبا يقيدون حكمهم في المسألة بقيد من شرط أو صفة أو غاية و لا يريدون بتعليق حكمهم عليه الانتفاء عند الانتفاء بل يريدون به ان مؤدى ظنهم هو ثبوت الحكم عند القيد المزبور (و بعبارة أخرى) ان ما اجتهدوا فيه و استقر عليه رأيهم هو ثبوت الحكم في محل القيد و ان ما عدى محل القيد لم يظهر لهم حكمه بعد و لم يجتهدوا فيه فهم في غير محل القيد من المتوقفين و المترددين لا انهم جازمون بانتفاء الحكم عند انتفاء القيد فهذه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 60

الاستقراءات في كلماتهم كاشفة عن توقف المفتي و تردده في غير محل القيد و صارفة للفظ عن معناه الحقيقي من انتفاء الحكم عند انتفاء القيد. (قلت) تلك الغلبة

لو سلمت ليست أغلب من استعمال الأمر في الندب و لا في استعمال العام في الخاص لأنه قيل في الأول ان استعماله في الندب من المجازات الراجحة و في الأخير ما من عام إلا و قد خص، و مع ذلك يحمل الأمر على الوجوب و العام على العموم عملا بظاهر اللفظ فيكون مفاهيم كتابة و ألفاظه حجة للإجماع على حجية ظواهر الألفاظ فإن لتعليق الحكم على الشرط أو الصفة أو الغاية فوائد كثيرة منها الانتفاء عند الانتفاء، و منها عدم علم المتكلم بما عدى محل القيد، و منها غير ذلك، فاذا قلنا ان الظاهر من التعليق على الشرط مثلا هو الانتفاء عند الانتفاء و وجب العمل بظاهر الألفاظ كما مر وجب العمل بمفهوم كلامه من غير اشكال و وجب على المتكلم أو المصنف الذي يعلق الحكم على شرط أو صفة و يريد به توقفه عن غير محل القيد و يرى دلالته على الانتفاء عند الانتفاء أن يبين ذلك بأن ينطق بالمفهوم و يخبر انه فيه من المتوقفين و إلا لزم الإغراء بالجهل فتدبر.

(الخامسة) [يصح العمل بالفتوى من دون لزوم الفحص عما يعارضها أو يخصصها]

هل يشترط في العمل بالفتوى المستفادة من كتاب المفتي الفحص عن ما يعارضها في تمام كتابه أم لا، الحق عدم اشتراط الفحص لبناء العقلاء و لزوم العسر و الحرج و لسيرة المسلمين و لفقد المقتضي فإن اشتراط الفحص في العمل بالأخبار على المجتهد إنما هو لأجل حصول العلم الإجمالي بأن أكثر الاخبار لا يكون خاليا عن المعارض و لا يكون مثل هذا العلم موجودا في المقام فلا يجب الفحص فيما نحن فيه.

(السادسة) لو تعارض فتوى المجتهد

الذي يريد تقليده في كتابيه أو في موضعي كتابه فإن علم تاريخ الاستنباط تعين العمل بالمتأخر و فتواه الأخيرة لأن كلامه الثاني رجوع عن الأول و إن جهل التاريخ فهل التقدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 61

و التأخر الكتبي يدل على التقدم و التأخر الاستنباطي ليتعين العمل بالمتأخر من حيث الترتيب أم لا الحق هو العدم لأنا نرى كثيرا من المجتهدين لا يكون تأليفهم على الترتيب فقد يكون تصنيفه في المعاملات مقدما على تصنيفه في العبادات و في العبادات ربما يقدم الصوم على الصلاة و الصلاة على الطهارات و في المعاملات ربما يقدم النكاح على البيع و الإجارة على الرهن و القضاء على النكاح بل ربما يقدم التصنيف في مبطلات الصلاة و الخلل على أجزائها أو أجزائها على مقارناتها أو يقدم الغسل على الوضوء و مع ذلك كيف يدل ترتيب الكتبي على ترتيب الاستنباطي و إن ما في كتاب الطهارة يكون مستنبطا قبل استنباط ما في كتاب الصلاة فعلى هذا يكون تعارض كتابيه أو موضعين من كتابه الواحد مع جهل تاريخ الاستنباط كتعارض الدليلين فجميع المراتب المذكورة فيها جارية هنا أيضا. و قد تقدم ذلك تحقيقا و تنقيحا فلا نطيل

الكلام بإعادتها.

(السابعة) [اخبار العدل بالفتوى من كتاب المفتي لا من قوله]

لو أخبر العادل بفتوى الفقيه ناقلا من كتابه فهل يجوز للمقلد أن يعمل به كما يجوز له العمل بنقله من سماعه أم لا و هل يجوز للعدل نقل فتواه لغيره من كتابه أم لا الحق جواز النقل من كتاب الفقيه للغير و جواز تعويل المقلد على ما نقله العدل من كتابه لسيرة المسلمين و بناء العقلاء و لزوم العسر و الحرج لولاه لأن أغلب الناس عوام لا يعرفون الخطأ و لو عرفوه لم يفهموا عبائر الكتاب بأسرها فيكون في الاقتصار على خبر لعدل فيما إذا سمعه من المجتهد دون ما وجده في كتابه ضيق شديد و حرج عظيم و هما منفيان في الشريعة السمحة السهلة مضافا الى إطلاق ما يدل على حجية خبر العدل فكما ان خبر العدل حجة و لو كان بواسطة عدل آخر بل و لو بوسائط عدول كذلك خبره حجة فيما إذا كان الواسطة بينه و بين المجتهد هو لكتاب فان كتاب الفقيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 62

حجية شرعية كقول العدل الراوي عنه بل ربما قيل انه أقوى من قول العدل.

(الثامنة) [تعارض نقل العدل للفتوى مع كتاب المفتي]

إذا تعارض نقل العدل عن المفتي مع كتابه فمع العلم بالتاريخين أي تاريخ استنباط ما في الكتاب مع تاريخ سماعه تعين العمل بالمتأخر منهما و ان كان أحدهما معلوما و الآخر مجهولا تعين العمل بالمجهول لو بنينا على ان الأصل تأخر الحادث و ان كان تاريخهما معا مجهولين فهل يقدم الكتاب على خبر العدل أو العكس أو التوقف و الرجوع الى المراتب المذكورة في تعارض الدليلين و الأصح هو العمل بما في كتابه لأن الظن الحاصل من كتابه أقوى من الظن الحاصل من خبر العادل الراوي عنه

و يساعده بناء العقلاء كما لا يخفى.

(التاسعة) [إذا علم العامي بتبدل راي المفتي في بعض مسائل رسالته]

إذا علم المقلد إجمالا برجوع المجتهد عن بعض المسائل المدونة في كتابه و لم يعلمه تفصيلا، فهل يجوز له العمل بذلك الكتاب مطلقا أم لا أم يفصل بين التقليد الابتدائي و استمرار التقليد فان كان الثاني وجب عليه البقاء على تقليده الذي كان ثابتا قبل حصول ذلك العلم الإجمالي و ان كان الأول لم يجز الرجوع الى ذلك الكتاب، و التحقيق ان ذلك العلم الإجمالي ان كان في قليل كان من باب الشبهة المحصورة، فإن قلنا بعدم لزوم الاجتناب عن تمام الأمور المحصورة كما يظهر من الفاضل القمي (ره) كان وجود العلم الإجمالي كعدمه، و ان قلنا بعدم لزوم الاجتناب عن التمام إلا مقدار الحرام جاز له العمل بجميع مسائل الكتاب إلا خمسة مسائل منها من أي المسائل شاء لو علم بأنه رجع عن خمسة منها إجمالا و ان علم برجوعه عن عشرة إجمالا ترك العمل بعشرة منها و عمل بالباقي، و ان قلنا بلزوم الاجتناب عن الكل كما هو خيرة بعضهم لم يجز له العمل بشي ء منها و ان كان العلم الإجمالي في قليل من كثير كما لو علم برجوعه عن عشرة مسائل و كتابه مشتملة على عشرة آلاف مسألة فلا عبرة بهذا العلم الإجمالي و لا إشكال في شي ء من ذلك و انما الإشكال في صورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 63

واحدة و هي أن تكون الشبهة محصورة و قلنا بلزوم الاجتناب عن تمام الأمور المحصورة و هو قد قلده في تمام مسائل الكتاب و قلنا بحرمة الرجوع عن التقليد مطلقا و قد اختار بعضهم في المسائل البراءة في دوران الأمر بين الواجب

و الحرام و كون الشبهة مصداقية كاشتباه آخر رمضان بأول شوال و اشتباه الزوجة المنذور وطيها بالأجنبية انه إن كان أصل يرجح جانب الحرمة كما في اشتباه آخر الحيض بالاستحاضة أو جانب الوجوب كاشتباه آخر رمضان بأول شوال عمل بالأصل و مع فقد الأصل من الجانبين كالزوجة المنذور وطيها المشتبهة مع الأجنبية حكم بتعيين التخير البدوي و مقتضى ذلك الحكم بالتخير البدوي بأن يعين من مسائل الكتاب مقدار ما حصل له العلم الإجمالي برجوع مجتهده عنه ان خمسة فخمسة و ان عشرة فعشرة و يعمل بما عداها.

الشك في جامعية المفتي للشرائط

قد عرفت وجوب إحراز العامي جامعية المفتي للشرائط من حياته و عدالته و عقله و عدم تبدل رأيه و غير ذلك من الشرائط اما إذا شك فيها بعد تقليده له فان كان شكه فيها في بقائها بعد إحراز وجودها سابقا في المفتي استصحب بقائها و لا يجب عليه الفحص لعدم وجوبه في الشبهات الموضوعية و ان كان شكه سار و في أصل وجودها سابقا وجب عليه الفحص لإحرازها فيه بالطرق المتقدمة حتى يصح بقائه على تقليده له و الا وجب عليه العدول لمن أحرزها فيه من المجتهدين و اما اعماله الماضية فهي كما لو كانت واقعة بدون تقليد و قد تقدم حكمها فراجعه نعم قد يناقش في الاستصحاب في صورة ما إذا شك في حياته مع الشك في عروض الفسق أو عروض نحو ذلك مما يوجب عدم تقليده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 64

لعدم إحراز الموضوع وجدانا لكون الموضوع لها هو المجتهد الحي و المفروض انه شاك أيضا في حياته و في عروض ذلك عليه لو كان حيا و لا يصح إحراز الموضوع بالاستصحاب إذ

ليس من آثار بقاء حياته جواز استصحاب عدالته أو عدم تبدل رأيه أو بقاء عقله و هكذا ليس الشك في العدالة مسبب عن الشك في الحياة حتى يكفي عنه و قد أجاب استاذنا كا (ره) بأنه يكفي في الاستصحاب إحراز الموضوع على تقدير الحياة فالعدالة على تقدير الحياة مستصحبة و لا مانع منه و ما سمعته من وجوب إحراز الموضوع في الاستصحاب لا يراد منه أزيد من اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة و هو حاصل في الفرض و أضعف من التوهم المذكور ما يتوهم من انه لا اثر لاستصحاب الحياة عند الشك في الموت لان بقاء حجية الرأي إنما يترتب على الحياة عقلا باعتبار ان زوال الرأي بالموت انما هو بحكم العقل فإنه يندفع بضرورة كون اشتراط الحياة في المجتهد شرعيا و من جهة ان التقليد الابتدائي للميت لا يجوز لأدلة خاصة عندهم لا من باب حكم العقل: و عدم بقاء الرأي له بعد موته على تقدير تسليمه لا يمنع عن جواز الأخذ برأيه السابق فيكون الرأي نظير الخبر كما ان الأمر واضح على رأي استاذنا كا (ره) من ان الفتوى من أقسام الخبر الحدسي كما في غيره من أرباب أهل الخبرة في الصنائع

الجهة الثانية فيما يعتبر في الفتوى التي يقلد العامي المجتهد فيها
اشارة

و يعتبر في الأمور التي يرجع العامي فيها للمجتهد بحيث يكون رجوعه اليه صحيحا و يرتب عليه الآثار و يأمن به من العقاب أن لا تكون أحد الأمور الآتية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 65

الأحكام الضرورية

(الأول منها) الأحكام الضرورية

كوجوب الصلاة و نحوه فإنه لا يجوز التقليد فيها لعدم احتياج العامي إلى المؤمن من الوقوع في خلاف الواقع فان التقليد إنما يحتاجه لأجل الخوف من الوقوع في خلاف الواقع و في الضروريات قد انكشف له الواقع، و ان شئت قلت ان أدلة التقليد مقيدة بصورة عدم العلم و الضروري قد تعلق به العلم.

الأمور اليقينية

(الثاني منها) اليقينيات

كمن اعتقد بوجوب صلاة الجمعة لعين ما ذكرناه في الضروريات.

الأمور التي علم خطأ المجتهد فيها

(الثالث من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها)

الأمور التي علم بخطإ المجتهد فيها سواء قطع بخطئه في حكمه لأنه يكون حكما بغير ما أنزل اللّه عنده و لا يراه حكما شرعيا أو قطع بخطئه في مدركه و احتمل صحة الحكم فلأنه لم يره في هذه الصورة انه عالم بالحكم بل متخيل له، فلو كان المقلد عالما بالرجال و علم بخطإ مجتهده في عدالة الراوي و ثقته لم يجز له الرجوع في الفتوى المستندة الى ذلك، و هكذا لو كان عالما باللغة و علم بخطإ مجتهده في معنى لفظ الرواية لم يجز تقليده في الفتوى المستندة الى هذه الرواية و ربما يظهر من الشيخ الأنصاري (ره) في رسائله في مبحث تكافؤ المتعارضين الذهاب الى جواز التقليد و ان علم بخطإ المجتهد في مدركه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 66

الموضوعات الصرفة و المستنبطة

(الرابع من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الموضوعات الصرفة
اشارة

و المراد بها هي المصاديق الجزئية الخارجية المتعلق نوعها للأحكام الشرعية الكلية و تكون هي متعلقة للاحكام الجزئية (و ان شئت قلت) ان موضوعات الاحكام لا يجوز التقليد في تحققها في الخارج و حصولها فيه سواء كانت الموضوعات شرعية أو عرفية أو لغوية، و لذا أعاب الوحيد البهبهاني (ره) على من أمر بالتقليد فيها بقوله (ره) في فوائده ما يفعله بعض من يدعي الاجتهاد من الأمر بالتقليد في الموضوعات غفلة منه أو قصورا مثلا يقول فلان عندي عادل فصلوا خلفه و أقبلوا قوله أو شهادته أو يقول فلان مات فاقتسموا إرثه و تزوجوا زوجته الى غير ذلك من أمثال ما ذكر. نعم ان كان عادلا و يخبر بعنوان العلم و اليقين يكون شاهدا واحدا يعتبر شهادته في مقام اعتبار الشهادة بعد استجماع جميع شرائط القبول و مستند علمه الحس

لا الحدس.

و الى هذا أشار المرحوم عمنا الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في حاشيته على العروة حيث افتى بعدم جريان التقليد في مقام تطبيق الكبريات على الصغريات سواء كانت المفاهيم الكلية شرعية أو لغوية أو عرفية فلا يصح التقليد في ان هذا تراب أو ليس بتراب. و ذلك لعدم الإطلاق أو التعميم في أدلة التقليد. و دليل الانسداد و الارتكاز لا يجري في الموضوعات لانفتاح باب العلم فيها و لو سلمنا عمومها فهي مخصصة برواية مسعدة بن صدقه و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة و يؤيدها الرواية عن الصادق (ع) المحكية في الكافي و التهذيب في الجبن كل شي ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 67

ان فيه الميتة و لا ريب ان بالتقليد لم يستبين الشي ء و لم تقم عليه البينة فتكون مخصصة لأدلة التقليد كما تخصص أدلة حجية الخبر.

(ان قلت) ان دليل الانسداد يجري في الموضوعات الخارجية لانسداد باب العلم فيها (قلنا) لا يجري فيها ذلك لأن من مقدمات دليل الانسداد انه لو رجع إلى الأصول العملية يلزم عليه الخروج عن الدين و طرح الخطاب المنجز عليه و فيما نحن فيه لو رجع العامي إلى الأصول العملية لم يلزم عليه ذلك لانفتاح العلم بالموضوعات الخارجية عليه في كثير من الموارد و هي على ما عليه عند انفتاح باب العلم عند وجود الشارع بلا تفاوت فعلى الجاهل بالموضوعات الرجوع لفتوى مجتهده في الأصول العملية و على المجتهد ان يفتي له بالأصل العملي عند الشك في ذلك الموضوع لا بما يعلمه فيه فاذا شك في ان هذا ماء طاهر و

المجتهد يعلم بنجاسته افتى له بالطهارة لا بالنجاسة و هكذا في الهلال و (الحاصل) انه لا يجوز العمل بالتقليد في الموضوعات فإنه عمل بالظن الغير المعتبر. و منه يظهر انه لا يجوز التقليد في كون هذا اليوم أول الشهر و كون هذا الجلد خزا و هذا الإناء وقع فيه البول و ان الوقت قد دخل و ان القبلة من هذه الجهة (نعم) هناك موضوعات يقبل قول الغير فيها (منها) ما إذا قلنا بحجية مطلق الظن في مطلق الموضوعات الخارجية كان قول المفتي حجة فيها لإفادته الظن المطلق بها. و قد حكي عن بعض الأخباريين القول بحجية الظن المطلق في مطلق الموضوعات.

و حكى بعضهم عن المحقق القمي (ره) الذهاب اليه، و انه (ره) قد نسبه الى جماعة و لكن المستفاد من القوانين اعتبار الظن الحاصل من القرائن و العادات كما في غسالة الحمام و نحو ذلك مما تعارض الأصل و الظاهر المعنون في مطاوي الفقه و يظهر من المرحوم الأنصاري اعتبار الظن الاطمئناني بقول مطلق في جميع موارده و انه ملحق بالعلم و يحكى إصرار صاحب الجواهر (ره) على ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 68

و يحكى عن الشهيد الثاني (ره) القول بحجية الشياع الظني مطلقا نظرا الى أن حجيته أقوى من الظن الحاصل من البينة العادلة في غالب مواردها. و نقل عن المرحوم الشيخ محمد تقي الإجماع على اعتبار الظن في الأمور المستقبلة إلا أن التحقيق هو ما عليه المشهور من عدم اعتبار مطلق الظن في مطلق الموضوعات بل و لا الظن الاطمئناني إلا ما خرج بالدليل و ذلك لعدم قيام دليل على حجيته و قد تقرر في محله ان الظن الذي

لم يقم دليل على حجيته ليس بحجة لأن الأصل يقتضي حرمة العمل به كيف و قد قام فيما نحن فيه الدليل على عدم حجيته لما في رواية مسعدة بن صدقة و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.

[الأدلة التي أقاموها على اعتبار مطلق الظن في مطلق الموضوعات]
اشارة

و قد استدل على حجية مطلق الظن في مطلق الموضوعات بأدلة:

(الأول) منها [انسداد باب العلم بالموضوعات و بالأحكام الجزئية المتعلقة بها غالبا]

و هو مبني على تمامية دليل الانسداد في الأحكام الشرعية بأن نجريه في خصوص الموضوعات بتقريب ان باب العلم بالموضوعات منسد غالبا و لا طريق إليها إلا الظن و الأحكام الجزئية متعلقة بها فيكون باب العلم منسدا فيها فاذا جاز العمل بالظني في الأحكام الكلية لانسداده فيها فيجوز العمل بالظني في الموضوعات الخارجية بالنسبة لأحكامها الجزئية لانسداد العلم بها من ناحيتها (و فيه) ان الموضوعات التي انسد فيها باب العلم ليس من الكثرة ما يوجب الرجوع فيها إلى الأدلة أو الأصول الخروج عن الدين (و دعوى) انا لو لم نرجع في كلها الى الظن و رجعنا فيها إلى البينة أو باقي الامارات كحكم الحاكم لحصل لنا العلم بمخالفة التكاليف الواقعية على سبيل الإجمال (فاسدة) فإن أغلب القواعد المقرر في الموضوعات يلزم فيها ذلك، ألا ترى ان العمل بقاعدة الطهارة يستلزم العلم بالنجاسة على سبيل الاجمال فهذا العلم الإجمالي لا يمنع من العمل بها. نعم الذي يمنع هو لزوم الخروج عن الدين كما قرر في مقدمات دليل الانسداد مع انا نقطع ان باب العلم كان منسدا في بعض الموضوعات الصرفة في زمان المعصومين (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 69

كما في زماننا و لم يكن منهم (ع) أمر بالعمل بالظن في الموضوعات. هذا مع ان دليل الانسداد إنما تثبت مقدماته معذورية الجاهل فيما انسد فيه باب العلم لفقد بيان الشارع فيما عليه بيانه، اما إذا انسد باب العلم في مورد ليس عليه بيانه كما لو كان من جهة الأمور الخارجية فهي لا تثبت جواز عمله بالظن مع ان الموضوعات ليست بمنوطة بأدلة أمارات

مضبوطة يمكن فيها دعوى الانسداد في هذا الزمان. (و قد يقرر دليل الانسداد) بوجه آخر بأن يجرى دليل الانسداد في سنخ الاحكام و ماهيتها الشاملة للكلية و الجزئية التي هي من لوازم الموضوعات الصرفة إذ الظن بكون المائع خمرا لازمه الظن بوجوب الاجتناب عن المائع المذكور (و فيه) ان ذلك إنما يثبت حجية الظن بنحو الإهمال و لا دليل على تعميمه بالنسبة للموضوعات لعدم جريان المقدمات فيها كما عرفت (و قد يقرر) بواسطة الاستلزام بعد اجراء دليل الانسداد في الاحكام بأن يقال ان الظن إذا كان حجة في الأحكام الكلية فلازمه أن يكون حجة في الأحكام الجزئية التي هي من لوازم الموضوعات الصرفة لأن الظن بالحكم الكلي يستلزم الظن بالحكم الجزئي الذي يبتني عليه (و فيه) ان هذا غير عام فان الظن بالحكم الجزئي قد لا يتولد نعم المتولد نلتزم بحجية الظن فيه دون غيره و إنما نرجع فيه الى البينة أو ما يقوم مقامها و ان فقد فنرجع الى القواعد الظاهرية المعول عليها.

(و قد يقرر) بواسطة الاستلزام بوجه آخر بأن يقال ان الظن بالموضوع الصرف و ان لم يكن حجة من حيث انه ظن في الموضوع الصرف لكنه مستلزم للظن بالأحكام الشرعية الفرعية فالظن بكون هذا المائع بولا مستلزم للظن بحرمته و هو ظن بالحكم الشرعي و الظن بالأحكام الشرعية حجة حسب الفرض فيكون الظن بالموضوع الصرف أيضا حجة من حيث انه مستلزم للظن بالحكم الفرعي (و فيه) ان القدر المتيقن من دليل الانسداد هو حجية الظن في الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 70

الكلية الإلهية الفرعية مثل الماء طاهر و الكلب نجس لا الظن في الأحكام الجزئية الشخصية التابعة للموضوعات

الخاصة مثل نجاسة هذا الكلب الخاص و طهارة هذا الماء.

(الثاني) من الأدلة على حجية الظن في الموضوعات ان ترك العمل بالظن فيها

يوجب المخالفة القطعية للقطع بوجود تكاليف في المظنونات على وجه يعلم لزوم ترك الواجب و ارتكاب المحرم من ترك العمل بالظن فيها و لو بتدريج الأيام و الشهور و بممر السنين و الدهور.

(و جوابه) قد عرفته مما سبق من انه مع الرجوع للقواعد المقررة في الموضوعات و الأصول الشرعية لا يلزم ذلك. و لو سلمنا لزومه فهو لا يضر فإن قاعدة الطهارة و نحوها يلزم منها العلم الإجمالي بارتكاب النجاسة و إنما يضر الخروج عن الدين بل الرجوع الى مطلق الظن أيضا قد يلزم منه العلم الإجمالي بمخالفة التكليف. و هذا الدليل يرجع لدليل الانسداد فان تمَّ تمَّ و إلا فلا.

و قد عرفت عدم تمامية دليل الانسداد في الموضوعات و انه لا فرق بين زماننا و زمان الشارع بالنسبة إليها.

(الثالث) [حجية الظن في الضرر]

أن بترك العمل بالظن في الموضوعات يلزم ظن الضرر و دفع الضرر المظنون واجب عقلا. (و جوابه) ان ترخيص الشارع بالرجوع للقواعد و الأصول يقتضي عدم الضرر الأخروي و تدارك الضرر الدنيوي و تحقيق الحق يطلب من تعاليقنا على الرسائل و الكفاية فإن هذا الدليل بنفسه قد ذكره المرحوم الشيخ الأنصاري و المرحوم الآخند على حجية مطلق الظن دليلا أولا و أجابوا عنه فراجع إن أردت زيادة التحقيق.

(الرابع) انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح

و هو قبيح (و فيه) إنما يلزم لو ثبت ان العمل به أرجح و هو غير ثابت بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 71

جعل الطرق و الامارات و القواعد المقررة و إذا أردت التحقيق فراجع تعاليقنا على الرسائل و الكفاية فقد ذكروا هذا الدليل ثاني الأدلة على حجية مطلق الظن

(الخامس) [استلزام موضوعية الألفاظ للأمور الاعتقادية حجية الظن]

إن الألفاظ موضوعة للأمور الاعتقادية لا النفس الأمرية و لازمه حجية الظن لأنه من الاعتقاد (و فيه) ما تقدم في مبحث التخطئة و التصويب من عدم وضعها لذلك (و بالجملة) فالمرجع في ذلك الى الأمارات المعتبرة كالبينة و نحوها و مع فقدها فالمرجع الأصول العملية و من هنا لا يجب الفحص عن الموضوعات المشتبه و لا يجب الرجوع فيها إلى المفتي.

[الموضوعات التي يقبل فيها قول الغير]
اشارة

(و من الموضوعات) التي يكون قول الغير حجة فيها الموضوعات التي حكم الحاكم الشرعي بها كالأهلة و كموت زيد عند تنازع الورثة و كملكيته لهذه الدار عند الخصومة مع غيره في الملكية.

(و من الموضوعات) التي يكون قول الغير فيها حجة الموضوعات التي قام عليها قول أهل الخبرة فيها عند عدم التمكن من معرفتها ككون هذا الخاتم ذهب حتى يحرم لبسه. (و من الموضوعات) التي يكون قول الغير حجة فيها الموضوعات التي قام عليها قول ذي اليد كما في طهارة الشي ء و نجاسته. (و من الموضوعات) التي يكون قول الغير حجة فيها الموضوعات التي يعتبر فيها الظن و التخمين كما في دخول الشهر و القبلة و الوقت و قيم المتلفات و أرش الجنايات و مثل ضيق الوقت و الضرر و العدالة و النسب و الوقف لدليل الانسداد فيها، اما في الضرر فمن جهة اتفاق العلماء على حجية الظن بل و العقلاء في أمور معادهم و معاشهم و اما ما عدى الضرر فقد قيل انه من جهة دليل الانسداد في غالب مواردها فالرجوع الى الأصل يوجب طرح تلك الاحكام و يناقش في ذلك بأن جميع الوقائع بالنسبة لتلك الموضوعات لا يتفق عادة الابتلاء بها دفعة واحدة بحيث تصير محلا لابتلائه حتى يلزم من الرجوع الى الأصل

طرح الخطاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 72

المتوجه الى المكلف منجزا على ما هو المناط في منع الرجوع الى الأصل في الشبهة المحصورة نعم إذا علم في بعض المواضيع ان الشارع لا يرضى بمخالفة الواقع و مع الرجوع الى الأصول تحصل مخالفة الواقع كان الظن حجة كما في الضرر فإنه منسد فيه باب العلم غالبا و للشارع مزيد الاهتمام بعدم تضرر العبد بحيث يعلم عدم رضا الشارع بمخالفته للواقع الحاصلة بإجراء الأصول في جميع موارد الشك فيه لقلة الإصابة مع ارادة الشارع التخلص من الضرر مهما أمكن مع عدم وجوب الاحتياط فيه شرعا أو عدم إمكانه عقلا كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب و الحرمة كمسألة الصوم و الإفطار مثلا فلا محيص مع هذه المقدمات من اتباع الظن و يعرف من هذا حال باقي الموضوعات المذكورة نعم في الصلاة حكم معظم الأصحاب بجواز الظن بدخول الوقت في الغيم و الظاهر ان المستند هو الأخبار الدالة على جواز الصلاة في الغيم بظن دخول الوقت و (من الموضوعات المذكورة) الموضوعات التي لا تعلم إلا من قبل الغير كحيض المرأة و طهرها و (من الموضوعات المذكورة إقرار الإنسان على نفسه (و من الموضوعات المذكورة) أحوال الرواة فإن قول علماء الرجال فهم حجة مثل قولهم بعدالة زرارة بل حتى تصحيح العلماء للسند و تضعيفهم له في الكتب الفقهية إذا كان ذلك يوجب الثقة بصدور الخبر بناء على القول بحجية الخبر الموثوق و (من الموضوعات) المذكورة النسب فإنه يقبل فيه قول صاحب الفراش بأن هذا ولدي و (من الموضوعات) المذكورة الموضوعات التي يكون قول الغير مفيدا للاطمئنان بها كما ذهب اليه الشيخ الأنصاري (ره) و

صاحب الجواهر (ره) و يمكن أن يستفاد من قوله (ع) خذ بما لا ريب فيه و دع ما يريبك (و من الموضوعات المذكورة) ما إذا كان الرجوع للأصل في هذا الموضوع موجبا للوقوع في خلاف الواقع كثيرا جدا بحيث يعلم منه نقض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 73

غرض الشارع كما في القدرة على التكليف فان نوع التكاليف يشك في القدرة عليها قبل الشروع فيها و مقتضى الأصل البراءة فيستكشف من ذلك عدم عموم الأصل لهذا الموضوع و اعتبار الظن فيه و أما مجرد العلم بالوقوع في خلاف الواقع فليس بمحذور لما عرفت من ان أغلب القواعد يلزم منها ذلك كقاعدة النجاسة و للخصم أن يلتزم في هذا المورد بالاحتياط كما في الاعراض و النفوس فيحتاط بالإتيان بكل تكليف احتمل عدم القدرة عليه حتى مع الظن بعدم القدرة عليه. هذا إذا قلنا بأن القدرة شرط للتكليف. و أما إذا قلنا بأن العجز مانع و الأصل عدم المانع فالأمر سهل و الأصل يقتضي التكليف.

(و من الموضوعات) المذكورة دعوى الصبي الحربي الإنبات بعلاج ليلتحق بالذراري فإنه في المسالك ان الأقوى قبول قوله بغير يمين عملا بأن الشبهة تدرئ القتل و احتياطا في الدماء التي لا يستدرك فائتها. و لأصالة عدم البلوغ و عدم استحقاقه القتل، و قيل يقبل قوله مع اليمين لأنه محكوم ببلوغه ظاهرا و استحقاقه للقتل فدعواه لا تثبت إلا بمثبت و أقله اليمين. و المحقق ذهب الى عدم قبوله مطلقا إلا بالبينة لوضع الشارع الإنبات علامة للبلوغ و قد وجدت هذه العلامة و دعواه المعالجة خلاف الظاهر فيفتقر إلى البينة و قد ذكر صاحب المسالك عدة موارد يقبل فيها دعوى المدعي نذكرها

و إن كان لنا النقاش في بعضها (منها) دعوى البلوغ و قد قيده بعضهم بدعوى الاحتلام و أما السن فيكلف البينة لإمكان إقامتها عليه و أما الإنبات فبالمشاهدة لأن محله ليس من العورة على الأشهر و بتقديره هو من مواضع الضرورة (و منها) دعوى انه من أهل الكتاب لتؤخذ منه الجزية (و منها) دعوى تقدم الإسلام على الزنا بالمسلمة حذرا من القتل (و منها) دعوى فعل الصلاة و الصوم خوفا من التعزير (و منها) دعوى الولي إخراج ما كلف به من نفقة أو غيرها و دعوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 74

الوكيل فعل ما وكل به قال في المسالك و في هذين نظر (و منها) دعوى المعير و مالك الدار لو نازعه المستعير و المستأجر في ملكية الكنز على قول مشهور.

(و منها) دعوى ذي الطعام انه لم يبقه إلا لقوته في نفى الاحتكار (و منها) قول المدعي مع نكول خصمه بناء على القضاء بالنكول (و منها) دعوى مدعي الغلط في إعطاء الزائد على الحق لا التبرع (و منها) دعوى المحللة للإصابة (و منها) دعوى المرأة فيما يتعلق بالحيض و الطهر كالعدة (و منها) دعوى الظئر أنه الولد (و منها) دعوى منكر السرقة بعد إقراره مرة لا في المال (و منها) دعوى هبة المالك ليسلم من القطع ان ضمن المال (و منها) دعوى إنكار موجب الرجم الثابت بإقراره (و منها) دعوى الإكراه في الأقوال المذكورة (و منها) دعوى الجهالة مع إمكانها في حقه (و منها) دعوى الاضطرار في الكون مع الأجنبي مجردين (و منها) دعوى إنكار القذف بناء على عدم سماع دعوى مدعيه.

(و منها) دعوى رد الوديعة على القول المشهور. قال في المسالك

و ضبطها بعضهم بأن كل ما كان بين العبد و بين اللّه و لا يعلم إلا منه و لا ضرر فيه على الغير أو ما تعلق بالحد و التعزير.

(و من الموضوعات) التي يكون قول الغير فيها حجة عقيدة الإنسان فإن قول الشخص حجة فيها فإنه إذا قال الشخص مذهبي و عقيدتي كذا قبل قوله بدليل قبول رسول اللّه (ص) و الأئمة ذلك بل السيرة عليه.

(و من الموضوعات) المذكورة ما استأجر عليه الشخص من العبادات فإن أخبار الأجير بإيقاعها يقبل لقيام السيرة على ذلك.

(و من الموضوعات) المذكورة فتوى المجتهد فإنه يقبل اخبار الغير عنها كما تقدم ص 53 و ص 61.

(و من الموضوعات) المذكورة ما أخبر به الإمام أو المأموم إذا شك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 75

أحدهما في الصلاة.

(و من الموضوعات) المذكورة إبدال النصاب في أثناء الحول فان دعوى المالك تقبل و إن كانت لنفى الزكاة عنه كما هو المحكي عن جماعة من الأصحاب و كذا تقبل دعواه دفع الزكاة إلى المستحق و دعوى نقص الحب و الثمرة و الزرع لينقص عنه ما قرر عليه من مقدار الزكاة و يمكن أن يستدل له بما روي عن أمير المؤمنين (ع) من أمره الجابي بسماع قول مالك المال بأداء الزكاة أو عدم تعلقها بماله مع فتوى المشهور بذلك بل نقل الإجماع عليه عن جماعة و نقل عدم الخلاف عن آخرين.

(و من الموضوعات) المذكورة الإسلام فإن دعوى الذمي الإسلام قبل الحول ليتخلص من الجزية تقبل منه و استدلوا على ذلك بنقل الإجماع عليه عن جماعة و نقل عدم الخلاف عن آخرين ففي هذه الأمور حتى المجتهد يرجع للغير فيها فهي ليست من باب التقليد للمفتي

هذا حال الموضوعات باعتبار تحققها (و أما باعتبار ماهيتها الموضوعة لها) أو المرادة منها عند الخطاب سواء كان من جهة المادة أو من جهة الهيئة كالمشتق أو من جهتهما معا فالموضوعات للأحكام المعلومة الماهية كالحنطة و الشعير و الماء التي تسمى بالمقطوعة لا يجوز التقليد فيها لعدم الجهل بماهيتها، و أما ما كان من الموضوعات التي يحتاج الى الفحص و التأمل في معرفة معناها و تسمى بالموضوعات المستنبطة لأنه لا بد من استفراغ الوسع في استنباطها كالصلاة و الغناء فما كان منها شرعيا أي موضوعا عند الشارع كالصلاة و الأذان و الإقامة و الكر و الاستبراء و العدالة و البلوغ و النصاب الى غير ذلك من الموضوعات المستنبطة الشرعية على القول بالحقيقة الشرعية. فالمقلد يرجع في تعيين ماهيتها للمجتهد لأن ذلك من الأمور الراجعة للشارع تعينها و تميزها لأن أدلة البينة إنما خصصت أدلة التقليد بالنسبة للموضوعات الغير الشرعية. و أما ما كان منها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 76

موضوعا عند المتشرعة فيرجع فيها للمتشرعة كالصلاة و الحج بناء على انها موضوعات لمفاهيمها عند المتشرعة فإنه يرجع المقلد للمتشرعة في تشخيصها و حيث ان المجتهد منهم جاز ان يرجع له في ذلك بما هو من المتشرعة لا بما هو مجتهد لأنها من الموضوعات الخارجية على هذا و أما ما كان منها موضوعا عند اللغة أو العرف كلفظ الصعيد و التراب و الغناء و كبعض ألفاظ المعاملات فإنه يرجع في معرفة ماهياتها الى أهل وضعها و ليس من وظيفة الشارع بما هو شارع بيان ماهياتها عند أهلها فأدلة التقليد لا تشملها نظير أدلة خبر الواحد كما تقدم في الموضوعات الصرفة، نعم قد يرجع

الى المجتهد بما هو من أهل الخبرة بمعناها بل قد يرجع المجتهد للمقلد فيها باعتبار أن المقلد من أهل الخبرة فيها كما يرجع فيها لأصالة عدم النقل و أصالة عدم تعدد الوضع و أصالة عدم القرينة لأن حجيتها اجماعية و لقول اللغوي بناء على حجيته و للأمارات الظنية كالتبادر و صحة السلب و الاطراد و نحوها بناء على حجيتها و الغريب من استاذنا المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي قدس اللّه سره حيث ذهب الى أن التقليد يجري فيها إذا لم يتمكن العامي من تعلمها عرفا أو لغة إذ لا طريق له حينئذ غيره فإن العامي إذا لم يتمكن من تحقيق مفهوم الغناء أو الصعيد بنفسه فأي طريق له الى رفع الشبهة من مواردها غير التقليد خصوصا من يرى الدليل على جواز التقليد في الفروع قاعدة رجوع الجاهل الى العالم و السيرة الجارية على مراجعة الناس في كل صنعة الى أهل خبرتها.

و قد عرفت ان المجتهد بما هو مجتهد ديني ليس من أهل الخبرة بالمعنى اللغوي أو العرفي فلا يصح تقليده في ذلك نعم يرجع له لو كان من أهل الخبرة بالمعنى اللغوي أو العرفي و لكن لا بملاك حجية التقليد بل بملاك حجية قول أهل الخبرة إذا كان هو منهم و مع عدم وجود أهل الخبرة و عدم التمكن من تعلمها فان قلنا بحجية الظن فالمتتبع هو و إلا فالمرجع هو الأصول العملية لا تقليد المجتهد إذا فرض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 77

انه ليس من أهل الخبرة. و الحاصل انه لا يصح الرجوع إليه في هذه الأمور إلا باعتبار انه من أهل الخبرة و يكون الرجوع اليه من باب الرجوع لأهل الخبرة

فلا يرتب عليه آثار التقليد حتى ان المقلد لو التزم بالأخذ بجميع أقوال المجتهد و قلنا ان التقليد هو الأخذ لم يكن في أخذه بقول أهل الخبر كصاحب القاموس و نحوه عدولا عن التقليد بل يجب الأخذ بقولهم و إن لم يكونوا فقهاء و لا مسلمين إذا كانوا أعلم من المفتي و لو كان ذلك من باب التقليد لما جاز ذلك و أما دليل الانسداد فقد عرفت عدم جريانه في المقام لعدم الخروج عن الدين بالرجوع الى الطرق المقررة لمعرفة الموضوعات الخارجية و إن عدمت فإلى الأصول العملية كما تقدم توضيح ذلك. و استدل بعض شارحي العروة على جواز التقليد في هذه الأمور بأن البناء على عدم جواز التقليد فيها يقتضي البناء على وجوب الاجتهاد فيها أو الاحتياط و لا يظن أحد يلتزم بذلك و لا يخفى ما فيه لأن الاجتهاد فيها هو المتعين مع التمكن منه أو يرجع لأهل الخبرة و مع عدم التمكن اما أن نقول بحجية الظن من باب الانسداد و إلا فيأتي بالمقدار الذي يتمكن منه مضافا الى أن المرجع له هو الأصول العملية اجتهادا أو تقليدا فإن العامي يرجع لمجتهده عند الشك في الموضوع أو عدم معرفته، و استدل بعضهم على الرجوع فيها للمجتهد بأن الشك في معناها يرجع الى الشبهة الحكمية و المرجع فيها هو المجتهد فلا بد فيها من التقليد و لا يخفى ما فيه فان هذا عين المدعي فإنه يرجع الى أن الشبهة المفهومية يرجع فيها للمجتهد أو يرجع العامي فيها لاجتهاده أو أهل الخبرة. و استدل بعضهم على جواز التقليد فيها هو ان تعرض الفقهاء في كتبهم الفقهية و رسائلهم العملية لمعانيها يدل على جواز تقليدهم

فيها إذ لولاه لما كان لتعرضهم لها كثير فائدة مضافا الى استمرار السيرة قديما و حديثا على التقليد فيها. و لا يخفى ما فيه فان المذكور فيها نوعا هو ألفاظ الماهيات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 78

المستحدثة لا معاني الألفاظ اللغوية و العرفية و لو ذكر بعضها فباعتبار انه من أهل الخبرة فيها هذا كله مع ان اخبار التقليد لا عموم فيها لها حتى يتمسك بها على حجية قول المفتي في الموضوعات سوى المقبولة و هي ظاهرة في الحكم لا في الفتوى مضافا الى إمكان دعوى الإجماع المحصل على عدم حجية التقليد فيها فان نوع من ذكر التقليد في الأحكام خصه بالأحكام الشرعية و أخرج الموضوعات منه

[حجية الظن المطلق في الموضوعات المستنبطة]

نعم يكون قول الغير حجة في الموضوعات المستنبطة إذا أفاد الظن لأن الظن المطلق حجة في الموضوعات المستنبطة لنقل الإجماع على ذلك عن جماعة منهم العضدي و المحقق الشيرواني و هو المحكي عن المرحوم الكرباسي عن السيد المرتضى (ره) و عن الاخبارين و لكن السيد السند صاحب الرياض (ره) أنكر حجية الظن المطلق في ذلك، و الحق ان حجية الظن المطلق في ذلك مشهورة شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعا و يدل على حجيته أمور:

(الأول) هو بناء العقلاء على ذلك و سيرتهم فإنه مجرد حصول الظن لهم بمعنى اللفظ من الطرق العادية المتعارفة بنوا على ذلك.

(الثاني) إن أغلب الألفاظ المستعملة في كلمات الشارع ليس لنا علم بمعناها بتفاصيلها على سبيل القطع فلو نعمل بالعلم في تشخيص معناها لزم اما الاحتياط و هو عسر أو الخروج عن الدين و هو باطل بخلاف ما إذا أخذنا بمعناها المظنون.

(الثالث) إن بناء أهل المحاورة على الأخذ بالظهور سواء

كان قطعيا أو ظنيا أعم من أن يظنون بالوضع أم لا و بنائهم هذا حجة لأن الشارع جرى معهم على هذه الطريقة إذ لو لم يجر لنقل ذلك إلينا لتوفر الدواعي لنقله لكن هذا لا يكون من باب التقليد لأنه إذا لم يحصل الظن لم يأخذ به كما ذكره بعض المحققين، و الحاصل ان الظن الحاصل في الموضوعات المستنبطة حجة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 79

سواء تعلق بتشخيص الظواهر كما لو ظن من الشهرة بثبوت الحقيقة الشرعية أو أن الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع أو أن الأمر عقيب الخطر ظاهر في رفع الخطر لأجل القرينة العامة و نحو ذلك و بين ما تعلق بتشخيص المرادات كما لو ظن من تفسير الراوي للرواية أو القرائن الظنية الحالية أو المقالية بل بعضهم التزم حجية الظن في ذلك حتى في الموارد التي لا يترتب عليها الحكم الشرعي الكلي كالوصايا و الأقارير و النذور.

مسائل العلوم الغير الشرعية

(الخامس من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) مسائل العلوم غير الشرعية

كمسائل النحو و الصرف و الهندسة و الحساب و الهيئة لعين ما ذكرناه في الموضوعات.

(إن قلت) ان من مسائل العلوم العربية يحتاج إليها في تصحيح القراءة و الذكر و الأذان و الإقامة و صيغ العقود و الإيقاعات مثل مسائل الإدغام و المد و رفع الفاعل و نصب المفعول و إن من مسائل الهندسة ما يحتاج إليها في تعيين القبلة و من مسائل الحساب ما يحتاج إليها في تقسيم المواريث و من مسائل الهيئة ما يحتاج إليها في تعيين الوقت فلا بد للعامي من التقليد لعموم أدلته. (قلنا) هذا الإيراد ذكره بعض شارحي العروة و لكن قد عرفت مما ذكرناه في عدم جواز التقليد في الموضوعات أن أدلة التقليد

إنما تخص الأمور التي أمرها يرجع للشارع نظير حجية الخبر و إنما على العامي أن يعرف صحة قراءته و القبلة و الوقت أما بنفسه أو بالبينة أو بالرجوع الى أهل الخبرة و الفن عند عجزه عن معرفتها بنفسه و هذا الرجوع لا يترتب عليه آثار التقليد و لذا يجوز الرجوع في ذلك الى علماء الفن و إن لم يكونوا فقهاء مع ان شرط التقليد الفقه بل المجتهد مع عجزه يرجع لمقلده فيها إذا كان من أهل الفن و المعرفة فالمقلد يقلده في الحكم و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 80

وجوب صحة القراءة و الصلاة الى القبلة و المجتهد يرجع لمقلده في تلك المسائل نعم إذا كان المجتهد من أهل الخبرة في تلك المسائل صح للمقلد أن يرجع اليه لكن لا باعتبار انه مجتهده بل باعتبار انه من أهل الخبرة فيها و لا يرتب على رجوعه اليه آثار التقليد.

مسائل أصول الفقه

(السادس من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) مسائل أصول الفقه

لأن ما كان منها شرعية كالأصول العملية في الشبهات الحكمية و كحجية خبر الواحد و نحو ذلك فإنها و إن كان يصح للعامي أن يرجع فيها للمفتي إلا انه لا أثر لتقليده فيها لعدم إمكانه العمل بها لفقده شروط العمل بها من الفحص عن المخصص و المقيد و المعارض و الناسخ و تمييزه الصحيح عن غيره و أما ما كان يمكنه العمل بها و لا يتوقف العمل بها على أمر غير مقدور له فيجوز أن يقلد المجتهد فيها كمسألة البقاء على تقليد الميت و مسألة العدول عن المفتي في موارد احتياطاته لغيره بناء على كونها من مسائل الأصول نعم لو فرض أن العامي تمكن من الفحص كما إذا كان مراهقا للاجتهاد

فلا مانع من التقليد فيها كما انه لو فرض ان المجتهد قد فحص و رفع موانع العمل بها كان للمجتهد أن يفتي بأن المورد مورد هذه الآية أو هذا الخبر أو هذا الأصل و العامي يقلده في ذلك، و أما ما كان من مسائل الأصول ليست بشرعية سواء كانت لغوية كمسألة دلالة الأمر على الوجوب و نحوها أو عقلية كمسألة اجتماع الأمر و النهي أو غيرها فلا يجوز تقليده فيها لما ذكرناه في عدم جواز تقليده في مسائل العلوم و إن شئت فقل ان مسائل أصول الفقه هي التي تقع في طريق الاستنباط للحكم الشرعي و مع التقليد فيها لا يصح الاستنباط لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات فيكون مقلدا في الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 81

الشرعي المستنبط بها إلا اللهم أن يقال لا مانع من عمل الإنسان بالحكم الذي يستنبطه بهذا النحو و لا دليل على فساد هذا النحو من الاجتهاد نعم لا يجوز رجوع الغير اليه فيها لأنه يكون في الحقيقة مقلدا لغيره (و قد استدل بعضهم) على عدم جواز التقليد في المسائل الأصولية بأن القدر المتيقن من أدلة التقليد هو خصوص المسائل الفرعية لأنها اما مجملة أو منصرفة عن المقام. و جوابه ان من رجع إليها يجد فيها الإطلاق لا سيما بملاحظة أن التقليد فطري و بعضهم كالمرحوم السيد كاظم (ره) في كتابه التعادل و التراجيح استدل بالإجماع على عدم جواز التقليد فيها و الانصاف ان دعوى الإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة لا تقبل لا سيما مع احتمال استناد المجمعين لما سبق لا سيما مع فتوى الكثير بجواز التقليد في بعض المسائل الأصولية كالبقاء على تقليد الميت هذا

و لكن الظاهر من المرحوم الآخند في كفايته انه يجوز للعامي بعد تقليده المجتهد في عدم الامارة في المورد أن يرجع لعقله في إجراء الأصول دون أن يرجع للمجتهد فيها، كما انه لا إشكال في جواز تقليده في الأصول العملية في الشبهات الموضوعية لعدم توقف إجرائها على الفحص و لو سلمنا توقفها على الفحص فهو ممكن له و ليست هي من مسائل علم الأصول بل هي من مسائل علم الفقه.

أصول العقائد

(السابع من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) أصول العقائد
اشارة

و هي الأمور التي يطلب فيها عمل الجوانح لا الجوارح من العلم بها و الاعتقاد فيها و البناء عليها و التدين بها و الإقرار باللسان بها كالاعتقاد بوجود اللّه و توحيده و عدله و نبوة نبينا محمد (ص) و امامة أمير المؤمنين علي (ع) و من بعده الأئمة الأحد عشر و وجود المعاد الجسماني بعد الموت و لتوضيح الحال في هذه المقام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 82

نحرر الكلام هنا في مسألتين:

(إحداهما) جواز العمل بمطلق الظن بناء على حجيته أو الظن المعتبر

كخبر الواحد في أصول العقائد أو انه لا بد من تحصيل العلم بها و لا يكفي الظن أو انه لا يجب هذا و لا ذاك و إنما يكفي التدين بها و عقد القلب عليها و لا يجب تحصيل العلم بها و لا الظن فيها و هذه المسألة ترجع الى تشخيص متعلق التكليف بها و مقداره و إن متعلق الوجوب فيها ما هو فهل هو المعرفة و العلم بها فقط أو مع التدين بها أو يكفي الظن المعتبر فيها و يقوم مقام العلم كما في الأحكام الشرعية أو الظن المذكور مع التدين بها أو كفاية التدين بها فقط من دون العلم بها أو الظن بها و إنما يجب العلم أو الظن من باب المقدمة للتدين لو توقف التدين عليهما و هذه المسألة تعرض لها الأصوليون في أواخر باب حجية الظن لبيان شمول أدلة حجية الظن لأصول العقائد و إن الظن الذي هو حجة في الأحكام الفرعية يكون حجة في أصول العقائد و يقوم مقام العلم بها و لما كان هذا البحث ينجر الى البحث في مقدار متعلق الوجوب فيها لذا بحثوا عن ذلك هناك و الظاهر ان الجميع ذهب الى وجوب

التدين بها و لكن بعضهم اكتفى به و بعضهم الى وجوب العلم بها مع التدين و مع عدم التمكن من العلم يتدين بالواقع و لا يجب عليه تحصيل الظن بل لا يجوز له فهو يعقد قلبه على ما هو الواقع في المعاد الجسماني و مسألة القضاء و القدر و مسألة أن صفات اللّه عين ذاته أو يعقد قلبه على ما جاء به محمد (ص) في مسألة الإمامة و بعضهم التزم بوجوب تحصيل الظن بها عند عدم التمكن من تحصيل العلم و بعضهم التزم بكفاية الظن المعتبر فيها و قيامه مقام العلم حتى مع التمكن من العلم بها فهذه المسألة تكون أجنبية عن مسائل الاجتهاد و التقليد و لا ربط لها بها بالكلية و عليه فلا وجه للتعرض لها في مباحث الاجتهاد و التقليد كما صدر عن بعض المحققين من المتقدمين و من المتأخرين، و ليعلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 83

ان بين التدين و العلم بحسب الذات التباين لأن العلم له كاشفية عن الواقع بخلاف التدين فإنه ليس له أدنى كاشفية عن الواقع كالرضاء و الحب و هو الذي يكون موجودا في موارد العقود و النذور و الايمان و أما بحسب الوجود و التحقق فبينهما عموم من وجه فقد يحصل العلم مع التدين كما في علم الأئمة (ع) و تدينهم بأصول الدين و قد يحصل العلم بدون التدين كالكفار العالمين بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله الجاحدين لها و قد يحصل التدين بدون العلم كما في الموارد التي تقوم عليها الأمارات المعتبرة كما لو قامت البينة على ملكية زيد للدار فيحصل التدين دون العلم و نحو ذلك. و أما ما ذكره

المرحوم الأصفهاني في حاشيته من ان عقد القلب لازم دائمي للتصديق العلمي و المعرفة و المراد من جحود الكفار ليس عدم عقد القلب مع اليقين بل عقد القلب ملازم لليقين و إنما حجودهم من جهة عنادهم و معاداتهم لرسول اللّه تحفظا على الجاه و استكبارا على اللّه تعالى. ففيه انك قد عرفت ان عقد القلب هو البناء على الشي ء و هذا لا يلازم التصديق به فان الكاذب يبني على خلاف ما يعتقده و يرتب الأثر على كذبه و يعقد نفسه عليه و سيجي ء له زيادة إيضاح عند تحرير الكلام في هذه المسألة و بيان ما هو الحق فيها.

(المسألة الثانية) [في جواز التقليد في العقائد]
اشارة

هي أنه سواء قلنا بكفاية التدين في أصول العقائد أو وجوب العلم بها أو كفاية الظن فيها فهل يكفي ذلك مطلقا سواء حصل من الدليل عليها أو من التقليد فيها فمثلا لو بنينا على وجوب التدين في أصول العقائد فهل يجب أن نتدين بها عن دليل عليها أو يكفي أن نقلد فيها و نتدين بما ذهب اليه مقلدنا فيها و هكذا لو قلنا بوجوب العلم بها فهل يجب أن يكون العلم عن دليل عليها أو يكفي حصول العلم من التقليد فيها فان التقليد طالما أفاد العلم بالمقلد به و إذا قلنا بكفاية الظن فهل يجب الظن عن دليل أو يكفي عن التقليد فيها و هذه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 84

المسألة هي الاولى من مسائل علم الكلام حيث يبحث فيها عن ان الإسلام و الايمان هل يتحقق بمعرفة أصول العقائد و لو بالتقليد أم لا بد من الاجتهاد فيها و تحصيل الدليل عليها و هي المسألة التي يبحث عنها في مسائل الاجتهاد و التقليد.

و لا بأس بتحقيق في الحال المسألتين:

[المسئلة الاولى الأدلة على وجوب التدين بالعقائد]
اشارة

(أما المسألة الأولى) فقد ذهب جماعة الى أن الواجب هو التدين و عقد القلب و التسليم الباطني و الانقياد القلبي المستتبع للإقرار اللساني و الذي من آثار كماله الرضا بقضاء اللّه و قدره و اجتناب نواهيه و فعل أوامره كما هو ظاهر ملا محسن الفيض في الوافي و القمي في قوانينه و لعله قول كل من ذهب الى كفاية الظن بأصول الدين كما هو المحكي عن جماعة منهم: المحقق الطوسي (ره) و الأردبيلي (ره) و تلميذه صاحب المدارك (ره)، و عن ظاهر الشيخ البهائي (ره) و العلامة المجلسي (ره) و غيرهم و يمكن أن يستدل له بوجوه:

(الأول) انه فعل اختياري مقدور للإنسان بخلاف العلم و اليقين و المعرفة فإنها ليست بمقدورة للإنسان فلا يعقل التكليف بها.

(إن قلت) انه مقدور بالواسطة فإن العلم بالعقائد مقدور بواسطة القدرة على تحصيل الدليل عليها. (قلنا) الدليل ليس بعلة تامة لحصول القطع بها و إنما هو من قبيل المقتضي فإن النفس إذا كانت مشوبة بالأوهام و التشكيكات لم يؤثر فيها الدليل القطعي بالنتيجة و هكذا مثل نفوس الطبقات المنحطة فان الدليل لا يولد فيها القطع بالنتيجة. و يؤيد ذلك ما روي عن زرارة عن الصادق (ع) قال:

ليس على الناس ان يعلموا حتى يكون اللّه هو المعلم فاذا علمهم فعليهم أن يعملوا و ما روي عن صفوان قال: قلت للعبد الصالح هل في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال: لا، و إذا كانت المعرفة غير مقدورة فلا يعقل أن يتعلق بها التكليف فيكون متعلقه هو عقد القلب و إقراره إذ لا شي ء غيرهما يحتمل انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 85

متعلقه

و لكن هذا الدليل إنما يقتضي عدم وجوب العلم لمن لا يتمكن منه لا مطلقا و هذا شأن سائر الواجبات الجوانحية و الجوارحية.

(الثاني) من الوجوه ان اليقين المستولد من القضايا البديهية المرتبة ترتيبا صحيحا متعسر جدا لا يحصل إلا للأوحدي من الناس فلا يقع التكليف به لجميع الخلق لقوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. و لقوله (ص) بعثت بالحنيفية السهلة السمحة. (و الجواب) إن تحصيل اليقين بأصول الدين ليس فيه صعوبة و لا يلزم في تحصيل اليقين ترتيب المقدمات على النهج الموجود في علم المنطق فان العوام يحصل لهم اليقين بأشياء كثيرة من دون ترتيب للمقدمات و لذا حكي عن الكثير من أهل العدل و غيرهم إنهم قالوا إن العوام و النساء من المؤمنين من أهل الجمل أي إنهم حصل لهم العلم بالأصول الدينية بالدليل الإجمالي نعم المستضعفون الذين لا يقدرون على تحصيل اليقين حتى من الدليل الإجمالي هم ليسوا بمكلفين بذلك لعدم قدرتهم.

(إن قلت) إن الفرق بين الدليل الإجمالي و التفصيلي باطل كما حكي عن العلامة (ره) في نهايته لأن دليل المسألة إن حصل بجميع مقدماته فهو دليل تفصيلي و إن لم يحصل بجميعها فهو لا يفيد اليقين و إن حصل بعض مقدماته و البعض الآخر بالتقليد كانت النتيجة تابعة للتقليد فقطع العامي الغير المطلع على الدليل لا بد و أن يكون تقليدا. (و جوابه) ان العامي يحصل له العلم من الدليل البسيط من دون التفات الى دفع الشبهات عنه أو عن مقدماته فهذا يسمى بالدليل الإجمالي.

(الثالث) من الوجوه هو السيرة المستمرة فإن أغلب المسلمين إن لم يكن كلهم ليس عندهم قطع و يقين بالعقائد الإلهية و المعارف الدينية و إنما

عندهم عقد القلب على ذلك فلو كان المعتبر هو اليقين و القطع لزم استحقاقهم العقاب بل لزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 86

أن يكون الظان بأحد أصول الدين كافرا و إن كان عالما بالباقي و يترتب على ذلك ما هو خلاف الضرورة من عدم قبول شهادتهم و نحو ذلك لعدم تمكنهم من تحرير العقائد بالأدلة القاطعة. و فيه ان للخصم أن يدعي وجود أدلة إجمالية عندهم إلا المستضعفين فإنهم معذورون لعدم قدرتهم على تحصيل العلم.

(الرابع) من الوجوه هو ظهور الآيات و الأخبار في ذلك (منها) رواية عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني المشهورة قال: دخلت على علي الهادي (ع) فقال مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا قال فقلت له (ع) يا ابن رسول اللّه (ص) إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضيا ثبت عليه حتى القى اللّه عز و جل فقال (ع): هاتها يا أبا القاسم، فقلت: إني أقول ان اللّه تعالى واحد ليس كمثله شي ء خارج من الحدين حد الأبطال «1» و حد التشبيه و هو انه ليس بجسم و لا صورة و لا عرض و لا جوهر بل هو مجسم الأجسام و مصور الصور و خالق الاعراض و الجوهر و رب كل شي ء و مالكه و جاعله و محدثه و إن محمدا (ص) عبده و رسوله خاتم النبيين فلا نبي بعده الى يوم القيامة. و أقول ان الامام و الخليفة و ولي الأمر من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثمَّ الحسن ثمَّ الحسين ثمَّ علي بن الحسين ثمَّ محمد بن علي ثمَّ جعفر بن محمد ثمَّ موسى بن جعفر ثمَّ علي بن موسى ثمَّ

محمد بن علي ثمَّ أنت يا مولاي فقال (ع): و من بعدي الحسن ابني فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال: و قلت: و كيف ذلك يا مولاي قال (ع) لأنه لا يرى شخصه و لا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما. قال: فقلت: أقررت. و أقول ان

______________________________

(1) المراد بحد الأبطال هو عدم إثبات الوجود و الصفات الجمالية و الجلالية الفعلية و الإضافية، و المراد بحد التشبيه هو إثبات الاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات و عوارض الممكنات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 87

وليهم ولي اللّه، و عدوهم عدو اللّه، و طاعتهم طاعة اللّه، و معصيتهم معصية اللّه.

و أقول ان المعراج حق و المسألة في القبر حق و ان الجنة حق و النار حق و الصراط حق و الميزان حق و إن الساعة آتية لا ريب فيها و إن اللّه يبعث من في القبور.

و أقول ان الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فقال (ع): يا أبا القاسم هذا و اللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و الآخرة انتهت عبارة هذا الحديث الشريف و إنما نقلناه بطوله لاشتماله على أصول الشيعة و جل عقائدهم و لذا قال (ع): هذا دين اللّه الذي ارتضاه. نعم لم يذكر فيه عقيدة العدل و إن اللّه عادل و لعله يظهر من قوله رب كل شي ء و محدثه باعتبار ان الظلم من شأن غير القادر و وجه الاستدلال به ان الراوي كان يقول:

«أقول و أقررت» و هو

ظاهر في تدين القلب و عقده و إقراره المستتبع للإقرار باللسان و الاعتراف بذلك و لو كان المطلوب بالذات هو القطع و الجزم لكان اللازم على الراوي أن يقول إني أقطع أو أجزم أو أعلم أو أيقن و نحو ذلك. (و منها) الأخبار الدالة على اكتفاء الرسول الأعظم بالإقرار بالشهادتين بل في سائر العصور كانوا علماء الدين يكتفون بالإقرار القلبي المستتبع للإقرار اللساني بالشهادتين، و كم يهودي و نصراني بمجرد اعترافه بهما اعترافا يكون فيه أمارية على الاعتراف القلبي يكون موجبا لإسلامه (و جوابه) أن الدليل الإجمالي موجود لديهم على وجود الخالق و المعجزات على النبوة مشاهدة لديهم كالقرآن الشريف (و منها) قوله تعالى في سورة الحجرات آية 14 قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ. و قول الصادق عليه السلام للشامي بعد أن أقام له الدليل و حصل له اليقين: بل آمنت باللّه الساعة ان الإسلام قبل الايمان و عليه يتوارثون و يتناكحون و الايمان عليه يثابون.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 88

(و منها) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) بعد ما ذكر الامام (ع) ان من قال لشي ء صنعه اللّه تعالى أو النبي (ص) هلا صنع خلاف ذلك أو ذكر ذلك في قلبه يكون بذلك مشركا ثمَّ قال (ع): فعليكم بالتسليم و لا يخفى ان هذه الرواية تصلح تأييدا للمطلب. (و منها) قوله تعالى في سورة آل عمران آية 81 وَ إِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ، قال: أقررتم و أخذتم

على ذلكم إصري قالوا: أقررنا. قال: فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين». و وجه الاستدلال ان المطلوب كان هو الإقرار و أخذ العهد على ذلك. (و منها) قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (ع) أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فإنه يدل على أن الجزم و اليقين غير معتبر في الايمان و إلا لم أخبر (ع) عن نفسه بالايمان بقوله بَلىٰ مع ان قوله وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يدل على انه لم يكن مطمئنا فلم يكن جازما إلا اللهم انه يقال ان المراد بالاطمئنان زيادة اليقين كقوله (ع) لو انكشف لي الواقع لما ازددت يقينا. (و منها) قوله تعالى وَ مٰا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّٰهِ إِلّٰا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ فإنه لو كان الايمان يستدعي اليقين لما كانوا مشركين حال ايمانهم. و فيه ما لا يخفى فإن الآية ظاهرة في أيمانهم باللّه تعالى و لكنهم لم يوحدوا اللّه تعالى. (و منها) ما روي عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّه (ع) جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال يا أبا عبد اللّه ما تقول فيمن شك في اللّه فقال كافر يا أبا محمد قال: فشك في رسول اللّه فقال كافر ثمَّ التفت الى زرارة فقال إنما يكفر إذا جحد. (و منها) ما في رواية محمد بن سالم عن ابي جعفر (ع) إن اللّه عز و جل بعث محمدا (ص) و هو بمكة عشر سنين فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا اللّه و ان محمّدا رسول اللّه إلا أدخله اللّه الجنة بإقراره و هو ايمان التصديق

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 2، ص: 89

و ليعلم ان ما في هذا الحديث مخالف للمشهور من ان الرسول كان في مكة بعد البعثة ثلاث عشر سنة. و لعله مبني على ما يظهر من الأخبار انه لما نزل قوله تعالى وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ و كان أول بعثته (ص) دعى رسول اللّه (ص) بني عبد المطلب و طلب منهم بيعته و الايمان به فلم يؤمن به إلا علي (ع) و خديجة عليها السلام ثمَّ جعفر (ره) و بعد ذلك بثلاث سنين نزل فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ فالمشهور لم يعدّوا تلك الثلاث من السنين من أيام البعثة لأنها لم تكن بعثة عامة مؤكدة (و منها) ما في فقه الرضا (ع) ان المعرفة التصديق و التسليم. (و منها) ما في الكافي بسنده عن الفتح بن يزيد عن أبي الحسن (ع) قال: سألته عن أدنى المعرفة فقال: الإقرار بأنه لا إله غيره و لا شبيه له و لا نظير و انه قديم مثبت موجود غير فقيد و أنه ليس كمثله شي ء و لعل هذا الخبر يستفاد منه ان الإقرار يطلق عليه المعرفة فتكون الأخبار الدالة على اعتبار المعرفة لا تنافي الأخبار التي تدل على اعتبار التدين فقط. و لكن سيجي ء إنشاء اللّه من الأخبار ما يقتضي مغايرة المعرفة للتدين. (و منها) ما في الكافي بسنده الى أبي جعفر (ع) ثمَّ بعث اللّه النبيين فدعوهم إلى الإقرار باللّه تعالى و هو قوله تعالى وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّٰهُ. ثمَّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم و أنكر بعضهم ثمَّ دعوهم الى ولايتنا فأقر بها (و اللّه) من أحب، و أنكرها من أبغض، فلو كانت المعرفة و اليقين مطلوبة بالذات لكانت الدعوة

إليها. (و منها) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن عبد الرحيم القصير. الايمان إقرار باللسان و عقد في القلب و عمل بالأركان. فإن الظاهر من عقد القلب هو التدين و البناء على ذلك. (و منها) ما في الكافي عن عدة من الأصحاب بسنده عن الحسن ابن هارون قال: قال لي أبو عبد اللّه (ع) إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قال: يسأل السمع عما سمع و البصر عما نظر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 90

اليه و الفؤاد عما عقد عليه، و لو كانت المعرفة مطلوبة لقال عما عرفه. و يرشد الى ذلك ان معظم احتجاجات الأئمة (ع) و أصحابهم و جل الآيات إقناعية لا برهانية الا ترى الى الاستدلال الامام الرضا (ع) على الوحدانية بأنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله و لرأيت آثار ملكه و سلطانه. نعم سيجي ء إنشاء اللّه تعالى ان التدين بالعقائد الدينية يجب أن يكون عن دليل لا عن تقليد نظير من يتدين بشي ء تدينا مستتبعا لآثاره عن حجة شرعية كالشهادة و الشياع و خبر الواحد و اليد و نحو ذلك كالتدين بأن هذه الدار لزيد و يرتب عليه آثار ملكيته لها و هذا القبر للشخص الفلاني و يرتب عليه آثار دفنه فيه المستند للبينة أو الشياع و لعل المعرفة التي ادعي الإجماع على وجوبها في أصول الدين و دلت عليها بعض الأخبار كما سيجي ء إنشاء اللّه التعرض لها إنما يراد منها هذا التدين و بهذا ظهر انه لا وجه للقول باعتبار الظن عند عدم التمكن من العلم لأن المطلوب هو التدين عن دليل و لو كان إقناعيا سواء حصل العلم

أم الظن و لو سلمنا ان المطلوب هو العلم فلا دليل على اعتبار الظن عند فقد العلم مضافا الى الآيات الناهية عنه الأدلة على وجوب اليقين بأصول الدين و ذهب آخرون الى وجوب معرفة أصول الدين و المراد بالوجوب هو استحقاق الثواب عليها و العقاب على تركها و إن كان الوجوب بهذا المعنى لا يطلق على أفعال اللّه و إنما يطلق عليها بمعنى اللزوم كقولهم اللطف واجب على اللّه بمعنى انه لازم عليه و المراد بالمعرفة هو اليقين و الاعتقاد بها بحيث لو سئل عن شي ء منها أجاب عنه و ان لم يقدر على التعبير عنها بعبارات أهل الفن و الاصطلاح و لكن اختلف القائلون بوجوب المعرفة في انه عقلي أو سمعي فالامامية و المعتزلة على الأول و الأشعرية على الثاني و لكن الظاهر انه لم يذهب أحد إلى وجوب اليقين بها فقط من دون التدين بها بل لا بد من اليقين بها مع التدين بها

[الأدلة النقلية على وجوب اليقين بالعقائد الدينية]
اشارة

و الذي استدل به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 91

على وجوب المعرفة لأصول الدين أو يمكن الاستدلال به من النقل أمور:

(أحدها) رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع) ان أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرفه اللّه تبارك و تعالى نفسه فيقر له بالطاعة و يعرفه نبيه فيقر له بالطاعة و يعرفه امامه و حجته في أرضه و شاهده على خلقه فيقر له بالطاعة فقلت: يا أمير المؤمنين و إن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟ قال: نعم.

فإنها ظاهرة في لزوم المعرفة في الايمان و لكن يمكن المناقشة فيها بأن المعرفة هو الإدراك مطلقا اما انه على سبيل الجزم فلا فالإنسان إذا أدرك

بأن هذا نبيه و أقر له بذلك و أطاعه كفاه ذلك و يؤيد ذلك ما تقدم في رواية محمد بن سالم ص 88 ما يدل على ان الإقرار هو الايمان التصديقي كما انه يمكن أن يقال بأن ظاهر الرواية ان المعرفة مقدمة للإقرار فإذا أقر الإنسان بدونها كان ذلك كافيا له.

(ثانيها) رواية إسماعيل قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله؟ فقال: الدين واسع و إن الخوارج لضيقوا على أنفسهم فقلت: جعلت فداك أما أحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى. قلت:

أشهد أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا عبده و رسوله و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و أتولاكم و أبرأ من عدوكم و من ركب رقابكم و تأمر عليكم و ظلمكم حقكم.

فقال: ما جهلت شيئا؟ فقال: هو و اللّه الذي نحن عليه. قلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال: لا إلا المستضعفين. قلت: من هم؟

قال: نساؤكم و أولادكم. قال: امرأتي أم أيمن فإني أشهد أنها من أهل الجنة و ما كانت تعرف ما أنتم عليه. فان جواب الامام (ع) باستثناء المستضعفين بعد سؤال الراوي عن سلامة من لا يعرف هذا الأمر يدل على لزوم المعرفة على غير المستضعفين و هو المطلوب لأن المستضعفين ساقط عنهم التكليف بالمعرفة لعدم قدرتهم على ذلك و لكن الظاهر ان المراد بالمعرفة أعم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 92

من التدين لأن الراوي أطلقها على الإقرار بما جاء به من عند اللّه و على التولي و التبري و هذا من لوازم التدين.

(ثالثها) ما روى عن صحيفة الرضا (ع) إن أول ما افترض اللّه على عباده و أوجب

على خلقه معرفة الوحدانية. و ما روي عن الرضا (ع) في بعض خطبه أول عبادة اللّه معرفته. و ما في بعض خطب أمير المؤمنين (ع) أول الدين معرفته. و بضميمة عدم القول بالفصل بين معرفة اللّه و وحدانيته و بين باقي أصول الدين يتم المطلوب و هو وجوب معرفة أصول الدين بأجمعها.

(رابعها) قوله تعالى في سورة الحجرات آية 15 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ. فان قوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا دليل على اعتبار اليقين بذلك في الايمان و إلا فالظن و الشك يكون معه الارتياب لا سيما بملاحظة قوله تعالى هُمُ الصّٰادِقُونَ فان الظاهر ان المراد به الصدق في دعواهم الايمان فتدل الآية الشريفة على اعتبار عدم الارتياب في حقيقة الايمان و يتم المطلوب بضميمة عدم القول بالفصل و لكن يمكن أن يقال إن الجهاد ليس داخلا في الايمان فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون الكاملون فليست الآية في مقام بيان حقيقة الإيمان.

(خامسها) دعوى الإجماع على وجوب المعرفة من شارح التجريد الجديد و من الشهيد (ره) في رسالة الايمان حيث قال فيها أطبق العلماء على وجوب معرفة اللّه تعالى بالنظر و إنها لا تحصل بالتقليد. و فيه انه لعل الإجماع مستند الى توهم دلالة الآيات و الروايات على ذلك هذا مع وجود المخالفين في ذلك كما تقدم ص 84.

(سادسها) قوله تعالى خطابا للنبي (ص) «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللّٰهُ» فيجب على الأمة أيضا لوجوب التأسي به (ص) المستفاد من قوله تعالى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 93

إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ و بالإجماع على عدم

القول بالفصل بين التوحيد و غيره من أصول الدين يتم المطلوب.

(سابعها) قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. حيث دلت على حصر الفلاح بأهل اليقين بالآخرة و لازمها عدم فلاح غيرهم و بضميمة عدم الفصل يتم المطلوب.

(ثامنها) ما روي في الكافي عن الصادق (ع) انه قال: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال إياك أن تفتي برأيك و تدين بما لا تعلم. فإنها دلت على أن التدين الذي هو المطلوب في أصول الدين لا بد و أن يكون بشي ء يعلمه.

(تاسعها) ما دل على حرمة الظن و الشك في أصول الدين بنحو العموم و الخصوص فإنه لازمه وجوب اليقين بها، أما ما دل على حرمة الظن فقوله تعالى إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. و قوله تعالى إِنْ نَظُنُّ إِلّٰا ظَنًّا وَ مٰا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. و إن شئت قلت ان هذه الآيات قد اشتركت في التوبيخ على الظن فلو كان الظن كاف لما وبخ عليه.

و أما ما دل على حرمة الشك فهو الذي دل على حرمة الظن لأنه يفهم منه بطريق الأولوية حرمة الشك. مضافا الى ما روي عن العبد الصالح (ع) ان الحسين ابن الحكيم كتب اليه يخبره بأنه شاك؟ فقال (ع) في جملة جوابه: إن الشاك لا خير فيه. و قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمٰانَهُمْ بِظُلْمٍ.

فقد روي عن أبي عبد اللّه ان المراد بالظلم هو الشك. و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا. و في المحكي عن وصية المفضل قال: سمعت

أبا عبد اللّه (ع) يقول من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط اللّه عمله إن حجة اللّه هي الحجة الواضحة. و في خطبة لأمير المؤمنين (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 94

لا ترتابوا فتشكوا، و لا تشكوا فتكفروا.

[المراد بالشك هو التردد في الظاهر]

و يمكن أن يقال إن الظاهر أن المراد بالشك هو التردد في الظاهر لا في الباطن بقرينة ترتيبه على الريب و بقرينة ما في صحيحة محمد بن مسلم ان أبا بصير سأل أبا عبد اللّه (ع) عمن شك في اللّه و رسوله؟ فقال الامام (ع): إنه كافر ثمَّ التفت (ع) فقال: انما يكفر إذا جحد. و ما في رواية الكافي عن أبي جعفر (ع) قال: لا ينفع مع الشك و الجحود عمل، فان عطف الجحود على الشك يشعر بذلك. و ما في الوسائل عن الكافي و محاسن البرقي عن زرارة عن أبي عبد اللّه لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا، ألا ترى ان الشخص إذا فرض انه بعد النظر و الاستدلال لم يحصل له اليقين و لكنه تدين بالمؤدى لا يحكم بكفره و لا باستحقاقه العقاب بواسطة أمر لم يحصّله بحسب مقدوره و هل حاله إلا حال المستضعف.

(عاشرها) ما في الكافي بسنده الصحيح عن عيسى بن السري قال:

قلت لأبي عبد اللّه أخبرني بدعائم الإسلام التي لا يسع أحد التقصير عن معرفة شي ء منها، و التي من قصر عن معرفة شي ء منها فسد عليه دينه و لم يقبل اللّه منه عمله فقال (ع): شهادة أن لا إله إلا اللّه، و الايمان بأن محمدا رسول اللّه و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و حق في الأموال الزكاة. و الولاية

التي أمر اللّه تعالى بها ولاية آل محمد.

(الحادي عشر) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه و أما ما فرض اللّه على القلب من الايمان فالإقرار و المعرفة و العقد و الرضا و التسليم بأن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و ان محمدا عبده و رسوله و الإقرار بما جاء من عند اللّه من نبي أو كتاب فذلك ما فرض اللّه على القلب من الإقرار و المعرفة و هو عمله، و لكن يمكن أن يقال ان المراد بها معنى واحد و هو التدين و يكون المعطوفات على الإقرار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 95

عطفها عطف تفسير و يؤيد ذلك ما في آخر الجملة من عطف المعرفة على الإقرار و اعادة الضمير المفرد إليهما فإنه يقتضي أن يكون المراد بهما شيئا واحدا و هو العمل لا المعرفة لأنها من قبيل التصور و ليست بعمل للقلب.

(الثاني عشر) ما في رواية الكافي عن بعض الأصحاب بسنده عن العالم (ع) فأما ما فرض على القلب من الايمان فالإقرار و المعرفة و التصديق و التسليم و العقد و الرضا بأن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و ان محمدا (ص) عبده و رسوله.

(الثالث عشر) ما عن علي بن إبراهيم بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه قال: ثلاثة علامات المؤمن العلم باللّه و من يحب و من يكره، فقد عد العلم باللّه من علامات الايمان، و لكن يظهر من هذا الحديث ان المراد بالعلامة هي التي تستلزم

الشي ء و لا يلزمها الشي ء فإن العلم باللّه و العلم بمن يحبه اللّه و يكرهه اللّه قد تنفك عن بعض المؤمنين: نعم قد يشكل عليه بأن بعض الجاحدين يعلمون بذلك إلا اللهم إذا فسرنا العلم بالتسليم القلبي.

(الرابع عشر) ما في رواية يونس بسنده عن أبي عبد اللّه قال: سمعته يقول أمر الناس بمعرفتنا و الرد علينا و التسليم لنا. و دعوى ان التسليم عطف تفسير على ما قبله. (فاسدة) لأنه خلاف الظاهر.

(الخامس عشر) ما في رواية محمد بن يحيى بسنده عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّٰهِ. قال (ع): قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة و جعفر و أشباههما من المؤمنين ثمَّ إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا اللّه و تركوا الشرك و لم يعرفوا الايمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنة و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار.

و يمكن أن يكون المراد بأنهم لم يعرفوا الايمان في قلوبهم هو أنهم لم يكن لهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 96

تسليم قلبي و عقد قلبي عليه فلا تدل الرواية على لزوم المعرفة بمعنى اليقين.

(السادس عشر) ما رواه محمد بن يحيى بسنده عن أبي جعفر (ع) قال الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قوم وحدوا اللّه و خلعوا عبادة من دون اللّه و لم تدخل المعرفة قلوبهم و كان رسول اللّه (ص) يتألفهم و يعرفهم لكيما يعرفوا و يعلمهم. و وجه الدلالة أن المعرفة لو لم تكن واجبة لما صنع ذلك رسول اللّه (ص) معهم ذلك و يمكن أن يقال إن ذلك إنما يقتضي مطلوبيتها لا وجوبها.

(السابع عشر) ما رواه في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم المرفوع الى أبي عبد

اللّه (ع) فإنه (ع) قال فيه و إيمان في يقين، و لكن المتأمل في الرواية يجدها ناظرة لأعلى درجات الايمان حيث فيها وصف المؤمن بأشياء قل أن توجد عند أحد من الناس إلا عند الأئمة الأطهار أو أصحابهم الخلص الأبرار.

(الثامن عشر) ما في عيون أخبار الرضا للصدوق بعدة طرق الأيمان معرفة بالقلب، و إقرار باللسان، و عمل بالأركان.

(التاسع عشر) ما في وصية المفضل قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول:

من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط اللّه عمله إن حجة اللّه هي الحجة الواضحة و فيه ان الظاهر منه الإقامة على الشك و الظن و عدم إعمال النظر و الفكر و عدم ملاحظة الحجج. هذا غاية ما أمكننا بهذه العجالة أن نجمع ما يتيسر لنا من الاخبار و الآيات الدالة على وجوب المعرفة و لكن يمكن المناقشة فيها بأن الذي يظهر من بعض الاخبار الأخر أن المراد بالمعرفة فيها هو التسليم القلبي المستتبع لآثاره الذي هو التدين القلبي، و الإقرار القلبي، و الاعتراف القلبي، و الرضا القلبي، و العقد القلبي، الذي هو أمر اختياري للإنسان غير العلم و المعرفة ألا ترى أنه بالبينة الشرعية أو بالشياع أو نحو ذلك يحصل هذا الإقرار القلبي في الموضوعات و هكذا بخبر الواحد الجامع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 97

لشرائط الحجية يحصل الإقرار القلبي.

[الأخبار الدالة على ان المراد بالمعرفة هو التدين]

(فمن تلك الأخبار) ما رواه في الكافي عن أبي علي الأشعري بسنده عن جابر قال: قال لي أبو عبد اللّه: يا أخا جعف إن الايمان أفضل من الإسلام و إن اليقين أفضل من الايمان، و ما من شي ء أعز من اليقين. فهذه الرواية دلت على أن اليقين خارج عن حقيقة الإسلام و

الايمان و انهما يوجدان بدونه.

(و منها) ما في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم عن الوشاء عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول الايمان فوق الإسلام بدرجة، و التقوى فوق الايمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة و ما قسم للناس شي ء أقل من اليقين.

و مثلها رواية محمد بن يحيى بسنده عن الرضا (ع). (و منها) ما في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد اللّه (ع):

يا أبا محمد الإسلام درجة؟ قال: قلت: نعم. قال (ع): و الايمان على الإسلام درجة. قال: قلت: نعم. قال (ع): و التقوى على الإيمان درجة. قال: قلت: نعم. قال (ع): و اليقين على التقوى درجة. قال:

قلت: نعم. قال (ع): فما أوتي الناس أقل من اليقين و إنما تمسكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن ينفلت من أيديكم. فهذه الرواية دلت على عدم اعتبار المعرفة بمعنى اليقين و الجزم في الإسلام و الايمان. و مثلها رواية علي بن إبراهيم بسنده عن الرضا (ع) إلا أنه فيها. قال: قلت فأي شي ء اليقين؟ قال (ع):

التوكل على اللّه، و التسليم للّه، و الرضا بقضاء اللّه، و التفويض الى اللّه.

قلت: فما تفسير ذلك؟ قال (ع): هكذا. قال أبو جعفر (ع)، و من المعلوم أن اليقين الذي هو أعلى درجة من الايمان ليس يقين الجاحدين الذين أشار لهم اللّه في كتابه المجيد بقوله تعالى جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ و إنما هو اليقين مع التسليم لما تقدم من أنه لم يقل أحد باعتبار اليقين فقط في الايمان أو الإسلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 98

و إنما هو مع التسليم و التدين. (و منها) ما رواه علي

بن إبراهيم بسنده عن علي بن الحسين (ع) قال: الزهد عشرة أجزاء أعلى درجة الزهد، أدنى درجة الورع. و أعلى درجة الورع، أدنى درجة اليقين. و أعلى درجة اليقين، أدنى درجة الرضا. فإنها تدل على أن اليقين لا يعتبر في الزهد الذي هو أعلى درجة من الايمان و الإسلام. (و منها) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن هاشم صاحب البريد عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال لهاشم: ما تقول في خدمكم و نسائكم و أهل الطريق و أهل المياه و أهل اليمن و تعلقهم بالكعبة أ ليس يشهدون أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه و يصلون و يصومون و يحجون. قلت:

بلى. قال (ع): فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا. قال (ع): فما تقول فيهم؟ قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر. قال (ع): سبحان اللّه هذا قول الخوارج ثمَّ قال (ع) أما انه شر عليكم أن تقولوا بشي ء ما لم تسمعوه منا، و لكن يحتمل أن المراد بهذا الأمر هو أمر الإمامة لا معرفة اللّه تعالى و إن محمدا رسول اللّه (ص).

(إن قلت) إن قوله (ع) هذا قول الخوارج يدل على أن المراد هو معرفة الوحدانية و الرسالة لأن الخوارج لا يقولون بإمامة الأئمة (ع).

(قلنا) المشار اليه هو القول بكفر هؤلاء المذكورين فان الخوارج عندهم المسلمون كفار يجب محاربتهم. (و منها) ما في عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق (ره) عن محمد بن الحسن بسنده عن أبي الصلت الهروي قال:

سألت الرضا (ع) عن الايمان فقال: الايمان عقد بالقلب، و لفظ باللسان، و عمل بالجوارح. (و منها) ما في رواية سفيان بن السمط المروية في الكافي قال: سأل رجل

أبا عبد اللّه عن الإسلام و الايمان فلم يجبه، فسأله ما الفرق بينهما؟ فقال: الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلا اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 99

و أن محمدا رسول اللّه (ص)، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حج البيت، و صيام شهر رمضان فهذا الإسلام، و الايمان معرفة هذا الأمر فإن أقر بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما ضالا. (و منها) ما في رواية محمد بن يحيى بسنده عن سماعه عن أبي عبد اللّه (ع) في وصف الإسلام و الايمان انه قال (ع): شهادة أن لا إله إلا اللّه و التصديق برسول اللّه (ص) به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الايمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام و ما ظهر من العمل به. و توهم أن قوله ما يثبت في القلوب يدل على اعتبار اليقين فيه فاسد لا وجه له لأن التدين و التسليم إذا كان عن دليل يكون ثابتا في القلب و لو سلمنا ظهوره في ذلك فحاله حال الأخبار التي دلت على اعتبار اليقين في الايمان و جوابه جوابها.

(و منها) رواية علي بسنده عن فضيل بن يسار إن أبا عبد اللّه قال: الايمان ما وقر القلوب، و الإسلام ما عليه المناكح و المواريث و حقن الدماء. و نظير ذلك ما رواه في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (ع) قال: سمعته يقول: الايمان ما استقر في القلب و أفضى به الى اللّه عز و جل و صدقه العمل بالطاعة و التسليم لأمره،

و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها و به حقنت الدماء، و عليه جرت المواريث و جاز النكاح و اجتمعوا على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج فخرجوا بذلك من الكفر و أضيفوا الى الايمان هذا هو الدليل السمعي و ما فيه على وجوب المعرفة.

و أما الدليل العقلي عليها فقد استدل:
(أولا) [الدليل العقلي الأول على وجوب المعرفة للعقائد]

بأنه لو لا أن يحكم العقل بوجوب المعرفة لأصول الدين فالأدلة السمعية كتابا و سنة لا تجدي نفعا لعدم تمامية الاستدلال بها للجاهل بأصول الدين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 100

لأن دليليتهما فرع و الاعتقاد بهما، الاعتقاد بهما فرع المعرفة لأصول الدين و فيه ان الأدلة السمعية تجدي نفعا مع التدين بأصول الدين فهذا الدليل إنما يثبت أن الوجوب عقلي لا أن الوجوب متعلق بالمعرفة أو التدين. مضافا الى أنه إنما يتم بالنسبة إلى وجود الواجب و نفي الكذب عنه و رسالة الرسل فإنه من المعلوم إنه إذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال بالأدلة السمعية من الكتاب و السنة على التوحيد و صفات النبي (ص) و الأئمة و المعاد فهذا الدليل إنما يثبت الوجوب العقلي لأحد الأمرين المعرفة أو التدين و لخصوص وجوب الواجب و نفي الكذب عنه و رسالة الرسول مضافا إلى ان هذا الدليل إنما يكون ردا على المتشرعين المنكرين للوجوب العقلي أما الالحاديون الغير المتشرعين فلا يصلح لإثبات الوجوب العقلي عليهم.

[الدليل العقلي الثاني على وجوب المعرفة للعقائد]

و قد (استدل ثانيا) على وجوب المعرفة لأصول الدين عقلا بأن من كمل عقله إذا رجع لنفسه يرى عليها نعما ظاهرة و باطنة و يعلم بداهة انه لم يوجدها و لا هي وجدت بنفسها فلا بد من منعم عليه قد أوجدها و قد فطر اللّه عباده على حسن مقابلة المنعم بالشكر و قبح ضده فيكون شكر المنعم واجبا و لا ريب أن شكر المنعم لا يكون بدون معرفته فتكون معرفة المنعم واجبة عقلا و هذا الدليل يرجع الى قاعدة التحسين و التقبيح العقليين. و قد أورد عليه:

(أولا) إن الوجوب ما تضمن ثوابا و الثواب أمر أخروي فكيف يستقل به

العقل قبل معرفة المنعم و معرفة جعله للثواب و العقاب. و جوابه ان الوجوب هنا عقلي بمعنى الإلزام نظير ما يقال ان اللطف واجب على اللّه تعالى و ليس يتضمن ثوابا فإن الذي يتضمن هو الوجوب الشرعي.

(و ثانيا) أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان تقتضي رفع وجوب الشكر الذي يبتني عليه وجوب المعرفة لأنه لا بيان من الشارع عليه. و جوابه ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 101

الفطرة المذكورة و حكم العقل بمقابلة الإحسان بالشكر هو نعم البيان و بعبارة أخرى أن حكم العقل بوجوب الشكر و المعرفة لا يرفعه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأن حكم العقل أحسن بيان نظير الشبهة قبل الفحص و إن شئت قلت إن العقل إنما يحكم بقبح العقاب بلا بيان حيث يعلم ان هناك مبين و انه لا يصدر منه القبح فعند ذا يكون حكم العقل بقبح العقاب مؤمن للعبد و الفرض أن العبد لم يحرز وجود المبين و لم يعلم انه لم يصدر منه القبيح: و عليه فلا وجه لما ينسب للمرحوم آغا ضياء العراقي من ورود هذه القاعدة على حكم العقل بوجوب شكر المنعم و وجوب المعرفة.

(و ثالثا) إنا لا نسلم توقف الشكر على المعرفة المطلوب إثبات وجوبها بل يكفي فيه معرفة المنعم أي كان من دون تعيينه بأنه خالق الكون و واجب الوجود و هذه المعرفة بديهية فهو يشكر المنعم بما هو منعم على سبيل الاجمال. (و جوابه) ان الشكر متقوم بالتعظيم و الإجلال للمشكور و التعظيم و الإجلال لكل شي ء بحسبه فاذا لم يعرف المنعم بخصوصه لم يحرز أن الشكر قد وقع على قدر منزلته و جلالة قدره. (و إن شئت

قلت) إن العقل حاكم بالشكر له بعينه لا بوجه عام فان الشخص إذا شكره شخص بوجه عام لم ير الشكر لشخصه و ذاته و إنما الشكر للجهة النوعية.

(و رابعا) إن المعرفة مطلوبة بالذات لا من باب المقدمة للشكر و الدليل المذكور يثبت ان وجوبها مقدمي. (و جوابه) إنها شرعا كذلك مطلوبة بالذات لتوقف سائر الأمور عليها و لكن لا نسلم أنها عقلا مطلوبة بالذات بل لأجل شي ء آخر، مضافا الى أن المعرفة هي نفسها تكون شكرا للواجب فان الشكر العملي له هو معرفته و عبادته.

(و خامسا) إن هذا يختص بخصوص معرفة الواجب دون باقي أصول الدين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 102

كما هو المطلوب. و التحقيق أن يقال إن هذا الدليل إنما يدل على وجوب الفحص و البحث و النظر في وجود المنعم فإن أدى النظر اليه وجب التدين به و شكره و إلا فيكون العبد معذورا لان وجوب المعرفة و اليقين كما عرفت ليسا تحت اختيار الإنسان فإنه قد يحصل للإنسان الدليل التام و لا يحصل له اليقين بذلك.

[الدليل العقلي الثالث على وجوب المعرفة للعقائد]

(و استدل ثالثا) على وجوب المعرفة عقلا إن الإنسان إذا كمل عقله و رأى ما عليه من النعم الظاهرة و الباطنة فلا أقل من احتمال وجود منعم. له رضى و سخط و يحتمل بترك شكره أن يسخط عليه فيحكم العقل بوجوب شكره لاحتمال الضرر بتركه و دفع الضرر المحتمل واجب عقلا فيجب شكره، و شكره موقوف على معرفته فتجب معرفته. (و إن شئت قلت) يحتمل وجود منعم يحتمل في حقه انه لو ترك معرفته و معرفة شؤونه من صفاته و رسله و نحو ذلك لأضره و دفع الضرر المحتمل واجب خصوصا الأخروي

منه فان ذلك أمر فطري قد جبلت عليه النفوس بصرف طباعها حتى الحيوانات منها فان خوف الضرر يكون زاجرا و ناهيا لها عن العمل و إذا وجب دفع الضرر المحتمل وجبت المعرفة. و هذا الدليل مبني على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

(و قد أورد عليه أولا) بأن المعرفة متوقفة على النظر، و النظر يحتمل وقوع الخطأ فيه فيستحق العقاب بمعرفته خلاف الواقع فيحتمل فيه الضرر فيجب تركه و لازم ذلك عدم وجوب المعرفة لحرمة مقدمتها. (و جوابه) انه لا يحتمل العقاب و الضرر لو وقع الخطأ في النظر إذا لم يقصر فيه كما هو الفرض لأنه يكون معذورا و ألا يلزم التكليف بما لا يطاق فالعقل يعذره.

(و ثانيا) إن الشكر غير واجب لأنه يحتمل حرمته لاحتمال انه لا يقع لائقا بحال المنعم فيحتمل الضرر فيه. (و جوابه) انه بعد بذل الجهد في تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 103

المعرفة يكون معذورا فيما لو وقع غير لائق بحاله بل أمر مستحسن منه إذا كان هو مقتضى عقله و تفكيره. و يرد أيضا ما أوردناه على الدليل المتقدم و الجواب الجواب ما عدى الإيراد الخامس.

(و ثالثا) إن العقل حاكم بعدم وجوب شكر المنعم لأن وجوبه إن كان لا لفائدة فهو عبث غير جائز عقلا، و إن كان لفائدة فأما أن تعود الى المشكور فهو متعال عن ذلك، و أما الى الشاكر و هي منتفية أما في الدنيا فلان الشكر مشقة لا نحس بترتب الأثر عليه. و أما في الآخرة فلعدم استقلال العقل بالفائدة لأن الفرض أن بوجوب شكر المنعم يثبت وجوب معرفة المنعم و الاعتقاد بالآخرة فرع عن الاعتقاد به. (و الجواب) ان فائدته

تعود الى الشاكر في الدنيا لأن به يزول الخوف عن نفسه و هي أعظم فائدة دنيوية حيث توجب استراحة النفس بخلوها عن الهلع، و أما في الآخرة و هو عدم العقاب المحتمل فيها و وجود الثواب المحتمل فيها.

المسألة الثانية في كفاية التقليد في أصول الدين
اشارة

و أما المسألة الثانية و هي كفاية التقليد في أصول الدين أو عدمها فنقول:

قد ذهب جماعة كالعلامة الحلي في باب الحادي عشر و المحقق في المعارج و الشهيد الأول و المحقق الثاني الى عدم جواز التقليد في أصول الدين و إن أفاد العلم و لا بد من الرجوع الى البراهين أو العلم عن إلهام أو بكشف أو تصفية للنفس أو بمشاهدة المعجزة أو من القرآن أو التواتر أو من العلم بصدق المخبر لعصمته أو غير ذلك و ليعلم ان محل الكلام في جواز التدين و عقد القلب بواسطة التقليد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 104

للغير أعني العمل الجوانحي بقوله في العقائد كما يكون العمل الجوارحي بقوله في الفروع. و عليه فلا وجه لما ذكره المحقق القمي (ره) و غيره من الإشكال في استعمال التقليد بمعناه الاصطلاحي في العقائد إذ المعيار في العقائد هو الإذعان و الاعتقاد و القول بجواز الإذعان بقول الغير و عدمه مما لا محصل له لأن حصول الظن و اليقين من قول الغير ليس باختياري حتى يصير موردا للبحث و إنما يصح ذلك في الفروع لأن المطلوب فيها العمل و هو أمر اختياري انتهى. و لا يخفى ما فيه فان نظرهم في ذلك الى عقد القلب و التدين بقول الغير و هو أمر اختياري غاية الأمر من يشترط العلم يكون كلامه مقصورا على التقليد المفيد للعلم من جهة أنه هل يجوز

أن يعقد عليه القلب أم لا و أما من لا يشترط العلم فكلامه في مطلق التقليد. و الحاصل ان المطلوب هو التدين و عقد القلب و هو أمر اختياري يحصل بالتقليد كما يحصل بقيام البينة أو قيام حجة معتبرة على الشي ء

[الأدلة على عدم كفاية التقليد في العقائد]

فالذي يمكن أن يستدل به على حرمة التقليد بل و الظن في العقائد أمور:

(أحدها) انه لا دليل على حجية التقليد فيها. (و جوابه) أن الأدلة التي دلت على جواز التقليد في الفروع تشمل التقليد في الأصول.

(ثانيها) أنه لو كان التقليد جائزا فيها لكان كل ضال بالتقليد معذورا فالنصارى و اليهود بل و اللادينية المقلدون لعلمائهم في عقائدهم معذورون لأنهم قد قامت الحجة لهم على ذلك و هو قول مجتهدهم و أيضا لم يكن التقليد لطائفة أولى من التقليد لأخرى لأنه مع عدم الاستدلال لا يعرف المحقة من المبطلة و مع قيام الدليل عنده على أحقيتها فقد حصل المطلوب و لا يحتاج الى التقليد.

(و أجيب عنه أولا) بأن محل الكلام هو كفاية التقليد في الحق و اشتراط المطابقة للواقع و سقوط الاستدلال به عن المكلف كما يظهر من الشيخ الأنصاري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 105

و لا يخفى ما فيه فان إحراز كونه تقليدا للحق يحتاج الى دليل و مع حصوله يستغنى عن التقليد و (بعبارة أخرى) أنهم إن أرادوا العلم بكون الشي ء حقا فهذا ينافي التقليد لأن التقليد لا يكون مع العلم بالشي ء و إن أرادوا التقليد يكون حقا في نظرهم فهو حاصل لهم و إن أرادوا حقيته بحسب الواقع و نفس الأمر لا أنه يحصل لهم علم بذلك فهذا تكليف بما لا يطاق. و إن أرادوا أن المعتبر في

الايمان هو التقليد الذي يكون في الحق فإن تحقق كان مؤمنا و إلا فلا فهذا تصريح بعدم جواز الاكتفاء بالتقليد و إن اللازم هو تحصيل القطع بكونه حقا.

و (يمكن أن يجاب عنه ثانيا) إن كلامنا فيما علم بالضرورة أنه من أصول الدين الإسلامي و من ضرورياته فهل يكفي أن يقلد فيها الغير و يكون مسلما و مؤمنا بتقليده أو لا بد له من التدين بها و اليقين بها و لو من دليل إجمالي اما ما لم يكن ضروريا فيجب عليه النظر و الاستدلال عليه. (و فيه) أن الضروري من العقيدة إذا جاز فيه التقليد و لم يجب الفحص و النظر فيه فلليهودي و النصراني أن يقلد في ضرورياته إذ ليس في أدلة التقليد العقلية تخصيص الجواز بالنسبة الى أحد الديانات. و الحاصل إن احتمال عدم صحة العقيدة إن كان موجبا للفحص عنها و لمعرفتها عن دليل بحيث يكون مانعا من شمول أدلة التقليد فهو يمنع بالنسبة إلى الجميع إذ كل صاحب عقيدة قبل الفحص عنها يحتمل ذلك و إن كان لا يمنع فهو لا يمنع بالنسبة لكل صاحب عقيدة أن يقلد في عقائده و لا يتفحص عن صحة العقيدة. (نعم) نحن معاشر المسلمين لا نجوّز التقليد لعلماء الديانات الأخرى في عقائدهم لما دل على بطلانها بالأدلة الدالة على النبوة لنبينا (ص) و عدم توفر شرائط التقليد في علمائهم.

(ثالثها) قوله تعالى إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ قٰالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدىٰ مِمّٰا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبٰاءَكُمْ. و قوله تعالى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 106

مٰا يَعْبُدُونَ إِلّٰا كَمٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُهُمْ. في ذم الكفار على تقليد الآباء و كقوله

تعالى إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. و قوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. و قوله تعالى:

وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلَّا الدَّهْرُ وَ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلّٰا يَظُنُّونَ. و نحو ذلك من الآيات الدالة على حرمة اتباع غير العلم في العقائد فتدل على حرمة التقليد بعمومها من حيث كونه فردا منه. (و دعوى) الفرق بين تقليدنا و تقليد الكفار باعتبار أن تقليدنا لأهل الحق و تقليدهم لأهل الباطل. (مدفوعة) بأن كلا من المقلدين يعتقد بأنه مقلد لأهل الحق و كون تقليدنا لأهل الحق و تقليدهم لأهل الباطل في الواقع لا يجدي لأنه كل يرى الواقع معه. (و لكن) قد يناقش فيه الخصم بأن الذم إنما كان بعد ظهور الدلائل و المعجزات على فساد تقليدهم و هذا التقليد باطل حتى في الفروع مضافا الى أن هذه الآيات ظاهرة في خصوص تقليد الكفار و متابعة ظنونهم و ليست ناظرة لتقليد المسلمين لعلمائهم إلا أن يدعى عمومها بتنقيح المناط.

(رابعها) دعوى الإجماع على وجوب النظر و الاستدلال في أصول الدين من العلامة الحلي في باب الحادي عشر و في المبادي و عن الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر لكن خصصه بإجماع الإمامية و عن الآمدي و الحاجبي و القوشجي و ظاهر غاية البادي و المعالم و الشهيد الثاني (ره) في رسالته و العضدي من دون تخصيص و لكن يبطل دعوى الإجماع ما هو المنقول عن المحقق الطوسي و الأردبيلي و البهائي و المجلسي (ره) كفاية الظن في التقليد في أصول الدين كيف و هو يخالف سيرة المسلمين و لعل المراد به التدين و

لو عن دليل إجمالي.

(خامسها) ما روي في الكافي عن الصادق (ع) من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال و من أخذ دينه من الكتاب و السنة زالت الجبال و لم يزل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 107

و قال (ع): إياكم و التقليد فإنه من قلد في دينه هلك، إن اللّه تعالى يقول اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ و لا و اللّه ما صلوا لهم و لا صاموا و لكنهم أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فقلدوهم في ذلك فعبدوهم و هم لا يشعرون و ما رواه ثقة الإسلام عن العالم (ع) من دخل في الايمان بعلم ثبت فيه و نفعه إيمانه، و من دخل فيه بغير علم منه خرج منه كما دخل.

(سادسها) ما دل على وجوب العلم كقوله تعالى خطابا لنبيه (ص):

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللّٰهُ. فيجب على الأمة أيضا لوجوب التأسي به (ص) المستفاد من قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ و لأنها لم تكن أول آية نزلت عليه (ص) فلا بد أن يكون المقصود بها الأمة و بالإجماع على عدم القول بالفصل بين التوحيد و غيره من أصول الدين يتم المطلوب. و كمثل ما ورد أن المؤمن و الكافر يجيبان في القبر عن مسألة الرب و النبي و الدين و الامام عند ما يسألان عن علمهم بذلك فيقول المؤمن أمر هداني اللّه اليه و ثبتني عليه فيقال له نم نومة العروس و يفتح له باب من الجنة يدخل اليه من روحها و ريحانها و يقول الكافر سمعت الناس يقولون فيضرب بمرزبه. فلو كان التقليد مجزيا لاكتفى من الكافر بذلك و ما

دل من الأخبار على أن الايمان ما استقر في القلب و الاستقرار لا يتحقق إلا بالنظر لا بالتقليد و لأن قول المجتهد لو أفاد العلم لزم اليقين بالمتناقضين في المسائل الخلافية كحدوث القرآن و قدمه و لأن قول المجتهد لو أفاد العلم لكان العلم بكونه صادقا، أما بالبداهة و هو باطل، أو بالنظر و الاستدلال و هو خلاف الفرض. (و الجواب عنه) مضافا الى ما تقدم من أن المراد بالعلم و المعرفة هو التدين القلبي و هو لا ينافي التقليد ما سيجي ء إنشاء اللّه من أن التقليد قد يحصل به العلم بل كثيرا ما يحصل به العلم فهو لا دلالة له على حرمة التقليد المفيد للعلم و منه يظهر الجواب عن مسألة القبر فإنه لا دلالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 108

للرواية على العقاب عليه مضافا إلى أن المراد بالاستقرار هو الثبوت على وجه الدوام و هذا قد يحصل بالتقليد كما انه قد لا يحصل مع الدليل و قد عرفت انه تابع لصفاء النفس و كدورتها.

(سابعها) إنا لو سلمنا أن العلم يحصل بالتقليد لكنه في معرض الزوال فصاحبه غير مأمون من زواله فيجب أن يثبته بالنظر و الاستدلال دفعا للضرر المظنون. (و جوابه) ان العلم الحاصل بالدليل أيضا في معرض الزوال و إلا لما تجددت الاعتقادات و تبدلت الآراء بل العلم الحاصل بالتقليد في الغالب يكون ثابتا كما نشاهد في العوام. سلمنا لكن اعتبار الاستقرار في حقيقة الايمان لا دليل عليه و إلا لما تصور انقلاب المؤمن كافرا إذ يكشف انقلابه عن عدم الاستقرار المذكور و عن عدم إيمانه رأسا و التحقيق ان ثبوت العقائد و رسوخها تابع لصفاء النفس و كدورتها

و هو يحصل بالعبادة و كسر الشهوة.

(ثامنها) إن بالتقليد يحتمل خلاف الواقع فيما قلد به فيستحق العقاب فهو يحتمل الضرر و هو استحقاق العقاب فلا بد له من التماس الدليل على ما قلد به. (و جوابه) ان التقليد في أصول العقائد إذا قام على اعتباره الحجة كما يدّعى أن الحجة عليه ارتكازية في الأصول و الفروع فهو معذور لا يعاقب فيما لو خالف الواقع. فالحق إن التقليد المذكور إن قام الدليل عليه فلا مانع منه لا شرعا و لا عقلا و إن لم يقم عليه الدليل أو قام على عدمه الدليل فهو غير جائز و لا يكفي فلا بد من النظر في ذلك. نعم لا يمكن إثبات حجية التقليد تعبدا في معرفة اللّه و النبي لتوقفها على معرفتهما.

(تاسعها) ما دل على وجوب النظر كقوله تعالى. انْظُرُوا مٰا ذٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا تُغْنِي الْآيٰاتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لٰا يُؤْمِنُونَ. فإنها تدل على وجوب النظر و كقوله تعالى أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 109

(عاشرها) انه لا يجوز تقليد غير المحق و إنما يعلم المحق من غيره بالدليل في أن ما يقوله حق أم لا و حينئذ فلا يجوز له التقليد إلا بعد النظر و الاستدلال فاذا صار مستدلا امتنع كونه مقلدا فامتنع التقليد في المعارف الإلهية.

(و جوابه) بالنقض بالشرعيات و حله أن التقليد للمجتهد إن كان حجة فيكفي معرفة اجتهاده فقط هذا (و قد ذهب بعضهم إلى حرمة النظر في أصول الدين) و الظاهر إنه ليس المراد حرمة النظر حتى بالنسبة لمن اعتقد خلاف الحق أو تردد فيه و إلا لصح تقليد

النصارى لأحبارهم و اليهود لخاخاماتهم بل الظاهر أن المراد منه أن الشيعة الاثنى عشرية الذين حصل لهم الاعتقاد و التدين بأصول مذهبهم بطريق التقليد أو النظر أو بالفطرة يحرم عليهم الخوض بعد ذلك في البراهين الفلسفية و الأدلة الكلامية خوفا عليهم من حصول التشكيك لهم في عقائدهم الحقة أو تبدلها بغيرها مدعيا بعضهم إن الاعتقاد الحق إذا حصل بالتقليد فلا داعي إلى تكلف البراهين الفلسفية و الأدلة الكلامية الموجبة غالبا لطرو الترديد و التزلزل للعجز و القصور عن دفع الشبهات و عن رد التشكيكات و عن إتمام الأدلة و لعل أهل المذاهب الباطنية كلهم على ذلك كالصورتية و اليزيدية و نحوهم.

[الأدلة على كفاية التقليد في العقائد]

و كيف كان فقد نسب كفاية التقليد في أصول الدين للحر العاملي و الأمين الأسترابادي و لبعض الاخبارين و لعبد اللّه بن الحسن العنبري و الحشوية و التعليمية كما حكي عن الكعبي و ابن عباس و جماعة أخرى من المعتزلة وجوب التقليد على العوام و ذهب الشيخ الأنصاري إلى كفاية التقليد إذا حصل منه الجزم و الذي يمكن أن يستدل به أو استدل به على كفاية التقليد في العقائد وجوه.

(أحدها) ان حرمة التقليد و عدم كفايته إنما هو من جهة وجوب النظر شرعا و وجوب النظر شرعا باطل لأن وجوب النظر و الاستدلال شرعا موقوف على ثبوت الشرع فلو ثبت الشرع بالنظر دون غيره لتوقف ثبوت الشرع على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 110

النظر دون غيره. و أجيب عنه بالنقض بجواز التقليد في أصول العقائد فإنه موقوف على ثبوت الشرع إلخ و بالحل بأنا لا نقول بوجوب النظر شرعا و إنما نقول بوجوبه عقلا نعم يصلح ردا على مذهب الأشاعرة القائلين

بوجوب النظر شرعا.

(و الأولى) أن يقال في الجواب انه لا دور لأنه إنما يثبت توقف ثبوت وجوب النظر و حرمة التقليد على ثبوت الشرع و توقف ثبوت الشرع على نفس حصول النظر بنفسه أو بواسطة حكم العقل به أو من جهة الخوف لا على وجوبه شرعا فاختلف الموقوف و الموقوف عليه.

(ثانيها) المكلف إن لم يكن عالما باللّه تعالى استحال أن يكون عالما بأمره لأن العلم بالأمر فرع العلم بالآمر و حال امتناع كونه عالما بأمره يمتنع أن يكون مأمورا من قبله و إلا لزم تكليف ما لا يطاق و إن كان المكلف عالما به تعالى استحال أيضا أمره بالعلم به لاستحالة تحصيل الحاصل. (و جوابه) انه ليس عالما باللّه و لكن العقل حاكم عليه بالاستدلال و النظر خوفا من الضرر.

(ثالثها) إن النبي (ص) كان يكتفي في الإسلام بالشهادتين من دون تكليف المسلم بالاستدلال و النظر. (و جوابه) ان ذلك لا يدل على اكتفائه بالتقليد و ذلك لأن شهادة التوحيد يدل عليها ما هو المرتكز في الأذهان من الدليل الإجمالي و هو انه لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا، و شهادة النبوة تدل عليها المعجزات المتواترة و الآيات البينة فليس ذلك إقرار و تدين بلا برهان و الحاصل ان معجزاته كانت أدلة واضحة و براهين قاطعة للمشاهدين لها و أما الغائبين فبواسطة التواتر يحصل لهم العلم بها. و القرآن الشريف حجة على الجميع لأنه المعجزة الدامغة الخالدة.

(إن قلت) إنه (ص) كان يقبل إقرار المنافقين (قلنا) هذا مشترك الورود مع انه (ص) كان مأمورا مثلنا بالمعاملة على الظاهر و العلم العادي و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 111

صلّى اللّه عليه و آله

بحسب العلم العادي لم يحصل له العلم بانكارهم و إنما حصل له العلم الغيبي بذلك و هو غير مكلف به.

(و رابعها) السيرة المستمرة من زمان النبي (ص) و الأئمة و التابعين و العلماء الى زماننا هذا من ترتيب أحكام الإسلام علي من اعتقد بمثل معتقدهم و تدين بدينهم و إن علموا بعدم استناده الى دليل و نظر. (و جوابه) ان للخصم أن يمنع هذه السيرة و يدعي وجود دليل إجمالي لأبسط العوام إلا من هو غير قادر على النظر و الاستدلال كسذج العوام فيكون من المستضعفين الذين لا يقدرون على الاستدلال و هؤلاء لا كلامنا لنا في عدم وجوب الاستدلال عليهم لعدم قدرتهم عليه.

(خامسها) عدم سؤال العلماء لمن يحضر الشهادة على الطلاق و نحوه من انه يعتقد الإسلام عن دليل أم لا فلو كان الاستدلال معتبرا لسألوه عن ذلك (و جوابه) هو من جهة أصالة الصحة كما هو الشأن في سائر أمورهم.

(سادسها) إن مسائل أصول الدين أغمض من مسائل الفروع فاذا جوزنا التقليد في الفروع فنجوزه في الأصول بالطريق الأولى لأنها أسهل منها (و جوابه) ما تقدم من الجواب الثاني ص 33 من منع الأغمضية لكون مسائل الأصول المطلوب فيها التدين مبنية على قواعد بديهية واضحة بخلاف مسائل الفروع خصوصا مع قلة تلك و كثرة هذه مع أن الدليل على جواز التقليد في الفروع و الدليل على عدم جوازه في الأصول هو المفرق بينهما.

(سابعها) عموم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* فإنها تشمل سؤالهم عن مسائل الفروع و مسائل الأصول. (و جوابه) إنها مخصصة بما تقدم من الأدلة على حرمة التقليد في الأصول مضافا الى انا لو أخذنا بعمومها للزم دلالتها على جواز أخذ أهل الملل من علمائهم

لأنهم أهل الذكر عندهم فتأمل فإن هذا يرجع الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 112

الدليل الثاني ص 104.

(ثامنها) ان المقلد في أصول الدين يقال له مؤمن لأن الإيمان هو التصديق و المقلد مصدق بذلك فيدخل في قوله تعالى وَعَدَ اللّٰهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ الآية. (و جوابه) انه للخصم أن يمنع أن يكون بالتقليد الإنسان مؤمنا.

(تاسعها) إن معرفة أصول الدين لا يتمكن منها كل أحد بل تستحيل في حق أكثر الناس من العوام البله و أكثر النساء و الأطفال في أوائل البلوغ (و جوابه) ان الغير القادر منهم غير مكلف بالنظر و الاستدلال و عليه أن يرجع الى التقليد فيما هو المتبانى عليه بين أرباب الدين و هؤلاء هم المستضعفون و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيهم.

(عاشرها) ما روي عنه (ص): (عليكم بدين العجائز) فإن دينهن بطريق التقليد لعدم اقتدارهن على النظر. و لفظ عليكم اسم فعل بمعنى ألزموا و ذلك يقتضي حرمة النظر. (و أجيب عنه) إن دينهن بالاستدلالات الإجمالية الجلية فهذه الرواية ناظرة إلى كفاية ذلك من دون خوض في لجج بحار الشبهات التي تجعل العقول حيارى و الأفكار صرعى. و قد أنكر بعضهم هذه الرواية و زعم انها قول سفيان حين أثبت منزلة بين الكفر و الايمان. فقالت عجوز في رده:

هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن. فقال: عليكم بدين العجائز و لكن الإنصاف أنه ذلك لا يمنع صدور الرواية من أهلها.

(الحادي عشر) ان الاستدلال على أصول الدين لم ينقل مع توفر دواعي نقله عن الصحابة و لقضاء العادة. (و جوابه) أن في القرآن ما يدل على وقوعه كقوله تعالى وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و كيف ينكر وقوع

الاحتجاجات من الرسول (ص) و الصحابة و الأئمة الأطهار (ع) و من أراد

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 113

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 113

زيادة الاطلاع فليراجع كتب الأخبار. و في احتجاج الطبرسي غنى و كفاية مع أن البراهين الإجمالية و نقلهم وقوع المعجزات كافية في ذلك.

(الثاني عشر) إن الاستدلال و النظر مظنة الوقوع في الشبهات و التورط في الضلالات أو الخروج عن الدين و المروق عن الصراط المستقيم فيجب تركه لخوف الضرر بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك و أقرب للسلامة فيكون أولى.

(و جوابه) المنع من ذلك كيف و بالنظر تدرك الحقائق فإنها لا زالت تبرق من تصادم الأفكار مضافا الى أن في التقليد احتمال ذلك لاحتمال عدم اطلاع المجتهد على الواقع مضافا الى أن هذا الدليل لو تمَّ إنما يمنع من التعمق في المطالب الفلسفية مع أن الأدلة المتقدمة الدالة على ذم التقليد و وجوب النظر تمنع من هذه الحرمة العقلية مع ان اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد المقلد لزم التسلسل و إن كان عن تقليد المجتهد لزم المحذور المذكور فتأمل فإنه لقائل أن يقول انه يقلد فيما هو ضروري من ضروريات الدين و المتسالم عليه من العقائد الواجبة عند المتدينين.

(الثالث عشر) ما روي انه (ص) خرج على أصحابه فرآهم يتكلمون في القدر فغضب حتى احمرت و جنتاه (ص) و قال: إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا عزمت عليكم أن لا تخضوا فيه. و قال (ص): إذا ذكر القدر فأمسكوا.

(و أجيب عنه) إنا لو سلمنا صحة هذه الرواية فإنما تدل على الخوض في القدر فقط لا على حرمة الاستدلال و النظر على أن مسألة القدر ليست من الأصول الاعتقادية التي يجب الاعتقاد فيها فلعل الخوض فيها فيه مظنة الوقوع في الشبهات التي لا يرجى الخلاص منها.

(الرابع عشر) ما رواه الصدوق (ره) بإسناده في التوحيد عن محمد ابن عيسى قال: قرأت في كتاب علي بن هلال الى العالم يعني أبا الحسن (ع) قد روى أصحابنا عن آبائك (ع) انهم نهوا عن الكلام في الدين فتأول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 114

مواليك المتكلمون بأنه إنما نهي من لا يحسن أن يتكلم فيه فأما من يحسن أن يتكلم فيه فلم ينهه فهل ذلك كما تأولوا أم لا؟ فكتب (ع) المحسن و غير المحسن لا يتكلم فإن إثمه أكبر من نفعه. و نظير هذه الرواية ما في الكافي بإسناده عن أبي بصير تكلموا في خلق اللّه و لا تتكلموا في اللّه فان الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلا تحيرا. و عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد اللّه (ع): إن اللّه تعالى يقول وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ. فاذا انتهى الكلام الى اللّه فأمسكوا. فإن ظاهر هذه الروايات النهي عن الاستدلال على الأمور الاعتقادية فلو كان النظر و الاستدلال عليها واجبا لأوجب التكلم فيها ليعرف كل أحد منهم ذلك: و حكي عن الشيخ الحر العاملي الطعن على المتكلمين بهذه الرواية أعني رواية الصدوق. و الجواب عن ذلك انها لو دلت على المنع عن الاستدلال و النظر و أغمضنا عن ظهورها في خصوص المجادلة و التكلم بالأدلة فهي ظاهرة في خصوص التكلم في كنه

ذات اللّه و حقيقته كما في أحاديث أخر فقد روى أبي بصير عن أبي عبد اللّه انه قال: تكلموا في حق اللّه و لا تكلموا في اللّه. و في حديث آخر تكلموا في كل شي ء و لا تكلموا في ذات اللّه. و لعل ذلك من جهة أنه مزلقة للوقوع في الشبهات التي لا يرجى الخلاص منها إلا لذوي النفوس القدسية مضافا الى أنها منافية لما دل على المعرفة و التعلم مع أنها منافية لما دل من الآيات على المجادلة بالتي هي أحسن كقوله تعالى وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و قوله تعالى وَ لٰا تُجٰادِلُوا أَهْلَ الْكِتٰابِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و ما روي عن الحسن العسكري (ع) قال: قال جعفر بن محمد (ع):

علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس و عفاريته يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا و عن أن يتسلط عليهم إبليس و شيعته النواصب ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم و الترك و الخزر ألف ألف مرة لأنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 115

يدفع عن أديان محبينا و ديننا و ذلك يدفع عن ابدانه. و ما روي في الاحتجاج ان أبا محمد الحسن العسكري (ع) قال: انه ذكر عند الصادق (ع) الجدال في الدين و إن الرسول (ص) قد نهى عنه. فقال الصادق (ع): لم ينه عنه مطلقا و لكنه نهى عن الجدال بالتي هي غير أحسن أما تسمعوا قول اللّه وَ لٰا تُجٰادِلُوا أَهْلَ الْكِتٰابِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و قوله تعالى ادْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و في الكافي ان الصادق عليه السلام

قال ليونس بن يعقوب: لو كنت تحسن الكلام كلمت الشامي؟ قال يونس: فيا لها من حسرة. قلت: جعلت فداك إني سمعتك تنهى عن الكلام و تقول ويل لأصحاب الكلام فقال (ع): إنما قلت ويل لهم ان تركوا ما أقول و ذهبوا الى ما يريدون. و عن الصادق (ع) إنه قال لهشام مثلك من يكلم الناس. و عن الامام موسى بن جعفر (ع) انه قال لمحمد بن حكيم كلم الناس و بين لهم الحق الذي أنت عليه و بين لهم الضلالة التي هم عليها. و روى عن الصادق عليه السلام انه نهى رجلا من الكلام و أمر آخر به فقال له بعض أصحابه:

نهيت فلانا عن الكلام و أمرت هذا به فقال هذا أبصر بالحجج و أوفق منه. و عنه عليه السلام لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم (ع) من العلماء و الداعين اليه و الدالين عليه و الذابين عن دينه بحجج اللّه و المنقذين لضعفاء عباد اللّه من شباك إبليس و مردته و من فحاج النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن اللّه عز و جل و لكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند اللّه عز و جل الى غير ذلك من الروايات و الأخبار الدالة بدلالة الاقتضاء على طلب مزيد المعرفة و التعلم لأصول المذهب بأدلتها و براهينها و دفع الشبهات عنها. و قد حمل تلك الرواية صاحب عماد الإسلام على التقية لما هو معلوم في زمان أبي الحسن (ع) المروي عنه تلك الرواية إنه كان زمان تقية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 116

شديدة حتى في باب التسمية باسمه (ع) لا سيما

في المكاتبات فان مراعاة التقية فيها أهم و القرينة على ذلك هي ما في الكشي أن هشام قال ليونس إن أبا الحسن عليه السلام بعث اليه أن يكف في هذه الأيام عن الكلام فإن الأمر شديد و بهذا المضمون روايات أخرى.

(الخامس عشر) ما روي من أنه هلك المتكلمون و نجى المسلمون.

و عن الصادق (ع) إنه نهى عن الكلام فقيل له إنا نحتاج إليه لإلزام الخصوم فقال (ع): خاصموهم بما بلغكم من علومنا فان خصومكم قد خاصمونا و أيضا روى الكشي عن المشرقي إنه قال للصادق (ع): و اللّه ما نقول إلا بقول آبائك (ع) و إنما نتكلم عليه فأقبل أبو جعفر (ع) فقال: إذا كنتم لا تتكلمون بكلام آبائي فبكلام أبي بكر و عمر تريدون أن تتكلموا. فان هذه الروايات تدل على عدم النظر و الاستدلال مطلقا كما هو المدعى و ان على المكلف أن ينظر و يستدل بما روي عنهم (ع). و الجواب إن ظاهر الرواية الاولى أن المتكلمين المخالفين للإسلام من الهالكين بقرينة المقابلة و هذا لا ينكره أحد.

(و أما الرواية الثانية) فعلى تقدير صحتها فالظاهر ان المراد أن الموارد التي فيها استدلال منا لا تذكروا غيره فإنه أصح الاستدلالات إذ عليهم السلام لا يذكرون إلا ما هو الصحيح. و يمكن أن يراد بها أنكم لا تخاصموهم إلا في عقائدنا دون غيرها من مسائل الكلام كبساطة الأفلاك و كون الوجود خير محض و العدم شر محض و نحو ذلك.

(و أما الرواية الثالثة) فالغرض منها إنا ننظر و نستدل على عقائدنا لا على عقائد غيرنا.

(السادس عشر) من أدلتهم على عدم وجوب النظر بل حرمته قوله تعالى مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اللّٰهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.

و النظر و الاستدلال يفتح باب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 117

الجدل فيحرم. و أجيب بأن المراد الجدل بالباطل كما في قوله تعالى وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. لا الجدال بالحق لقوله تعالى وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و الأمر بذلك يدل على أن الجدال في العقائد مطلقا ليس منهيا عنه.

و الاولى أن يقال إن ظاهر الآية هو الجدال في البراهين القطعية باعتبار نسبة الآيات للّه تعالى و هذا لا يصدر إلا من الجاحدين المعاندين المستهزئين بها. كيف و قد ورد الإنكار على تارك النظر في قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ. و قد أثنى على فاعله في قوله تعالى وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ.

(السابع عشر) من أدلتهم أنه من العقائد الواجبة ما لم يمكن تحصيل النظر و الدليل القطعي عليها كالاعتقاد بإمامة الأئمة عليهم السلام و نص بعضهم على بعض إذ ليس في الكتب ما يحصل به التواتر و لا الخبر المحفوف بالقرائن نص بعضهم على بعض و لا بمعجزاتهم بل غاية الأمر حصول التواتر المعنوي لبعض أهل العلم مع أن تمييزان ذلك معجزة أو سحر ليس يقدر عليه كل أحد. (و جوابه) ما تقدم منا أنه توجد أمارات و أخبار صحيحة معتبرة و هي حجة و إن لم تفيد العلم و لكنها لما كانت جامعة لشرائط الحجية وجب التدين بها و هو المطلوب نظير من يتدين و يعقد قلبه على ما قامت عليه البينة من ثبوت الهلال و نحوه و يؤيد ذلك تقرير المعصومين (ع) في اعتقاد إمامتهم بمجرد اخبار الرواة فهم لم يظهروا المعجزة لكل أحد يعتقد بهم و لم يحضروا

جماعة يحصل بهم التواتر عند النص على امام بعدهم كل ذلك اكتفاء بأخبار الرواة الموثوقين مع ان جماعة من أصحاب الأئمة (ع) يستفهمون عن العقائد و الأئمة (ع) يخبرونهم عنها و هم يأخذون بظاهر الكلام و ينقلونه لغيرهم فلو لم تكن الأمارات المعتبرة حجة عندهم و يتدين بها لما نقلوها لغيرهم و لما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 118

أخذوا بظاهرها.

(الثامن عشر) من أدلتهم انه يلزم أن يخلد في النار و يكون كافرا من اشتغل بالنظر و مات قبل أن يحصله لأنه لم يعتقد بالعقيدة عن دليل قطعي.

(و جوابه) انه لا ريب في انه معذور للزوم التكليف بالمحال و هو ليس بكافر و قد عرفت أنه يرتب عليه آثار الإسلام ما لم يظهر الجحود في هذه الحال.

(التاسع عشر) من أدلتهم ان الايمان كما في الأخبار على قسمين مستقر و مستودع و لا بد أن الايمان المستودع ناشئ عن المظنة و التقليد لا عن الأدلة اليقينية و الا يصير مستقرا لا يزول و الأئمة (ع) كانوا يعاملون الجميع معاملة واحدة فلو كان يعتبر النظر لكانت معاملتهم تختلف في ذلك. (و جوابه) إن للخصم أن يقول إن الايمان المستودع هو غير الثابت و يمكن أخذه من الأدلة اليقينية و تطرأ عليها الشبهة فتزلزلها.

(العشرون) إن الكثير من الشيعة مقلدة في أصول عقائدهم مع حكم الأئمة (ع) بدخولهم الجنة. فعن الحجة (ع) ان جماعة يقال لهم الحقية و هم الذين يقسمون بحق علي (ع) لمحبتهم إياه و لا يدرون حقه و فضله يدخلون الجنة (و جوابه) كما ذكره القمي (ره) من حملهم على الغفلة، أو لعله لوجود دليل إجمالي عندهم على اعتقادهم

و ينبغي التنبيه على أمور:
اشارة

من يجب عليه التدين

بأصول العقائد

(أحدها) [وجوب المعرفة و التعلم على الصبي المميز]

في من تجب عليه المعرفة بأي معنى فسرناها و الظاهر انها تجب على كل قادر إجماعا و إنما الكلام في وجوبها على الصبي المميز فالمحكي عن المفيد رحمه اللّه و السيد نور اللّه التستري صاحب إحقاق الحق و ابن أبي جمهور الأحسائي وجوبها على المميز و إن كان وجوب التكاليف الشرعية الفرعية على البالغ و الدليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 119

على ذلك ان التكاليف المتعلقة بأصول الدين هي تكاليف عقلية لا شرعية فإذا كمل الصبي عقله و صار مميزا وجب عليه امتثالها شأن سائر التكاليف العقلية كما يؤيد ذلك قصة يحيى بن زكريا (ع) فقد آتاه اللّه الحكم صبيا. و قصة عيسى (ع) فقد آتاه الكتاب و جعله نبيا حينما كان صبيا و عليه فلو سلمنا ان أمير المؤمنين (ع) كان عند المبعث سبع سنين لم يدل ذلك على أن أيمانه كان على سبيل التلقين لا على سبيل المعرفة و اليقين و ذلك لأن صغر السن لا ينافي كمال العقل و وجوب التكاليف العقلية عليه. و المحكي عن السيد المرتضى (ره) و الشهيد الثاني في المسالك في كتاب الجهاد، و عن العلامة في النهاية عدم تكليف الصبي بذلك و استدل على ذلك بالحديث المشهور بين الخاصة و العامة من قول النبي (ص) رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، و عن النائم حتى يستيقض، و عن المجنون حتى يفيق، و بأن المميز قاصر الفهم لا يعرف ما يعرفه كامل العقل من وجود اللّه تعالى و بيان صفاته مضافا الى أنه لو قارب البلوغ بحيث لم يبق بينه و بين البلوغ سوى لحظة واحدة و كان فهمه كفهم البالغ

إلا أنه لما كان العقل و الفهم خفيا و ظهوره يقع على التدريج و لم يكن له ميزان يعرف به كمال عقله و فهمه جعل الشارع له ضابطا و هو البلوغ و أسقط التكليف عنه قبله تخفيفا عليه. و التحقيق أن يقال إن الصبي المميز إن كان عرض عليه الخوف في ترك ذلك وجب عليه بحكم العقل و إن كان في الواقع الشارع لا يعاقبه على تركه. و من هنا يظهر حال زمان الفترة في ما بين الرسول (ص) و بين عيسى (ع) فإنهم مكلفون بما يحكم عقولهم من أصول الدين.

عقد القلب لازم قبل المعرفة و بعدها

(ثانيها) انه يجب على العبد الملتفت الالتزام بالواقع بما هو واقع إجمالا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 120

في أصول الدين قبل المعرفة لاقتضاء ذلك الطباع بنفس ذاتها فإنها في كل شي ء التفت اليه لمعرفته تجدها ملتزمة بواقعة و ما هو الحق فيه و لذا تبحث عن معرفته مضافا لخوف الضرر بترك الالتزام. و أما بعد المعرفة فللأدلة المتقدمة على وجوب عقد القلب مضافا إلى أن عدم الالتزام يدخل معه الإنسان في الجحود الذي يستحق عليه العقاب.

حقيقة الإيمان

(ثالثها) إن الايمان لغة هو التصديق كما هو المنقول عن أهل اللغة
اشارة

و الظاهر إن مرادهم بالتصديق ليس هو اليقين و المعرفة بل عبارة عن التسليم و الإذعان بدليل اشتقاقه من الأمن الذي هو سكون النفس و اطمينانها لعدم ما يوجب الخوف و لما ذكروه من أنه يتعدى بالباء نحو (آمنت باللّه و برسله) باعتبار معنى الإقرار و التسليم و يتعدى باللام نحو (ما أنت بمؤمن لنا) باعتبار الإذعان و القبول و عليه فيرجع الايمان لغة إلى عقد القلب. و أما شرعا فالظاهر انه لم ينقل عن معناه اللغوي المذكور و إنما قيد متعلقه باللّه و برسله و غير ذلك دون مطلق الأشياء و يدلك على ذلك ما عرفته من دلالة الآيات و الروايات من ان المطلوب شرعا هو عقد القلب في العقائد دون شي ء آخر فيكون هو الايمان المطلوب شرعا و يؤيد ذلك من أنه عند الشرع مستعمل في معناه اللغوي و إنما يختلف في متعلقه ما روي أنه سئل النبي (ص) عن الايمان فقال (ص):

(الأيمان أن تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله) الحديث. حيث اكتفى الرسول بمعناه اللغوي دون أن يفسر له الإيمان بشي ء آخر و إنما ذكر متعلقه.

و مما يدل على ذلك هو أن أكثر المسلمين على أن الايمان الشرعي هو التصديق و الإذعان

باللّه وحده و صفاته و نبوة نبينا محمد (ص) و بما علم بالضرورة مجيئه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 121

من اللّه تعالى لا ما وقع الخلاف فيه. و زاد المعتزلة التصديق بالعدل. و زاد الإمامية التصديق بالعدل و التصديق بإمامة الأئمة (ع) ثمَّ انه بقي الكلام في مقامين:

(أحدهما) [الإقرار بالشهادتين داخل في حقيقة الإيمان]

إن الإقرار باللسان بالشهادتين داخل في الايمان لما ذكره الشهيد الثاني (ره) من كون ذلك عليه أكثر الإمامية و أكثر المسلمين بل حكي عن بعضهم إجماع المسلمين عليه. و لإطباق علمائنا على عدم إيمان أهل الكتاب بأجمعهم مع أن منهم من يعرف نبوة نبينا (ع) كمعرفة أبنائهم كما أخبر اللّه تعالى بذلك عنهم مع ما تقدم ص 97 من الأخبار الدالة على أن الايمان أعلى درجة من الإسلام، و الإسلام قد تقدم ص 98 يعتبر فيه الإقرار باللسان بالشهادتين و لما روي بعدة طرق في كتاب عيون أخبار الرضا (ع) الإيمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان و لما رواه علي بن إبراهيم بسنده عن عجلان بن أبي صالح قال: قلت لأبي عبد اللّه أوقفني على حدود الايمان؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و صلاة خمس، و أداء الزكاة، و صوم شهر رمضان، و حج البيت، و ولاية ولينا، و عداوة عدونا، و الدخول مع الصادقين. الى غير ذلك من الأخبار المذكورة في الكافي. و لقوله تعالى قُولُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا و لقوله (ص):

«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه». و لما عن الصادق (ع) و فرض اللّه على اللسان القول

و التعبير عن القلب بما عقد عليه و أقر به.

(إن قلت) إن الظاهر من الروايات ان شرط الايمان عدم الجحد دون الإقرار باللسان كما دلت عليه رواية محمد بن مسلم المتقدمة ص 88 لقوله (ع) فيها: «إنما يكفر إذا جحد» إذ ظاهرها بواسطة مفهوم الشرط إن مع عدم الجحد ليس بكافر سواء أقر أم لم يقر. (قلنا) ظاهر الرواية إن آثار الكفر إنما تترتب عليه إذا جحد و إنها لا تترتب عليه إذا لم يجحد. أما ان آثار الايمان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 122

تترتب عليه إذا لم يجحد فلا دلالة للرواية عليه.

(إن قلت) انه على هذا من حصل له التصديق بالمعارف الإلهية ثمَّ عرض له الموت قبل الإقرار أن يموت و هو كافر و ليس بمؤمن و يستحق العقاب و لا نظن أن أحدا يلتزم بذلك كما ذكره الشهيد الثاني (ره). (قلنا) إن كان تركه الإقرار عن تعمد فنلتزم بذلك و إن كان عن غفلة أو عدم قدرة لتقية أو لنوم أو نحوه فهو معذور فلا يعاقب على تركه للايمان و (بالجملة) فالظاهر لزوم الإقرار مع استمرار عقد القلب عليه و لا ينافيه السكوت المجرد الواقع بعده و إنما ينافيه الجحد لزوال الإقرار به.

(إن قلت) فعلى هذا يلزم ثبوت الواسطة بين الايمان و الكفر و هو الذي لم يجحد و لم يقر إذ مقتضى عدم جحده انه ليس بكافر للروايات المتقدمة ص 88 كرواية محمد بن مسلم. و مقتضى عدم إقراره أنه ليس بمسلم و لا مؤمن لاعتبار الإقرار في الإسلام المعتبر في الايمان كما تقدم ص 97. (قلنا) ظاهر جملة من الأخبار ثبوت الواسطة و يسمى ب (الضال) منها ما

تقدم من رواية محمد بن يحيى ص 95 و 96. و منها ما في رواية الكافي في باب أصحاب الأعراف عن زرارة إنه قال أبو جعفر (ع): و اللّه ما هم بمؤمنين و لا كافرين. و نظيرها رواية الكافي عن زرارة أيضا عن أبى جعفر (ع) في المستضعفين إنهم ليسوا بمؤمنين و لا كافرين. و منها ما في رواية الكافي عن عمر بن أبان عن أبي عبد اللّه في المستضعفين هم ليسوا بالمؤمنين و ليسوا بالكفار و منهم المرجون لأمر اللّه.

(المقام الثاني) [عدم دخول فعل الأركان من فعل الواجبات و ترك المحرمات في الايمان]

إن العمل بالأركان من فعل الواجبات و ترك المحرمات داخل في الايمان أم لا و الحق عدم دخوله لقوله تعالى طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا. فإنه أثبت الإيمان لمرتكب المعصية و هو القتل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 123

و دعوى أن تسميتهم بالمؤمنين باعتبار ما كانوا كما هو مذهب المعتزلة في المشتق (فاسدة) لأن المشتق ليس كذلك و لقوله تعالى بعد ذلك إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. فإنه أمر بالإصلاح بينهم حال إخوتهم و هي لا تكون إلا بالايمان و للإجماع المنقول على أن الايمان شرط لصحة العبادات و إن فساد العبادة لا يوجب فساد الايمان و لما ذكره بعضهم من اتفاق أهل الحق على أن المؤمن لا يدخل النار و إن ارتكب الكبيرة فلو كان العمل جزءا من الايمان لكان بارتكابه الكبيرة يخرج عن كونه مؤمن و لقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً. و لا ريب أن الأمر بالتوبة إنما يكون لمرتكب الذنب.

(ان قلت) قد روي أن الزاني لا يزني و هو مؤمن و هذا يدل على اعتبار ترك المحرمات في الايمان و

لما تقدم من رواية عيون أخبار الرضا (ع) من أن الايمان معرفة بالقلب، و إقرار باللسان، و عمل بالأركان (قلنا) بعد صريح الآية لا بد من حمل هذه الأخبار على إرادة الايمان الكامل و بدرجته العالية. و أما الاستدلال بمثل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ* على أن الايمان لا يعتبر فيه العمل بالأركان لأن العطف يقتضي المغايرة فمردود إذ للخصم أن يقول ان الصالحات يشمل الواجبات و المستحبات، و المستحبات ليست بجزء من الايمان فيصح عطفها لحصول المغايرة.

حقيقة الإسلام و عدم كفر المخالفين

(رابعها) ان الإسلام هو الانقياد و الإذعان بإظهار الشهادتين و الإقرار بهما

سواء اعترف بباقي أصول الدين أم لا و لذا يكفي في تحققه شرعا الإقرار بهما سواء علم من المقر التصديق بذلك أم شك فيه كما صرح العلماء بذلك في كتب الفروع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 124

و غيرها. و تقتضيه الآية الشريفة. قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا. و لما تواتر عن النبي (ص) و الصحابة إنهم كانوا يكتفون بالإسلام بإظهار الشهادتين ثمَّ بعد ذلك ينبهون المسلم على بعض المعارف الدينية التي يتحقق بها الايمان و بهذا المقدار يرتب عليه آثار الإسلام الدنيوية من الطهارة و جواز النكاح و الدية التامة. و لذا حكم علماء الإمامية بإسلام أهل الخلاف. و حكى الإجماع صاحب كشف اللثام، و صاحب الروض على عدم احتراز الأئمة (ع) و أصحابهم عنهم في شي ء من الأزمنة، و للنصوص الدالة على حلية ما في سوق المسلمين مع ندرة سوق مخصوص بالإمامية. و المحكي عن مفتاح الكرامة انه حكى الإجماع على طهارتهم عن أستاذه مضافا الى ما في رواية حمران بن أعين أو صحيحه عن أبي جعفر (ع) المتقدمة ص

99 و رواية سفيان السمط المتقدمة ص 98، و رواية سماعة ص 99، و ما هو المحكي عن الكافي في باب ارتداد الصحابة من رواية زرارة عن الباقر (ع) و فيها فأما من لم يصنع ذلك و دخل فيما دخل فيه الناس على غير علم و لا عداوة لأمير المؤمنين فإن ذلك لا يكفره و لا يخرجه عن الإسلام. و المنقول عن شرح المفاتيح للأستاذ الوحيد (ره) إن الأخبار بذلك متواترة و هي مؤيدة بالشهرة و الإجماعات المنقولة. نعم من كان من المخالفين منكرا لما هو مقطوع به من الدين و لو لم يكن ضروريا بأن كان قاطعا بأنه من الدين و أنكره كمن حضر بيعة غدير خم و أنكرها فهو كافر لأنه يرجع لإنكار النبوة و لما جاء به النبي (ص) و لذا حكم الأصحاب بكفر النواصب الذين نصبوا العداوة لأهل البيت (ع) لأنهم أنكروا الولاية التي هي مقطوع بها أنها من الدين.

(إن قلت) أن هناك ما يدل على كفر المخالفين كبعض الروايات الدالة على أن الناصب من نصب العداء لشيعتهم (ع) و لا ريب أن المخالفين كذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 125

و الأخبار الدالة على كفر من أنكر إمامة الأئمة (ع) كقوله (ع): من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية. و من لاحظ كتاب تفسير الإمام العسكري (ع) و تفسير الصافي في الآيات الواردة في حقهم (ع) يجد الكثير من تلك الأخبار. و كالأخبار الدالة على بناء الإسلام على خمس منها الولاية و مقتضى ذلك انه بانتفائها ينتفي الإسلام لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء و ما حكي من نقل عدم الخلاف في كفرهم كما عن السرائر و

الشيخ بن نوبخت في فص الياقوت. و لا أقل من كفر المجسمة منهم و المفوضة منهم لما روي عن الرضا (ع) من أن القائل بالجبر كافر و القائل بالتفويض مشرك و عن الرضا (ع) إن الناس في القدر على ثلاثة أوجه رجل يزعم ان اللّه تعالى أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم اللّه في حكمه فهو كافر، و رجل يزعم ان الأمر مفوض إليهم فهذا قد أوهن اللّه في سلطانه فهو كافر الحديث. (قلنا) مضافا الى أن الأخبار المذكورة الدالة على إسلامهم أقوى و أظهر دلالة و أكثر موافقة للمشهور فتوى و عملا و لحكاية الإجماع عن كشف اللثام و الروض و مفتاح الكرامة على ما يدل على إسلامهم و عدم كفرهم و سيرة الأئمة (ع) على ذلك و هذا ما يوجب ترجيحها على الأخبار الدالة على كفرهم. فإنه مضافا الى ذلك أن أخبار الناصب إنما هي ظاهرة في من نصب العداوة للشيعة من جهة حبهم لأهل البيت و هذا داخل في الناصب لأهل البيت و هو يرجع لجحد النبوة لكون حبهم من ضروريات الدين و نص عليه القرآن الكريم بقوله تعالى قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ و أما من نصب العداوة للشيعة لا من الجهة المذكورة فلا تدل الأخبار على انهم من النصاب و إنما ادعينا ظهورها في ذلك لما فيها من التعليل بقوله (ع): «لأنك لا تجد رجلا يقول أنا أبغض محمدا و آل محمد و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم انكم توالوننا و أنتم من شيعتنا» و لو سلم فهي إنما تدل على أنهم نصاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 126

و

لا تدل على أنهم كفار نجسين فان ظاهر الأخبار الدالة على نجاسة النصاب ظاهرة في الذي نصب العداوة لأهل البيت و في بعضها (لنا). و أما الأخبار الدالة على كفر من أنكر الولاية فالظاهر بقرينة الأخبار المتقدمة ان الكفر فيها نظير الكفر الذي هو موجود في الأخبار بالنسبة لتارك الصلاة و في قوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ. فان المراد بذلك هو الفسق و الحاصل أن في الأخبار يكثر إطلاق الكافر على من هو مسلم قطعا كتارك الصلاة أو الحج أو الزكاة فيكون إطلاق الكافر غير موجب لنفي الإسلام مع ما عرفت من أن إنكار الولاية باعتبار نص القرآن عليها بقوله تعالى قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ. و لقيام ضرورة الدين عليها يكون إنكارها إنكارا للنبوة و هو موجب للكفر. و أما خبر (من مات) فلا يدل على الكفر بل هو ظاهر في التنظير بالميتة الجاهلية و هو إنما يقتضي أنه ضال. و أما أخبار بناء الإسلام على خمس فلا بد من أن يراد به الإسلام الحقيقي الذي يوجب دخول الجنة لا الإسلام الظاهري بدليل عد إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة منها.

و أما ما حكي من نفي الخلاف ففيه ان الشهرة و الإجماعات المحكية تنفي ذلك.

و أما الخبران الدالان على كفر المجبرة و المفوضة فمضافا الى عدم ثبوت صحتهما و وهنهما بعدم عمل المشهور بهما حيث لم يفتي بمضمونهما أحد سوى ما يحكى من أن الشيخ (ره) وجدنا كاشف الغطاء قد أفتيا بنجاسة المجبرة. و الحاصل ان المخالفين و غيرهم إن أنكروا ما يقطعون به من الدين

فهم كافرون لأنه يرجع إنكارهم إلى إنكار ما جاء به النبي (ص) و هو يرجع لإنكار النبوة كما هو ظاهر رواية عبد الرحيم القصير لقوله (ع): و لا يخرجه الى دار الكفر إلا الجحود و الاستحلال بأن يقول للحلال هذا حرام و للحرام هذا حلال و دان بذلك و قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ. فان الظاهر هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 127

قول من يعتقد الحكم الشرعي و يقول بخلافه و إلا لزم كفر المجتهد المخطئ و من هذا الباب حكم على المستخف بالدين كافر كالملقي للقرآن في القاذورات و المهدم للمساجد و المستهزء بالمؤدين للواجبات الدينية استنكارا لها و تعصبا و عنادا (و بعضهم أضاف) إلى الإقرار بالشهادتين الإقرار بما جاء به النبي (ص) و لكن لا حاجة له لأنه يلازم الإقرار بالرسالة. و لو ذهب ذاهب الى عدم الملازمة فنقول: انه لا دليل على ثبوت اعتباره في الإسلام، و اشتمال بعض الأخبار عليه لا ينفع لأنه لم يعهد من المسلمين اعتباره فان الرسول (ص) كان يكتفي بالشهادتين فلم يعمل بهذه الأخبار مضافا لمعارضتها برواية محمد بن مسلم المتقدمة ص 88.

احكام الواسطة بين الإسلام و الكفر

(خامسها) قد عرفت في مبحث الايمان وجود الواسطة بين الإسلام و الكفر

و مقتضى القاعدة عدم ترتيب أحكامهما عليها فلا يحكم بالنجاسة لأن النجاسة من آثار الكفر و عليه فتكون طاهرة و لا يجوز النكاح و التوارث لأنها من أحكام الإسلام. و بالجملة إن ذلك تابع للدليل فما دل عليه الدليل إنه من آثار أحدهما لا يحكم به عليها.

الدليل الذي يطلب تحصيله في المعارف الإلهية

(سادسها) قد عرفت عدم جواز التقليد في المعارف الإلهية التي يتوقف حصول الايمان عليها

و انه لا بد من الدليل عليها و الكلام هنا في المراد بالدليل فنقول إن المراد به هو الدليل الذي يحصل به اطمئنان النفس بحسب استعدادها و يسكن اليه القلب بحيث ينقاد اليه و يسلم بالمعارف لديه و ليس يراد منه الدليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 128

المشتمل على مقدمات تفصيلية و استقصاء للشبه الالحادية و الدليل على ذلك هو سيرة المسلمين عليه كيف و الأدلة التي ذكرها القرآن الشريف و اشتملت عليها الأخبار كانت كلها إجمالية لا تفصيلية.

الامارة المعتبرة إذا قامت على المعارف الإلهية

(سابعها) ان المعارف الإلهية إذا قامت عليها الأمارات الظنية المعتبرة
اشارة

بعد الفحص عما يعارضها و يخالفها و لم يظفر به إذ مع عدم الفحص لا حجية لها هل يجب التدين بها و عقد القلب عليها أم لا، فلو قام الخبر الجامع لشرائط الصحة على كيفية المعاد فهل يجب التدين بمضمونه أم لا و هكذا لو كان ظاهر لفظي للكتاب أو للسنة المتواترة أو للخبر المحفوف بالقرائن القطعية يدل مثلا بعمومه على حشر الدود يوم القيامة فهل يجب التدين به أم لا فقد يقال بوجوب التدين به لأن هذا نوع من العمل بالأمارة الظنية و لذا تمسك جملة من العلماء في بعض العقائد بأخبار الآحاد المعتبرة بل كان القوم في عصر المعصومين (ع) يأخذون بظواهر القرآن و كلماتهم (ع) في عقائدهم مضافا الى ذلك لزوم لغوية الاخبار بأحوال المحشر و الأمور العلوية و السفلية و أحوال الأنبياء و الأمم السالفة و نحو ذلك و لا وجه لاهتمام العلماء بحفظها و تدوينها و لا يمكن إثبات أحوال واقعة كربلاء و مظلومية الزهراء (ع) و نحو ذلك فالحق أن يقال إن الأمارات المعتبرة في الأحكام الفرعية الشرعية يكون المطلوب هو

العمل و في الحوادث الكونية و العقائد الدينية يطلب فيها الالتزام و عقد القلب غاية الأمر الموارد التي يجب فيها الالتزام و عقد القلب يجب فيها ذلك عند قيام الامارة المعتبرة و الموارد التي لا يجب فيها الالتزام و عقد القلب لا يجب فيها ذلك عند

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 129

قيامها و لكن لا يصح عقد القلب على خلافها إلا بدليل أقوى منها و يؤيد ذلك التجاء بعضهم إلى تأويلها في بعض الموارد دون أن يردّ عليها بأنها أمارات ليست بحجة في العقائد. و يؤيد ذلك أيضا قوله (ع): «من أخذ دينه من الكتاب و السنة زالت الجبال و لم يزل». و هو إن لم يكن ظاهرا في العقائد فلا أقل من شموله لها

(و قد يستدل على وجوب تحصيل الظن بالعقائد)
اشارة

و التدين بمؤداه عند انسداد باب العلم بها و اليأس من اليقين بها بأن العقل يحتمل قيام الظن مقام العلم عند الانسداد فيحكم بلزوم تحصيله لاحتمال الضرر بتركه عند الانسداد كما ذكروه في صورة الانفتاح و إن. (شئت قلت) انه عند الانسداد يدور أمر الجاهل بين البقاء على الشك و بين تحصيل الظن و يحتمل تعيين الثاني عليه فلا محالة يحكم عقله بتعيين الثاني من باب الاحتياط، و حيث انه يجب التدين بالواقع و قد ثبت الواقع بهذا الظن فيجب التدين بمؤداه و يرد عليه:

(أولا) بأن التدين بالمظنون لا يجوز لمكان احتمال تخلفه عن الواقع.

(و جوابه) انه لما كان لا طريق للواقع إلا الظن و التدين به مطلوب فيدور الأمر بين إهمال التكليف كلية و لا يتدين بشي ء أو يتدين بالمظنون لظنه بمطابقته الواقع و لا شك أن الثاني أرجح في نظر العقل و لقاعدة الميسور.

(إن

قلت) إنه يمكنه أن يتدين بالواقع بما هو واقع على إجماله من دون تعيينه فيمكنه امتثال التكليف من دون احتمال المخالفة للواقع. (قلنا) المطلوب للشارع هو التدين بالواقع على سبيل التعيين فمثلا المطلوب هو التدين بكون خالق الخلق هو اللّه تعالى لا الواقع بما هو واقع فاذا فرض إنه انسد عليه اليقين باللّه فالظن به يكون حجة له و يتدين به إذ لا طريق للواقع المعين إلا هو. و هذا هو مسلك العقلاء في سائر شؤونهم الحيوية فيجب تحصيل الظن بالواقع في العقائد الدينية التي يطلب فيها تحصيل التدين بها. (و دعوى) أن التدين بالمظنون لا يخلو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 130

من محذور مخالفة الواقع. و العقل لمحذور مخالفة الواقع يحكم بعدم جواز التدين بالمظنون (مدفوعة) بأن التدين بالمعلوم أيضا لا يخلو عن محذور مخالفة الواقع فالمحذور موجود فيه فيقتضي أن لا يجوز التدين به غاية الأمر انه لا احتمال بالخلاف للعالم بخلاف الظان (و الحاصل) ان الظاهر جواز التدين لمن قامت عنده أمارة معتبرة بحسب نظره و حالها حال العلم و لعل ذلك ثابت حتى في الموضوعات ألا ترى أن البينة إذا قامت على أن الدار لزيد تدين بذلك و عقد عليه القلب على أن في التدين بالمظنون مخالفة احتمالية و التدين بالواقع على إجماله مخالفة قطعية لعدم التدين به تفصيلا.

(و يرد عليه ثانيا) ان الالتزام بالمظنون تشريع محرم مولويا أو عقليا و توضيح ذلك أن الحاكم بحجية الظن الانسدادي هو العقل و هو لا يحكم بها إذا كان محذور آخر في البين كما في المقام فان التدين مخالفة قطعية بالنسبة إلى حرمة التشريع و موافقة احتمالية ظنية بالنسبة إلى

وجوبه و العقل لا يجوّز المخالفة القطعية لمراعاة الموافقة الاحتمالية و لو كانت ظنية و هذا بخلاف الفروع فإنه يمكن اتباع الظن فيها من دون التزام في البين حتى يعارض بحرمة التشريع و (لا يخفى ما فيه) فان التدين بالواقع إذا كان مطلوبا بعنوان خاص فيكون عاصيا بتركه مع وجود الطريق الى الواقع بحسب حكم العقل من دون فرق بين الفروع و الأصول و لا تشريع في البين مع وجود الحجة على الواقع. مضافا الى أنه عند الانسداد يجي ء ملاك وجوب المعرفة في الظن من خوف الضرر بتركه و إن به أداء الشكر و احتمال الوقوع في خلاف الواقع بالتدين به جاري في العلم غاية الأمر لا يحتمله العالم و هو غير صالح للفارق على أن التشريع إنما يكون في الأحكام الشرعية لا في الأمور الواقعية و قد قرر المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ره) دليل الانسداد في المقام بوجه أبسط و ألطف اطلعنا عليه بعد كتابتنا هذه الأسطر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 131

و حاصله إن الواجب إذا كان هو عقد القلب على المعلوم بما هو المعلوم بنحو الواجب المطلق أو المشروط فلا مجال لإجراء دليل الانسداد لأنه عند الانسداد لا يتمكن العبد من الامتثال و لا مجال لحجية الظن بالخصوص فيه إذ لا أثر للواقع حتى يترتب على المؤدى تنزيلا له منزلة الواقع و أما إن كان الواجب عقد القلب على الواقع فالعلم منجز للتكليف و طريق لامتثاله و الأثر يكون للواقع فعند انسداد باب العلم و تمامية سائر المقدمات تصل النوبة إلى حجية الظن و لزوم عقد القلب على المظنون عقلا من باب التنزل عن الإطاعة العلمية إلى الإطاعة

الظنية لانسداد باب العلم و عدم جواز إهمال الامتثال للتكليف رأسا و عدم التمكن من الاحتياط التام لعدم إمكان عقد القلب على الطرفين لعدم إمكان الالتزام الجدي بالشي ء و نقضيه و لا وجه لعقد القلب بنحو التخيير و لا بنحو الاجمال لفرض أن الواجب هو أحد الطرفين بخصوصه شرعا فيحكم العقل بالرجوع الى الظن و قد أجاب (ره) عن هذا الدليل بأن الأمر يدور بين الاحتياط الناقص بعقد القلب على الواقع إجمالا و إلغاء الخصوصية و بين عقد القلب على المظنون بخصوصه و الأول أولى من الثاني لأن عقد القلب على الواقع إجمالا فيه موافقة قطعية بمقدار جزئي بخلاف الالتزام بالمظنون فإنه يحتمل معه ترك الالتزام بأصل الواجب الواقعي و العقل يحكم بالأول دون الثاني انتهى «و لا يخفى ما فيه» فان في عقد القلب على الواقع مخالفة قطعية لترك تعيين أحد الطرفين بخلاف عقد القلب على المظنون فان فيه مخالفة احتمالية و العقل يرجح الثاني على الأول مضافا الى ما عرفت من قيام السيرة على العمل بالروايات و بالعمومات و الظواهر في الأصول الاعتقادية التي لا طريق لها إلا النقل فيكون ذلك مرجحا للتدين بالظن مضافا الى ما يمكن أن يقال إن كثرة الأدلة و الطرق على الأصول الاعتقادية حتى ادعى بعضهم حصول العلم بها لكل أحد تجعل الظن الحاصل بالفحص أو بالعقل يطابق الواقع لأن الأدلة على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 132

الواقع أكثر و أوضح من الأدلة على خلافه في الأصول الاعتقادية.

(و قد ذهب أكثر علمائنا الى عدم الوجوب)

لأن التدين و عقد القلب و إن سلم كونه نوع عمل بالظن المعتبر لكن الأدلة التي دلت على حجية الظنون إنما تدل عليها بالنسبة إلى آثار الواقع

لا الآثار المترتبة على الواقع بوصف انه مظنون أو معلوم، و وجوب التدين و عقد القلب على الواقع من آثار الاعتقاد الجزمي بالواقع لا من آثار نفس الواقع بما هو واقع فاذا لم يعلم بالواقع و لو لانسداد العلم به ينتفي وجوب عقد القلب لانتفاء موضوعه. و لا يخفى ما فيه فان موضوع وجوب التدين و عقد القلب هو الواقع لا العلم به و لا الظن به لأن وجوب التدين إن كان من باب حكم العقل فالعقل إنما يحكم بملاك خوف الضرر و من المعلوم إنه إنما يخاف الضرر بترك التدين بالواقع بما هو واقع لا بما هو معلوم و هكذا الآيات و الأخبار المتقدمة ص 86 ظاهرة في ترتب عقد القلب على ما هو الواقع.

مضافا الى أن المعلوم بما هو معلوم قد ينطبق على خلاف الواقع فكيف يأمر الشارع بالتدين به. و التحقيق أن يقال انه إن حصل القطع بالمعارف الإلهية من الامارة وجب الالتزام به. و إن لم يحصل القطع منها فان كان مما يجب الالتزام بواقعة تفصيلا كأصول الايمان حيث يجب التدين بها مشخصا للواقع كان عند قيام الامارة المعتبرة عليه يجب الالتزام به لثبوت الواقع بها فيلتزم بما قامت عليه لأنه من آثار الواقع و ليس من آثار الاعتقاد به. و حيث كان المطلوب التدين بالمعارف الإلهية تفصيلا لا إجمالا فعند انسداد باب العلم يتعين الرجوع الى الظن المعتبر لعدم إمكان الاحتياط و لا امتثال الواقع إلا بذلك. و أما التدين بالواقع على إجماله فهو ليس فيه امتثال للتكليف لأن المطلوب التدين بها تفصيلا كما هو الفرض. (نعم) من أصول الإيمان ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوتها كوجود الباري و نبوة

الأنبياء فإن وجوب التدين بها لما كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 133

عقليا لا شرعيا كما تقدم في ص 108 مرتبا على واقعها بحكم العقل. و لا ريب انه بالأمارة لا ينكشف واقعها و انما يثبت في الظاهر فلا يرتب وجوب التدين على ثبوتها بالأمارة لأنه ليس بأثر شرعي لواقعها. و أما مثل إمامة الأئمة (ع) فإنه يجب التدين بها عند قيام الامارة المعتبرة عليها. هذا كله فيما يجب التدين بواقعة تفصيلا. و أما ما كان من المعارف الإلهية مما لا يجب الالتزام بواقعة تفصيلا كأحوال الحشر و النشر و أحوال الأنبياء و الأوصياء فإن حصل القطع من الامارة به وجب الالتزام به و إذا لم يحصل القطع به من الامارة فظاهر الأكثر عدم وجوب الالتزام به و التدين به و ان الامارة المعتبرة ليست بحجة عليه بحيث يصح نقله بدون الرواية كما في الحكم الشرعي فإنه يذكره المفتي عند قيام الامارة عليه بغير الرواية.

و لكن الحق أن السيرة العملية على الالتزام به و التدين به عند قيام الامارة المعتبرة عليه و لذا كان الأصحاب يحتج بعضهم على بعض بالأخبار. و يرشدك الى ذلك اعتماد علماء الكلام عليها. و ذكر أرباب كتب الاخبار لها كالكافي و في ديباجته ما يشعر بالاعتماد على الحجة منها. و لذا تجد ديدن الواعظين يعتمدون عليها في نقل أحوال الحشر و النشر و وقائع الطف فلو لا صحة التدين بها المستتبع للإقرار باللسان لما صح ذلك. كيف و انك لتجد ديدن شعرائنا الصالحين نظم أحوال الأئمة (ع) و حوادثهم و تدوين مقاتلهم مع انه لا دليل لهم على ذلك. إلا الأخبار و الامارات. بل في بعض الأخبار

تجد الامام (ع) يستشهد بقول من سبقه في بعض العقائد كمسألة القضاء و القدر. و الغريب من استاذنا المشكيني (ره) انه أنكر جواز التمسك بالظن المعتبر في ذلك مع انه تمسك في خلود المعاندين من الكافرين ببعض فقرات دعاء كميل.

(إن قلت) على هذا لا بد من إثبات وجوب التدين بالشي ء أولا حتى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 134

يكون قيام الامارة عليه موجبا للتدين به. و مع ثبوت وجوب التدين به لا حاجة لقيام الامارة عليه. (قلنا) قد يثبت وجوب التدين بواقع الشي ء و لكن تشخيص الواقع يكون بالأمارة مثلا يجب التدين بالإمام الحاضر من جهة قيام الإجماع بل ضرورة المذهب على ذلك فاذا قام الظن المعتبر على ان الامام الحاضر هو الحجة ابن الحسن (ع) وجب التدين به و نحو ذلك.

المقدار الذي يجب معرفته أو التدين به من المعارف الإلهية

(ثامنها) قد عرفت ماهية الإسلام و حقيقة الإيمان بقي الكلام في المقدار الذي يجب معرفته و التدين به
اشارة

عن نظر و استدلال من المعارف الإلهية الذي يتحقق به الإسلام الحقيقي و الايمان الواقعي بحيث معه لا يخلد في النار و ان ارتكب الكبيرة سواء تاب منها أو لم يتب و هو خمسة:

(الأول) وجود الباري و قدمه و ديموميته و جمعه لصفات الفضائل و تنزيهه عن النقائص و لو بنحو الاجمال و من هذا الباب عدله و انما أفرده القوم بالبحث عنه و جعلوه أصلا من الأصول الخمسة لمزيد الاهتمام به.

(الثاني) وحدانية الباري و عدم الشريك له و المثيل له و الشبيه به.

(الثالث) نبوة النبي محمد (ص) و لازمها التدين و التصديق بجميع ما جاء به تفصيلا فيما علم انه جاء به و إجمالا فيما لم يعلم به.

(الرابع) المعاد الجسماني.

(الخامس) إمامة الأئمة (ع) من بعد النبي (ص) الى حد عصر المكلف

بترتيبهم كأن يعرف من كان في عصر الحسين (ع) إن إمامة الحسين (ع) بعد أخيه الحسن (ع) و ان الحسن (ع) بعد أبيه علي (ع). و لازمها البراءة من أعدائهم. و الدليل على ذلك كله الإجماع بل ضرورة المذهب. و لا يجب معرفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 135

أزيد من ذلك و لا التدين بأكثر منه فلا يلزم عليه معرفة باقي صفات الباري على التفصيل أو باقي صفات النبي (ص) أو الأئمة (ع) أو أحوال المعاد أو تفاصيل الحشر و النشر لأصالة البراءة من وجوبه و لقوله (ع) في شؤون أصول الدين:

«إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به و إذا جاءكم ما لا تعلمون فها» (و أهوى بيده الى فيه).

نعم الجاهل إن رجع الى مقلده في تعيين المقدار فهو و إلا فكل ما احتمل إنه من المعارف الإلهية وجب عليه معرفته و التدين به بالنظر و الاستدلال و ذلك لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل إلا أن يجتهد و يؤدي نظره الى مقدار معين منها و يجري أصل البراءة عن الباقي.

(إن قلت) كيف ترجع لأصل البراءة مع وجود آيات و روايات تدل بعمومها على وجوب المعرفة لكل المعارف الإلهية بتفصيلها إلا ما أخرجه الدليل مثل قوله تعالى مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلّٰا لِيَعْبُدُونِ و قوله (ص):

«ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات». و كذا آية التفقه في الدين و كذا عمومات طلب العلم كما ذكر ذلك الشيخ الأنصاري (ره). (قلنا) قد ذكر المرحوم الآخند المنع من ذلك أما الآية فلأن العبادة فيها و إن فسرت بالمعرفة إلا أن الظاهر إن المراد بها خصوص معرفة اللّه تعالى و لو سلمنا عدم ظهورها

في ذلك فهي لا إطلاق لها لأن الآية مسوقة لبيان حكم آخر و هو حصر غاية الخلق بالمعرفة لا لبيان حكم المعرفة و العبادة حتى يتمسك بإطلاقها.

و هكذا الرواية المذكورة فإنها واردة في مقام بيان فضيلة الصلوات الخمس و ليست مسوقة لبيان حكم المعرفة حتى يتمسك بإطلاقها.

و أما آية التفقه فهي بصدد بيان الطريق الذي يتوصل به الى معرفة الواجب لا لبيان ما يجب معرفته و استشهاد الامام (ع) بها إنما هو لبيان أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 136

النفر طريق تحصيل المعرفة في هذا الموضوع لا لبيان وجوب معرفة الإمام (ع) حيث ان الظاهر إنه كان مفروغا عنه لكونه مركوزا في ذهن السائل و إنما كان الغرض من السؤال هو الاهتداء الى طريق تحصيل المعرفة به، و حذف المتعلق إنما يفيد العموم إذا كان في مقام بيان حكم ذلك الشي ء المحذوف متعلقه، و أما ما دل على طلب العلم إنما كان في مقام التحريض و الترغيب الى العلم لا في مقام بيان ما كان العلم فيه مطلوبا. كيف و إلا لزم تخصيص الأكثر و هي آبية عن أصله كما لا يخفى على من لاحظها فالعبرة فيما لا يستقل به العقل و لا يدل عليه النقل هو الرجوع لأصل البراءة.

(و الحاصل) أن الزائد على ذلك كباقي صفات الباري تعالى أو صفات النبي (ص) أو الأئمة أو أحوال المعاد لو حصل العلم بها وجب التدين بها للسيرة العملية على ذلك أو لوجوب الإقرار و التدين بما جاء به النبي (ص) الذي دلت عليه الأخبار المتقدمة فإن من علم مجي ء هذا الشي ء عن النبي (ص) بالضرورة أو التواتر أو نحو ذلك و لم يتدين

به لم يكن قد صدق النبي (ص) على ما جاء به فيكون إنكار العالم به كفرا، و أما لو قامت عليه أمارة معتبرة فالأكثر على عدم وجوب التدين به لعدم كون وجوب التدين من آثاره و إنما يجب أن يتدين بالواقع لكن الظاهر من سيرة العلماء في مقام المحاجات هو صحة التدين بمدلول الامارة المعتبرة لا وجوبه و لعل ذلك يستفاد من بعض الأخبار. و قد يدعي الإجماع على وجوب معرفة تفاصيل التوحيد و النبوة و الإمامة و المعاد و إن الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإيمان مستحق للعقاب الدائم كما هو المحكي عن العلامة (ره) في باب الحادي عشر و فيه أنه يلزم كفر أكثر الناس لعدم التمكن إلا للأوحدي من الناس من المعرفة المذكورة. مع إمضاء النبي (ص) و باقي المعصومين (ع) السيرة على خلاف ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 137

(و قد يستدل على تعيين المقدار) بالأخبار الكثيرة المفسرة للإسلام و الايمان

كخبر محمد بن سالم المتقدم ص 88، و كرواية الفتح بن يزيد المتقدمة ص 89 و رواية سليم بن قيس المتقدمة ص 91، و رواية إسماعيل المتقدمة ص 91 و رواية عيسى بن السري ص 94، و رواية علي بن إبراهيم ص 94، و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) قال: جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترضه اللّه تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله و لا يقبل منهم غيره ما هو؟ فقال: أعده علي فأعاد عليه. فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حج البيت من استطاع اليه سبيلا، و صوم شهر رمضان. ثمَّ سكت قليلا ثمَّ قال:

و الولاية

و الولاية مرتين الخبر. و رواية ابن اليسع قال: قلت لأبي عبد اللّه:

أخبرني عن دعائم الإسلام التي لا يسع أحد التقصير عن معرفة شي ء منها التي من قصر عن معرفة شي ء منها فسد عليه دينه و لم يقبل منه عمله و من عرفها و عمل بها صلح دينه و قبل عمله و لم يضق به ما هو فيه لجهل شي ء من الأمور جهله.

فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه و الايمان بأن محمدا رسول اللّه و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و حق في الأموال الزكاة و الولاية التي أمر اللّه تعالى بها ولاية آل محمد. و رواية محمد بن يحيى في الكافي بسنده عن إبراهيم بن عمر قال:

سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول: إن أمر اللّه كله عجيب إلا أنه قد احتج عليكم بما قد عرّفكم من نفسه. و يمكن أن يورد على الاستدلال بها عدة إيرادات (منها):

اختلاف مفادها فان في بعضها الاقتصار على الشهادتين و هما التوحيد و النبوة.

و في بعضها اعتبارهما مع الإمامة دون غيرها من المعاد و العدالة. و في بعضها على اعتبار الثلاثة مع الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج المعلوم عدم اعتبارها في الإسلام و الايمان. و في بعضها اعتبار الثلاثة مع الإقرار بما جاء به النبي (ص) إجمالا مع الزكاة التي من فروع الدين و غير ذلك من الاختلافات في مؤداها جدا مع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 138

ورودها في مقام التحديد الآبي عن التخصيص فتكون من المتعارضات المحتاجة إلى التوجيه إما بحملها على اختلاف مراتب الايمان و الإسلام شدة و ضعفا أو بحملها على اختلاف حقائق الايمان و الإسلام و اختلاف

الآثار الدنيوية و الأخروية باختلافها من الطهارة و جواز النكاح و الدية التامة و النجاة من النار و الدخول في جملة الأبرار. و كيف كان فلا يصلح شي ء منها للمدعي حتى لنفي ما عدى المذكورات فيها لأن من العقائد العدل و المعاد و هما غير مذكورين فيها نعم بضميمة الإجماع أو الضرورة يمكن استفادة عدم اعتبار ما لم يذكر فيها ما عدى ما قام الإجماع و الضرورة على اعتباره كالمعاد و العدل.

العاجز من اليقين بالمعارف الإلهية

(تاسعها) ان غير المتمكن من العلم بالمعارف الإلهية الواجبة

سواء كان عدم تمكنه من جهة قلة إدراكه و قصور عقله بحسب خلقته كما نراه في بعض الناس الضعاف العقول و أما من جهة مهلة النظر و أما أن يكون غافلا غير ملتفت لكونه بعيدا عن بلاد الإسلام أو لعدم احتماله كون دين الإسلام حقا كبعض شباب النصارى و اليهود في أوائل بلوغهم و أما يكون ملتفتا غير غافل لكن لا يمكنه بذل جهده لتحصيل حقية دين الإسلام أما لكونه في بلاد يخشى على نفسه من ذلك أو في بلاد لا يتيسر له فيها ذلك و قد يكون متمكنا من بذل الجهد و ملتفتا و قد بذل جهده و لكنه لم يكن النظر و الاستدلال يفيده الجزم بذلك لكثرة الشبه الحادثة في نفسه و المدونة في الكتب التي رجع إليها كما يشاهد ذلك في بعض المتعمقين في كتب الفلسفة من غير دراسة صحيحة لها و كيف كان فينبغي الكلام في العاجز الغير المتمكن من اليقين بالمعارف الإلهية الواجبة من جهات ثلاثة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 139

(الاولى) في وجوده في الخارج و تحققه فيه.

(و الثانية) في حكمه التكليفي و هو وجوب تحصيل الظن عليه.

(و الثالثة) في

حكمه الوضعي من كونه كافرا أم لا.

(أما الجهة الأولى) فقد تقدم الكلام فيها تفصيلا ج 1 ص 213 و إن الحق هو وجود مثل ذلك.

(و أما الجهة الثانية) فقد ذهب المشهور إلى انه يجب عليه أن يتدين بالواقع بما هو واقع من دون تعيينه و يسقط عنه وجوب اليقين تفصيلا لعدم قدرته عليه فالتكليف به يكون تكليفا بما لا يطاق و لا يجب عليه تحصيل الظن بذلك لأن المطلوب هو اليقين بها و التدين بها و الفرض عدم قدرته عليه و ليس المطلوب هو الظن بها. (و التحقيق أن يقال) ان المطلوب هو التدين بالمعارف الإلهية و عقد القلب عليها عن دليل، فان تمكن من تحصيل الدليل الصحيح في نظره بحسب جهده و طاقته عقد قلبه على مؤداه سواء حصل الظن بها أم لا و إذا لم يتمكن من تحصيل الدليل عليها المعتبر بحسب نظره لم يجب عليه أن يتدين بها و لا يعقد قلبه عليها و إنما يجب عليه أن يعقد قلبه بما هو الواقع إجمالا و يتدين بالواقع إجمالا، و من هنا ظهر لك أن الميزان هو التمكن من تحصيل الدليل الذي هو صحيح عنده بحسب قدرته حتى لو كان الدليل أمارة شرعية معتبرة عنده في المقام، و أما الآيات الناهية عن الظن كقوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. فالجواب عنها هو الجواب عنها في الأحكام الفرعية.

(و أما الجهة الثالثة) فيرتب عليه آثار الإسلام إن أقر بالشهادتين و لم ينكرهما مع احتمال مطابقة اعتقاده لما أقر به فيرتب عليه آثار الإسلام، و أما إذا لم يقر بهما أو أقر بهما و لكن يعلم أنه ليس عن عقيدة فلا يرتب

عليه آثار الإسلام و لا آثار الكفر إلا إذا جحد و أنكر و ذلك لما تقدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 140

من رواية محمد بن مسلم ص 88 و للأخبار ص 93. و رواية محمد بن يحيى ص 95، و قد تقدم ثبوت الواسطة بين الإسلام و الكفر ص 127 (و الجحود يتحقق) بإظهار الجزم بعدم الثبوت أو التشكيك في الثبوت بعنوان الجحود و الإنكار، و أما لو كان بعنوان الاستفهام و طلب المعرفة و اليقين كمن يستفهم عن الدليل فيكون ذلك من قبيل البحث و النظر فهو جائز و لا يقتضي الكفر، نعم يكون من أهل الواسطة بين الكفر و الإسلام.

الخطاب المولوي لا يكون في بعض المعارف الإلهية

(عاشرها) إن من المعارف الإلهية ما لا يمكن أن يتعلق بمعرفتها أو التدين بها التكليف الإلهي

و الخطاب المولوي كوجود الباري و النبوة لأنه قبل معرفتها و التدين بها لا يكون الخطاب و التكليف محركا و باعثا على ذلك لعدم ثبوت مولوية المشرع كي يكون خطابه باعثا على الامتثال فيكون لغوا و بعد معرفتها و التدين بها يكون الخطاب بها من قبيل تحصيل الحاصل فيكون باطلا.

و أما غيرها كالامامة و المعاد و نحو ذلك فيمكن أن يوجه التكليف و الخطاب المولوي بوجوب التدين بها و معرفتها علما أو ظنا.

المتمكن من اليقين بالمعارف الإلهية و إن نظره له دخل في إيمانه

(الحادي عشر) إن المتمكن من تحصيل الدليل الذي يفيد اليقين و العلم بالعقائد الإلهية

يتكلم فيه في مقامين:

(أحدهما) في جواز تركه الدليل المذكور و الرجوع الى الأدلة الظنية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 141

(و الثاني) في حكمه الوضعي لو ترك تحصيل الدليل المذكور.

أما الكلام في المقام الأول فنقول: انه يجب عليه التفحص بمقدار ما يحصل له الدليل المفيد لليقين و العلم، و لا يكفي ما يفيد الظن و الدليل على ذلك ما تقدم ص 107 من ما دل على وجوب النظر فإنه ظاهر في النظر المفيد للعلم لأنه مع التمكن منه و الاكتفاء بالنظر المفيد للظن كان نظره ليس بنظر، و ما دل على وجوب العلم ص 107 و ما دل على ذم اتباع الظن بل حتى لو كان الظن مما قام الدليل على اعتباره لم يجز اتباعه لأن الامارة المعتبرة إنما يصح الاعتماد عليها بعد الفحص و عدم الظفر بالدليل المخالف لها و الفرض انه متمكن من العلم بالواقع فلا بد له من الاطلاع على الدليل المفيد للقطع لاحتمال انه مخالف للأمارة فاذا اطلع عليه كان العمل به لا محالة.

(و أما الكلام في الثاني) فهو مسلم إذا لم يظهر انه ظان و

انه يحتمل الخلاف مع إقراره بالشهادتين لأنه لو أظهر أنه ظان و محتمل للخلاف كان جاحدا، و أما انه مؤمن أم لا، فالظاهر عدم إيمانه لأنه لم يفحص حتى يعقد قلبه من دليل معتبر و لعدم حجية الظن لانفتاح باب العلم له. و من هذا ظهر أن النظر و الاستدلال له دخل في الايمان باعتبار أن الايمان هو التدين القلبي عن دليل لا عن تقليد كما تقدم ص 103.

ما علم عدم الفتوى به فعلا

(الثامن من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) هو ما علم عدم فتوى المجتهد به بالفعل

كما لو علم برجوعه عن فتواه بالحكم أو أنه لم يعمل نظره في الحكم و إن كان يعلم بأنه لو نظر فيه لأدى نظره الى ذلك لعدم شمول أدلة التقليد لذلك إذ لم يكن حينئذ المجتهد عالما بالحكم و أدلة التقليد ظاهرة في رجوع الجاهل الى العالم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 142

مضافا الى الإجماع على عدم جواز التقليد في ذلك. نعم لو علم بكونه مفتي بهذا الحكم بالفعل و لو بمعونة الاستصحاب صح تقليده فيه، و أما اشتراط العلم بكونه متذكرا لمستند الحكم حال أخذه منه فقد تقدم عدم اعتبار ذلك فيه ج 1 ص 265.

الأمور الثابتة عند العامي بالدليل المعتبر

(التاسع من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الأحكام الثابتة عند العامي بطريق آخر غير التقليد

كالامارة المعتبرة عنده حتى لو كان من باب الانسداد و حتى لو كان من جهة التقليد كما لو قلد من يقول بجواز التجزي في الاجتهاد فإنه إذا اجتهد المتجزي في الحكم و حصل الامارة المعتبرة عليه عنده لم يجز له تقليد الغير فيما قامت الامارة عليه عنده. و الدليل على ذلك هو ما ذكرناه من عدم جواز تقليد العارف بالمسألة لغيره ج 1 ص 173 و ما ذكرناه في مسألة التجزي ج 1 ص 187.

الأمور الثابت فسادها عند العامي بالدليل

(العاشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الاحكام الثابت عنده فسادها بالدليل المعتبرة

حتى من باب الانسداد لما تقدم ج 1 ص 173 و ج 1 ص 177 و لا عبرة بالظن بالفساد إذا كان الظن غير معتبر لأنه بمنزلة العدم. (نعم) من قال باعتبار التقليد من باب الظن لا بد من اعتباره عدم الظن بالفساد بل يلزمه وجود الظن بالحكم إذ لو لم يحصل له الظن من الفتوى لم يكن ينفعه التقليد لعدم حصول ملاك حجيته و هو الظن بالحكم عنده.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 143

مسائل التقليد

(الحادي عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) مسائل التقليد
اشارة

و لا بد أن يرجع للاحتياط أو الاجتهاد فيها كنفس مسألة جواز التقليد و لزوم تقليد الأعلم، و عدم جواز تقليد الميت، و جواز العدول، و جواز البقاء على تقليد الميت، و غيرها. أما المجتهد فيها أو من له ملكة الاجتهاد فيها فعدم جواز تقليده للغير فيها واضح لما تقدم من عدم جواز تقليد من كان مجتهدا أو له ملكة الاجتهاد لغيره. و أما عدم جواز تقليد العامي فيها لغيره، فلأنه لو جاز التقليد فيها لزم الدور و ذلك لأن جواز التقليد في مسائل التقليد موقوف على أن يقلد في مسألتنا هذه و هي مسألة جواز التقليد في مسائل التقليد إذ لو لا ثبوتها عند العامي لما جاز له أن يقلد في تلك المسائل. و مسألتنا هذه إنما تثبت عند العامي إذا ثبت عنده جواز التقليد في سائر المسائل التي منها مسألتنا فيلزم الدور.

(إن قلت) فعليه ما ذا يصنع العامي؟ (قلنا) إن مسألتنا هذه ثابتة عند العامي بالضرورة و انسداد باب العلم إن تمَّ عنده و السيرة إن كانت حجة لديه، فالعامي مجتهد في مسألتنا هذه و إذا ثبت اجتهاده و معرفته لهذه المسألة أعني جواز التقليد

في سائر المسائل فقد ثبت عنده جواز التقليد في سائر مسائل التقليد. و عليه فينبغي تخصيص عدم جواز التقليد في نفس مسألة جواز التقليد في المسائل دون سائر مسائل التقليد الأخرى.

(إن قلت) إذا كان مجتهدا في هذه المسألة فهو له قوة الاجتهاد في باقي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 144

مسائل التقليد فلا يجوز له التقليد فيها (قلنا) لو تمَّ ذلك لما صح التقليد أصلا لحصول القوة له على ذلك فالإشكال مشترك الورود و (الحل له) إن مسألة أصل جواز التقليد بديهية واضحة نظير مسائل العقائد الدينية فالاجتهاد فيها سهل و إن أبيت فقل العلم بها سهل بخلاف باقي المسائل فإنه من الصعوبة بمكان و طالما زلت به الاقدام.

[البحث عن أن مسائل التقليد أصولية أم فرعية]

(إن قلت) إن مسائل التقليد مسائل أصولية لأن مسائل كل علم ما يبحث عن عوارض موضوعه و موضوع علم الأصول هو الدليل الفقهي و لا ريب أن قول المجتهد و فتواه دليل على الحكم الفرعي. و مسائل التقليد تبحث عن عوارض فتوى المجتهد و رأيه. (قلنا) لا دليل على المنع من جواز التقليد في المسائل الأصولية و أدلة التقليد تشملها إلا إذا حصل ما يمنع من ذلك كما لو كان العمل بها يتوقف على الفحص كالأصول العملية في الشبهة الحكمية و مسألة حجية الخبر. و فيما نحن فيه لم نجد مانعا من التقليد.

(إن قلت) إن أدلة جواز التقليد مجملة لا يمكن التمسك بعمومها لمثل هذه المسائل (قلنا) لا نسلم ذلك. و لو سلمنا، فالمسائل المذكورة هي من القدر المتيقن دخولها كمسائل الأحكام الفرعية لعدم قدرة العامي على الاجتهاد فيها و صعوبة مأخذها و انحصار الطرق لمعرفتها به. و ما كان من هذا القبيل فهو

قدر متيقن دخوله.

جواز العدول عن تقليد المجتهد لغيره

(الثاني عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الأحكام التي يكون العامي مسبوقا بتقليد مفت آخر فيها
اشارة

فإنه لا يجوز العدول عنه لمجتهد آخر إلا إذا تبدل رأي المجتهد فيها أو مات أو كفر أو فسق. و لا بد لنا في توضيح المقام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 145

و تحقيقه من ذكر الصور له و بيان الحكم فيها فنقول:

[صور العدول من مجتهد لآخر]
اشارة

(الأولى) هي أن تكون المسألة التي قلد فيها قد عمل بها على طبق تقليد صحيح عنده يعدل فيها الى تقليد مجتهد آخر بالنسبة إلى نفس العمل المتحقق سابقا نظير ما إذا قلد مجتهدا في جواز الوضوء بالمضاف فتوضأ و صلى به ثمَّ عدل الى مجتهد آخر في حكم ذلك الوضوء و تلك الصلاة، و كذا لو أوقع عقدا أو إيقاعا على رأي مقلده الذي قلده تقليدا صحيحا في نظره ثمَّ عدل الى مجتهد آخر في ذلك العقد و الإيقاع الذي أوقعه سابقا.

(الثانية) هي أن يعدل الى مجتهد آخر بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة التي أوقع الماضي منها على طبق قول مفتيه الذي قلده تقليدا صحيحا في نظره نظير ما تقدم من الأمثلة بالنسبة للأعمال المستقبلة كأن يعدل لمجتهد آخر في مسألة الوضوء بالمضاف بالنسبة إلى وضوءاته و صلواته الآتية و هكذا في العقود و الإيقاعات.

(الثالثة) أن يعدل عن تقليد مجتهد لآخر بالنسبة إلى مسائل أخرى و أعمال أخرى نظير من قلد مجتهدا في الصلاة ثمَّ قلد مجتهدا آخر في الزكاة ثمَّ هذه الصور الثلاثة تكون على قسمين: (أحدهما) أن يكون العدول في زمان حياة المجتهد الأول. (و ثانيهما) أن يكون العدول بعد وفاته فتكون هذه الصور ستة و كل من هذه الصور الستة تارة تكون مع تبين عدم صلاحية الأول للتقليد أو أفضلية الثاني بأن تبين فساد تقليده للمجتهد الأول بالعلم

أو الدليل المعتبر كأن قامت الامارة على انه فاسق أو غير مجتهد أو مخطئ في فتواه أو الثاني أفضل منه أو مع عدم تبين ذلك له فتبلغ الصور اثنى عشر و كل هذه الصور مع عدول المجتهد الأول عن رأيه أو مع عدم عدوله فتبلغ الصور إلى أربع و عشرين صورة و يتضح الحال في هذه الصور في التكلم في مسائل:

(الأولى) مسألة جواز العدول مع التساوي من جميع الجهات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 146

(الثانية) مسألة جواز العدول عن تقليد المجتهد الذي مات بعد تقليده له و تسمى بمسألة البقاء على تقليد الميت و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيها في ما يعتبر في المفتي.

(و الثالثة) مسألة جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيها فيما يعتبر في المفتي.

(و الرابعة) مسألة تبدل رأي المجتهد و قد تقدم الكلام فيها مفصلا.

(و الخامسة) مسألة تبين فساد تقليد العامي و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى الكلام فيها في أحكام التقليد فينحصر الكلام هنا في مسألة جواز العدول مع التساوي من جميع الجهات فنقول:

جواز العدول مع التساوي من جميع الجهات

ذهب غير واحد إلى حرمة العدول عن التقليد من مجتهد الى مجتهد آخر مساوي له في جميع الشروط، فاذا قلد العامي مجتهدا في مسألة لا يجوز الرجوع الى غيره مساوي له و قد نقل الإجماع على ذلك عن الحاجبي و العضدي و صاحب النتائج و هذا كله فيما إذا لم تكن فتوى المجتهد الثاني موافقة للاحتياط فإنه يجوز العدول عن الأول الى الثاني لأن الاحتياط حسن على كل حال (و في الحقيقة) لا يكون هذا رجوع اليه و إنما هو عمل بالاحتياط كما أن محل الكلام هو صورة الاختلاف في الفتوى،

أما مع الاتفاق فيها فلا إشكال في جواز الاعتماد على فتوى الثاني لكونها لم تخرج عن الحجية إذا عرفت ذلك فنقول: انه لا كلام لهم في الأعمال الماضية فإنه لا يجوز العدول عندهم فيها إجماعا مضافا لما تقدم منا في مسألة تبدل رأي المجتهد ما يدل على صحة الأعمال الماضية و إنما الكلام في الأعمال المستقبلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 147

فنقول: إن الكلام تارة في وظيفة العامي و أخرى في حكم الواقع الشرعي، أما وظيفة العامي حيث انه عاجز عن الفحص عن الأدلة فيرجع لعقله و عقله لا يجوّز له العدول لحصول اليقين بالبراءة بتقليد الأول و الشك في البراءة بالتقليد الثاني و العقل حاكم بوجوب الأخذ بما يفيد براءة الذمة و الخروج عن عهدة التكليف و المنع عما لا يفيد ذلك لاحتمال الضرر معه و هو العقاب و إن شئت قلت الأمر دائر في المقام بين ما هو مقطوع الحجية و هو قول المجتهد الأول و بين مشكوك الحجية و هو قول المجتهد الثاني. و الشك في الحجية كما قرر في محله كاف في عدم جواز الأخذ بها لأن الأصل عدم جعل الحجية له و لأنه لا يوجب العمل بها الأمن من العقاب. (نعم) بعد رجوعه للأول لو أفتى له المجتهد الأول بجواز العدول عنه الى غيره جاز له العدول لكون فتواه حجة عند العامي و هكذا لو أفتى له المجتهد الثاني جاز له تقليده فيها فيعدل إلا إذا احتمل عدم جواز تقليده للثاني في هذه الفتوى أو كان الأول قد أفتى بحرمة العدول و قد قلده العامي في هذه الفتوى فلا يجوز له العدول.

(إن قلت) قد تقدم أنه لو

قام عند العامي الدليل المعتبر في نظره على الحكم الشرعي لا يجوز له التقليد فيه و في هذا المقام قد دل عقله على عدم جواز العدول فلا يعدل و لا يجوز له تقليد المجتهد الأول في هذه المسألة لما عرفت مما تقدم أنه لا يجوز للعامي أن يقلد المجتهد فيما ثبت عنده بالدليل الصحيح (قلنا) هذا صحيح فيما لم تكن الفتوى واردة على الدليل الذي عنده و الدليل عند العامي فيما نحن فيه هو دوران الأمر بين التعيين و التخيير و الفتوى بجواز العدول ترفع عنه هذا الدوران و تعين أن حكمه هو التخيير. (أما الحكم الشرعي للعدول عن مجتهد الى آخر) فقد ذهب بعضهم الى جوازه كما حكاه صاحب الفصول عن بعض معاصريه و حكي ذلك عن المحقق الثاني و الشهيد الثاني و العلامة في الجعفرية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 148

و المقاصد العلية و النهاية و حكى القول به السيد أحمد الحسيني عن الشيخ أسد اللّه الشوشتري. و ذهب بعضهم الى عدم الجواز و هو المشهور، و المحكي عن ظاهر التهذيب و شرحه و الذكرى، و عن الشيخ الأنصاري (ره).

[أدلة المجوزين للعدول من مجتهد لآخر]
اشارة

و استدل المجوزون للعدول بوجوه:

(أحدها) استصحاب بقاء التخيير

فإنه كان للعامي التخيير بأخذ أي الفتويين شاء قبل التقليد لأحدهما و بعد الأخذ بإحدى الفتويين يشك في بقاء هذا التخيير فيستصحب بقائه.

و أجيب عن الاستصحاب (أولا): بمعارضته بقاعدة الاشتغال المقتضية لتعيين الأخذ بقول من قلده أولا بتقريب أنه القدر المتيقن في براءة ذمته لدوران الأمر بين التعيين بأخذ قول من قلده أولا و التخيير بينه و بين قول المجتهد الثاني الذي يريد العدول اليه و (قد تقرر قاعدة الاشتغال) بوجه آخر و هو إنا نعلم بحجية فتوى المجتهد الذي اختاره المقلد و نشك في حجية قول الآخر و في مثله يبنى على عدم حجية من شك في حجيته (و بتقرير ثالث) أن الواقع منجز عليه للعلم الإجمالي بالأحكام فيجب عقلا إما إتيانه أو إتيان ما جعل امتثالا له و مبرئا للذمة منه و الآتي بالفتوى للمجتهد الثاني لم يكن محرزا للإتيان بالواقع و لا بما جعله الشارع امتثالا له. (و فيه أن) الاستصحاب مقدم على قاعدة الاشتغال لأنه باستصحاب التخيير يزول الدوران المذكور و يثبت التخيير.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثانيا): بعدم تماميته فيما لو كان المجتهد الأول حال تقليده له منحصرا به التقليد ثمَّ وجد بعد هذا مجتهد آخر فان التخيير لم يكن ثابتا له أولا حتى يستصحب (و فيه). أن وجوب التقليد الثابت له كان بنحو يقتضي التخيير بمعنى أنه لو وجد مجتهد في عرض ذلك المجتهد لجاز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 149

تقليده فهذا الوجوب بهذا النحو هو المستصحب لأنه هو المتيقن و هذا نظير ما إذا وجب عليه أحد خصال الكفارة لانحصار الأمر به فإنه لو تمكن من فعل الآخر فعله و

لا يستصحب الوجوب التعيني له لأن وجوبه كان ثابتا له بنحو يقتضي التخيير لو تمكن من الفرد الآخر.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثالثا) بأنه معارض باستصحاب الحجية الفعلية التعيينية لفتوى من قلده أولا و استصحاب وجوب العمل بها لأنها قد صارت حجة فعلية تعيينية بعد تقليده له فيها. (و لا يخفى ما فيه) فأنا لا نسلم أنها صارت تعيينية بعد التقليد فيها لأنه لا دليل على أن الاختيار لها موجب لتعيينها و يكون بمنزلة المرجح لها على غيرها و استصحاب فعليتها لا ينافي بقاء الفتوى الأخرى على الفعلية التخييرية. (و الحاصل) إنا لا نسلم ثبوت التعيينية للحجة المختارة إذ ليس هناك موجب للتعيين إلا الاختيار لها و لا دليل على أن الاختيار موجب للتعيين بل الأصل عدم التعيين كما سيجي ء إنشاء اللّه في تقليد الأعلم.

و رد هذا الجواب الثالث بوجوه أخرى: (منها) ما عن المرحوم الشيخ الأنصاري بأن استصحاب التخيير حاكم على استصحاب الحجية التعيينية لأن الشك في كونه حجة متعينة عليه مسبب عن الشك في ثبوت التخيير بين الحجتين.

و أجاب عن هذا الرد بعض أساتذة العصر بأنه لا حكومة بينهما لأن الملازمة بين الحجية التخييرية و بين عدم الحجية التعيينية عقلية لا شرعية من باب أن وجود أحد الضدين يستدعي نفي الآخر عقلا و الحجة التخييرية تضاد الحجة التعيينية فعدمها لم يكن من الآثار الشرعية لبقاء الحجية التخييرية فلا يكون استصحاب الحجية التخييرية حاكما على استصحاب الحجية التعيينية لأن الحكومة إنما تكون على الآثار الشرعية لا العقلية. و عليه فيكون استصحاب كل منهما معارضا لاستصحاب الآخر. و لا يخفى ما فيه فان احتمال الحجية التعيينية إنما نشأ من جهة

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 2، ص: 150

كون التخيير الثابت بين الفتويين المتعارضين تخييرا ابتدائيا لا استمراريا فالحجية التعيينية عبارة عن كون التخيير المستفاد من الأدلة ابتدائيا و عدمها عبارة عن كون التخيير استمراريا و التعيينية المحتملة إنما هي من آثار التخيير لأن المحتمل منها هو التعيين بعد التخيير و ليس المحتمل منها هو التعيينية ابتداء حتى يكون احتمالها في عرض احتمال الحجية التخييرية و (بعبارة أخرى) إنا إنما نرجع الى استصحاب التخيير بعد فرض أن الأدلة الدالة على التقليد في حد ذاتها تقتضي التخيير و نشك في أنها تقتضي التخيير ابتداء أو استمرارا فنستصحب التخيير و يرتب عليه عدم التعيين لأن عدم التعيين على هذا الفرض من آثاره الشرعية لأن الشك فيه إنما كان من جهة أن الشارع رتب على هذا التخيير التعيين بعد اختيار أحدهما أم لم يرتب ذلك.

و (منها) ما رده به بعض المحققين بأنه لا معارضة بينهما لأن الحجية كانت ثابتة لما اختاره و لم تكن تمنع من حجية الآخر ابتداء فكيف تمنع نفس تلك الحجية عنها بقاءا. و (بعبارة أخرى) أن سنخ حجية ما اختاره لم يكن مانعا عن حجية الآخر فاستصحاب بقائها بل القطع ببقائها لا يمنع من حجية الآخر و لعله يرجع الى ما ذكرناه. (نعم) للخصم أن يقول إنا نحتمل أنه بعد اختياره لهذه الفتوى قد جعل الشارع لها حجية تعيينية بحيث لا يرضى الشارع بالعدول لغيرها و حينئذ فاستصحاب حجية ما اختاره ثابتة. و حجية الآخر مشكوكة و الأصل عدمها، و بذلك يثبت التعيين لما اختاره. (لا يقال) إن الأصل هو حجية الآخر لأنه قد كانت الحجية ثابتة له قبل الاختيار لأحدهما فالأصل بقائها بعد الاختيار. (قلنا) لا يجري الاستصحاب

لعدم إحراز الموضوع لأنا نحتمل أن موضوع الحجية هو من لم يتخذ طريقا للواقع.

(و أجيب رابعا عن استصحاب التخيير). إن التخيير بين الفتويين إن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 151

كان شرعيا يستفاد من الإجماع كما ذكره بعضهم أو من السيرة كما ذكره آخر أو من أدلة التخيير بين الأخبار المتعارضة كما ذكره ثالث فالموضوع للتخيير غير محرز لأنه مردد في الواقع بين ما هو مقطوع الارتفاع فيما إذا كان التخيير ابتدائيا و بين ما هو مقطوع البقاء فيما إذا كان استمراريا. و إن شئت فقل إن موضوع التخيير إن كان هو المتحير في وظيفته الشرعية فهو قد ارتفع باختيار احدى الفتويين لأنه يزول تحير العبد بذلك و إن كان الموضوع له من تعارض عنده الحجتان فالموضوع للتخيير باقي بعد اختيار أحدهما، فاستصحاب نفس التخيير لا يصح لعدم إحراز موضوعه. و لا استصحاب موضوع التخيير يصح لأن الاستصحاب الشخصي لا معنى له لتردده بين فردين قصير و طويل و استصحاب الفرد المردد بما هو مردد غير معقول و استصحاب الكلي لا أثر له حيث أن المفروض أن التخيير الاستمراري مرتب على أحد الفردين بخصوصه فاذن لا وجه لاستصحاب التخيير.

(إن قلت) نستصحب نفس التخيير و نقول قد حقق في محله أن المعتبر بقائه في الاستصحاب هو الموضوع العرفي لا الموضوع الشرعي، و الموضوع عند العرف للتخيير هو الفتويان المتعارضان و هو باقي بعد اختيار أحدهما. (قلنا) إنا لم نعرف الموضوع لهذا الحكم حتى ندرك بقائه عند العرف و عدم بقائه عندهم لتردده عندنا بين مقطوع البقاء و بين مقطوع الارتفاع، و لو سلمنا معرفته فهو موضوع لحكم أصولي من نوع الأمور الشرعية لا يدركه

العرف حتى يمكننا أن نجزم بأن العرف يرى بقائه.

(إن قلت) نستصحب موضوع التخيير بمعنى إنا نقول إن الموضوع الذي ثبت له التخيير سابقا نشك في بقاء شخصه فعلا فنستصحب بقائه. (قلنا) إنا نشك في بقائه لا من جهة الشك في بقاء شخصه بل من جهة عدم معرفته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 152

و تعيينه إنه من الأمور الباقية بعد اختيار إحدى الفتويين أو من الأمور الزائلة بعد الاختيار لها.

(إن قلت) إنا نتمسك بإطلاق أدلة التقليد فإنها تدل على حجية الفتوى سواء أخذ بمعارضها أم لا. (قلنا) هذا رجوع عن التمسك باستصحاب التخيير و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى بيانه في تعداد أدلة المجوزين للعدول و ستعرف إنشاء اللّه الجواب عنه هذا كله بناء على أن التخيير بين الفتويين ابتدائي شرعي.

و أما بناء على انه عقلي باعتبار أن الحاكم به هو العقل لأن أدلة التقليد تشملهما ابتداء و ليس المطلوب العمل بهما معا و ترجيح إحداهما بعينها على الأخرى بلا مرجح و الاحتياط ليس بواجب للسيرة و الإجماع و لاتفاق الفتويين المتعارضين على رفعه فيحكم العقل بالتخيير بينهما كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في تقليد الأعلم فنقول أيضا لا يجري الاستصحاب و لا في الحكم الشرعي المستند إليه لأن مجرد الشك فيه معناه ان العقل غير حاكم به فيقطع بارتفاعه حيث انه إن كان موضوعه موجودا فالعقل يستقل بحكمه و إن لم يكن موضوعه موجودا فهو مرتفع بارتفاع موضوعه و إن كان مشكوكا فهو لا يحكم به بعدم إحراز موضوعه.

(إن قلت) ان التخيير العقلي إنما يكون بملاحظة الحجية الثابتة لهما بواسطة عموم أدلة الحجية لهما و هكذا بعد اختيار إحداهما تكون ثابتة لهما، أما

ثبوتها للفتوى المختارة فواضح و أما ثبوتها للفتوى الأخرى فباستصحاب الحجية الثابتة لها قبل اختيار إحداهما و مقتضى ذلك ثبوت التخيير بينهما بحكم العقل كما في صورة ثبوته قبل اختيار إحداهما و هذا نظير استصحاب الوجوب أو الحرمة و ثبوت استحقاق العقاب عليهما بحكم العقل أو استصحاب عدمهما و ثبوت عدم الاستحقاق بحكم العقل. (قلنا) إن الاستصحاب لحجية الفتوى الأخرى غير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 153

جار لعدم إحراز بقاء الموضوع عند العرف لأن الحجية كانت ثابتة لها عند عدم الاعتماد على حجية أخرى أما بعد الاعتماد على حجية غيرها فيكون ممن يعلم بالواقع و لو تعبدا. (و قد يرد استصحاب التخيير على تقدير كونه عقليا) بأن العقل إنما أثبت التخيير للمتحيز في الطريق للواقع و عند عدم معرفته. و بعد الأخذ بإحدى الفتويين زال موضوعه و صار العبد غير متحير فكيف يستصحب التخيير مع زوال موضوعه المقوم له. (و لا يخفى ما فيه) فان موضوع حكم العقل للتخيير هو تعارض الحجتين فان العقل بعد أن رأى إنهما حجتان لشمول أدلة التقليد لهما و ليس لأحدهما أرجحية على الأخرى ليأخذها بعينها و لا يجب الاحتياط حكم بالتخيير بينهما فحكمه لم يكن من جهة تحيره و عدم معرفة الطريق للواقع فإنه عارف بأنهما كلاهما طريق عنده للواقع بل من جهة عدم مطلوبية العمل بهما معا. (نعم) يمكن أن يقال إن العقل إنما يحكم بالتخيير بين الحجتين المتعارضتين من جهة عدم اتخاذه طريقا للواقع فلو اتخذ طريقا للواقع لم يحكم بذلك و حينئذ فيكون الموضوع للتخيير العقلي هو تعارض الحجتين مع عدم اتخاذ طريق للواقع فلا يكون باقيا بعد اختيار إحداهما.

(و أجيب عن استصحاب

التخيير خامسا) كما يستفاد من تقريرات المرحوم آغا ضياء بأن التخيير الثابت في المقام ليس تخييرا في المسألة الفقهية كالتخيير بين خصال الكفارة فإنه يكون التخيير معه استمراريا و إنما هو تخيير في المسألة الأصولية لأنه تخيير في الأخذ بإحدى الحجتين طريقا للواقع و هذا يقتضي كون المأخوذ حجة تعيينية يتعين العمل بها بعد الأخذ بها و من هنا يعلم بأن التخيير ليس حكما مولويا يترتب العقاب عليه بل هو إرشاد إلى حكم العقل بوجوب الأخذ مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية على الواقع كما هو الحال في وجوب الفحص مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية. (و جوابه) إن هذا مصادرة على المطلوب فإنه نحتاج

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 154

الى الدليل على كون ذلك يقتضي كون المأخوذ حجة تعيينية لا يجوز العدول عنها في الوقائع المستقبلة.

(و أجيب عن استصحاب التخيير سادسا) إنه استصحاب في الشبهات الحكمية الكلية و لا نقول بجريانه فيها (و رده) إنا قد قلنا بجريانه فيها في محله.

(و أجيب عن استصحاب التخيير سابعا) بأنه بعد الالتزام بإحداهما صارت هي الحجة الفعلية و سقطت فتوى الثاني عن الحجية كما التزم به غير واحد في الخبرين المتعارضين فيكون الاختيار لإحداهما نظير المرجح لأحد الخبرين على الآخر و يمكن أن يستدل على ذلك بأن الفتويين المتعارضين لم يتساقطا رأسا و يرجع لغيرهما لكونه خلاف الإجماع و السيرة مع أنهما حجة في رفع ما عداهما بلا معارض لهما في ذلك و ليس كل منهما حجة لتكاذبهما و تنافيهما و لا أحدهما المبهم كما هو واضح و لا المعين لبطلان الترجيح بلا مرجح و لم يعين الشارع ما هو حجة فلا بد أن يكون الشارع قد أوكل

أمر الحجية لما يختاره المكلف من الفتاوى فتكون الحجية مشروطة بالاختيار للفتوى. (و فيه) انه سيجي ء إنشاء اللّه في بحث تقليد الأعلم إن أدلة التقليد تشمل كلا منهما و إن التخيير بينهما يحكم به العقل من جهة عدم مطلوبية الجمع في العمل بهما معا قطعا فتكون الفتوى الثانية باقية على حجيتها و لا دليل عندنا على أن الاختيار لأحدهما مسقط لحجية الفتوى الأخرى بالنحو المجعول لها بل هو عين المتنازع فيه.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثامنا) ان استصحاب التخيير استصحاب معلق لأن مرجع التخيير الثابت سابقا إلى أنه لو اختار إحدى الفتويين كان حجة عليه فحجية فتوى المجتهد الثاني معلقة على الاختيار. (و فيه) انه سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 155

تقليد الأعلم من ان الحجية ثابتة للفتويين معا نعم يتم هذا على مسلك من يذهب الى أن الاختيار من قبيل المرجح.

(و أجيب عن استصحاب التخيير تاسعا) انه معارض باستصحاب الحكم الفرعي الذي ثبت في حقه من جهة الأخذ بفتوى المجتهد الذي قلده أولا.

(و فيه) ان استصحاب التخيير حاكم عليه لأن الشك في بقاء الحكم الفرعي المأخوذ مسبب عن الشك في بقاء التخيير. (و قد أجاب) المرحوم الأصفهاني عن استصحاب الحكم الفرعي أنه لا حكم فرعي على بعض وجوه الطريقية. (و فيه) انه لو تمَّ لما صح استصحاب كل حكم قامت الامارة عليه على بعض تلك الوجوه مضافا إلى أن اليقين المأخوذ في الاستصحاب يعم اليقين التعبدي سلمنا لكن أدلة التنزيل للظن منزلة اليقين تثبت هذا الأثر للظن المعتبر و هو استصحاب مؤداه.

(و أجيب عن استصحاب التخيير عاشرا) ان التخيير الثابت في المقام حدوثا ليس تخييرا في المسألة

الفرعية واقعا كما في التخيير بين خصال الكفارة و المواطن الأربعة لأنا نعلم إجمالا بعدم ثبوت أحدهما واقعا، و أيضا ليس هو تخييرا ظاهريا لأن موضوع الحكم الظاهري هو الشك في ثبوت الحكم واقعا و نحن لا نحتمل في صورة اختلاف الفتاوى، إننا مخيرون بين القصر و الإتمام كي يثبت في حقنا التخيير الظاهري بل الثابت هو التخيير بين الحجج الذي نسميه بالتخيير في المسألة الأصولية و هو يقتضي إناطة فعلية الحجة باختيار المكلف و هذا من خصائص التخيير في الحجج و إلا فالحجية في غير مورد المعارضة لا تناط فعليتها باختيار المكلف بل بنفس الوصول تكون فعلية إذا عرفت ذلك ظهر لك انه قبل الاختيار لإحداهما كانت كل منهما حجة شأنية و بعد الاختيار لإحداهما صارت المختارة حجة فعلية و يشك في زوال الحجية الشأنية عن الأخرى بحيث بالاختيار لا تكون حجة فعلية فمقتضى استصحاب التخيير ثبوت ذلك لها و يعارضه أمران

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 156

استصحاب الحجة الفعلية للفتوى التي اختارها في الأول و استصحاب الحكم الشرعي الذي قد دلت عليه الفتوى المختارة في الأول. و لا يخفى ما فيه لما عرفته من أن الحجة الفعلية ثابتة لكلا الفتويين المختلفتين و إن الاختيار لإحداهما ليس بمرجح و قد عرفت ان استصحاب التخيير حاكم على استصحاب الحجية الفعلية و على استصحاب الحكم الشرعي، بل قد تقدم عدم المنافاة بين استصحاب التخيير و استصحاب الحجة الفعلية لأن المستصحب الحجة الفعلية التخييرية لا التعيينية لأنها هي المتيقنة سابقا. (نعم) الجواب هو عدم تمامية استصحاب التخيير لعدم إحراز بقاء الموضوع عرفا كما تقدم في الجواب الرابع عن استصحاب التخيير.

(و أجيب عن استصحاب التخيير

حادي عشر) بأن الأدلة الدالة على التخيير إنما توجب التخيير. و الوجوب إنما يقتضي تحقق الطبيعة و هي تتحقق بفرد واحد فاذا اختار إحداهما. فقد امتثل الأمر و إذا امتثل الأمر فقد سقط فيحتاج بقاء التخير إلى أمر جديد و الأصل عدمه فلا مجال لاستصحاب التخيير بل الاستصحاب جار في وجوب العمل بما اختاره في الزمان الأول. (و لا يخفى ما فيه) لأن وجوب التخيير موضوعه كلما وجد توجه الأمر به و موضوعه تعارض الحجتين و هو يوجد كلما تجددت الواقعة فإنه عند الابتلاء بالواقعة مرة ثانية أيضا تتعارض عنده الحجتان.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثاني عشر) ان التخيير هنا عقلي حكم به العقل و هو إنما يثبت للمتحير و قد زال تحيره باختياره احدى الفتويين لأنه صار له حجة و طريق للواقع و ليس للتخيير دليل لفظي حتى يرجع لإطلاقه و لو كان لم يكن له إطلاق مسوق لذلك كذا استدل استاذنا الشيخ كاظم أعلى اللّه مقامه على عدم جواز العدول. (و لا يخفى ما فيه) فإنه من استند في التخيير للإجماع أو السيرة أو لأدلة التخيير في الأخبار المتعارضة يكون التخيير عنده شرعيا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 157

و من استند في الحكم بالتخيير الى أن أدلة التقليد تشمل الفتاوى المتعارضة فتكون دالة على حجيتها و العقل يحكم بالتخيير فيها لعدم إمكان العمل بها نظير المتزاحمين فيكون العقل إنما يثبت التخيير لمن تعارض عنده الحجتان لا للمتحير و هو باقي لم يزول باختيار المكلف احدى الحجتين. نعم الأولى أن يقال أنه بناء على أن التخيير قد حكم به العقل، فالعقل إنما يحكم في المقام بالتخيير عند تعارض الحجة مع عدم اتخاذ

طريق للواقع. و العبد لما اختار إحداهما صار عنده طريق للواقع فلم يكن الموضوع موجودا.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثالث عشر) ما ذكره السيد أحمد الحسيني النجفي (ره) و حاصله أن التخيير إنما يكون في العلم بالحكم قبل الأخذ بقول المجتهد و العمل به فهو مخير في أخذ قول أيهما شاء و جعله طريقا لعلمه و معرفته بالحكم لأن العامي المقلد إذا اختار قول أحد المجتهدين و أخذ منه الفتوى حصل له صغرى و هي هذا ما أفتى به المفتي ثمَّ يضم إليها كبرى قام عليها الإجماع و الأدلة و هي كلما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقي فيصير باختياره أحد القولين عارفا و عالما بالحكم الشرعي فيتعين عليه العمل بما علم و يحرم عليه تركه للأدلة الدالة على وجوب العمل بالعلم على وجه العموم و الإطلاق الشامل للمجتهد و المقلد و عليه فلا يجوز العدول عنه لأنه لازمه عدم العمل بما علم. (و دعوى) أن العلم الذي دلت الأدلة على وجوب العمل به هو العلم الحقيقي و علم العامي المقلد علم تنزيلي فلا تشمله تلك الأدلة. (فاسدة) إذ لو لم يصدق العلم على مثل علم المقلد و لم تشمله إطلاقات العلم لزم عدم شمولها لعلم المجتهد لأنه أيضا علم تنزيلي يحصل من الامارات الظنية فمن يقول بذلك لزمه أن لا يعد نفسه من العلماء و لا يتم له القول بأن مداد العلماء كدماء الشهداء و يكذب كل من عرف الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية و لا يسمى هذا الفقه علما و إن أبيت عن ذلك فنقول إن العامي المقلد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 158

بعد ترتيبه القياس المذكور يحصل

له العلم بحكمه الظاهري كالمجتهد يحصل له العلم بالحكم الظاهري باستفادته من الامارة و يكون أخذ العامي بفتوى المجتهد كأخذ المجتهد للرواية فظهر أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالعلم تشمل العامي المقلد بعد أخذه لقول المجتهد و حينئذ فيحرم أن يأخذ بغيره و يعمل به و لا يجوز له التخيير.

(إن قلت) إن التخيير هنا يكون كالتخيير بين خصال الكفارة ألا ترى ان المجتهد إذا تعارض عنده الدليلان على تعيين القراءة أو التسبيحات في الأخيرتين مثلا و كان الدليلان متساويين ليس لأحدهما مرجح كان بالخيار في الأخذ بأيهما شاء فلو قرأ الفاتحة في صلاة يجوز له التسبيح في الأخرى كما هو الفتوى فهكذا حال العامي المتردد بين المجتهدين المتساويين. (قلنا) إن التخيير إن كان من جهة قيام نص خاص عليه كما في خصال الكفارة فيثبت منه تكليف خاص فيكون مخيرا تخييرا استمراريا و أما إن كان التخيير من جهة حكم العقل فالتخيير ابتدائيا فما اختاره يكون الحكم في حقه و لا يجوز العدول عنه للاستصحاب و لما ورد من أن حلال محمد (ص) حلال الى يوم القيامة و حرامه حرام الى يوم القيامة و لا دليل على تخصيص هذا العموم الاستمراري بل الضرورة الإسلامية حاكمة بأن الحكم الشرعي مطلقا أوليا كان أو ثانويا لا يتغير و لا يتبدل و لا يرفع و لا ينسخ بعد انقطاع الوحي كما هو الحال في زمان الغيبة بل هو باق انتهى ملخصا بتوضيح منا ثمَّ بعد هذا ذكر المستدل المذكور السيد أحمد الحسيني انه اجتمع بالمرحوم الفقيه الفاضل الشيخ أسد اللّه الشوشتري و كان يذهب الى جواز العدول فأورد الشيخ (ره) عليه بما حاصله إن ما ورد من أن

حلال محمد (ص) حلال و ما قامت عليه الضرورة ان الحكم واحد لا يتغير هو ناظر الى حكم اللّه الواقعي النفسي الأمري و بعد حدوث سقيفة بني ساعدة انقطعت يدنا عنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 159

و حدث حكم اللّه الظاهري و هو دائر مدار العناوين و الاعتبارات ألا ترى إن المجتهد إذا أدى نظره الى حكم شرعي جاز له تجديد النظر فإذا أدى نظره الى خلاف الأول فهل يمكن أن يقال إن الحكم الثاني فاسد لأن حلال محمد (ص) حلال و لأن الضرورة قامت على أن الحكم واحد فكذا الحال هنا فإن العامي المقلد إذا اختار تقليد المجتهد في مسألة كانت فتواه حكم اللّه في حقه ما دام باقيا عليه فاذا عدل عنه و رجع الى الآخر و اختار قوله صار ذاك حكم اللّه في حقه فالتخيير هنا استمراري نظير التخيير في أمارات القبلة بعد تعارضها و تساويها فان المكلف إذا اختار أحدها في صلاته جاز له اختيار الأخرى في صلاة أخرى بل في تلك الصلاة لو أبطلت فكما جاز التخيير الاستمراري في أمارات الموضوعات فليجز في أمارات الأحكام. و أجاب السيد (ره) عنه بما حاصله ان العقل لما كان حاكما بالتخيير بين القولين ابتداء فيكون اختيار أحدهما مرجحا شرعيا فاذا اختار أحدهما حصل له صغرى القياس و هي هذا ما أفتى به المفتي فيضمه الى الكبرى المذكورة فينتج هذا حكم اللّه في حقي و لا يصح بعده أن يضم هذا المرجح و هو الاختيار لقول المجتهد الثاني لأنا مأمورون بحكم اللّه الواقعي النفسي الأمري و تحصيله بأي نحو كان و إنما عدلنا إلى أخذ قول المجتهد للضرورة و هي تقدر

بقدرها و قد ارتفعت الضرورة باختيار قول المجتهد الأول و حصل العلم بالتكليف و هو يجب العمل به لما تقدم من أن الأدلة تدل على وجوب العمل بالعلم و حينئذ فلا يبقى تكليف بوجوب تعلم الحكم حتى يرجع للمجتهد الأخر بل مقتضى وجوب العمل بقول المجتهد الأول هو المنع عن العمل بقول المجتهد الثاني انتهى بتوضيح و تنقيح منا. (و الجواب عنه) ان كلامه يرجع الى الاستدلال بأمور ثلاثة:

(الأمر الأول) انه يجب العمل بالعلم و لازم ذلك المنع من العمل بغيره و العامي قد حصل له العلم بتقليده المجتهد الأول فيجب أن يعمل بقوله و لازمه المنع عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 160

العمل بقول غيره، و لا يخفى ما فيه فان وجوب العمل بالعلم هو أمر عقلي لأنه عبارة عن حجية العلم و هي بحكم العقل لا بجعل جاعل و من المعلوم أن العقل لا يمنع من التماس طريق يحصل العلم بالحكم غير الطريق الأول بدليل انه يجوز للمجتهد أن يجدد رأيه في المسألة مع انه قد حصل العلم بها و وجب العمل به.

و بدليل أنه يجوز للعامي المقلد أن يجتهد و يحصل العلم الحقيقي أو التنزيلي بالمسألة فالعقل حاكم بجواز تحصيل العلم مرة أخرى بالمسألة نعم لا يوجب ذلك و الخصم في المقام يقول بجواز الرجوع للمجتهد الثاني هذا مع أن حكم العقل بوجوب العمل بالعلم مقيد بما دام العلم موجودا و لم يحكم العقل بوجوب إبقاء ذلك العلم فالخصم يدعي ان العلم الأول الحاصل من تقليد المجتهد الأول لا يجب إبقائه و يجوز العدول الى علم آخر حاصل بتقليد المجتهد الثاني.

(الأمر الثاني) ان حلال محمد (ص) حلال ليوم القيامة

و هذا العامي بتقليده للمجتهد الأول صار الحكم في حقه هو ما دل عليه فتواه فيبقى ليوم القيامة و العدول الى الغير ينافي بقاء الحكم مستمرا، و لا يخفى ما فيه فان حلال محمد (ص) إنما هو في الحكم الواقعي النفسي الأمري لا الحكم الظاهري و بالتقليد أو الامارة المعتبرة لم يحصل العلم بأنه الحكم الواقعي النفسي الأمري و لو فرضنا انه حصل له العلم ثمَّ التمس المكلف طريقا فانقلب علمه الى العلم بحكم آخر فيرى أن حلال محمد (ص) هو هذا الحكم الآخر لا الأول فالمكلف العامي عند رجوعه للمجتهد الآخر يكون تقليده الأول باطلا و طريق الحكم هو قول المجتهد الثاني و يرى أن حلال محمد (ص) هو مؤدى قول الثاني مضافا الى انه لو تمَّ للزم عدم صحة الاجتهاد بعد التقليد و عدم صحة تجديد النظر.

(الأمر الثالث) هو ان الضرورة تقدر بقدرها و قد ارتفعت الضرورة بالرجوع للأول، و فيه ما لا يخفى انه أي ضرورة في البين و إنما الشارع جعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 161

طريقا للعامي و هذا الطريق موجود هنا و هناك و كان ترجيح أحدهما على الآخر باختياره فللمكلف أن يختار أيهما شاء عند الابتلاء بالواقعة إلا إذا ثبت المنع من اختيار الآخر.

(الدليل الثاني للمجوزين للعدول) هو استصحاب صحة تقليد الثاني

الذي يريد أن يعدل إليه فإنه قبل اختيار أحدهما كان تقليده لمن يريد أن يعدل اليه صحيحا فيستصحب هذه الصحة و هكذا استصحاب جواز تقليده و هكذا أصالة عدم اعتبار المزية و المرجحية في تقليده للأول بالعمل بفتواه و أصالة البراءة من حرمة العدول و أصالة البراءة من التعيين لفتوى المجتهد الأول و أصالة عدم مانعية فتوى المجتهد الأول عن حجية

فتوى الثاني.

(إن قلت) انه باختيار أحدهما صار ذا مزية على الآخر و محتمل الأهمية فيكون مقطوع الوجوب و الآخر مشكوك الوجوب و الأصل عدم وجوبه فيتعين وجوب ذي المزية. (قلنا) إن حجية الفتوى إن كانت من باب السببية فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المتزاحمين. و احتمال التعيين الناشئ من احتمال الأهمية بسبب الأخذ بالفتوى لا يوجب إلا احتمال فعلية الطلب بعينه و ذلك لا يوجب تعيين وجوب الأخذ به لجريان البراءة العقلية عنه لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. و بعبارة أخرى انه بناء على السببية فالطلب الخطابي بالنسبة لكل واحد ثابت و فعليتهما معا بنحو التنجيز غير معقول لعدم القدرة على امتثالهما و أصالة البراءة عن العقوبة على ترك كل منهما بالخصوص محكمة فيحكم العقل بالتخيير و جواز العدول.

(إن قلت) إنا نقطع بفعلية الخطاب في فتوى الأول لأن مانعيتها عن الأخرى محتملة دون مانعية الأخرى لها فإنها غير محتملة كما هو الفرض، و إذا قطعنا بفعليتها بعينها لم يجري أصل البراءة عنها و جرى أصل البراءة في الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 162

للمجتهد الآخر. (قلنا) القطع بفعلية الخطاب في فتوى الأول لا يوجب القطع بتعيينها فيجري أصل البراءة عن تعيينها لحكم العقل بقبح العقاب على مخالفتها بالخصوص سواء قلنا ان الحكم و تعيينه عبارة عن الإرادة أو هو البعث الاعتباري المنتزع من الإنشاء بداعي جعل الداعي هذا كله بناء على السببية، و أما بناء على الطريقية فاستصحاب كون الثاني مبرئا للذمة من أول الأمر يوجب أن يكون معلوم الحجية شرعا فلا يتعين وجوب ما اختاره أولا.

(و جوابه) إن استصحاب صحة تقليد الثاني أو جواز العدول اليه أو جواز

تقليده أو حجية فتواه غير جاري لما عرفت من عدم إحراز بقاء الموضوع عرفا في الجواب الرابع عن استصحاب التخيير. و أما باقي الأصول التي ذكرها المستدل فهي لا تثبت حجية فتوى المجتهد الثاني الذي يريد أن يعدل اليه فلا بد من التماس دليل على ذلك و هو اما الاستصحاب لحجيتها و قد عرفت ما فيه و أما إطلاق أدلة التقليد و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى ما فيها عند التعرض للدليل الرابع للمجوزين للعدول.

(الدليل الثالث للمجوزين للعدول) انه بالعدول قد تحصل الموافقة القطعية

فيما لو كان حكم الواقعة منحصرا بين حكم المجتهد الأول و حكم المجتهد الثاني. (و جوابه) انه مضافا الى عدم لزوم ذلك في سائر الموارد انه قد يلزم المخالفة القطعية و هي محرمة بحكم العقل لحصول القطع بالعصيان معها بخلاف الموافقة القطعية فإنها غير واجبة في المقام إذ لم يذهب أحد إلى وجوب العدول.

(الدليل الرابع لهم)

و الذي يظهر من المرحوم الأصفهاني اعتماده عليه أن أدلة التقليد أما (اللفظية منها) فهي مطلقة و عامة بالنسبة إلى سائر أقوال المجتهدين الجامعين للشرائط بمعنى أنها تدل على جواز الأخذ بقول المجتهد الجامع للشرائط مطلقا سواء أخذ بقول غيره من المجتهدين الجامعين للشرائط أم لا و مقتضى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 163

ذلك جواز العدول أما وجه الإطلاق في الأدلة اللفظية فهو أن مثل آية النفر تدل على وجوب العمل بقول الفقيه على القوم سواء عمل القوم قبل هذا بفتوى مجتهدا آخر أم لا و نظير هذه الآية قوله (ع): فللعوام أن يقلدوه و هكذا قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ*. فان موضوعها عدم العلم بالواقع و هو موجود بعد الأخذ بإحدى الفتويين. و أما (الأدلة اللبية منها) كالفطرة و السيرة و دليل الانسداد فلأن موضوعها الجاهل المتحير الذي لا يعرف الواقع النفس الأمري و لا ريب أن العامي بتقليده للمجتهد الأول باقي على تحيره بالنسبة للواقع إذ لم يحصل له العلم بالواقع و إنما صار منقادا لما يراه مجتهده فالأدلة المذكورة تقتضي جواز أخذه بقول المجتهد الثاني الجامع للشرائط و جواز العدول عن الأول. (و جوابه) ان الأدلة اللفظية للتقليد ليس لها إطلاق من هذه الجهة فإن آية النفر ناظرة إلى وجوب التفقه

و الى وجوب الحذر عند الإنذار أما انه يجب الحذر مرة أخرى من شخص مساوي للمنذر الأول و يترك الحذر من المجتهد الأول فالآية بعيدة عنه. و أما رواية: «فللعوام أن يقلدوه». فهي ناظرة إلى وجوب التقليد من دون نظر لصورة ما إذا قلد سابقا أم لم يقلد و أما آية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* فإنه من الواضح انها ليست ناظرة إلى صورة ما إذا سأل أهل الذكر بحيث تدل على سؤالهم مرة أخرى في نفس المسألة التي سئل عنها أولا. هذا مضافا الى إمكان دعوى ان المستفاد من أدلة التقليد اللفظية ان الموضوع فيها و لو بمناسبة الحكم للموضوع هو المتحير لا من قلد أولا و عرف الواقع بالتقليد أو بالحجة المعتبرة بل لعل ذلك هو المتبادر و المنصرف اليه من سائر الامارات و يؤيده أن قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* ظاهر في عدم العلم كلية بالواقع و هو من لم تكن حجة له معتبرة على الواقع حتى بالسؤال منهم سابقا لوضوح أن هذه الآية لا تأمر بالسؤال مرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 164

ثانية في نفس المسألة لمن سأل عنها و عرف حكمها و إلا لزم وجوب تكرر السؤال عن المسألة الواحدة من أهل الذكر الى أن يحصل العلم و هذا لا يلتزم به المستدل و أما الأدلة اللبية فالقدر المتيقن من موضوعها هو المتحير في الوظيفة الشرعية و بعد الأخذ بإحدى الفتويين زال تحيره في وظيفته الشرعية. فلا تدل على جواز تقليد العامي مرة ثانية في المسألة، و دليل الانسداد في باب التقليد إنما يوجب حجية الظن مع عدم الطريق للواقع و انسداد الواقع على المكلف و العبد بتقليده

المجتهد الأول كان الواقع عنده منفتحا فلا يصح الأخذ بقول المجتهد الثاني من جهة دليل الانسداد و لا تجري مقدمات الانسداد في حقه مرة أخرى.

(إن قلت) ما ذا تقول في حجية الخبر من باب الانسداد فان من عمل بالخبر من هذا الباب تجري فيه مقدمات دليل الانسداد مرة ثانية بالنسبة للخبر المعارض المساوي. (قلنا) لا نسلم جريانها بعد الأخذ بمعارضة.

(إن قلت) بناء على السببية يكون المقام من قبيل تزاحم الواجبين و يكون مقتضى القاعدة استمرار التخيير لأن حكم العقل بالتخيير في أول الأمر إنما هو من جهة وجود المصلحة المأمور بها في العمل بكل منهما و عدم رجحان احدى المصلحتين على الأخرى عند الشارع و هذا المناط موجود فيهما بعد الأخذ بإحداهما. (قلنا) إنه إذا كان دليل الحجية لا يعلم شموله لما بعد الأخذ بإحداهما فلا يحرز المناط إلا بالاستصحاب كما تقدم توضيحه. و بعبارة أخرى احتمال التعيين في الفتوى المأخوذة موجود لا يرفعه إلا استصحاب التخيير و قد تقدم الكلام فيه في الدليل الأول و قد أجاب بعضهم عن هذا الدليل الرابع بأن المعارضة بين الفتاوى موجبة لسقوط أدلة التقليد في موردها فلا إطلاق لها بالنسبة إليها و فيه انه سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في مبحث تقليد الأعلم عدم سقوطها في مورد المعارضة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 165

(الدليل الخامس لهم) [إطلاق أخبار التخيير العلاجية]

إن التخيير إنما يستفاد من الأخبار العلاجية و هي مطلقة تشمل التخيير ابتداء و استمرارا لأن موضوعها من جاءه خبران متعارضان. (و جوابه) إنا لو سلمنا استفادة ذلك منها و إلحاق تعارض الفتويين بتعارض الخبرين فهي إنما تدل على ثبوت التخيير اما انه بدوي أو استمراري فليست ناظرة إليه.

(الدليل السادس لهم) [ابتدائية التقليد في كل واقعة ابتلى بها]

ان التقليد و قول المجتهد المقلد ليس يوجب ثبوت الحكم الشرعي و إنما يوجب جواز العمل به بالنسبة إلى الوقائع الخاصة فيكون التقليد في كل واقعة ابتلى بها تقليدا ابتدائيا فيتخير فيها في الرجوع الى أي مفت شاء لعدم ثبوت حكم معين في حقه بالنسبة إليها ظاهرا و بعبارة أخرى ان الجاهل إذا شك في حكم واقعة لم يجب عليه الرجوع الى المجتهد إلا في حكم تلك الواقعة الجزئية من دون اعتبار أن يقلده في نظائرها مما هي أفراد للمسألة الكلية لأن محل ابتلائه هي هذه الواقعة الجزئية الخاصة و الواقعة الثانية قبل الابتلاء بها لا دليل على تأثير التقليد فيها و لا على شرعيته بالنسبة إليها بل الدليل قائم على عدم مشروعيته بالنسبة إليها لأن التقليد إنما هو مقدمة للعمل و إذ لا عمل فلا أمر به حتى تجب مقدمته و من هنا التزم بعضهم بأن من قلد مجتهدا يجوّز العقد بالفارسية فاعتمد عليه و عقد فلا يجوز له العدول لغيره ممن لا يجوّز ذلك بأن لا يرتب آثار الزوجية من الاستمتاع و النفقة و القسمة و نحوها و إنما يجوز له العدول لغيره في عقد امرأة أخرى فلا يعقد عليها بالفارسية و قد نسب بعضهم هذا القول لصاحب الجواهر. (و الجواب عنه) إن قول المجتهد المقلد نظير الامارة المعتبرة يثبت به الحكم الشرعي و

يكون مؤداه هو حكم اللّه في حقه فيكون بأخذه لقول المجتهد قد قلده في سائر الوقائع التي هي جزئيات لموضوع الحكم الشرعي الذي دل قول المجتهد عليه كما هو ظاهر أدلة التقليد و لقيام الإجماع على عدم لزوم تجديد تقليده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 166

بالنسبة لكل واقعة واقعة من مصاديق موضوعه و أيضا يلزم من ذلك جواز تقليده لمجتهدين مختلفين في الفتاوى دفعة واحدة في واقعتين من مورد واحد مثلا عنده مائان مضافان بماء الورد و كان مجتهدان أحدهما يفتي بجواز الوضوء من ماء الورد و الآخر يمنع منه فهو يقلد أحدهما في هذا الماء الورد و الآخر في ذاك الماء الورد دفعة واحدة فيتوضأ من أحدهما و يتيمم مع الآخر عند فقدان الماء لأن كل منهما تقليد مستقل مع أن أدلة التقليد لا تساعد على ذلك و لا يلتزم به أحد.

(الدليل السابع لهم)

و هو ما ذكره المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني رحمه اللّه. و حاصله ان حجية فتوى المجتهد إن كانت من باب الطريقية فتكون منجزة للواقع عند الإصابة و معذّرة عند المخالفة و مع فرض التعارض لا معنى لمنجزية كل منهما لمخالفة إحداهما للواقع قطعا فتزول لكن كون كل منهما معذرة عن الواقع بمعنى مسقطة للعقاب لا مانع منه و لا موجب لرفع اليد عنه بل لا بد من الالتزام به للإجماع على عدم سقوط الفتويين و عدم الرجوع الى غيرهما عند فرض انحصار الطريق للعامي بالرجوع للفتوى بل لا مانع من استفادته من نفس دليل الحجية لأن التعارض يمنع عن تصديق دليل الحجية من حيث منجزية الطريقين للواقع و لا يمنع التعارض من تصديق دليل الحجية من حيث معذرية

كل من الطريقين و كون كل واحد منهما مبرئ للذمة إذا ظهر لك ذلك و إن معنى حجيتهما كون كل منهما معذرة مع دوران العقاب على مخالفتهما فاذا شك بعد العمل بإحدى الفتويين في تعيين ما أخذ به عليه أم كل من الفتويين باقية على معذريتها شرعا كان مقتضى الاستصحاب بقائهما و منه تعلم أن استصحاب الحكم المأخوذ سابقا لا يوجب تعيينه لأنه كان ثابتا سابقا و لم يكن ثبوته مانعا من ثبوت الآخر فكيف يمنع عن ثبوته بقاء بل بناء على الطريقية كما هو فرض الكلام ليس هناك حكم شرعي فعلي بل الثابت منجزية الفتويين و معذريتهما و من المعلوم أن منجزية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 167

الفتوى المعمول على طبقها و معذريتها لا تمنع عن منجزية الأخرى و معذريتها و كل منهما في عرض الآخر و ليس هناك حكم بنحو التخيير من الشارع غير هذين الحكمين أعني الحجية الثابتة لكل منهما بل حتى لو قلنا بأن الطريقية جعل الحكم المماثل على طبق الموافق للواقع فمع فرض بقاء هذا الحكم في صورة التعارض يكون مرجع الأمر بالتخيير بقوله (ع): «اذن فتخير» الى جعل الحكم على طبق كل من الخبرين تخييرا كما أن مرجع الأمر بالأخذ بالراجح الى جعل الحكم على طبقه فعلا. و عليه فاستصحاب الحكم المختار لا يوجب تعيينه على المكلف لأن الحكمين المجعولين على طبق الفتويين لا يعقل أن يكونا بنحو التعيين فعليا لمكان المعارضة فلا محالة تحقيقا للالتزام بهذا أو ذاك يجب أن يكون الحكمان فعليين تخيريين هذا كله على القول بحجية الفتوى من باب الطريقية، و أما إن كانت من باب الموضوعية بجعل الحكم المماثل على طبق

كل من الفتويين فحال الحكمين حال الواجبين المتزاحمين فان فرض تخيير من الشارع كان مولويا لا إرشاديا الى ما حكم به العقل فالصحيح منه جعل الحكم المماثل على كل منهما بنحو التخيير فيجب القصر و الإتمام مثلا بنحو التخيير فاستصحاب الحكم المختار بل القطع به لا ينافي استصحاب الحكم الغير المختار و القطع به. و إن لم يكن تخييرا من الشارع فلا مجال لاستصحاب التخيير العقلي و لا يمنع استصحاب الحكم المأخوذ عن ثبوت الحكم الآخر لأن كل منهما ثابت بنحو لا ينافي ثبوت الآخر و حكم العقل بالتخيير بين تطبيق العمل على هذا أو ذاك لا يوجب تصرفا في الحكم الشرعي و لذا صح تطبيق العمل على كل منهما. (و الجواب عن ذلك) إن هذا يرجع لاستصحاب التخيير و قد تقدم الكلام فيه و كان اللازم عليه هو تصوير ثبوت الحجية للمتعارضين في عرض واحد و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى بيانه منا في تقليد الأعلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 168

أدلة المانعين من العدول عن تقليد مجتهد الى آخر
اشارة

و أما الذين منعوا من العدول فقد استدلوا بعدة أدلة:

(أحدها) الإجماع المنقول

عن ابن الحاجب و العضدي و العميدي و المحقق القمي. (و فيه) ان هذه المسألة على ما ذكره صاحب المناهج لم تر في كتب أصحابنا إلا في كتاب العلامة و قليل من المتأخرين منه و محض اختيارهم لا يثبت الإجماع مع حكاية الخلاف عن المحقق الأول و الثاني و عن العلامة في النهاية و عن الشهيد الثاني حيث حكي عنهما جواز العدول مع أن ثبوت الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم (ع) في هذه المسألة التي لم يكن في عصر الامام (ع) لها عين و لا أثر مما لا سبيل اليه.

(الثاني) إنا لو جوّزنا العدول لاختل النظام

و يكون الحكم الشرعي كيفي باختيار العبد فيقلد ما وافق هواه في كل حين و دواعي الناس تختلف آنا فآنا. (و أجيب عنه) ما حاصله أن جواز العدول لو كان يوجب اختلال النظام لأوجبه في صورة موت المجتهد أو تجدد رأيه أو كفره أو فسقه مع انهم أفتوا بجواز العدول في هذه الموارد. و أورد عليه بأن في هذه الموارد لا يوجب الاختلال لوقوعها قهرا و نادرا بخلاف ما نحن فيه فإنه يكون بالدواعي النفسانية. و الحق في الجواب أن يقال إن ذلك لا يوجب الاختلال في النظام لأنه لا شك ان كل مجتهد يرجع له جماعة في فتواه مع عدم اختلال النظام و لو كان بالعدول يختل النظام لكان الواجب تقليد الناس شخصا واحدا.

(الثالث) [الأخبار]

ما تقدم من مقبولة بن حنظلة ص 31 فإنها من أدلة جواز التقليد و هي ظاهرة في عدم جواز الرد. و العدول نوع من الرد و هكذا سائر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 169

أدلة القضاء الدالة على عدم جواز رد حكم الحاكم إذا قلنا بأنها تدل على التقليد فهي تدل على عدم جواز العدول. (و فيه) انها لو دلت لاقتضى ذلك عدم جواز رد الفتوى من كل أحد كالحكم.

(الرابع) الاستصحاب لحجية فتوى المجتهد الأول

و استصحاب وجوب العمل بقوله و استصحاب الاحكام الفرعية المأخوذة منه دون الفتوى للمجتهد الثاني فإنه لا يجري فيها الاستصحابات المذكورة لعدم إحراز بقاء الموضوع عرفا كما تقدم في جواب أدلة المجوزين فالأصل عدم حجيتها بل لا نحتاج الى الأصل لأن مجرد الشك في الحجية كافي في رفعها. (و جوابه) كما قيل معارض باستصحاب التخيير. و لكنك قد عرفت عدم جريان استصحاب التخيير في الجواب عن أدلة المجوزين فيكون الاستصحاب لحجية فتوى المجتهد الأول جاري بلا معارض. و فتوى المجتهد الثاني مشكوكة فالأصل عدمها بل مجرد الشك في الحجية كاف في نفيها.

(الخامس) قاعدة الاشتغال

للتردد بين تعيين العمل بقول المجتهد الأول و بين التخيير بينه و بين قول المجتهد الثاني و الاحتياط واجب في مثله لدوران الأمر بين التعيين و التخيير. (و الجواب) عنها كما قيل ان استصحاب التخيير مقدم عليها و لكنه قد عرفت عدم تمامية الاستصحاب للتخيير لعدم إحراز بقاء الموضوع.

(السادس) لزوم المخالفة القطعية

فيما لو قلد مجتهدين في واقعة يذهب كل منهما الى خلاف الآخر بحيث بالعمل بالثاني يحصل له العلم بمخالفة الواقع كما لو قلد من يقول بأن المسافة أربعة فراسخ فصلى الظهر قصرا ثمَّ عدل الى من يقول بأن المسافة ثمانية فراسخ فصلى الظهر في ذلك المكان تماما فيلزم من ذلك المخالفة القطعية و هي محرمة فإذا لم يجز العدول في بعض الموارد لهذا المحذور فلا يجوز في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 170

الباقي لعدم القول بالفصل. (و جوابه) إنه لو أوجب لزوم ذلك في بعض الموارد المنع كلية للزم عدم جواز العدول عن الميت إلى الحي أو عند تبدل الرأي أو التمكن من الأعلم أو عند فسق المجتهد أو كفره أو جنونه أو نحو ذلك مضافا الى أن المخالفة القطعية التدريجية لا محذور فيها إذا قام الدليل على جوازها.

(السابع) إن الآيات و الأخبار الناهية عن التقليد

خرج عنها الأخذ بقول المجتهد الأول فيبقى الأخذ بقول المجتهد الثاني داخلا فيها فلا يجوز.

(و جوابه) إنا لا نسلم بقائه داخلا فيها بل هو أيضا خارج عنها بالعنوان الذي خرج به تقليد المجتهد الأول إلا إذا قلنا بعدم شموله له كما سيجي ء في الدليل التاسع لهم.

(الثامن) إن التقليد يتعلق بالمسألة الواحدة الكلية

لا بجزئياتها المتعددة لأنه أمارة معتبرة على ذلك و طريق للواقع و إلا لكان لكل واقعة جزئية تقليدا مستقلا و من المعلوم ان المسألة الواحدة لها حكم كلي واحد و حينئذ بعد عمل المكلف في تلك المسألة بقول من قلده إذا عدل الى المجتهد الثاني فأما أن يقلده في كلي المسألة فيلزم نقض آثار الوقائع الجزئية الماضية لهذه المسألة و هو باطل بالإجماع و أما أن يقلده في خصوص الوقائع المستقبلة فيلزم التبعيض في التقليد و لا دليل على جوازه. (و جوابه) أولا: بالنقض بالتبعيض في التقليد بالنسبة إلى الوقائع المستقبلة فإنه أكثر من أن يحصى كما في موت المجتهد أو كفره أو نحو ذلك. و ثانيا: بالحل فانا لو سلمنا أن مقتضى التقليد هو ذلك و إن الرجوع الى المجتهد الثاني يقتضي ذلك لكنا نمنع من تأثيره في الوقائع الماضية بواسطة الأدلة التي قامت على عدم تأثيره في الوقائع الماضية كالإجماع و نحوه.

(التاسع) [عدم شمول أدلة التقليد مرة ثانية للعامي الذي اختار إحدى الفتويين]

انه بعد أن اختار العامي إحدى الفتويين صار ممن له طريق و حجة على الواقع و خرج عن التحير و الجهل الذي هو موضوع أدلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 171

التقليد و المنساق منها فلا تشمله أدلة التقليد للغير بالنسبة لهذه المسألة مرة ثانية و بذلك تسقط فتوى المجتهد الثاني عن الحجية.

(العاشر) إن التقليد في حكم ينافي جواز العدول

لأن مقتضى جواز العدول ارتفاع حيثية الحكم الإلزامي فإن من قلد في وجوب شي ء لو جوزنا له العدول فمعناه إن الشي ء ليس بواجب و إنه غير ملزم به و هكذا من قلد في الحرمة لو جوزنا له العدول فمعناه ان الشي ء ليس بحرام عليه. (و قد أجاب عنه) الشيخ الأنصاري (ره) بما حاصله انه واجب ما لم يختر غيره و يعدل اليه. و فيه انه ما دام الأمر يرجع للاختيار فقد زال الإلزام عنه الذي هو حقيقة الحكم الإلزامي (و الحق أن يقال) إن جواز العدول يرجع الى تبدل الموضوع فلا ربط له بحيثية الحكم فان جواز العدول عبارة عن تبديل الأخذ من المجتهد بالأخذ من مجتهد آخر نظير المسافر يتبدل بالحاضر و لعل جواب الشيخ (ره) يرجع لما ذكرناه فتلخص ان الحق عدم جواز الرجوع عن المجتهد الأول في المسألة التي قلده فيها للدليل الرابع و الخامس و التاسع.

[الموارد التي يجوز العدول فيها من تقليد مجتهد لآخر]
اشارة

نعم ما يمكن أن يقال أو قيل فيه بجواز العدول موارد:

(أحدها) جنون العامي المقلد أو صغره

من الموارد التي يجوز العدول عن المجتهد الأول إذا أصاب العامي المقلد شيئا يوجب عدم تكليفه كما لو قلد العامي مجتهدا ثمَّ جن العامي ثمَّ عاد عقله له و هكذا لو قلد الصبي و قلنا بصحة تقليده لصحة عباداته ثمَّ بلغ فيجوز لهما العدول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 172

لأن التكليف يسقط عنهما فيكونان غير مكلفين بحرمة العدول و يتوجه إليهما من جديد وجوب التقليد فيثبت لهما التخيير ابتداء فيجوز أن يعدلا لغيره و لكن مقتضى الدليل الثالث للمنع من العدول و الخامس هو المنع من عدوله عنه مضافا الى أن الجنون عذر عقلي لا أنه رافع للتكليف فلو أوجب صحة العدول لكان النوم و الاغماء و الغفلة كذلك. و من هنا يعلم أن الطوارئ التي تطرأ على الإنسان فتوجب عدم تكليفه لا تقتضي جواز عدوله عن تقليده الأول بعد ارتفاعها عنه لأنها أعذار عقلية ترفع تنجّز التكليف عليه و عدم لزوم امتثاله لا انها تزيله عن أصله. و إن شئت قلت ان الأعذار العقلية لا ترفع الأحكام الوضعية فحجية فتوى مقلده تكون باقية بالنسبة إليه لأنها حكم وضعي و هكذا بالنسبة إلى الصبي مضافا الى جريان استصحاب حرمة العدول بنحو التعليق، و أما استصحاب التخيير فهو لا وجه له لان حال الجنون و حال عدم البلوغ ليس بمكلف بالتخيير لأن معنى التخيير هو الإلزام بالأخذ بأحدهما و عدم تركهما معا و قد تقدم ص 37 ما ينفعك هنا.

(ثانيها) فقد الشرائط المعتبرة في المفتي أو الفتوى أو المستفتي

من الموارد التي توجب العدول هو أن يفقد المفتي أو المستفتي أو الفتوى الشروط المعتبرة في صحة التقليد التي تقدم الكلام فيها و التي سيجي ء إن شاء اللّه تعالى الكلام فيها و لكن

هذا إنما يوجب العدول بالنسبة إلى الأعمال الآتية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 173

لا بالنسبة إلى الأعمال الماضية، اما انه يوجب العدول بالنسبة للأعمال المستقبلة فلأنه لا يصح تقليده فيها لفقد الشروط و إنما لا يوجب العدول بالنسبة للأعمال الماضية فلما تقدم في تبدل رأي المجتهد (ثمَّ إنه لو اعتقد فقد الشرائط) و عدل للغير ثمَّ ظهر اشتباهه و ان الشرائط موجودة في من قلده أولا وجب عليه الرجوع اليه و لا يبقى على الثاني لأن اعتقاد الخلاف عذر عقلي و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى إن الأعذار العقلية يجب معها الرجوع الى الأول عند زوالها.

(ثالثها) تبدل رأي المجتهد

و من الموارد الموجبة للعدول تبدل رأي المجتهد فيما قلده فيه كما تقدم فإنه يوجب العدول عنه في الأعمال المستقبلة دون الماضية فراجع مبحث تبدل رأي المجتهد.

(رابعها) ظهور عدم جامعية المفتي للشرائط من أول الأمر

و من الموارد الموجبة للعدول ظهور عدم جامعية المجتهد للشرائط من أول الأمر فإنه عليه يكون تقليده غير صحيح لعدم توفر الشروط المتوقف عليها صحة التقليد و يكون حكم العامي المقلد له حكم الجاهل القاصر إذا كان قد تفحص عن أمر تقليده لهذا المجتهد بمقدار اللازم أو حصل له العلم أو قامت عنده الامارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 174

المعتبرة على جامعيته للشروط كالبينة و الشياع. و حكم الجاهل المقصر لو لم يتفحص بالمقدار اللازم و لم تكن عنده أمارة معتبرة على جامعيته للشروط و قد تقدم حكم الجاهل القاصر و المقصر و إن كان التحقيق أن يقال انه حكمه حكم الجاهل في المعذورية و عدمها، و أما في مسألة الأجزاء و عدمه فان استند إلى أمارة مجعولة شرعا في الرجوع إليه كالبينة و نحوها كان عمله مجزي و إلا فلا لعين ما ذكرناها في وجه الاجزاء إذا تبدل رأي المجتهد، و لو اعتقد فقده للشرائط من أول الأمر فعدل الى غيره ثمَّ ظهر له الخلاف و انه كان جامعا للشرائط وجب رجوعه اليه و لا يبقى على تقليد الثاني كما تقدم في الأمر الثاني.

(خامسها) موت مقلده

و من الموارد الموجبة للعدول موت من قلده فقد ذهب الى ذلك جماعة و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى تحقيق هذا المقام عند الكلام في اشتراط الحياة في المفتي و لكن إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة اشتراط الحياة في المفتي فلا وجه لعده من الأمور الموجبة للعدول في مقابل الثاني و الرابع و إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة أدلة خاصة فهي غير موجودة فلا وجه له.

(سادسها) نسيان فتوى المجتهد

و من الموارد الموجبة للعدول نسيان فتوى المجتهد الأول و لا طريق له لمعرفتها فإنه يجوز العدول لفتوى المجتهد الآخر لشمول أدلة التقليد له في هذه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 175

الحال. (و توضيح الحال) إنه عند نسيانه لفتوى من قلده فيها يجب عليه الفحص لوجوب العمل بمؤداها عليه و هو يتوقف على معرفتها و هي تتوقف على الفحص عنها أما مقدار الفحص فالظاهر وجوبه الى حد الحرج حيث أن الحرج منفي في الشريعة فلا يجب عليه الفحص إلا بمقداره أو يحصل عنده اليأس من الظفر به و حينئذ فيجب عليه الرجوع في تلك المسألة، أما الى الاحتياط أو الى فتوى غيره و مقتضى أدلة التقليد هو رجوعه الى المجتهد الآخر لأن موضوعها من لم يتخذ طريقا للواقع و إنما كان لا يرجع له لأنه قد اتخذ طريقا للواقع و بعد نسيانه له لم يكن له طريق للواقع فلا تجي ء أدلة حرمة العدول المعتمد عليها و هي الرابع و الخامس و التاسع و لا يجب عليه الاحتياط لجواز تقليد الثاني له.

(إن قلت) انه إذا علم بأن فتوى الآخر كانت منافية للفتوى المنسية و كان تكاذب بينهما و قد تقدم الكلام

ان الفتوى المنسية كانت هي الراجحة بالاختيار لها فهي تكون مشمولة لأدلة التقليد دون الفتوى الثانية فالمقام نظير ما لو نسي فتوى الأعلم فإنه يرجع للاحتياط لا الى غير الأعلم، و هكذا لو نسي فتوى الحي المنحصر به الاجتهاد فإنه لا يرجع لفتوى الميت لخروجها عن أدلة التقليد، و هكذا مع الشك في منافاتها أيضا لا يجوز التمسك بأدلة التقليد لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية إلا (اللهم) أن يدعى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط إلا أن المحصل منه في هذه المسألة غير حاصل لقلة من تعرض لها و المنقول منه ليس بحجة (فإنه يقال) لو سلمنا أن الترجيح يتحقق بالاختيار لها فعند النسيان زال الاختيار لها نظير الأعلم إذا زالت عنه الأعلمية أو الحي إذا زالت عنه الحياة فإنه يرجع للفتوى المعارضة لفتواه إذا كان صاحبها أعلم منه في الصورة الاولى و إذا كان صاحبها حي في الصورة الثانية. و السر في ذلك هو وجود ما يخرجها عن أدلة الحجية لها فتزول مانعيتها فتدخل الأخرى فيها لعدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 176

المانع عن دخولها فيها.

(إن قلت) إن الاختيار إنما كان مرجحا ابتداء لا استمرارا لأن القدر المتيقن منه هو ذلك فاستصحاب حجية ما اختاره أولا جارية في المقام.

(قلنا) بعد نسيانه و عدم الظفر به بعد الفحص لا وجه للجعل لحجيته و طريقيته لكونه غير ممكن الكشف به عن الواقع. و لو سلمنا فالاستصحاب فيها لا يجري لأن الاستصحاب إنما يجري فيما هو متمكن من العمل به ليصح التكليف بعدم نقض اليقين بالشك فيه لا فيما لا يمكن العمل به و حينئذ فتزول مانعية الفتوى الاولى عن الفتوى الثانية فتدخل فتوى

الثاني في أدلة الحجية بلا مانع.

(إن قلت) إن اللازم حينئذ هو الرجوع الى الظن بفتوى المجتهد الأول لا الرجوع الى غيره لأن الظن بأن هذه هي فتوى المجتهد الأول يوجب الظن بأنه مبرئ للذمة فلا يجوز التنزل الى فتوى المجتهد الثاني المشكوكة الحجية لأرجحية الظن على الشك. (قلنا) هذا الظن إن كان حجة صح ما ذكر و أما إذا لم يكن حجة فلا دليل على اعتباره. نعم الاشكال فيما لو قلد المجتهد الآخر و عمل بفتواه بعد ما أيس من الظفر بفتوى المجتهد الأول ثمَّ ظفر بعد ذلك بفتوى المجتهد الأول التي قلده فيها فهل يبقى على الثانية أو يرجع للأولى قد يقال إنه يرجع الى الفتوى الأولى لأن النسيان عذر عقلي لا يغير الحكم و لا يزيله من أصله و إنما هو مانع من تنجزه نظير الغفلة و نظير نسيان الأمارة التي كانت حجة عليه و عدم ظفره بها فإنه بعد الظفر يرجع إليها و يفتي بمضمونها و (بعبارة أخرى) إن الأعذار العقلية لا ترفع الأحكام الوضعية فإن الفتوى الأولى كانت حجة عليه فنسيانها أو الغفلة عنها أو الجنون أو النوم لا يرفع حجتها عنه. (نعم) لا يتنجز مؤداها في حقه و نظير ذلك ما لو اعتقد موت مفتيه أو فسقه أو غفل عن تقليده له ثمَّ انكشف له الحال أو غير ذلك من الموانع لتقليده إياه (و لكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 177

التحقيق أن يقال) ان المولى تارة يكون التقييد في مراده كأن يكون مراده إكرام العلماء العدول و أخرى لم يكن التقييد في مراده و لكن التقييد إنما كان لحكم العقل بوجوب العمل بمراده كما لو قال إكرام

العلماء و لكن لم يتمكن العبد من إكرام العدول أو جهلهم أو نسيهم فالارادة الجدية متحققة بالنسبة إليهم و لكن لا يحكم العقل بوجوب امتثال التكليف بالنسبة إليهم. و المخصص من هذا القبيل إذا زال توجه الحكم اليه و لا معنى لاستصحاب عدم الحكم فيه لأن الإرادة الجدية متعلقة به فالأعذار العقلية كلها من هذا القبيل فبمجرد زوالها عاد الحكم إليها و لكن فيما نحن فيه لا يجي ء ذلك لأن النسيان أوجب خروج الاولى عن الأدلة و دخول الثانية فيها لما عرفت من أن المرجحية كانت بالاختيار و قد زال الاختيار لها و دخلت الثانية في الأدلة فعود الاولى يحتاج الى دليل. و من هنا ظهر لك صحة ما حكي عن الشيخ الأنصاري (ره) من انه في صورة ما إذا أخذ رسالة المجتهد و بنى على العمل بها بناء على كفاية ذلك في التقليد فتعذرت عليه مسائل تلك الرسالة فإنه يرجع الى الغير و لا يعود إلى الأول بعد رفع العذر.

(سابعها) أعلمية المجتهد الثاني و أورعيته

و من الموارد الموجبة للعدول هو صيرورة المجتهد الثاني أعلم أو أورع و سيجي ء إن شاء اللّه تحقيق ذلك في اشتراط الأعلمية و الأورعية في المفتي:

و لكن إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة ان المفضولية في العلم و الورع مانعة من التقليد للأقل علما و ورعا و انه يتعين تقليد الأعلم و الأورع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 178

فلا وجه لعده من موجبات العدول في مقابل الثاني و الرابع و إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة أدلة خاصة فهي غير موجودة.

(ثامنها) الأخذ بالفتوى بدون العمل بها

و من الموارد الموجبة للعدول ما لو قلد المجتهد و التزم بفتواه و لكنه لم يعمل بها فإنه يجوز له العدول الى غيره. و استدل على ذلك بعضهم بأن التقليد يكون عبارة عن العمل بقول الغير أو مجرد الأخذ بقول الغير و لكن العمل موجب للالتزام به فمع عدم حصول العمل لم يحصل الملزم بالتقليد فيجوز العدول و قد أجاب عنه بعضهم بأن أدلة المنع عن العدول لم يؤخذ في عنوانها التقليد فلا بد من ملاحظتها فنقول ظاهر بعضها اعتبار العمل مثل لزوم المخالفة القطعية. و لزوم اختلال النظام و لزوم نقض الآثار للأعمال السابقة و مثل الإجماع حيث انه دليل لي فيؤخذ بالقدر المتيقن منه و هو صورة حصول العمل. و ظاهر البعض الآخر عدم جواز العدول و لو لم يعمل مثل الاستدلال بمقبولة بن حنظلة. و الاستصحاب لحجية فتوى المجتهد الأول. و كون التخيير موضوعه من لا حجة له و قاعدة الاشتغال و هكذا الدليل السابع و التاسع (و الحاصل) ان الذي أخذ فتواه اما أن يكون هو الأعلم فهو الحجة في حقه على القول

بالترجيح بالأعلمية. و اما أن يكون مساويا لغيره فاختياره يوجب ترجيحه على غيره و حجية قوله في حقه بناء على أن الاختيار لأحد المتساويين موجب للترجيح و أما أن يكون أدنى فيجوز له العدول الى غيره إن قلنا بجواز العدول من الأدنى إلى الأعلى و أما مع الشك فلا يجوز له العدول لأنه شك في الطريق فمقتضى القاعدة هو الاشتغال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 179

و لم يحرز التخيير حتى يستصحبه. و أما مع الشك في صدور الفتوى منه عند اختياره لفتاويه على سبيل الإجمال بأن احتمل انه لم تصدر فتوى منه في هذه المسألة عند ما اختار فتاويه إجمالا بل كان له ملكة أو لا ملكة له فيجوز العدول الى غيره في هذه الواقعة لعدم ثبوت حجية فتواه فيها بالنسبة إليه فيكون شاكا في الطريق.

(تاسعها) الأخذ بالفتوى من باب الاحتياط

من الموارد المبيحة للعدول ما لو قلد المجتهد في فتواه بالاحتياط بأن كان المجتهد أفتى له بالاحتياط فإنه يجوز العدول الى غيره في الشبهة الحكمية خلافا للمحكي عن الشيخ الأنصاري (ره) و ذلك لأنه لم تشمله أدلة التقليد حيث أن المجتهد لم تكن له فتوى بحكم الواقعة و ليس هو من أهل العلم بحكمها حتى يجي ء وجوب رجوع الجاهل الى العالم و لا من أهل الذكر حتى يسأل عنها و (الحاصل) إن أدلة التقليد لا تشمل الفتوى بالاحتياط في الشبهة الحكمية فلا تكون حجة عليه و إنما صح له العمل بها لأنها مبرئة للذمة فهو و المقلد على حد سواء في عدم العلم بالحكم و عدم معرفته و لذا ترى أرباب الفتوى يجوزون الرجوع لغيرهم في موارد الاحتياطات من غير تفصيل بين العمل بها أو عدمه.

(نعم) في الشبهة الموضوعية كالجهل بالقبلة و تردد الماء النجس بين الإنائين لو قلده لا يجوز له العدول لأن حكم الواقعة هو ذلك فهو عارف بحكمها من الأدلة بخلاف الشبهة الحكمية فإنه لم يعرف الحكم لتعارض الأدلة أو لفقدها أو لإجمالها فهو يعمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 180

بالاحتياط من جهة كونه مؤمّنا له لا من جهة قيام الدليل عليه و لعله الى ذلك يشير ما ذكره بعضهم من انه لم يجعل الشارع حكما مماثلا في مورد الاحتياط في الشبهة الحكمية حتى يتعبد به العامي و يكون موردا للتقليد بل غاية الأمر ان المجتهد لم يعرف حكم الشارع الظاهري و لا الواقعي فيحكم عقله بأن المبرإ هو الاحتياط بعين ما يحكم به المقلد (و إن شئت قلت) إن المبرئية بالاحتياط معلومة حتى للمقلد فلا وجه للتقليد فيها.

(إن قلت) إنه يحتمل أن الاحتياط محرم لأن الامتثال به إجمالي (قلنا) المجتهد قد أفتى له بعدم حرمته أما مبرئيته فهي معلومة لديه فلا وجه لتقليده فيها مع انها ليست بحكم شرعي و إنما هي حكم عقلي و قد سبق انه لا يجوز التقليد في أحكام العقل، بخلاف الشبهة الموضوعية كالصلاة عند اشتباه القبلة فإن وجوب الاحتياط فيها حكم شرعي ظاهري و بهذا ظهر لك انه يجوز العدول عن فتوى المجتهد إذا عمل بها من باب الاحتياط إذ لا دليل على حرمة العدول.

و الأدلة الدالة على حرمة العدول لا تجي ء في المقام إذ لا تقليد للمجتهد بمجرد ذلك. و هكذا ظهر لك جواز العدول و لو عمل بفتوى الاحتياط و لكن لم يدر إنها فتوى إلزامية أو استحبابية من المجتهد.

التبعيض في التقليد

(الثالث عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الأحكام الشرعية التي يكون العامي قد قلد مفت آخر في بعضها
اشارة

بأن يأخذ ببعض الأحكام

الشرعية من مجتهد و بعضها من مجتهد آخر كما هو الظاهر من العامة و يسمى ذلك بمسألة التبعيض في التقليد و هي غير المسألة السابقة المسماة بمسألة العدول و الكلام يقع في مقامات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 181

(المقام الأول) في الفرق بين المسألتين [مسألة العدول و مسألة التبعيض]

و هو واضح فإن مسألة العدول هو أن يقلد المجتهد في حكم لموضوع سواء عمل به أو لم يعمل به ثمَّ يعدل عنه الى مجتهد آخر في نفس ذلك الحكم لذلك الموضوع فلا بد فيها من التعاقب في التقليد و مسألة التبعيض أن يقلد المجتهد في حكم لموضوع و يقلد الآخر في حكم لموضوع آخر سواء كان حكمين لمسألة واحدة كأن قلد أحد المجتهدين في استحباب القنوت في الصلاة و قلد الآخر في وجوب جلسة الاستراحة في الصلاة أو حكمين لمسألتين مختلفتين كأن قلد أحدهما في الصلاة و قلد الآخر في الزكاة و سواء كان التقليد لهما دفعة واحدة أو كان على التعاقب و من هنا ظهر لك أنه لو كان عنده مائان للورد فقلد القائل بجواز الوضوء في أحدهما و قلد القائل بعدم صحة الوضوء في الآخر فان هذه المسألة تكون من مسألة العدول لو كان التقليد للآخر بعد التقليد للأول على سبيل التعاقب و تكون من مسألة التبعيض لو قلد المجتهدين فيهما دفعة واحدة.

(المقام الثاني) إن محل الكلام في مسألة التبعيض في التقليد

هو صورة ما إذا أمكن العمل بكلا الفتويين كأن أفتى أحد بوجوب الصلاة و الآخر بوجوب الزكاة أما فيما إذا لم يمكن ذلك كما لو أفتى أحدهما باستحباب الشهادة الثالثة في الأذان و الآخر بحرمتها فهو خارج عن محل الكلام كما أن محل الكلام إنما هو في المجتهدين المتساويين أما إذا كان أحدهما أفضل أو أحدهما حي و الآخر ميت و قلنا بعدم جواز تقليد المفضول أو الميت فلا إشكال في عدم جواز التبعيض و لزوم الرجوع الى الحي و لزوم الرجوع الى الأفضل. و أما إذا كان أحدهما أفضل في قسم من الأحكام و الآخر أفضل في قسم

آخر من الأحكام فالحق وجوب التبعيض فيقلد كل منهما فيما هو أفضل من الآخر فيه في المسائل المختلف فيها بينهم بناء على سقوط حجية المفضول مع فتوى الأفضل إلا إذا لزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 182

من التبعيض المخالفة القطعية للواقع فلا يجوز التبعيض كما سيتضح لديك إن شاء اللّه تعالى.

(المقام الثالث) [الصور الثلاثة للتبعيض في التقليد]
اشارة

إن الكلام يقع في صور ثلاثة

(إحداها) التبعيض في التقليد في أحكام مختلفة لموضوعات مختلفة
اشارة

في أعمال مختلفة كأن يقلد مجتهدا في أحكام الصلاة و يقلد الآخر في أحكام الصوم و ظاهر العامة المنع منه خصوصا في هذا العصر و ظاهر الأصحاب الجواز

[أدلة المانعين من التبعيض]

و قد استدل القائلون بالمنع:

(أولا) بأصالة عدم جواز التقليد في هذه الصورة أعني صورة التبعيض (و جوابه) إن أدلة التقليد لو كانت منحصرة بالإجماع أمكن المنع و الأخذ بالقدر المتيقن و لكن منها السيرة و بناء العقلاء و الأدلة اللفظية و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى وجه دلالتها على ذلك.

(و ثانيا) بأصالة عدم جواز العمل بما وراء العلم خرج منها صورة الرجوع لمجتهد واحد و بقي الباقي و هو صورة التبعيض تحت الأصل (و جوابه) يعلم من الجواب عن الأول.

(و ثالثا) بقاعدة الاشتغال لدوران الأمر بين تعيين الأخذ بفتاوى أحدهم فقط و بين الأخذ بفتوى بعضهم في بعض المسائل و فتوى الغير في بعضها الآخر. (و جوابه) انه لا مجال لقاعدة الاشتغال مع وجود الأدلة على صحة التقليد في هذه الصورة.

(و رابعا) ما ذكره بعض محشي العروة في التعليق على مسألة ثلاثة و ثلاثين على قوله: «و يجوز التبعيض» بأنه مع اختلاف المجتهدين في الفتوى تسقط إطلاقات أدلة الحجية عن المرجعية و ينحصر المرجع بالإجماع فمشروعية التبعيض تتوقف على عموم الإجماع على التخيير بينهما لصورة التبعيض لكن لم يتضح عموم الإجماع و لم أقف على من ادعاه بل يظهر من أدلة بعض المانعين عن العدول في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 183

غير المسألة التي قد قلد فيها المنع عن التبعيض و مثلها دعوى السيرة عليه في عصر المعصومين (ع) فالتبعيض إذن لا يخلو عن اشكال. نعم بناء على كون التقليد هو الالتزام بالعمل

بقول مجتهد معين لا مانع من التبعيض لإطلاق أدلة الحجية إذ قد أشرنا في أوائل الشرح الى أن اختلاف المجتهدين في الفتوى لا يوجب سقوط أدلة الحجية على هذا المبنى انتهى. و الظاهر أن مراده إن الإجماع القدر المتيقن منه قيامه على التخيير بين المجتهدين المتساويين في الأخذ بجميع فتاويهم لا في التخيير في بعض فتاويهم. و لا يخفى ما فيه فإنه ستجي ء إن شاء اللّه تعالى أدلة المجوزين غير الإجماع ثمَّ ان الإجماع على جواز التبعيض قد ادعاه غير واحد كصاحب الضوابط و غيره. ثمَّ ان السيرة موجودة في عصر المعصومين عليهم السلام فان عوام الشيعة لم يكونوا في عصرهم (ع) يأخذون الأحكام من أحد أصحابهم (ع) فقط بل إذا أخذوا من واحد بعض الأحكام لم يختصوا به و رجعوا لغيره في غيرها. ثمَّ إنك قد عرفت ان التبعيض لا يلزم فيه الاختلاف في الفتوى فإنه يرجع الإنسان للمجتهد في مسائل و يرجع لآخر في مسائل أخرى سواء كانوا متخالفين أم متوافقين. مع انه قد عرفت في مسألة العدول عدم توقف ثبوت التخيير على الإجماع. مع ان التبعيض قد ثبتت مشروعيته عنده فيما كان أحدهما أعلم في العبادات و الآخر أعلم في المعاملات كما صرح به في مسألة 47 من مسائل العروة.

أدلة المجوزين للتبعيض

و استدل القائلون بجواز التبعيض:

(أولا) باستصحاب التخيير و يمكن أن يقال عليه إنا نشك في ان الجائز أولا هو أخذ كل واحد واحد من الأحكام عمن يريد و يختار منهم أم الجائز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 184

أخذ جميع الأحكام من أيهم شاء وحده و على الأخير فالاستصحاب لا يقتضي التبعيض و إذا شك في أن المقام من قبيل

الأول أو الثاني فلا ينفعنا التمسك بالاستصحاب لاحتمال كونه من الأخير. (و جوابه) إنا نعلم بأن التخيير ليس موضوعه أخذ جميع المسائل من أحدهم فإنه اما من جهة العقل و هو يحكم بالتخيير في كل مورد يختلف فيه الفتاوى أو من جهة النقل فإنه ظاهر في ذلك كما هو مورد قوله: «إذن فتخير» أو من جهة الإجماع فإن الإجماع إنما قام على عدم وجوب الاحتياط و عدم الرجوع للأصل و عدم الرجوع لفتوى الغير الفاقد للشرائط و هو يقتضي أن متعلق التخيير هو كل واحد من الفتاوى لا جميع الفتاوى فاذن موضوع التخيير هو أخذ كل واحد من الأحكام عمن يريد و يختار.

(و ثانيا) بالإجماع محققا و منقولا و لم يوجد مخالفا في ذلك. (و الجواب عنه) ان المحصل غير حاصل لإهمال جملة من العلماء التعرض لهذه المسألة و المنقول منه ليس بحجة.

(و ثالثا) بناء العقلاء فان بناءهم في مقام الرجوع الى أهل الخبرة ليس على الرجوع الى واحد منهم فقط في الأمور المتعددة.

(و رابعا) إطلاق ما دل على لزوم التقليد مثل آية السؤال فإنها تدل على جواز السؤال من واحد أو متعدد، و آية النفر و غيرهما من أدلة التقليد.

(إن قلت) هذا إنما يدل على جواز التبعيض في غير المسائل المختلف فيها، أما المسائل المختلف فيها فهي لتكاذبها لا تشملها أدلة التقليد. (قلت) لا نسلم ذلك و لو سلمناه فعلى القول بأنها تشمل ما اختاره من الأقوال يكون الاختيار هو المرجح و مقتضى ذلك جواز التبعيض فإنه لما رجع المرجح الى اختياره فهو إن شاء اختار في هذه الفتوى هذا الشخص المجتهد أو ذاك الآخر. هذا كله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص:

185

ما لم يلزم من ذلك المخالفة القطعية بتبعيضه للتقليد بأن علم بأن واحدا من هذه الأحكام التي قلد فيها مخالف للواقع كأن قلد أحدهما في التقصير في الصلاة على على أربعة فراسخ و قلد آخر في الصوم على وجوب الإفطار على ثمانية فراسخ و لكن هذا خارج عن محل البحث فإنه حتى لو قلد شخصا و علم بمخالفة أحد أحكامه للواقع إجمالا يجي ء هذا الكلام و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى الكلام في أن لزوم المخالفة القطعية الإجمالية تمنع من التقليد أم لا و أما لو لزم المخالفة القطعية لرأي كل من المجتهدين كما في صورة ما إذا أفتى أحدهما بجواز الصلاة بسقوط القرص و حرمة الإفطار بسقوط القرص حتى ذهاب الحمرة المشرقية و الآخر بالعكس فأفتى بحرمة الصلاة بسقوط القرص و جواز الإفطار بسقوطه فقلد كل منهما في فتواه في الجواز فصلى و أفطر بسقوط القرص فالظاهر أيضا لا مانع من التبعيض للأدلة المذكورة الدالة عليه و دعوى ان هذا نظير خرق الإجماع المركب. مدفوعة بأن كل قول من الإجماع المركب ليس بحجة و إنما الحجة هو ما اتفق عليه القولان من نفي الثالث بخلاف ما نحن فيه فان كل من الفتويين حجة و يصح العمل بها.

(الصورة الثانية) من صور التبعيض هي التبعيض في التقليد في أحكام مختلفة لموضوعات مختلفة في عمل واحد

فتارة لا يلزم من ذلك مخالفة لمن قلده كأن قلد زيدا في عدم وجوب القنوت في الصلاة، و قلد عمرا في عدم وجوب الإقامة في الصلاة، فالصلاة التي يأتي بها بدون اقامة و بدون قنوت ليست مخالفة لأحدهما و تارة يلزم من ذلك المخالفة القطعية للواقع بأن يقطع بأن عمله مخالف للواقع قطعا كما لو فرض كثرة المجتهدين الأحياء و قلد في مثل الصلاة في كل

جزء مختلف فيه و كل شرط مختلف فيه بقول من يقول بعدم الوجوب و في كل مناف من المنافيات المختلف فيها بقول من لا يراه منافيا بحيث يقطع أن صلاته بهذه الصورة ليست من الدين كأن قلد من قال بعدم وجوب السورة و قلد آخر يقول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 186

بعدم وجوب التشهد، و قلد ثالث بعدم وجوب القنوت، و قلد رابع بعدم مانعية الفعل الكثير، و قلد خامس بعدم مانعية قول آمين الى غير ذلك. و قد عرفت في الصورة الاولى أن مثل هذا خارج عن محل البحث فإنه لو قلد مجتهدا واحدا و كان يفتي بذلك فعمله باطل أيضا لأن التقليد طريق للواقع و مع العلم بعدم تحصيل الواقع به تبطل طريقيته و تارة يلزم من ذلك المخالفة القطعية لكل من قلده مثلا كان مجتهدان أحدهما يفتي بوجوب السورة و جواز جلسة الاستراحة و الآخر يفتي بالعكس أعني بوجوب جلسة الاستراحة و جواز السورة و هو قلد كل منهما فيما أفتى بالجواز به فصلى بلا سورة و بلا جلسة استراحة فإن هذه الصلاة و إن احتمل مطابقتها للواقع لكنها فاسدة عند كل واحد ممن قلده و الظاهر الصحة لأن فساد الصلاة على فتوى كل منهما إنما يضر إن كان مقلدا فيها و أما ان قلد أحدهما في بعضها و الآخر في البعض الآخر ففتوى كل بفسادها لا يوجب فساد صلاته لأنه ليس مقلدا لهما في فسادها و صحتها فلا تضره فتواهما بفسادها. (نعم) إن حصل له العلم بفساد صلاته واقعا لعلمه القطعي بمطابقة أحدهما للواقع لم يجز له القناعة بهذه الصلاة في مقام تحصيل البراءة لعلمه القطعي بفسادها و

الامارة لا تكون حجة مع العلم القطعي. و لكن هذا خلاف ما هو المفروض في المقام مع انه قد عرفت لا ربط له بالتبعيض لأنه مع علمه بالوجوب لواحد من السورة أو الجلسة لا يجوز له تركهما حتى لو أفتى له مجتهد واحد بعدم وجوبهما.

(إن قلت) إن العمل الواحد يجب أن يكون مطابقا لفتوى مجتهده يعني يجب أن يكون له مجتهد يفتي بصحة عمله أو فساده. (قلنا) لا منشأ لهذا الوجوب. نعم في صورة ما إذا قلد في الأجزاء و الشرائط و الموانع و كان أحد المجتهدين يفتي بجزئية شي ء و مانعية آخر، و المجتهد الثاني يفتي بعكسه بأن يفتي بجزئية ما كان مانعا عند ذلك المجتهد و بمانعية ما كان جزء عنده فقلدهما في جزئية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 187

كل من الشيئين فإن العمل الذي يأتي به لم يكن مطابقا لفتوى كل منهما لأن كلا منهما يقول بجزئية الشي ء للمركب الفاقد للآخر و إن المركب الواجد لهذا الشي ء الآخر ليس ذلك الشي ء جزءا له و أيضا التقليد في الموضوع يرجع الى التقليد في الحكم فاذا قلد من يقول بجزئية هذا الشي ء للصلاة فقد قلده في وجوب هذا العمل المركب من هذا الجزء و الواجد للجزء الثاني ليس بواجب عند هذا المجتهد فلم يأتي بما قلده فيه.

و أورد على الدليل الأول ان شرطية كل شرط و جزئية كل جزء لها مدرك خاص و دليل لا ربط له بالآخر فالفتوى تابعة لذلك الدليل فهي تتعدد بتعدده و فيه ان ظاهر الفتوى هو الجزئية لمركب فاقد لذلك الشي ء فاذا أتى بالشي ء مع الجزء فلم يأتي بمؤدى الفتوى كما ان الظاهر ان ذلك يستند

لدليل و مدرك واحد كما اعترف بهذا الظهور نفس المورد و يرد على الدليل الثاني أنه لا نسلم الرجوع الى ذلك و إنما يرجع الى التقليد بوجوب الصلاة التي هذا الشي ء جزء لها فقط نظير ما إذا قامت امارة على جزئية شي ء للصلاة و نظير ذلك ما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب صلاة الجمعة و وجوب السورة في كل صلاة و أفتى الثاني بعدم وجوب السورة في كل صلاة و حرمة صلاة الجمعة فقلد كل منهما في فتواه الاولى فصلى الجمعة بدون سورة و أما في صورة ما إذا اختلف المجتهدان في جواز الترك كالمثال المتقدم فيكون المقلد بترك السورة و ترك جلسة الاستراحة قد أتى بما أفتى به المفتي لأن الترك غير مقيد بشي ء.

(إن قلت) ان الإجماع قد قام على عدم صحة هذه الصلاة و لو بالإجماع المركب. (قلنا) لا نسلم وجود الإجماع المركب في هذه الموارد و لو وجد عمل به المجتهد دون المقلد الذي لا يعلم به و قد قامت الحجة على صحة صلاته.

(إن قلت) لا نسلم شمول أدلة جواز التبعيض لهذه الصورة ألا ترى أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 188

بناء العقلاء ليس على ذلك و الإجماع يؤخذ بالقدر المتيقن منه. (قلنا) يكفينا في المقام استصحاب التخيير و إطلاق الأدلة اللفظية للتقليد.

(إن قلت) إن العامي يشك في صحة هذه الصلاة فلا يحرز بها المبرئية عن الواقع فلا بد له من الرجوع لأحد المجتهدين في صحتها و فسادها.

(قلنا) لا يشك بعد رجوعه في كل جزء و شرط لمجتهد نظير المجتهد الذي تقوم الأدلة عنده على أجزاء العبادة و شروطها. (و الحاصل) إن اللازم هو مطابقة العمل بأجزائه و شرائطه

لفتاوي صحيحة و ليس بلازم مطابقته بجملته لفتوى خاصة.

(الصورة الثالثة) من صور التبعيض في التقليد

هي التبعيض في التقليد في أحكام مختلفة لموضوع واحد باعتبار جزئياته كأن عنده مائا ورد فقلد أحد المجتهدين في عدم صحة الوضوء بماء الورد في أحدهما فترك الوضوء به و قلد آخر في صحة الوضوء بماء الورد في الآخر أو قلد أحد المجتهدين في وجوب التقصير على أربعة فراسخ في صلاة الظهر من هذا اليوم و قلد آخر في وجوب التقصير على ثمانية فراسخ في صلاة الظهر من اليوم الآخر، و من المعلوم فساد هذا التبعيض لأنه إن كان تقليده للآخر بعد تقليده للأول كان من العدول و الكلام في صحته و فساده قد تقدم في مسألة العدول و إن كان في دفعة واحدة فهو يعلم بكذب إحدى الفتويين و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى انه لا يجوز له الأخذ بهما دفعة واحدة

و يتضح من الكلام في هذه الصور الكلام في فروع ذكرها القوم:
[الفرع الأول لو قلد مجتهدا في الفتوى العامة للعمل بها في مورد خاص فهل يجوز له تقليد آخر في فردها الآخر]

(أحدها) ما لو أخذ الفتوى بعنوان عام للأخذ بها في مورد خاص كلي بأن أخذ مسألة نجاسة الكافر عن مجتهد للأخذ بها في خصوص الوثني فهل يجوز له تقليد مجتهد آخر في فرد آخر كالنصراني و هذا كثير ما يتفق فيجي ء العامي إلى المجتهد فيسأله عن أمر فيجيبه المجتهد بأمر كلي يشمله أو يرجع الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 189

الرسالة في معرفة حكم ذلك الأمر فيطلع على فتوى عامة تشمله كأن أراد في صلاته آية فرجع للمجتهد أو الى رسالته فقال له المجتهد: يجب سجود السهو لكل زيادة و نقيصة فهل له أن يرجع لمجتهد آخر في زيادة بعض ألفاظ التشهد بتكراره و الفرق بين هذا الفرع و بين ما سبقه من الصورة الثالثة من مسألة ماء الورد هو أن في هذا الفرع يكون الفرد ان للفتوى

من قبيل الكليين لعموم الفتوى و فيما سبق يكون الفردان للفتوى من قبيل الشخصين لعموم الفتوى.

(و يمكن أن يقال) ان الحق في هذا الفرع أن يرجع الى المجتهد في معرفة ان هذه الفتوى العامة منتزعة من أدلة متعددة لموضوعات متعددة بأن قام الدليل على نجاسة النصراني و دليل آخر على نجاسة الوثني و دليل ثالث على نجاسة المجوسي فانتزع منها المجتهد نجاسة الكافر أو انها مأخوذة من دليل واحد عام بأن قام الدليل عند المجتهد على نجاسة الكافر بهذا العنوان العام فعلى الأول يجوز التبعيض لأنها تكون فتاوى متعددة عبر عنها بمفهوم جامع انتزع منها و على الثاني لا يجوز التبعيض لأنها تكون فتوى واحدة فعلى المقلد أن يرجع لمجتهده في توضيح الحال و مع عدم التمكن من الرجوع لمجتهده في توضيح الحال لا يجوز له التبعيض لعدم إحراز موضوعه. مضافا الى ما ادعاه غير واحد من العلماء من ظهور كلام المجتهد في كون الفتوى مأخوذة من دليل واحد لظهورها في مطابقة الدليل لا أنها منتزعة من أدلة متعددة و إن كان يمكن المناقشة فيها بأنها دعوى بلا دليل فان المجتهدين طالما يعتمدون على الفتوى بعنوان عام من أدلة متعددة.

[الفرع الثاني في جواز التبعيض مع التنافي بين الفتويين]

(الفرع الثاني) ما إذا كان الأخذ بالفتوى لهذا المجتهد في مسألة يتنافى مع الأخذ بالفتوى للمجتهد الآخر في المسألة الأخرى و هذا التنافي تارة يكون لذاتيهما و أخرى بواسطة فتوى أخرى لهما أما الأول فلا يجوز التبعيض في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 190

التقليد فيه لعدم إمكان إتيان العمل على طبقهما معا كما إذا أفتى أحد المجتهدين باستحباب صلاة الغفيلة بين المغرب و العشاء و الآخر بحرمة إيقاع الصلاة غير النوافل المرتبة

في وقت الفريضة فالأخذ بالفتوى الأولى ينافي الأخذ بالفتوى الثانية لأن الأخذ بالفتوى الأولى يقتضي جواز إيقاع الصلاة التي هي غير النافلة المرتبة في وقت الفريضة و هو العشاء و الأخذ بالثانية في صلاة الغفيلة بأن يصليها في غير ذلك الوقت ينافي الأخذ بالأولى لأن الأولى تقتضي مشروعيتها بين المغرب و العشاء لا في وقت آخر ففي هذه الصورة لا يصح التبعيض لأنه لا يمكن الأخذ بكل واحدة من الفتويين و قد عرفت في المقام الثاني خروج هذه المسألة عن محل الكلام.

(و أما الثاني) فنظير ما إذا أفتى أحدهما بفتويين إحداهما وجوب صلاة الجمعة و الثانية فتواه بوجوب السورة في كل صلاة و المجتهد الآخر أيضا أفتى بفتويين إحداهما عدم وجوب السورة في كل صلاة و الثانية حرمة صلاة الجمعة ففي هذه الصورة كان بين الفتويين الأوليين للمجتهدين المذكورين تنافي بواسطة الفتويين الثانيين لهما لأنه لو قلدهما في الأوليين بأن أتى بصلاة الجمعة بنية الوجوب بدون سورة كان مخالفا للمجتهد الأول بواسطة فتواه الثانية و هي وجوب السورة و مخالفا للثاني بواسطة فتواه الثانية و هو حرمة صلاة الجمعة و قد عرفت الحكم في هذه المسألة من الكلام في الصورة الثانية في التبعيض.

[الفرع الثالث التبعيض في التقليد بين الحكم و موضوعه بان يرجع في الحكم لمجتهد و في موضوعه يرجع لآخر]

(الفرع الثالث) هو انه لو قلد المجتهد في الحكم هل يجوز له أن يقلد المجتهد الآخر في موضوع الحكم كأن قلد زيدا في حرمة الغناء و قلد عمرا في موضوع الغناء هكذا مثل القوم و الاولى التمثيل بالموضوعات المجعولة شرعا كأن شخص قلد مجتهدا بوجوب صلاة الخسوف و قلد آخر في تشخيص صلاة الكسوف لأن الموضوعات العرفية كما تقدم منا لا يجوز التقليد فيها بخلاف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص:

191

الموضوعات الجعلية الشرعية و كيف كان فقد استدل على المنع من ذلك بوجوه:

(أحدها) إن الحكم لما كان متقوما بموضوعه فلو رجع في موضوع الحكم لمجتهد آخر كان ذلك منافيا لتقليده للأول في حكم هذا الموضوع لأن الحكم إنما كان لهذا الشي ء عند المجتهد الأول لا لغيره و بالرجوع للمجتهد الثاني صار الحكم لغير ما عنده و المجتهد الأول لا يقول بهذا الحكم لهذا الموضوع فيكون الفرع المذكور من قبيل ما ذكرناه في صدر المقام الثاني من عدم إمكان التبعيض. و أجاب عنه بعضهم بما ربما يرجع الى أن التقليد في الحكم يرجع الى التقليد في قضية موضوعها ماهية الموضوع و محمولها الحكم و التقليد في الموضوع يرجع الى قضية موضوعها الذات الخارجية و محمولها الموضوع و بين القضيتين لا يوجد تنافى فإن الأولى الذي ينافيها هو التقليد في سلب الحكم عن ماهية الموضوع و الذي ينافي الثانية هو التقليد في سلب ماهية الموضوع عن الذات الخارجية.

(الوجه الثاني للمنع) إن المجتهد إنما أفتى بالحكم لذلك المعنى الخارجي لا لكل ما قدر انه معنى للموضوع في متن الواقع حتى يصح أن يرجع في تعيين معنى الموضوع لمجتهد غيره. و أجاب عنه المرحوم الأصفهاني بما ربما يرجع الى أن المجتهد إنما أفتى بالحكم لهذا المعنى الخارجي من جهة مطابقته لمفهوم الموضوع لا بما هو هو فلو فرض أن المعنى الخارجي لمفهوم الموضوع غير ذلك لأفتى بثبوت الحكم له و لذا لو تبين له ان الموضوع غير الأول لم يكن قد عدل عن حكمه السابق و إنما يكون قد عدل عما طابق مفهوم الموضوع و ماهيته.

(الوجه الثالث للمنع) إنا سلمنا تعلق الفتوى بالحكم بمفهوم لفظ الموضوع لكن تعيين

المفهوم ليس مما يجوز فيه التقليد لأن التقليد في مفهوم اللفظ راجع الى التقليد في الحكم و المفروض انه مقلد في الحكم فيلزم تقليد مجتهدين في حكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 192

واحد. (و الجواب عنه) بأنا نسلم أن تقليد الشخص في موضوع لا يصح إلا باعتبار انتهائه إلى حكم شرعي مرتب عليه و لكن لا نسلم انه يجب ترتيب الحكم على ذلك الموضوع بنظر المفتي بحقيقة الموضوع نظير متابعة قول اللغوي في معنى الصعيد لترتيب حكمه الشرعي الكلي المأخوذ من الامام (ع) أو من المفتي كما أفيد، و قد تقدم منا أن المقلد لا يجوز له تقليد مفتيه في موضوع الحكم فلو أفتى له بوجوب الصلاة الى القبلة و كان المجتهد يرى القبلة إلى الشرق و المقلد يراه الى الغرب صلى للغرب فلو كان التقليد في الموضوع ينافي التقليد في الحكم لكان الاجتهاد في الموضوع أيضا ينافي التقليد في الحكم مع أن الخصم لا يقول بذلك.

[الفرع الرابع ما إذا اختلف اعتقاد المقلد مع فتوى المفتي من حيث العموم و الخصوص]

(الفرع الرابع) إذا اختلف اعتقاد المقلد مع فتوى المفتي من حيث العموم و الخصوص فله صورتان:

(إحداهما) ما إذا اعتقد المقلد خصوص موضوع الفتوى مع عمومه في الواقع كما إذا اعتقد أن فتوى المجتهد هي نجاسة خصوص الملحد فقلده في ذلك و عمل به ثمَّ تبين له بأن فتواه نجاسة مطلق الكافر فهل يجوز له التبعيض بأن يرجع لغيره في النصراني أم لا ربما يقال بجواز التبعيض، لأنه لم يقلد المجتهد في فتواه أصلا لأن ما قلده فيه و هو خصوص الملحد ليس بفتوى للمجتهد و إنما فتوى المجتهد كانت متعلقة بالكافر بما هو كافر فأخذه لم يكن لفتوى المجتهد واقعا و ما أخذه ليس بفتوى

للمجتهد مضافا الى عدم مشروعية التقليد في خصوص مورد لفتوى بموضوع عام و لذا في صورة ما إذا اعتقد عموم الفتوى لا يجوز له أن يقلد في خصوص بعض مواردها دون بعض كما تقدم في الفرع الأول و عليه فيجوز له التبعيض فيرجع لغيره في باقي الأفراد بل يجوز له العدول عن خصوص ما اعتقده و هو نجاسة الملحد لأنه لم يقلده فيه. سلمنا انه قلده في فتواه لكنه إنما قلده في فتواه في بعض مصاديقها و لم يقلده في البعض الآخر فيجوز له الرجوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 193

لغيره في مصاديقها الأخرى. و لا يخفى ما فيه فان فتواه بنحو العموم تكون فتوى بالخصوص ففتواه بنجاسة الكافر تكون فتوى بنجاسة الملحد لتضمنها إياها. (نعم) لو كان المقلد أخذ بالفتوى بعنوان انها متعلقة بخصوص الملحد بحيث لو كانت متعلقة بما هو أعم منها لم يأخذ بها ففي هذه الصورة لم يكن قد عمل بفتوى المجتهد و لم يكن قد التزم بها فلم يقلده في فتواه. و أما دعوى عدم المشروعية لمثل هذا التقليد ففاسدة لأنه لو قلد بنحو الخصوص بحيث لو كانت متعلقة بالعموم لقلده فيها فهو يكون قد قلد المجتهد في فتواه لأن هذا الخصوص كانت متضمنة له. (نعم) لو قلده بنحو الخصوص بحيث لو كانت بنحو العموم لما قلده فيها كان هذا التقليد فاسدا لعدم فتوى المجتهد بذلك و لهذا قلنا لو كانت الفتوى عامة و أخذ بها في مورد خاص بما هو خاص و لم يأخذ بها في مورد آخر لها كان هذا التقليد غير مشروع لكونها عامة و المجتهد لم يفت بالخصوص فان ما أفتى به لم

يأخذه و ما أخذه لم يفتي به. و أما دعوى أن التقليد كان لبعض مصاديقها فيجوز أن يقلد في البعض الآخر لمجتهد آخر ففاسدة أيضا لأنه لما كان قد عمل بالفتوى في بعض مصاديقها و أخذ بها في بعض مصاديقها لا من جهة الخصوص بل من جهة اعتقاد انها خاصة كان أخذه كذلك أخذا للفتوى بعمومها و عملا بها فلا يجوز العدول عنها لغيرها و لو في الأفراد الأخرى. و بعبارة أخرى ان أخذ العامي ببعض الأفراد لما كان لا بعنوان انه بخصوصه بل بعنوان أنه ما أفتى به مقلده و إن أخطأ في التعيين من حيث العموم و الخصوص فيكون قد قلده في فتواه العامة و كان أخذه أخذا بالفتوى العامة ففي الحقيقة لو قلد في الأفراد الأخرى يكون عدولا منه لا تبعيضا في الفتوى.

(الصورة الثانية) ما إذا اعتقد المقلد العكس بأن اعتقد أن فتوى مجتهده عامة مع أنها خاصة في الواقع كما إذا اعتقد أن مجتهده قد أفتى له بنجاسة مطلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 194

الكافر و قد عمل بها ثمَّ تبين له أن فتواه نجاسة خصوص الملحد فهل يجوز له التبعيض بأن يرجع للغير في النصراني أم لا الظاهر جواز التبعيض بل جواز العدول لأنه لم يقلد المجتهد في فتواه لكون فتواه بالخاص بما هو خاص لا بما هو عام و العامي إنما أخذ بالعام بما هو عام و هو لم يكن متعلقا لفتوى المجتهد كما عرفت في الصورة الاولى من أن الالتزام بالخاص بخصوصه ليس التزاما بالعام بعمومه فان الفتوى بنجاسة الملحد بما هو ملحد و بقيد انه ملحد غير الفتوى بنجاسة الكافر بما هو كافر فإنه

على الأول لا يعمل بها في النصراني و نحوه بخلافه على الثاني.

و ذهب الشيخ (ره) إلى أنه تقليد في الخاص لأن الأخذ بالفتوى العامة أخذ بالفتوى الخاصة لاشتمالها عليها. و لا يخفى ما فيه لأن الأخذ بالفتوى العامة انما يتحقق بتحقق الموضوع للأخذ و هو الفتوى بالعام و هي لم تصدر من المجتهد فيكون ما افتى به مقلده و هو الخصوص لم يأخذ به و ما أخذه لم يفتي به و لذا لا تصح نسبة الفتوى بالعموم لمن يفتي بالخصوص بخلاف العكس فإنه يصح نسبة الفتوى بالخصوص لمن يفتي بالعموم.

(إن قلت) قد أخذه بعنوان انه مفتي به فيكون هذا العنوان مقيدا له بخصوص مورد الفتوى. (قلنا) هذا العنوان لم يأخذه العامي بعنوان التقييد للفتوى بل إنما أخذه من جهة تخيل انه قد أفتى بالعموم فتكون إرادته الجدية و أخذه إنما تعلق بالعموم لا بالخصوص و مجتهده لم يفتي به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 195

الجهة الثالثة فيما يعتبر في المفتي الذي يرجع له العامي
اشارة

اعلم إن شروط المفتي الذي يصح الرجوع اليه تبلغ السبعة عشر شرطا أو أزيد و الأصل في هذه الشروط و محل التعرض لها في كلام الفقهاء المتقدمين (ره) عند ذكر شرائط القضاء من جهة بنائهم على ان ما كان شرطا في الحاكم هو شرط في المفتي مع ما في هذه الملازمة من الاشكال لعدم دليل عليها و ان حكي عن الشهيد عن ظاهر الروضة توافقهما في الشرائط لكن الظاهر انه لم يوافقه على ذلك أحد و ربما وجهت عبارته أو حملت على سهو القلم. (نعم) لا يبعد العكس نظرا الى استلزام القضاء للفتوى دون العكس و قد حكي ذلك عن العلامة في كتابيه الإرشاد و القواعد و المحقق

في الشرائع و الشهيد في الروضة في باب الأمر بالمعروف و هو المحكي عن صاحب الدروس و في الضوابط دعوى الإجماع على ذلك إلا أن التحقيق منع ذلك بناء على جواز القضاء بفتوى الغير. (و الحاصل) ان ما ذكروه الفقهاء سندا للشروط الموجودة في باب القضاء لو تمَّ لم يدل على شرطيتها في باب الفتوى مع ان هناك لم يقيموا دليلا وافيا إلا على بعضها و على البعض الآخر بالإجماع و بعض منها بقي خاليا عن الدليل. نعم بناء على كون الدليل على أصل التقليد الإجماع و انه ليس له إطلاق في معقده كان احتمال الخلاف في الاشتراط فضلا عن وجوده قادحا في حجية فتوى من لم يكن متصفا بذلك الشرط فلا بد من أخذ القدر المتيقن في مقام الامتثال. و لكن من رجع الى أدلة التقليد وجد فيها مطلقا يمكن التمسك به على حجية تلك الفتوى إذا لم يوجد دليل على الاشتراط. نعم بناء على حجية الفتوى من باب الظن المطلق و إن الدليل عليها هو دليل الانسداد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 196

فلا عبرة بالشروط بل المدار على حصول الظن (إلا اللهم) أن يقال انه لا يحصل الظن من فاقدها و المقصود من ذكرها بيان موارد حصول الظن بها أو يقال أن الفاقد لها مما قام الدليل على عدم اعتباره نظير القياس و الاستحسان و كيف كان فنحن نذكر ما ذكروه شروطا للمفتي بمعنى انها شروط لعمل المستفتي بالفتوى فهي شروط لصحة الاستفتاء و جواز العمل بالفتوى و ليست شروطا لتحقق إفتائه و لا لصحة إفتائه بالذات فإنه قد يجوز الإفتاء بغير هذه الشروط فان المجتهد و لو كان فاسقا

يجوز له أن يفتي و يكتب كتب استدلال فتسمية هذه الشروط بشروط المفتي فيه نوع تسامح إذا ظهر لك ذلك فاعلم إن مقتضى الأصل هو اعتبار تلك الشروط في المفتي بل اعتبار كلما احتمل اعتباره للعلم ببراءة الذمة معه فالأمر دائر بين التعيين و التخيير و بين مقطوع الحجية و بين مشكوكها و الوظيفة هو الأخذ بمقطوعها هذا هو مقتضى الوظيفة للعاجز عن معرفة الواقع كالعامي و كالمجتهد الذي لم يعرف الواقع. نعم في بعض الصور التي ستجي ء إن شاء اللّه تعالى يتردد الأمر بين الطرفين و حينئذ فالمرجع هو التخيير للإجماع على عدم وجوب الاحتياط.

هذا كله هو مقتضى الأصل و أما مقتضى الأدلة فنقول إن:

(الشرط الأول) للعمل بفتوى المفتي

(الشرط الأول للعمل بفتوى المفتي هو الاجتهاد) فإنه يعتبر في مرجع التقليد أن يكون مجتهدا و اعتباره من ضروريات المذهب فإنه إذا لم يكن مجتهدا لم يكن عالما بالحكم الشرعي حتى يرجع اليه فيه. و يكفي دليلا على ذلك ما روي عن الشيخ رحمه اللّه في الصحيح عن الباقر (ع) من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 197

لعنته الملائكة و لحقه وزر من عمل بفتياه و غير ذلك من الأدلة الدالة على حرمة الفتوى بغير علم.

(إن قلت) انه بالتقليد قد علم. (قلنا) ظاهرها العلم عن غير طريق التقليد و قد تقدم ج 1 ص 537 و ص 576 ما ينفعك في المقام. نعم محل الكلام هنا في مقامات:

(أحدها) انه اعتبر بعضهم أن يكون المجتهد مطلقا و لم يجوز تقليد المتجزي و قد تقدم ج 1 ص 204 تجويز تقليده في المسائل التي اجتهد فيها.

(ثانيها) أن يكون مستنبطا لقدر

معتد به من الأحكام بحيث يعد فقيها و عارفا بحلال أهل البيت (ع) و هذا هو القول المنسوب لجدنا كاشف الغطاء (ره) و قد تقدم الكلام فيه ج 1 ص 184.

(ثالثها) اعتبار أن يكون المجتهد فتواه غير مستندة للعمل بمطلق الظن من باب الانسداد أو للأصول العملية عند الانفتاح فان الآخند (ره) و تبعه بعضهم على المنع من تقليده و قد تقدم الكلام في ذلك ج 1 ص 175.

و بهذا ظهر أنه لا يجوز للعامي أن يفتي بالحكم الشرعي من نفسه و إن أخذه من مقلده. نعم له أن يحكيه عنه و هكذا لا يجوز للمجتهد أن يفتي بفتوى مجتهد آخر لأنه فتوى بما لم يعلم نعم له حكاية ذلك عنه (ثمَّ) انه لو صار المجتهد عاميا لم تبطل حكوماته و جعلياته و صح البقاء على تقليده السابق فقط للاستصحاب لأن فتاواه السابقة كانت جامعة لشرائط الحجية نعم لا يعمل بآرائه المتجددة منه حين ما صار عاميا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 198

(الشرط الثاني) العقل

(الشرط الثاني، العقل) لأنه لو جنّ المجتهد لم يسمع منه للإجماع.

و لفقده الاجتهاد. و لبناء العقلاء على ذلك. و لاعتبار العدالة و الايمان. و لعدم نفوذ أمره على نفسه فبالطريق الاولى على غيره.

و قد ذهب صاحب الضوابط و غيره الى أن المجنون الأدواري يسمع منه حال إفاقته لشمول أدلة التقليد له و حكي ذلك عن صاحب المفاتيح و الإشارات.

و قد ذكر بعضهم انه لو كان المجنون مجتهدا عارفا بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و كان جنونه في غير هذا فان الجنون فنون لم يقبل منه مستدلا على ذلك بالإجماع على عدم جواز تقليد المجنون و بأصالة الاشتغال. و لا يخفى

ما فيه فان أدلة التقليد تشمله إذا كان عقله صحيحا من هذه الجهة و كان يصح تكليفه و الإجماع القدر المتيقن منه هو من كان يسلب عقله من جميع النواحي و الجهات و الأصل لا مجال له بعد شمول الأدلة. (و في تقريرات بعض الاساتذة المعاصرين) ان المجنون لا يليق بمنصب الفتوى الذي هو فرع من فروع منصب الإمامة و كذا من التحق بالصبيان و النسوان فان الشارع لا يرضى بزعامة المجنون و كونه مرجعا للمسلمين و لو من جهة فتواه السابقة. (و لا يخفى ما فيه) فان التقليد ليس منصبا من المناصب و إنما هو طريق لمعرفة الواقع نظير الرواية. نعم الزعامة الدينية لا تصلح لذلك لأن فيها الولاية على رقاب المسلمين و الإدارة لشؤونهم و هي التي تكون منصبا من فروع الإمامة. و لا يصغي لدعوى الإجماع إذ لعل المجمعين ناظرون للمسائل المتجددة لا السابقة على أن إجماعهم ينافيه الإجماع على حرمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 199

العدول لأن إجماعهم على حرمة تقليد المجنون يشمل الابتدائي و الاستمراري و إجماعهم على حرمة العدول يشمل حالة طرو الجنون و غيرها، و بهذا ظهر لك أن المجتهد لو جنّ جاز البقاء على تقليده فيما قلده فيه و لا يصغى لمحكي الإجماع على المنع و هكذا لو نصب قيما أو وليا و هكذا لا تبطل احكامه السابقة من الخصومات للاستصحاب. و دعوى الإجماع في هذه المسألة المستحدثة غير مقبولة كيف و لعله من جهة عدم جريان الاستصحاب عندهم أو من جهة كون العاقل هو القدر المتيقن عندهم.

(الشرط الثالث) البلوغ

(الشرط الثالث. البلوغ) فلا يعمل بقول الصبي الجامع لبقية الشرائط و إن كان مميزا قد حان

بلوغه بل و إن كان أعلم من البالغ بمراتب شتى بل لو كان حيا و المساوي له أو الأدنى منه ميتا فإنه لا يقلد في جميع هذه الحالات لانصراف أدلة التقليد عنه. و لأنه لا تقبل روايته فلا تقبل فتواه بطريق أولى لأن الرواية عن حس و الفتوى عن حدس فاذا لم يقبل منه القول في الحس فبالطريق الاولى أن لا يقبل منه في الأمور الحدسية. و لأنه لا تقبل شهادته فلا تقبل فتواه بطريق اولى لعين ما ذكرناه في الرواية.

(إن قلت) إنه لو كانت الأولوية المذكورة صحيحة لاقتضت عدم قبول فتوى الواحد لأن الشهادة لا يقبل فيها الواحد مع انها في الأمور الحسية فبمقتضى الأولوية أن لا تقبل فتوى الواحد لأنها في الأمور الحدسية. (قلنا) ذهب غير واحد الى عدم القبول و لذا يعبرون عنها بالفتوى الشاذة. على أن عدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 200

القبول من الصبي من جهة احتمال تعمده الكذب فتجي ء الأولوية بالنسبة إليه بخلاف عدم القبول في شهادة الواحد فإنها ليست من جهة تعمده الكذب لفرض عدالته و لعله من جهة ان الانفراد في الخبر عن الأمر الحسي يوجب الريب، و لذا روي في الهلال عند صفاء السماء إذا رأته عين فقد رأته عيون مضافا الى أن الأولوية يرفع اليد عنها عند قيام الدليل القطعي على خلافها كما في المقام. و لأن المستفاد من حديث رفع القلم عن الصبي مع ما دل على عدم نفوذ أمره و كونه مولّى عليه مع ما دل على أن عمده خطأ هو عدم الاعتداد برأيه و فتواه. بل ان عدم نفوذ أمره في نفسه يستفاد منه بطريق الأولوية عدم نفوذ أمره

على غيره.

و لاعتبار العدالة و الايمان في المفتي و هما لا يكونان في الصبي لعدم ثبوت الواجبات و المحرمات في حقه. و لأنه لا تقبل الفتوى من المجتهد الفاسق فبالأولى أن لا تقبل من الصبي لأن الفاسق قد يكون له خشية من اللّه تعالى فلا يكذب في فتواه و لا يقصر في اجتهاده بخلاف الصبي العالم فإنه يعلم برفع القلم عنه فلا تكون له هذه الخشية من اللّه تعالى، و دعوى بأنا نفرض الكلام فيما نعلم ان الصبي عنده تلك الخشية من اللّه تعالى فاسدة لأنه مع عدم شعوره بالمسؤولية من اللّه تعالى لا تكون تلك الخشية رادعة له عن الكذب إذا اقتضاه شهوته إلا إذا وجدت عنده العصمة و هي لا توجد إلا عند النبي أو وصيه و قد ذهب المرحوم الشيخ محمد حسين (ره) الى جواز تقليد الصبي حيث قال (ره) إن عمدة أدلة حجية الفتوى قضية الفطرة و سيرة العقلاء و الكل على رجوع الجاهل الى العالم بالغا كان أو لا و قوله (ع): «انظروا الى رجل منكم» في باب القضاء وارد مورد الغالب لا أنه كونه رجلا في قبال كونه غلاما له خصوصية و من الواضح ان أمر الفتوى من حيث المنصب ليس بأعظم من النبوة و الإمامة فليس شمول الأدلة مع وجود سائر الشرائط أمرا مستبشعا و تبعه على ذلك بعض المعلقين على العروة و يمكن أن يستدل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 201

لهم بأن في النبوة و الإمامة اللتين هما أعظم من الفتيا لا يشترط فيهما ذلك فإن يحيى (ع) صار نبيا و هو صبي و الحجة (ع) صار اماما و هو صبي فيجوز في المفتي

أن يكون كذلك. (و جوابه) انه لا وجه للأولوية لأن النبي و الامام مأمونون من الخطأ بخلاف الصبي فإن استعداده و طاقته و نقصان عقله لا تؤهله لذلك و إن شئت فقل إن العصمة هي الفارقة و لا يهمنا تحقيق الحال في ذلك و صحة هذه الوجوه أو سقمها لعدم وجود صبي جامع للشرائط و له اجتهاد يتفوق به على جميع المجتهدين. نعم لو فرض انحصار الفتوى من المجتهدين الأحياء و الأموات به صح الرجوع له بحكم العقل من باب انسداد باب العلم و العلمي و لكن الفرض بعيد جدا.

هذا و انه ليكفي البلوغ حال الفتوى و إن اجتهد حال كونه صبيا لوجود المقتضي و هو كونه حال الفتوى جامعا للشرائط و انتفاء المانع و هو الصغر و عدالته تمنعه أن يفتي بما لم يؤدي اجتهاده اليه.

(الشرط الرابع) عدم السفه

(الشرط الرابع. عدم السفه) فلو صار سفيها لم يصح تقليده و يمكن أن يستدل على ذلك بأن السفه هو عدم المبالاة و الشخص إذا كان لا يبالي في أموره فهو لا يبالي بالفتوى و بالرأي. و العقلاء لا يعتمدون على مثله و الفطرة لا تقتضي الرجوع اليه فلا تشمله أدلة التقليد لأن العمدة فيها هو بناء العقلاء و الفطرة و الأدلة النقلية منصرفة عنه بل يمكن أن نقول انها إرشاد الى ما بنى عليه العقلاء و اقتضته الفطرة في هذا المقام و دليل الانسداد لو تمَّ فهو يقتضي الرجوع لغير السفيه لعدم حصول الظن من فتوى السفيه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 202

(الشرط الخامس) أن يكون إماميا
اشارة

(الشرط الخامس. أن يكون إماميا اثنى عشريا أصوليا) فلا يصح تقليد الكافر و لا المسلم المخالف و لا الشيعي الغير الاثني عشري و لا الشيعي الاثني عشري الغير الأصولي و هذا الشرط هو الذي عبر عنه القوم بالإسلام و الايمان و الدليل عليه الإجماع كما هو المحكي عن صريح مجمع الفائدة و لأن غير الإمامي لا يجوز الاقتداء به في الصلاة و لا تقبل شهادته فعدم جواز التقليد أولى لا سيما إذا قلنا بوجوب تقليد الأعلم لأنه مفضول بالنسبة لمن عداه و إلا لما اعتقد خلاف الحق و أخذ به في الواضح من الأحكام الشرعية و المعارف الإلهية و قد استدل بعضهم على ذلك بأن غير الإمامي ليس محلا للأمانة فليس يحصل الوثوق بفتواه و لأن فتواه بحسب مذهبه انه حكم بغير ما أنزل اللّه فهو غير عالم بها و لأنه فاسق ظالم و الفاسق لا يقبل قوله لوجوب التثبت فيه. و الظالم لا يركن اليه لقوله تعالى وَ لٰا

تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا و العمل بفتواه ركون اليه. و لقوله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا و الإفتاء نوع من السبيل عليه خصوصا إذا أعملها في الرئاسة. و لهتك حرمة المذهب بالرجوع لغير أهله في مسائله. و لما روي عن الحجة (ع) في الاحتجاج و أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه و ذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم فان من ركب القبائح و الفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم شيئا و لا كرامة. و لأن اعتبار العدالة يقتضي عدم جواز تقليده. و بأن أبي الحسن (ع) قال فيما كتبه لعلي بن سويد: لا تأخذن معالم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 203

دينك عن غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا اللّه و رسوله (ص) و خانوا أماناتهم إنهم إئتمنوا على كتاب اللّه تعالى فحرفوه و بدّلوه.

و بأن أبا الحسن الثالث (ع) قال فيما كتبه لأحمد بن حاتم بن ماهويه و لأخيه فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه تعالى.

(إن قلت) إن العصابة قد أجمعت على تصحيح ما يصح من أبان مع انه كان ناووسيا. (قلنا) لو سلمنا ذلك فهو لا يدل على صحة فتواه و إنما يدل على صحة رواياته و مع هذا فالبحث عن هذا الشرط قليل الجدوى لأن الكافر و المخالف إن كانا يفتيان حسب مذهبهما فلا يجوز تقليدهما قطعا و ليس ذلك محل الكلام و إن أوهمه عبارة بعضهم و إن كانا يفتيان بحسب مذهبنا باحاطتهما بالأدلة

المعتبرة بحسب أصول مذهبنا و تمكنا من الاستنباط منها مع الوثوق بهما بهذا نادر الوجود و لعله الى الآن لم يحصل مثل هذا الفرد و إن حصل فلا يجوز تقليده لما تقدم من الأدلة و قد يظهر من المرحوم الأصفهاني جواز تقليد غير المؤمن إذا قطع بأن كيفية اجتهاده و استنباطه على طريقة أهل الحق و قطع بأنه لا يخبر إلا عما هو رأيه و معتقده لأنه قد أمن خيانته. و لا يخفى ان الأدلة المتقدمة تمنع من تقليده، ثمَّ أنه يظهر من صاحب الفصول جواز تقليد فتوى المخالف و الكافر في المباحث اللغوية التي لا سبيل لنا الى معرفتها سوى التقليد مع حصول الظن بصحتها كما يجوز التعويل على نقلهما في ذلك كله. و لكن هذا خارج عن محل البحث لأن محله هو الأحكام الشرعية و إن أراد به ان المفتي يجوز له أن يقلد في المباحث اللغوية التي تقع في طريق فتواه المراد عمل الغير بها فهو غير صحيح و إلا لزم أن يكون في فتواه مقلدا للغير لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات و إنما يلزم أن يحصل له العلم بذلك بالاستقراء و التتبع أو إجماع اللغويين أو نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 204

إذا صار المفتي غير امامى

إذا صار المجتهد المفتي الاثني عشري كافرا أو مخالفا فمقتضى ما تقدم لا يجوز تقليده في المسائل المستحدثة و لكن هل يبقى على تقليده فيما قلده فيه سابقا أم لا يجوز مقتضى الاستصحاب الجواز و ليس هذا من قبيل تبدل رأي المجتهد فإن رأيه لم يبدل بالنسبة لهذه الفتوى و ذهب المشهور بل ادعى عليه الإجماع الى عدم جواز البقاء على التقليد و استدلوا على

ذلك بإطلاق ما دلّ على اعتبار الإسلام و الايمان. و فيه ان الظاهر منها هو اشتراطها زمن الفتوى.

و استدلوا أيضا بالإجماع من المشترطين فإنه ليس في كلام المشترطين لذلك ما يظهر منه اختصاص الاشتراط بابتداء التقليد بل ظاهر الشرطية كونه مطلقا. و فيه ان دعوى الإجماع على ذلك تنافيها دعوى الإجماع على عدم جواز العدول. و استدلوا أيضا بما عن كتاب الغنية بسنده الصحيح الى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ أبي القاسم بن روح الذي هو أحد النواب الأربعة حين سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني بعد ارتداده؟ فقال الشيخ: أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني الفضال حيث قالوا: ما نصنع بكتبهم و بيوتنا منها ملأ. فقال:

خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا فإن النهي عن الأخذ بآراء بني الفضال مع ترك الاستفصال بين الأخذ الابتدائي و الاستمراري يدل بعمومه على اعتبار الايمان مطلقا. و المناقشة في سندها بعبد اللّه الكوفي بأنه مجهول الحال. مدفوعة بأنه يكفي في مدحه كونه خادم الشيخ فيكون حسنا. و المناقشة في دلالتها بأن المراد بما رأوا الاعتقادات الفاسدة يدفعها الإطلاق فيشمل الفتوى مع انه خلاف الظاهر إذ لا يتوهم وجوب الأخذ بالعقائد الفاسدة. (و الجواب عن ذلك) ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 205

ظاهر الرواية هو النهي عن الأخذ ابتداء حيث يسأله عن الصنع بكتبهم و صحة الرجوع إليها عند الحاجة. مضافا الى أن القرينة الحالية و هو كونهم ممن اعتنقوا الآراء الفاسدة في العهد القريب توجب انعقاد الظهور في الآراء الفاسدة نظير ما إذا قيل اترك آراء اليهود. و ليس من المعلوم إن كتبهم كانت تشتمل عليها و لكن الشيعة احتملوا ان ذلك

موجب لطرح العمل برواياتهم فيها فيسألوا عن ذلك فأجاب الإمام (ع) بالعمل بها و لما كان قد يتخيل بسطاء الشيعة من ذلك صحة الأخذ بآرائهم الفاسدة أمر بالتجنب عن آرائهم و تركها و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مبحث اشتراط الحياة توضيح المقام و تنقيحه.

(الشرط السادس) الرجولية

(الشرط السادس. الرجولية) و قد حكى الإجماع على اعتبارها عن الشهيد (ره) و الرياض و الغنية و مجمع الفائدة و غيرها و لكن الظاهر ان نساء الأئمة عليهم السلام كان يأخذ منهن الأحكام الشرعية فلو كانت الذكورية شرطا لما صح ذلك إلا اللهم أن يدعي إنما يأخذون من ذوات العصمة أو يؤخذ منهن الرواية لا الفتوى. و قد ناقش المرحوم الشيخ محمد حسين في اعتبارها بأن حال الفتوى كحال الرواية و لذا يستدل بأدلة حجية الرواية على حجية الفتوى.

و لا ريب ان الرواية لا يعتبر في حجيتها أن يكون الراوي لها ذكرا انتهى.

(إن قلت) قد روي في المحكي عن الكشف و المفتاح و غيرهما عن جابر عن الباقر (ع) انه قال و لا تولى المرأة القضاء و لا تولى الامارة. و في خبر آخر محكي عن الخلاف عن النبي (ص) لا يصلح قوم ولتهم امرأة. و في نسخة الضوابط دللتهم امرأة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 206

فتكون الرواية صريحة في المطلوب. و في المحكي عن الفقيه بإسناده عن حماد بن عمر و أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي (ص) لعلي انه قال يا علي ليس على المرأة جمعة الى أن قال و لا تولى القضاء. (قلنا) هذا مخصوص بالقضاء و الامارة و لا يقتضي المنع عن العمل بفتواها. نعم

قد يستفاد عدم العمل بفتواها من مرسلة التهذيب الموجودة في المستند يا معاشر الناس لا تطيعوا النساء على حال و لا تأمنوهن على مال. و من روايات أبناء نباتة و أبي المقدام و كثير، لا تملك المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، و من رواية الحسين حيث فيها و كونوا من خيارهن على حذر و إن أمرنكم فخالفوهن كيلا يطمعن منكم في المنكر.

و في خبر آخر أخروهن من حيث أخرهن اللّه تعالى. فمن قلدها فقد أخر الرجل عنها. و لما في الأخبار من نقصان عقلها و دينها و قيام اثنين منهن مقام رجل في الشهادة. و لما في المحكي عن خبر الطبرسي عن رسول اللّه (ص) إن شر الناس الذين يكون كلامهم عن رأي النساء.

(الشرط السابع) طهارة المولد

(الشرط السابع. طهارة المولد) و قد حكي الإجماع على اعتبارها و قد ناقش فيها المرحوم الشيخ محمد حسين بأنه لا نص على اعتبارها في المفتي و لا في القاضي و إنما ورد في إمامة الجماعة و الشهادة في الأمور الجليلة لزومها، فإن أمكن الاستدلال بالفحوى فهو و إلا فملاك قبول رأي الغير كونه عالما و ملاك قبول الخبر كونه ثقة. و لا يخفى ما فيه فان ما ورد في ابن الزنا من الأخبار الدالة على ضعته يستفيد منها المتبصر عدم قبول فتواه مضافا الى أن أولوية عدم قبول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 207

فتواه تستفاد من عدم صلاحيته لإمامة الجماعة و عدم قبول شهادته في الأمور الجليلة.

(الشرط الثامن) كونه ضابطا

(الشرط الثامن. أن يكون ضابطا) فلا عبرة بفتوى من يكثر عليه السهو و النسيان بحيث يكون سهوه و نسيانه أغلب من ذكره إلا مع الأمن منه فيما يرجع اليه و يمكن أن يستدل على ذلك ببناء العقلاء على عدم الرجوع لمن يغلب سهوه على ذكره مع انهم قد أجمعوا على اعتبار هذا الشرط في الراوي. و الفتوى إن لم تكن نوعا من الرواية فيستفاد بطريق الأولوية اعتباره فيها. و لقوله (ع) في موثقة عمر بن حنظلة المعروفة (و أصدقهما في الحديث). و لا يخفى انها واردة في القضاء.

(الشرط التاسع) أن يكون اجتهاده مطلقا

(الشرط التاسع. أن يكون اجتهاده مطلقا) فلا عبرة بالمتجزي و المقلد و القاطع بالحكم و قد تقدم ج 1 ص 204 البرهان على جواز تقليد المجتهد المتجزي في المسائل التي اجتهد فيها و تعرضنا للكلام فيه أيضا في الشرط الأول من شروط المفتي. و أما القاطع بالحكم فان كان عن تقليد فهو غير مجتهد أصلا فلا يجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 208

تقليده و إن كان عن اجتهاده فهو متجزي. و أما المقلد فقد عرفت في الشرط الأول عدم جواز تقليده.

(الشرط العاشر) أن يكون كاتبا

(الشرط العاشر. أن يكون كاتبا) و قد ادعى عليه الإجماع و عللوا ذلك أيضا بأنه لا يتيسر له ضبط الفتوى بدون الكتابة. و لا يخفى ما فيه فان الظاهر إن من ادعى الإجماع إنما خصه بخصوص القضاء و هو غير الفتوى و التعليل المذكور مجرد استحسان و خلاف الفرض لأن الفرض انه عادل فلا يفتي إلا بما علم به من الأدلة الشرعية فلا تصدر منه الفتوى بدون ضبطها و قد استدل على عدم اعتبار الكتابة بأن النبي (ص) كان أميا فلم يكن كاتبا فبالطريق الاولى أن لا يعتبر ذلك في المفتي. (و جوابه):

(أولا) إن الأخبار قد قامت على ان النبي (ص) يكتب و يقرأ و إن تسميته بالأمي باعتبار نسبته إلى أم القرى و ما يستظهر منه من الآيات و الروايات بأنه لم يكن كاتبا إنما هو باعتبار ما قبل البعثة.

(و ثانيا) سلمنا انه ليس بكاتب لكن لا وجه لدعوى الأولوية فإن النبي (ص) ضابط لا ينسى بخلاف المفتي. نعم لا يبعد توقف العلم بالأحكام في هذه الأزمنة على معرفة قراءة الكتابة لأن الأدلة على الأحكام قد اشتملت عليها الكتب المدونة.

النور

الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 209

(الشرط الحادي عشر) أن يكون مبصرا

(الشرط الحادي عشر. أن يكون مبصرا) فلا يصح العمل بالفتوى من الأعمى و استدل على ذلك بما استدل به على اعتبار الكتابة إذ مع العمى لا يتمكن من الكتابة لكن قد عرفت عدم اعتبار الكتابة و بعضهم استدل على عدم اعتبارها بأن شعيب النبي (ص) كان أعمى و هكذا يعقوب و إسحاق و يستصحب جواز ذلك الى هذا الزمان بناء على جواز استصحاب الشرائع السابقة. و لا يخفى ما فيه فإنه إنما يقتضي جواز النبوة للأعمى و هو لا يستدعي جواز التقليد للأعمى إذ النبوة إنما تكون مع العصمة، و قد يستدل على اعتبار البصر بأن الأعلمية لا تحصل بدون البصر لأنها تحتاج إلى شدة التأمل في أطراف المسألة و أدلتها و جمعها بين يديه و هذا إنما يحصل على الوجه الأتم بالمطالعة المتوقفة على البصر.

و لا يخفى ما فيه فان قوة الإدراك قد تحصل بدون ذلك و قد يستدل أيضا بدوران الأمر في المقام بين التعيين و التخيير. و فيه انه سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في مبحث اعتبار الأعلمية عدم الاعتماد على هذا الأصل.

(الشرط الثاني عشر). أن يكون متكلما

(الشرط الثاني عشر. أن يكون متكلما) فلا يصح تقليد الأخرس و لعله لعدم فهم الفتوى منه فلا يحصل الاطمئنان برأيه. و فيه إمكان ذلك بالكتابة أو الإشارة منه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 210

(الشرط الثالث عشر) أن يسمع

(الشرط الثالث عشر. السمع) فلا يصح تقليد الأصم لأنه لا يستطيع أن يفهم السؤال حتى يجيب عنه فيضيع الحق. و فيه انه يمكن السماع بالآلة و يمكن السؤال بالكتابة و لو فرض عدم إمكان السؤال فهو لا يضر بإمكان أن يبين الفتوى باللسان و البنان فيرجع له فيها.

(الشرط الرابع عشر) الحرية

(الشرط الرابع عشر. الحرية) فلا يجوز تقليد المملوك بجميع أقسامه و قد استدل على اعتبارها بأنه لا ولاية له على نفسه فكيف يكون له الولاية على المسلمين. و لنقل الإجماع. و لأنه منصب خطير فلا يعطي لمثل العبد.

و لعدم نصبهم (ع) أحدا من عبيدهم للفتوى كما نصبوا يونس و غيره. و لقوله تعالى ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ. و الفتوى شي ء من الأشياء فمقتضى الآية عدم القدرة عليها. و لعدم قبول شهادته مطلقا كما عن بعضهم. و لا يخفى ما في ذلك.

أما في الأول فلأن نفي الولاية لا يستدعي نفي جواز العمل بالفتوى و إنما يستدعي عدم صحة ولايته على المجانين و القاصرين و نحوهم.

و أما الثاني فلأن نقل الإجماع إنما هو مختص بالقضاء لو سلمنا حجيته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 211

و أما الثالث فإن الإفتاء ليس منصبا و إن كان على ما ببالي أن المرحوم الشيخ أحمد كاشف الغطاء (ره) يراه منصبا إلهيا. نعم الولاية على المسلمين منصب من المناصب و بهذا ظهر الجواب عن الثالث.

و أما الرابع فالظاهر انه في مقام عدم نفوذ تصرفاته لا نفي معرفته بالأشياء و عدم اطلاعه بالأحكام الشرعية.

و أما الخامس فهو غير مسلم و من أراد معرفة ذلك فليراجع كتاب الشهادات

(الشرط الخامس عشر) أن لا يكون مقبلا على دنياه

(الشرط الخامس عشر. أن لا يكون مقبلا على الدنيا) و طالبا لها و مكبا عليها مجدا في تحصيلها، و هذا الشرط غير العدالة فإن العدالة توجد في تجار المال مع انه مقبل على الدنيا و طالبا لها و مكبا عليها و يدل على هذا الشرط المروي عن تفسير الحسن العسكري (ع) من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه

مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه. و هذا الخبر و إن كان ضعيفا إلا أن اعتماد الفقهاء عليه و استنادهم إليه أوجب الوثوق بصدوره مضافا الى ما دل على ذم حب الدنيا و الانكباب عليها و التفاني في سبيلها فإنها تدل بفحواها إن من تلبس بذلك لا يصلح للمرجعية في التقليد و لم ينال المرتبة العالية من العلوم الدينية فإنها منحة إلهية لا تعطى إلا لمن أخلص للّه و أزال حب الدنيا عن قلبه و هواه فإنه سبب كل ظلمة و غشاوة و رأس كل خطيئة و معصية و قد ورد بعدة طرق عنهم (ع) انه ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها هذا في أولها و هذا في آخرها بأفسد فيها من حب المال و الشرف في دين المسلم، و في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 212

الكافي في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السلام كيف يكون من أهل العلم من هو في مسيره إلى آخرته و هو مقبل على دنياه و ما يضره أحب إليه مما ينفعه. و ما في الكافي أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) في مناجاة موسى (ع) إن عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم و سائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم.

(الشرط السادس عشر) العدالة
اشارة

(الشرط السادس عشر. العدالة) فلا يجوز تقليد الفاسق مطلقا و لو كان مجتهدا، للإجماع المحكي عن ظاهر جماعة مثل التهذيب للعلامة، و المبادي لفخر الإسلام، و لأن غير العدل لم يكن أمينا و العقلاء لا يقبلون غير الأمين في اخباره و لأن غير العدل لا تقبل شهادته و لا يجوز الاقتداء به

فعدم جواز تقليده أولى فإن من كان منحطا عن رتبة قبول الشهادة منه فالأولى أن ينحط عن رتبة قبول الفتوى منه و لأن غير العادل ظالم لنفسه فلا يركن اليه لقوله تعالى وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، و لآية النبإ و هي قوله تعالى إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ.

و لقول الصادق (ع) في تفسير العسكري (ع): و أما من كان من الفقهاء حافظا لنفسه صائنا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه و ذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم فان من ركب من القبائح و الفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منه شيئا و لا كرامة. و لما هو المحكي في المستند في كتاب القضاء عن الخصال فاتقوا الفاسق من العلماء. و قد يستدل على اعتبار العدالة بالترجيح بالأعدلية في موثقة عمر بن حنظلة بتقريب أن أصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 213

العدالة لو لم يكن معتبرا لكانت هي من المرجحات لا الأعدلية. و فيه ان الموثقة ظاهرة في القضاء. و قد يستدل بما في التوقيع الشريف من قوله (ع) فإنه حجتي عليكم في مقام السؤال عن المرجع فإنه (ع) جعلهم حجة في الرواية و الفتوى و لا شك ان الرواية مقيدة بالعدول فالفتوى تكون كذلك إلا اللهم أن يقال أنا نمنع من تقييد الرواية بالعدول و قد ناقش المرحوم الأصفهاني (ره) في الأدلة على اعتبار العدالة في الفتوى فذكر في رواية العسكري (ع) انها لا تدل على أزيد من اعتبار الأمن من الكذب و الخيانة و إن آية النبإ بمناسبة الحكم للموضوع لا تستدعي أزيد من اعتبار الوثوق مضافا الى ما ثبت من أن أدلة حجية

الخبر و الفتوى واحدة و لا يعتبر في الخبر إلا الوثوق و عليه عمل الأصحاب فلا وجه لاعتبار الزيادة في الفتوى. و لا يخفى ما فيه أما الرواية فهي ظاهرة في اعتبار العدالة فإن الصفات المذكورة فيها تستلزم العدالة بل الورع.

و آية النبإ و أدلة حجية الخبر ليست وحدها هي المستند بل قد عرفت أن غيرها أيضا من المستند. و أما مناقشة بعض محشي العروة في رواية العسكري (ع) بأنها ضعيفة و إن موردها أصول الدين فلا يخفى ما فيها فان ضعفها منجبر باعتماد المشهور عليها اعتمادا يوجب الوثوق بها مضافا لنقل احتجاج الطبرسي لها و قرائن الصحة تلوح عليها لما فيها من الخدش بعلماء الفريق الثاني و كون تفسير العسكري غير معلوم الصحة لا يقتضي عدم صحة الرواية إذا كان هناك ما يوجب الوثوق بها. و أما كون موردها أصول الدين فقد تقرر في محله أن المورد لا يخصص الوارد و لا يقيده مضافا الى أنه كيف يحكم الامام (ع) بالتقليد في أصول الدين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 214

ما يشترط فيه العدالة

و ينبغي التنبه في المقام على أمور:
(أحدها) ان العدالة شرط لقبول اخباره بفتواه أو شرط لجواز العمل بفتواه أو شرط للجميع

قالوا و تظهر الثمرة فيما لو كان فاسقا و علم بصدقه في اخباره بفتواه أو أخبر بها حال عدالته أو علم بفتواه من غير جهة أخباره فإنه على الأول تقبل فتواه دون الثاني و الثالث، و الظاهر هو الأول فإن مقتضى الاستدلال بآية النبإ هو اعتبار العدالة في قبول الخبر و هكذا مقتضى الاستدلال بالأولوية من عدم قبول شهادته كما ان الثاني هو الظاهر من معاقد إجماعاتهم على عدم جواز استفتاء غير العادل و من قول العسكري (ع) المتقدم فللعوام أن يقلدوه.

عدم اعتبار العدالة في عمل المجتهد بفتواه

(ثانيها) انه لا يعتبر في عمل المجتهد بنفسه في فتواه هذا الشرط

لما تقدم من وجوب عمل الإنسان باجتهاد نفسه في أحكام المجتهد.

حقيقة العدالة

(ثالثها) إن العدالة قد اختلف فيها القوم على أقوال
اشارة

و لا بد لنا من البحث في ذلك لاشتراط الأصحاب لها في مواضع كثيرة

: (منها) عدالة الشاهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 215

و المقلد و الراوي و القاضي و الكاتب و المترجم و عامل الصدقة و المقوّم للمال و المقسّم و النائب في العبادات و أمين الحاكم على مال الأيتام و الغائبين و المجانين و على قبض الحقوق المالية و المنصوب من قبل الحاكم على نظارة الوقف أو الوصايا و الوصي بالوصاية العهدية على مال الأطفال و المجانين و تفريق الحقوق المالية و امام الجماعة و الودعي الذي يوضع عنده مال الغير و نحو ذلك.

[بيان معنى العدالة عند اللغة و العرف و الشرع]
اشارة

و قبل الخوض فيها لا بد لنا من بيان معناها اللغوي و إنها مستعملة في لسان الشرع فيه أو في معنى جديد يكون حقيقة شرعية للفظ العدالة. فنقول قد ذكروا لها معاني لغوية خمسة:

(منها المساواة) مثل قولهم: هذا المقدار عدل لهذا المقدار. و هذه الكفة من الميزان عدل لهذه الكفة. (و منها) خلاف الظلم كما يقال سلطان عادل أي غير ظالم. (و منها الإحسان) كما في قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ. بناء على أن عطف الإحسان على العدل عطف تفسير. (و منها التوسط) كما يقال فلان عادل في معيشته أي متوسط فيها بين طرفي الإفراط و التفريط. (و منها المثل) كما يقال فلان عديم العدل أي المثل و لكن التحقيق ان معناها لغة الاستواء و الاستقامة كما هو المحكي عن المدارك و غيره. و في المحكي عن المبسوط و السرائر ان العدالة لغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال و متساويا فيها. و في المجمع العدل القصد في الأمور و خلاف الجور و الجميع يرجع الى المساواة و عدم الانحراف عن الطريق المستقيم و هو المتبادر منها و ما ذكروه من المعاني

الأخرى لعلها من قبيل المصاديق أو المعاني المجازية و قد حكى صاحب الضوابط اتفاق اللغويين على ان معناها الحقيقي هو المساواة. و كيف كان فالظاهر من إطلاقها ثبوت ملكة تستدعي ذلك لأن المصادر للأوصاف التي تكون على هذا الوزن الظاهر منها و المتبادر منها وجود ملكات لها كالبلاغة و الفصاحة و الشجاعة و السخاوة مضافا الى أن سائر الأوصاف الحسنة تستدعي وجود

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 216

ملكات لها و إلا فمجرد صدور أفعالها من الشخص لا يوجب اتصافه بها على سبيل الإطلاق فإن الشخص لا يقال له شجاع بقول مطلق بمجرد صدور الشجاعة منه آنا ما و لا يقال سلطان عادل بمجرد صدور العدل مرة واحدة منه و عليه فالعدالة ظاهرها بحسب معناها اللغوي هو الاستواء و الاستقامة عن ملكة و حيث ان الشارع المقدس يكون الاستواء و الاستقامة عنده بسلوك الصراط المستقيم الذي جعله للعباد و هو إنما يكون بترك المحرمات و فعل الواجبات كان إطلاق العدالة في لسانه المقدس يقتضي وجود ملكة تلازم فعل الواجبات و ترك المحرمات و حيث أن الأشياء المنافية للمروة كالأكل في الأسواق و المشي بدون وقار تنافي الاستقامة و الاستواء للشخص عند العرف العام فكان إطلاق العدالة في لسان الشرع يفهم منه الملكة المذكورة الملازمة للاستقامة عند الشارع و عند العرف نظير ما إذا أطلق لفظ (الكامل) بدون قيد في لسان الشارع فإنه يفهم منه الكامل عند الشارع و عند العرف و بهذا ظهر لك فساد ما يظهر من غير واحد من انها لو وجدت في كلام الشارع أو أحد أوصيائه (ع) لم تحمل على ملكة فعل الواجبات و ترك المحرمات و منافيات المروة

إلا أن تثبت الحقيقة الشرعية فإنه قد عرفت انها تحمل على ذلك بمجرد إطلاقها إلا أن تقوم قرينة من الشارع على عدم ارادة هذا المعنى منها كما ظهر ان الشارع لم ينقلها لمعنى خاص غير المعنى اللغوي.

(إن قلت) إن الظاهر لمن تتبع الأخبار و لاحظها ان معنى العدالة عند الشارع و أوصيائه (ع) غير معناها عند أهل اللغة ألا ترى إلى صحيحة ابن يعفور حيث سأل الراوي فيها الامام (ع) بقوله بم تعرف العدالة فإن العدالة لو كانت عند الشارع هي معناها عند أهل اللغة. و إن الشارع قد استعملها في ذلك لما سئل الراوي عنها. (قلنا) السؤال لم يكن عن معنى العدالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 217

و إنما هو عن طرق معرفتها كما يسأل السائل عن طرق معرفة الهلال و القبلة و نحو ذلك من الموضوعات الخارجية. و مقتضى ذلك ان معناها معلوم للسائل و إلا لكان عليه أن يسأل عن معناها لا عن طرق معرفتها، بل عدم سؤاله عن معناها مع أن الشارع لم يعرف عنه لها معنى عنده يقتضي ان السائل كان يرى أن معناها العرفي و الشرعي واحد. (و الحاصل) ان العدالة في لسان الشارع مستعملة في معناها اللغوي غاية الأمر ان الاستقامة عند الشارع هو بفعل الواجبات و ترك المحرمات بواسطة ما فهمناه من الآيات الشريفة و الأخبار الجلية و الاستقامة عند العرف هي عدم منافيات المروة فإذا أطلقت في لسانه (ع) حملت على الاستقامتين و حيث ان ظاهر الوصف هو وجود ملكة عليه لذلك كان المفهوم من إطلاقها هو وجود ملكة على الاستقامتين الشرعية و العرفية و يؤيد ذلك و يؤكده الإجماعان اللذان نقلهما الفاضل

المقداد، و شارح الإرشاد ففي الأول ان العدالة عبارة عن الملكة بإجماع العلماء. و في الثاني على ما حكاه صاحب الرياض ان المعروف بين العامة و الخاصة ان العدالة بمعنى الملكة. و بعد أن عرفت ما هو الحق في العدالة و المعنى المراد منها في لسان الشارع ننقل لك الأقوال في ذلك تنويرا للذهن و تكميلا للفائدة و إيضاحا للحقيقة فنقول: إن الفقهاء قد اختلفوا في معناها الشرعي.

(فالقول الأول) أنها ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق

و هو المحكي عن ابن جنيد و الشيخ الطوسي في الخلاف و المفيد في كتاب الأشراف و الشهيد الثاني و قد نسب لبعضهم ان مراد القائلين بهذا القول هو الحكم بالعدالة من باب الأصل لا أنه نفس حقيقتها كما حكي ذلك عن التبيان و الدروس و الذكرى و المسالك و الجعفرية و الكفاية و المستند و كيف كان فقد احتجوا لهذا القول بالإجماع المحكي عن الشيخ (ره) في الخلاف حيث قال (ره) إن البحث عن عدالة الشهود ما كان في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 218

أيام النبي (ص) و لا في أيام الصحابة و لا في أيام التابعين و إنما هو شي ء أحدثه شريك ابن عبد اللّه القاضي و لو كان شرطا ما أجمع أهل الأمصار على تركه انتهى. و يمكن الجواب عن الإجماع.

(أولا) بأنه لا يدل على المدعى و إنما يدل على عدم اعتبار العدالة في الشهود لا أن العدالة معناها ذلك إلا اللهم أن يستفاد ذلك بضميمة الآية و الإجماع على اعتبار العدالة في الشهود فان هذا لو ضم الى الاكتفاء بظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق في الشهود يثبت منه أن العدالة هو ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق.

(و ثانيا) بأنه

موهون بمصير الأكثر على خلافه و معارض بالإجماع المنقول عن المسالك على خلافه. و المنقول في الرياض عن المحقق (ره) إجماع الأمة على عدم كون العدالة المعتبرة هي ظهور الإسلام و عدم ظهور الفسق. و المنقول عن الشيخ الأنصاري (ره) انه في درسه قال ان الشيخ الطوسي (ره) في بعض كلماته دلالة على أن العدالة خلاف ذلك. و في المحكي عن الوسائل عن الحسن العسكري في تفسيره ان النبي (ص) إذا شهد عنده من لا يعرف حاله بعث برجلين من أصحابه الأخيار لمعرفة حال الشهود إلى قبائلهم و محلاتهم. و عليه فلا وجه لما حكي عن الشيخ من عدم الفحص عن الشهود في عصر النبي (ص) و احتجوا بالأخبار أيضا. (منها) ما رواه الكليني في الصحيح عن حريز عن أبي عبد اللّه (ع) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدّل منهم اثنان و لم يعدّل الآخران قال فقال (ع) إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا و أقيم الحد على الذي شهدوا عليه انما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا و على الوالي أن يجيز شهادتهم جميعا إلا أن يكونوا معروفين بالفسق. و هذه الرواية دالة على المطلوب إلا أنها مختصة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 219

بالشهادة. (و منها) رواية العلاء بن سيابة قال: سألت أبا عبد اللّه عن شهادة من يلعب بالحمام؟ قال (ع): لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق و هذه أيضا مختصة بالشهادة. (و منها) رواية سلمة بن كهيل قال سمعت عليا (ع) يقول لشريح في حديث و اعلم ان المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد لم يتب

منه أو معروف بشهادة زور أو ظنين، و المراد بالظنين المتهم كما ذكره أهل اللغة. (و منها) صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عما يرد من الشهود؟ قال: الظنين و المتهم و الخصم. قال: قلت: و الفاسق و الخائن؟

قال (ع): كل هذا يدخل في الظنين، و في معنى هذه الرواية رواية عبد اللّه ابن سنان، و سليمان بن خالد، و صحيحة الحلبي. و هذه أيضا مختصة بالشهادة (و منها) ما حكي عن أمالي الصدوق (ره) و عن من لا يحضره الفقيه بسند فيه صالح بن عقبة (الذي ذكر العلامة في شأنه انه كذاب غال لا يلتفت اليه) عن علقمة قال: قلت للصادق يا بن رسول اللّه أخبرني عمن تقبل شهادته و عمن لم تقبل شهادته فقال: يا علقمة كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته قال:

فقلت له: تقبل شهادة مقترف الذنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة مقترف الذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء و الأوصياء لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنبا الحديث. و هذا أيضا مختصة بالشهادة. (و منها) حسنة البزنطي عن أبي الحسن (ع) فان فيها انه (ع) قال: من ولد على الفطرة أجيزت شهادته. و هي أيضا مختصة بالشهادة.

و الجواب عن هذه الروايات:

(أولا) انها مختصة بالشهادة ما عدى الثالثة منها و هي ضعيفة إلا أن يلتزم بعدم الفصل بين الشهادة و غيرها مما يعتبر فيه العدالة و لكن المحكي عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 220

الشيخ (ره) في العدة

انه فرق بين عدالة الشاهد و الراوي فاشترط في عدالة الشاهد الايمان و لم يشترطها في الراوي و اشترط في الشاهد عدم فسق الجوارح الظاهرة و لم يشترط ذلك في الراوي و ظاهر كلامه (ره) كون طريقة الأصحاب على ذلك.

(و ثانيا) انها مخصصة بما دل على اعتبار حسن الظاهر و ظهور الصلاح أو الملكة و على فرض عدم أخصيتها فهي أرجح بكونها أكثر عددا و أصح سندا و أظهر دلالة و أشهر فتوى و لأهل الخلاف مخالفة و لذا جعل هذه الأخبار بعضهم محمولة على التقية حيث ان العامة لا يعتبرون في الشهادة غير ذلك.

(و ثالثا) مخالفة لظاهر القرآن المجيد حيث يقول سبحانه وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فان ظاهر الآية اعتبار أمر آخر وراء الإسلام لأن قوله تعالى:

«مِنْكُمْ». اشارة للمسلمين فيكون دالا على إسلام الشاهد فلو كانت العدالة هي ظهور الإسلام لكان قوله (ذَوَيْ عَدْلٍ) زائدا. و يمكن الجواب عنه انه من المحتمل أن يكون المخاطب هم الناس لا خصوص المسلمين مضافا الى احتمال أن المراد عدم ظهور الفسق.

(القول الثاني في العدالة) انها اجتناب المعاصي

سواء الكبائر و الصغائر و حكي ذلك عن المفيد (ره)، و ابن البراج، و أبي الصلاح، و ابن إدريس، و الطبرسي و هو ظاهر الكفاية و استدل لهم بما في رواية صالح بن علقمة فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا و لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة ص 219. و لا يخفى ما فيه فإنه بملاحظة صدرها تكون ظاهرة في ان ارتكاب الذنب في نفسه غير مانع من العدالة (و قد ذهب هؤلاء) الى أن الذنوب كلها كبائر و إنما سمي بعضها بالصغائر بالإضافة الى ما هو أكبر منه و بعضها كبيرا بالإضافة

الى ما هو أصغر منه و قد خالفهم في ذلك جمهور المتأخرين فذهبوا الى أن المعاصي نوعان كبائر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 221

و صغائر و هو المحكي عن الشيخ في المبسوط و ابن حمزة و الفاضلان و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك في تنبيهات العدالة. و قد استدل لهذا القول في العدالة أيضا بروايات القول الثالث الذي سيجي ء إن شاء اللّه تعالى. و الجواب عنها عين الجواب عنه. ثمَّ لا يخفى انه ليس المراد لهؤلاء القائلين بهذا القول هو مجرد الترك للمعاصي آنا ما بل المراد المداومة عليها كما هو الظاهر من كلامهم قدّست أسرارهم.

(القول الثالث في العدالة) انها في الشرع عبارة عن حسن الظاهر

و ظهور الصلاح بأن يكون الرجل متصفا بحسن ما يظهر منه بحسب المعاشرة الظاهرية كملازمة الجماعة و الزيارة و صلة الإخوان وبر الفقراء و الفرق بينه و بين القول الثاني ان هذا يرجع الى الظاهر في مقابل الواقع فلا يلزم البحث عن الباطن و القول الثاني بالعكس فيلزم ذلك و بهذا يظهر لك فساد ما حكى عن صاحب الحدائق من لزوم البحث على القول الثالث و بعضهم أرجع هذا القول الى القول بأن حسن الظاهر طريق العدالة لا انه بنفسه هو العدالة. و كخيف كان فقد ذهب الى هذا القول جمع من المتأخرين كصاحب الجواهر (ره)، و العلامة الجليل عبد اللّه بن السيد محمد رضا الحسيني (ره)، و صاحب المدارك، و الذخيرة و الحدائق، و البهبهاني و غيرهم و حكي عن الشيخ (ره) في النهاية، و الحلي في السرائر. و قد استدل له بعدة روايات: (منها) معتبرة عبد اللّه بن مغيرة قال: قلت للرضا (ع) رجل طلق امرأته و أشهد شاهدين ناصبيين قال (ع)

كل من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته. (و منها) ما رواه المشايخ الثلاثة كل بإسناده إلى يونس بن عبد الرحمن عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أ يحل للقاضي أن يقضي بقول البينة إذا لم يعرفهم؟ فقال (ع) خمسة أشياء يجب على الناس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 222

الأخذ بها بظاهر الحكم الولايات و التناكح و المواريث و الذبائح و الشهادات فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه. و في رواية الفقيه الأنساب مكان المواريث كما ان في رواية الشيخ ظاهر الحال مكان ظاهر الحكم و رواه في الخصال عن محمد بن الحسن عن الصفار عن إبراهيم بن هاشم عن أبي جعفر المقري رفعه الى أبي عبد اللّه (ع) عن آبائه عن علي (ع) انه قال:

خمسة أشياء يجب على القاضي الخبر. و المراد بظاهر الحكم هو ما ظهر من الحكم من كون فلان واليا. و في القضاء فلأنه زوجة فلان أو بالعكس، و فلان وارث فلان. و الشهرة الروائية و الفتوائية لهذا الخبر تجبر ضعفه بالإرسال. (و منها) رواية ابن أبي يعفور عن أخيه عبد الكريم بن أبي يعفور عن أبي جعفر (ع) قال: تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر و العفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذاء و التبرج للرجال في أنديتهم.

(و منها) صحيحة ابن أبي يعفور المتفق على العمل بها و التي رواها الصدوق بسند صحيح في من لا يحضره الفقيه و الشيخ في الاستبصار و التهذيب بسند غير صحيح لوقوع محمد بن موسى في

سندها و قد ضعفه ابن الوليد، و النجاشي، و العلامة و وقوع الحسن بن علي و حاله مهمل في الرجال بخلاف سندها في الفقيه فلذا اعتمدنا على نقلها عن الفقيه دون غيره و إن كان التفاوت بينهما في بعض الألفاظ يسير. قال: ابن أبي يعفور: قلت لأبي عبد اللّه (ع) بم تعرف عدالة الرجل من المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان و تعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمر، و الربا، و الزنا، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف و غير ذلك و الدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و يجب عليهم تزكيته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 223

و إظهار عدالته في الناس و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته. قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك ان الصلوات ستر و كفارة للذنوب الحديث. و الظاهر من قوله أن يعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن هو كون هذه المعرفة يثبت بها العدالة فتكون العدالة عبارة عن هذه الأمور التي هي عبارة عن حسن الظاهر. كما ان الظاهر من معنى كونه ساترا لعيوبه انه

حسن الظاهر مستور الحال. و لا ينافي ذلك قوله فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته. قالوا: ما علمنا منه إلا خيرا. فإن السؤال عنه لا يراد به التفتيش و البحث و التنقير بل المراد به السؤال عن حسن الظاهر عند عدم معرفته بقرينة الاكتفاء بجواب ما علمنا منه إلا خيرا و لا بد من توضيح هذه الرواية لصحتها و العمل بها فنقول: إن ظاهر السؤال ان السائل يعرف المعنى للعدالة و إنما يجهل طرق معرفتها فذكر (ع) الطريق الأول هو وجود الستر و العفاف الخلقيين الذين هما من صفات الكمال في حد ذاتهما مع قطع النظر عن الشرع. و كذا كف الجوارح الأربع عما ينقص الإنسان مع قطع النظر عن الشرع فان المتدين إذا وجد فيه ذلك يكون دليلا على عدالته و استقامته في أموره الشرعية فتكون هذه الملكات دليلا على ملكة خاصة التي هي العدالة. ثمَّ ذكر الطريق الثاني اجتناب الكبائر و كف النفس عن المعاصي الكبيرة الشرعية فالطريق الأول طريق عرفي و الثاني طريق شرعي ثمَّ لما كان هذان الطريقان قد يصعب على الإنسان معرفتهما في رجل لاقتضاء ذلك معاشرته معاشرة تامة و هذا لا يتفق لأغلب الناس جعل الشارع ستر الإنسان عيوبه بأجمعها من الصغيرة و الكبيرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 224

بين الناس دليلا على تحقق ذينك الطريقين و امارة عليهما فيكون من قبيل الامارة على الامارة ثمَّ جعل طريقا ثالثا للعدالة و هو التعاهد للصلوات. و الضمير في قوله و يكون منه عائد لما يعرف به العدالة أي و يكون من الذي يعرف به العدالة هو ذلك فظهر من هذا ان الرواية دالة على أن حسن

الظاهر امارة على العدالة لا ان نفسه عبارة عن العدالة. (و منها) ما رواه الصدوق (ره) في الخصال عن الرضا (ع) عن آبائه عن علي (ع) قال: قال رسول اللّه (ص): من عامل الناس فلم يظلمهم و حدثهم فلم يكذبهم و وعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجبت اخوته و حرمت غيبته. و عن أصول الكافي في باب المؤمن و علاماته في الموثق عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (ع) نحو ذلك بتقديم و تأخير. (و منها) ما عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) قال ثلاث من كن فيه أوجبت له أربعا على الناس إذا حدثهم لم يكذبهم و إذا وعدهم لم يخلفهم و إذا خالطهم لم يظلمهم وجب أن يظهروا في الناس عدالته و يظهروا فيه مروته و أن يحرم عليهم غيبته و ان تجب عليهم أخوته. (و منها) موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) قال: لا بأس بشهادة الضيف الضيق خ ل إذا كان عفيفا صائنا. (و منها) رواية العلاء بن سيابة عن أبي عبد اللّه (ع) في المكاري و الملاح و الجمال قال: لا بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء. (و منها) صحيحة عمار بن مروان في الرجل يشهد لابنه و الابن لأبيه و الرجل لامرأته قال: لا بأس بذلك إذا كان خيّرا. (و منها) حسنة إبراهيم بن هاشم عن أبي الحسن (ع) قال: من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يعرف منه خيرا. (و منها) المروي في الأمالي بسنده عن الصادق (ع) من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنوا به

خيرا و أجيزوا شهادته و هذه الأخبار مقدمة على أخبار القول الأول لأنها موافقة لظاهر الكتاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 225

و مخالفة للعامة على انها أخص من تلك. (و الجواب) عن هذه الأخبار هو ما يأتي من الأدلة على القول الرابع لا سيما صحيحة ابن أبي يعفور حيث دلت على أن حسن الظاهر أمارة على العدالة و دليل عليها مضافا الى ما قيل من أن حسن الظاهر لو كان بنفسه عدالة للزم الحكم بعدالة من كان ظاهره الصلاح و ان علمنا في مستسر السر انه يرتكب الكبيرة و لم يقل بذلك أحد.

(و قد يستدل أيضا لهذا القول) بأن معرفة الواقع متعذرة فإذا أمر المولى عبده بشي ء أراد منه الظاهر فاذا قال أكرم هاشميا فالمراد به ما كان بحسب الظاهر هاشميا لا الهاشمي الواقعي الذي لا سبيل إلى إحرازه عادة فهكذا العدالة (و جوابه) ان هذا لا يقتضي أخذ الموضوع بحسب ظاهره و إنما هو مأخوذ بحسب واقعه و الظاهر يكون طريقا له و لذا لو انكشف الخلاف أعاد العمل.

(القول الرابع في العدالة) انها في الشرع عبارة عن ملكة نفسانية تبعث على ملازمة التقوى

و المروة و ليست عبارة عن نفس الملكة المجردة الغير الملازمة لفعل الواجبات و ترك المحرمات كما هو الظاهر من عبارة السيد (ره) في العروة في مسألة (23) من مسائل التقليد. و في المحكي عن رسالة الشيخ الأنصاري (ره) منع القول بأنها مجرد الملكة من أقوال المسألة قائلا أنهم متفقون على أن العدالة تزول بارتكاب الكبيرة و يحدث الفسق الذي هو ضدها، و حينئذ فأما أن تبقى الملكة أو تزول فان بقيت ثبت اعتبار فعل الواجبات و ترك المحرمات في العدالة و إن زالت ثبت ملازمة الملكة للفعل و الترك المذكورين. و

يؤيد ذلك انهم فسروا العدالة بالملكة الباعثة على ملازمة التقوى. و ظاهره الملازمة الفعلية. هذا مضافا إلى عدم مساعدة الدليل على انها نفس الملكة كما سيجي ء إن شاء اللّه كما انها ليست بالملكة الباعثة على التقوى و إنما تبعث على ملازمة التقوى و تجعل الخوف من اللّه تعالى أو الخوف من العقاب أو الحب لذات اللّه تعالى تؤثر في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 226

النفس و هذا القول هو المحكي عن المختلف و القواعد و الإرشاد و التحرير و المهذب و نهاية الأصول و المنية و الدروس و الذكرى و التنقيح و الروضة و الروض و جامع المقاصد و المعالم و الرياض و نسبه المولى الأردبيلي (ره) إلى المشهور في الفروع و الأصول و الفاضل الهندي (ره) إلى المشهور بين الخاصة و العامة و عن الذخيرة نسبته إلى المتأخرين و في التنقيح نسبته إلى الفقهاء مشعرا بدعوى إجماعهم عليه، و اليه ذهب جماعة من محققي العامة فقد حكي انه ذهب إليه الغزالي و الحاجبي و العضدي و الآمدي و عن الكفاية ان تفسير العدالة بالملكة نشأ من العلامة اقتفى به العلامة و لا أثر للملكة في الأخبار و لا في كلام المتقدمين من الأخيار، و عن الذخيرة و الحدائق دعوى تفرّد العلامة و من تأخر عنه بتفسيرها بالملكة و خلو كلمات المتقدمين من ذلك. (و لا يخفى ما فيه) فان كلمات المتقدمين و ان كانت لا تصريح فيها بلفظ الملكة إلا انهم ذكروا في تعريفها ما لا يتم بدون الملكة نحو المنقول عن المفيد (ره) ان العدل من كان معروفا بالدين و الورع عن محارم اللّه تعالى. و عن الشيخ في النهاية

أن يكون ظاهر الايمان ثمَّ يعرف بالستر و العفاف إلى آخر ما في صحيحة ابن أبي يعفور الدالة على اعتبار الملكة في العدالة و عن ابن البراج العدالة تثبت في الإنسان بشروط: البلوغ. و كمال العقل.

و الحصول على ظاهر الايمان. و الستر. و العفاف. و اجتناب القبائح. و نفي التهمة و الظنة و الحسد و العداوة. و مثله عن أبي صلاح إلى غير ذلك من عبارات المتقدمين الدالة علي اعتبار أشياء في العدالة لا تحصل غالبا إلا من ذوي الملكات هذا مع ان ثمرة النزاع هو مراعاة الاختبار و الفحص على القول بالملكة و عدمه على القول بغيرها. و لا ريب ان ما ذكره القدماء يتعذر معرفته بدون الاختبار فيكون قولهم متحدا مع القول بالملكة في الثمرة، و إنما لم يعبروا القدماء بالملكة لأنهم يقتصرون غالبا على متون الأخبار فيتسامحون في التعبير. و أرادوا بالملكة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 227

الصفة الراسخة في النفس التي يعسر زوالها و احترزوا بها عن الحالة المنتقلة بسرعة كحمرة الخجل و صفرة الوجل بمعنى ان صدور التقوى منه و المروة لا بد أن يكون عن صفة نفسانية راسخة يعسر زوالها. و اختلفوا في تفسير التقوى فقيل انها اجتناب الكبائر و الصغائر و هو المحكي عن المفيد (ره) و أبي الصلاح و ابن إدريس و الطبرسي و قيل انها اجتناب الكبائر و من جملتها الإصرار على الصغائر دون الصغائر و قالوا ان فعل المكروهات و ترك المستحبات غير قادح بالعدالة ما لم يبلغ درجة التهاون و الاستخفاف بالدين فيدخل في المحرمات. و فسروا المروة بأنها اتباع محاسن العادات و اجتناب مساويها و اجتناب ما ينفر عنه من

المباحات و يؤذن بخسة النفس و دناءتها كلبس الفقيه لباس الجندي و البول في الشوارع أمام الناس و الإفراط في المزاح و الضحك أمام الناس و غير ذلك مما يدل على خسة النفس و عدم حيائها و دناءة الهمة و عدم المبالاة و يختلف ذلك بحسب الأحوال و الأوقات. (و كيف كان) فالأصل يقتضي انها بمعنى الملكة لأصالة عدم تحقق المشروط بها إلا بعد اليقين بتحققها و لا يقين بدون الملكة. هذا و الذي يمكن أن يستدل به أو استدل به على هذا القول أمور:

(الأول) ما ذكرناه سابقا ص 215 من أن معنى العدالة هو ذلك لغة و عرفا و شرعا.

(الثاني) صحيحة ابن ابي يعفور المتقدمة في أدلة القول الثالث ص 222 حيث دلت على ان حسن الظاهر دليل على العدالة فلا بد أن تكون العدالة معنى نفسانيا يقتضي و يلازم حسن الظاهر و إلا لانفك عنها و أيضا قد جعل فيها الستر و العفاف دليلا على العدالة فإنه يستفاد منها ان العدالة قوة نفسانية تدل عليها هذه الأمور.

(الثالث) ما تقدم من رواية الخصال ص 224 فإنها دلت على أن حسن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 228

الظاهر يدل على العدالة و تظهر به العدالة فلا بد أن تكون العدالة أمرا واقعيا يظهر بذلك.

و رواية عبد اللّه بن سنان المتقدمة ص 224 و معتبرة عبد اللّه ابن المغيرة ص 221 التي دلت على أن الصلاح يتحقق به العدالة. و رواية ابن أبي يعفور الثانية ص 222 و رواية العلاء ص 224 اللتان دلتا على أن الستر يتحقق به العدالة. و موثقة أبي بصير ص 224 التي دلت على تحقق العدالة بالعفة و الصون

للنفس. و رواية عمار. و حسنة إبراهيم المتقدمتان ص 224 الدالتان على أن كون الشخص من أهل الخير يقتضي تحقق العدالة. و من المعلوم ان الظاهر منها ان هذه الصفات ملكات تقتضي التجنب عن المعاصي و ترك منافيات المروة فلا يصغي الى قول المرحوم الأصفهاني قدس سره من أن هذه الأمور عناوين انتزاعية من الأعمال و الأخلاق و ليست من القوى النفسانية.

(الرابع) ما ربما يقال من أن الأقوال كلها ترجع لهذا القول فيكون هذا القول مجمعا عليه فان القول الأول يرجع الى أن الإسلام طريق للعدالة و القول الثاني لا بد فيه من المداومة على اجتناب المعاصي لإجماعهم على أن فعل المعصية ينافي العدالة و أن يكون الترك من جهة الدين لا لعدم المقتضي أو وجود المانع الخارجي كترك الأعمى النظر للأجنبية أو ترك العنين الزنا و لا يكون الترك من جهة أخرى كالرياء و السمعة أو مصلحة دنيوية فأذن مرادهم لا بد أن يكون الترك عن مبدأ في النفس باعث على ذلك و هو لا يكون إلا الملكة و القول الثالث يرجع لدعوى ان حسن الظاهر طريق للعدالة. (و جوابه) ان للخصم أن يمنع من ذلك كله. و قد رد على هذا القول:

«أولا» ان أصالة الصحة في أفعال المسلمين و أقوالهم مستلزمة للحكم بأنه لم يقع منه ما يوجب الفسق فيكون عدلا لعدم الواسطة بينهما. (و جوابه)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 229

ان للخصم أن يدعي انا لو أخذنا الفسق بمعنى عدم العدالة فأصالة الصحة لا تستلزم الحكم بأنه لم يقع منه ما يوجب الفسق لأنها لا تثبت وجود الملكة و لا تثبت عدم صدور منافيات المروة منه و ان أخذناه بمعنى

صدور المعصية فنلتزم بالواسطة و هو الذي لم يصدر منه معصية و لم تكن عنده ملكة كالإنسان أول بلوغه أو كان عنده ملكة و لكنه لم يترك المنافيات للمروة.

«و ثانيا» دعوى الإجماع على خلافه من جملة من المحققين منهم الفاضل السبزواري صاحب الذخيرة حيث حكي عنه انه قال لم أجد ذلك في كلام من تقدم على العلامة (ره) و ليس في الأخبار منه أثر و لا شاهد و كأنهم اقتفوا في ذلك أثر العامة حيث يعتبرون الملكة في مفهوم العدالة و يوردونه في كتبهم و في المحكي عن الصدر الشريف في شرح الوافية ان اشتراط هذا المعنى في الواقع حيث اعتبر الشارع العدالة لم أطلع على دليل ظني لهم عليه فضلا عن القطعي و صحيحة ابن أبي يعفور عليهم لا لهم كما قيل (و لا يخفى) ما فيه فإنه قد عرفت انها عند الشرع و العرف و اللغة يعتبر فيها الملكة فلا أثر لعدم وجدان ذلك في كلام من تقدم على العلامة بعد قيام الدليل عليه. مضافا لما عرفت من إمكان استفادته من كلمات المتقدمين.

«و ثالثا» ان حصول الملكة المذكورة لا يوجد إلا في الأوحدي من الناس لأن الملكة المذكورة يحتاج حصولها الى مجاهدات شاقة مع تأييد رباني و الاحتياج إلى العادل أمر عام لازم في كل طائفة من كل فرقة من سكان البر و البحر حيث اعتبر في أغلب الأحكام كالشهادة في الحقوق و الطلاق و القضاء و إمامة الجماعة و الوصايا و مراجع التقليد فلو كان الأمر كما يقولون لزم الحرج و اختل النظام.

(إن قلت) ان الشارع اعتبر حسن الظاهر طريقا إليها و هذا يحصل في

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا

بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 230

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 230

أكثر الناس. (قلنا) أن القائل بالملكة ان اعتبر معرفتها بذلك فلا ثمرة للنزاع بأن العدالة حسن الظاهر أو انها ملكة لأن مع استلزامها لذلك فأي فائدة في جعل العدالة ملكة و حسن الظاهر دليلا عليها. (و الجواب) عن ذلك ان العدالة بمعنى الملكة ليست بعزيزة الوجود فإنها عبارة عن حالة مرتكزة في النفس حاصلة من خشية اللّه تردعه عن الخروج عن جادة الشرع الشريف بارتكاب الجرائم الكبيرة أو الخروج عن الطرق المستقيمة العرفية بارتكاب منافيات المروة و هذه الحالة المذكورة غير عزيزة في الناس فإن أهل الحياء و الستر نوعا يتصفون بها هذا و في جعل حسن الظاهر طريقا إليها أوجب سهولة الأمر جدا. (و دعوى) ان حسن الظاهر لو كان طريقا إليها فأي فائدة في جعل العدالة الملكة و أي ثمرة تترتب عليه (فاسدة) فإن حسن الظاهر لا ينافي التكتم بالمعاصي فهو يجتمع مع الفسق الواقعي الذي هو ضد العدالة بخلاف الملكة و بهذا تعرف بأن الإجماع على أن مرتكب الكبيرة فاسق يقتضي ان حسن الظاهر ليس عبارة عن العدالة لأن حسن الظاهر يجتمع مع التكتم بالمعصية مضافا إلى أن حسن الظاهر قد يجتمع مع عدم الملكة (و الحاصل) ان كثرة الطرق التي جعلها اللّه تعالى لمعرفة العدالة كما سيجي ء إنشاء اللّه بيانها ترفع هذا الاشكال.

و «رابعا» أن البحث عن عدالة الشهود لم يكن في أيام النبي (ص) و لا أيام الصحابة و لا أيام التابعين و إنما هو شي ء

أحدثه شريك بن عبد اللّه القاضي و لو كانت العدالة ملكة لما أجمعوا على ترك البحث عنه. (و جوابه) انا لو سلمنا عدم البحث في زمن النبي فإنما هو لمعرفته (ص) بحال المؤمنين إذ كانوا قليلين مع ان إسلامهم و تركهم لدين آبائهم يكشف عن وجود الملكة المذكورة و لم يكن في المدينة غالبا إلا من أسلم طوعا أو كان معروفا حاله. هذا مع انه لم يثبت عدم فحص النبي (ص) عن عدالة الشهود. بل عن مولانا الحسن العسكري (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 231

في تفسيره و عن هداية الحر العاملي مرسلا ان النبي إذا جاءه شهود لا يعرفهم بعث من خيار أصحابه رجلين إلى قبيلة الشهود يبحثان عن حالهم. و اما الصحابة و التابعين فالصالحون منهم لا يختلفون معه (ص).

و «خامسا» انه لو كانت العدالة الملكة لم يوجد عادل أصلا سوى المعصومين كما نطقت به رواية صالح بن علقمة ص 219 و في ذلك حرج شديد و مشقة عظمى و تعطيل للأحكام الشرعية و تضييع للحقوق و تفويت للمنافع الدينية و الدنيوية و هو خلاف الشريعة السمحة السهلة. (و جوابه) ان العدالة بمعنى الملكة أمر (للّه الحمد) شائع منتشر تسهل معرفته بحسن الظاهر و لزوم الجماعات و الاستغفار عند الزلات و شهادة العدول و نحو ذلك مما سيجي ء إنشاء اللّه. و اما الرواية فهي مع ضعفها ظاهرة في عدم اعتبار العصمة لا العدالة بمعنى الملكة فان العصمة لا تزول فلا يعقل صدور الذنب من صاحبها بخلاف العدالة فإنها ملكة قابلة للزوال و ناظرة إلى ان حسن الظاهر كاف في ثبوت العدالة. و لو تنزلنا فهي معارضة بما عداها من الروايات كصحيحة

ابن أبي يعفور و نحوها مما هو معتضد بالشهرة و أكثر عددا و مطابق للكتاب.

و «سادسا» انه حكى غير واحد الإجماع على عود العدالة بمجرد التوبة إذا زالت بفعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة أو ما ينافي المروة و هذا ينافي كون العدالة بمعنى الملكة لأن الملكة إن كانت لا تنافي فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة أو ما ينافي المروة فالعدالة لم تكن زائلة بذلك فلا يصح القول بعودها بالتوبة عنه إذ هي لم تذهب حتى تعود مضافا إلى انه خلاف إجماعهم على زوالها بالكبيرة و إن كانت تنافي ذلك و لم تبق عند ذلك فهي لا تعود بمجرد التوبة بل لا بد في عودها من الاستمرار على الصلاح و المواظبة على الواجبات و ترك المحرمات بخلاف ما لو قلنا بأنها ترك المحرمات فإنه بفعل التوبة قد ترك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 232

المحرمات و هكذا لو قلنا بأنها الإسلام مع عدم الفسق فإنه بالتوبة يحصل ذلك و هكذا لو قلنا بأنها حسن الظاهر فإنه يتحقق بالتوبة و إظهارها (و جوابه) ان الإجماع المذكور منقول و هو ليس بحجة مع مخالفة بعض المحققين في ذلك حيث التزم بعدم عودها بمجرد التوبة إلا إذا عادت إليه الملكة المذكورة و عود الملكة يعرف بالطرق الآتية لمعرفة العدالة كالمداومة على الصلاح و الاختبار مدة يغلب الظن بإصلاح السريرة فيها و سيجي ء إنشاء اللّه توضيح ذلك و تنقيحه.

و «سابعا» ان ما اشتهر بينهم من تقديم الجارح على المعدل عند التعارض لا يتم على تفسير العدالة بالملكة لأن كلا منهما يشهد بأمر وجودي ينافي الآخر بخلاف ما إذا قلنا بحسن الظاهر فان ظهور حسن الحال لا

يمنع من صدور الفسق فيجمع بين الشهادتين و يحكم بالفسق. (و جوابه) ان الشهرة ليست بكاشفة عن ذلك إذ لعلها استندت إلى أمر آخر كدعوى تقديم الموافق للأصل على غيره و ان الأصل عدم العدالة و ان الفسق عبارة عن عدم العدالة و لو تمت فهي ليست بحجة.

و أجاب الشيخ الأنصاري (ره) ما حاصله ان عدم الكبيرة مأخوذ في العدالة إجماعا و المعدل إنما يعرف هذا الأمر العدمي بأصالة العدم أو أصالة الصحة أو قيام الإجماع على أن العلم بالملكة يكون علما بحسن الظاهر الذي هو طريق للعدالة و لا يعتبر علمه أو ظنه بعدم صدور الكبيرة منه الى زمان أداء الشهادة. فأحد جزئي الشهادة و هو تحقق الأمر العدمي ثابت بالطريق الظاهري و من المعلوم ان شهادة الجارح حاكمة على هذا الطريق لان من يعلم حجة على من لا يعلم (و يمكن أن يقال عليه) ان الملكة المأخوذة في العدالة ملازمة لترك الكبيرة فالشاهد يستند الى العلم بوجودها الملازم للعلم بعدم الكبيرة.

و «ثامنا» ما عن مفتاح الكرامة من اطباق الفقهاء إلا السيد و الإسكافي على صحة صلاة من صلى خلف من تبين كفره و فسقه بعدها فلو كانت العدالة هي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 233

الملكة لأمر بالإعادة لعدم تحققها فلا بد أن تكون عبارة عن حسن الظاهر.

(و الجواب) ان الدليل على الصحة لو كان مستندا لاعتبار العدالة صح الاستدلال لكن المستند هو التعبد من الشارع بذلك. للأخبار الموجودة الدالة على الاجزاء

تقسيم الذنوب الى الكبائر و الصغائر

(رابعها) ان الذنوب تنقسم إلى كبائر و صغائر.
اشارة

و قد عرفت في الكلام في القول الثاني في العدالة انه ذهب جماعة من المتقدمين الى عدم الفرق بينهما و ان الذنوب كلها

كبائر و إنما تختلف شدة و ضعفا بنسبة بعضها الى بعض و قد استدلوا بالإجماع المحكي عن ابن إدريس و ظاهر الطبرسي و الشيخ في العدة. و بما دل على أن كل معصية شديدة و ان كل معصية توجب لصاحبها النار لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ و لقوله تعالى مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ*. و بما روي عنه (ع) لا تحتقروا شيئا من الذنب و ان صغر في أعينكم و لا تستكثروا شيئا من الخير و ان كان كبر في أعينكم فإنه لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار (و لا يخفى ما فيه) فان الإجماع موهون بمخالفة الكثير من أصحابنا و الأخبار لا تدل على المطلوب إذ اشتراك الذنوب في الشدة و استحقاق النار لا ينافي كون بعض الذنوب صغائر كما ان عدم استصغار الذنب لا ينافي كون الذنب صغيرا يكفّره ترك الكبيرة و المحكي عن الشيخ (ره) في المبسوط و ابن حمزة و الفاضلين و جمهور المتأخرين أن المعاصي نوعان: كبائر و صغائر و عن الصيمري و البهائي الإجماع عليه و هو الموافق للكتاب و السنة. قال تعالى:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ و قال تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ و قال (ع): ان الأعمال الصالحة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 234

تكفر الصغائر. و عن الصادق (ع) قال: من اجتنب الكبائر كفر اللّه عنه جميع ذنوبه.

و قد اختلف العلماء في الكبائر على أقوال شتى و الأخبار في تعدادها مضطربة متصادمة و المشهور بينهم أن الكبيرة كل ذنب توعد اللّه عليه النار أو العقاب في كتابه و ما عداه صغيرة

و ان أوعد عليه بالنار في الأخبار (و قيل) كل ما أوعد عليه بالنار في الكتاب أو الأخبار و ما عداه صغيرة (و قيل) هي كل ذنب رتب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بالوعيد (و قيل) هي كل ذنب يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين. (و قيل) هي كل ذنب علم حرمته بدليل قاطع من إجماع أو كتاب أو تواتر (و قيل) هي كلما توعد اللّه عليه توعدا شديدا في الكتاب أو السنة (و قيل) ان الكبيرة عبارة عن المعاصي التي نهى اللّه عنها في سورة النساء من أولها إلى قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ. و ما عداها صغيرة و ان كان مذكورا في الكتاب (و قيل) هي سبع (و قيل) سبعمائة الى غير ذلك من الأقوال.

(و يدل على القول الأول) صحيح أبي بصير في بيان من يؤتى الحكمة قال معرفة الإمام (ع) و اجتناب الكبائر التي أوعد اللّه سبحانه عليها النار.

و صحيح محمد: الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البينة، و كلما أوجب اللّه عليه النار. و ما رواه الكليني في الصحيح عن الحسن ابن محبوب قال: كتب بعض أصحابنا الى أبي الحسن (ع) يسأله عن الكبائر كم هي و ما هي؟ فكتب (ع): الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفر عن سيئاته و السبع الموجبات قتل النفس الحرام و عقوق الوالدين و أكل الربا و التعرب بعد الهجرة و قذف المحصنة و أكل مال اليتيم و الفرار من الزحف. و الظاهر ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 235

قوله (ع) و السبع الموجبات من عطف الخاص على العام فكأنها أكبر الكبائر كما أن الظاهر من قوله: ما وعد اللّه هو وعده في القرآن الشريف. و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه في قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ قال (ع): الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار. و مثله عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى. و بمعناه عن الصدوق. و صحيحة ابن أبي يعفور حيث فيها و باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار. و رواية عبد العظيم التي ستجي ء حيث ان الامام (ع) علل فيها في مقام تحديد الكبائر بإيعاد النار عليها في الكتاب و هذه الروايات الضعيفة منها منجبرة بالشهرة كما ان الظاهر من قوله «أوجب اللّه أو وعد اللّه» هو الإيجاب و الوعد في القرآن الشريف. و عليه فيحمل ما دل من الأخبار على حصرها في عدد مخصوص من كونها سبعة أو أكثر على ضرب من المثال أو على الأعظمية و الأشدية من غيره فترتفع المنافاة، و حكي ان بعض الأفاضل قطع بكون الكذب من الكبائر التي اعتبر الاجتناب عنها في العدالة و ان خلت الأخبار عن ذكره لأن الغرض الأصلي من اعتبار العدالة تجنب الكذب ليحصل الوثوق في الراوي و الشاهد و حاكم الشرع و لو فرض كونه من الصغائر و عدم قدحه في العدالة كان منافيا للغرض المقصود. (و لا يخفى ما فيه) فان الكذب قد ذكر في الصحيح أو الحسن المروي عن الرضا (ع) في تعداد الكبائر الذي سيجي ء. ثمَّ لا بد أن يكون مراد المشهور ان الدلالة على العقاب بنحو الخصوص لا بنحو العموم مثل قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ

الَّذِينَ يُخٰالِفُونَ الآية. و مثل قوله تعالى وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً و لا من جهة دلالة الأمر و النهي و إلا كانت المعاصي كلها كبيرة. كما انه يدخل تحت ما أوعد اللّه عليه العقاب ما هو أكبر عقلا أو نقلا من بعض ما أوعد اللّه تعالى عليه لأنه قد أوعد عليه بمفهوم الأولوية مثل حبس المحصنة للزنا فإنه أعظم من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 236

القذف و كدلالة الكفار على عورات المسلمين فإنها أعظم من الفرار من الزحف و كالفتنة أشد من القتل. ثمَّ انه لو دل دليل معتبر على أن المعصية كبيرة و ليس في الكتاب ما يدل عليه بنظرنا على العقاب فلا بد من الالتزام به من باب التخصيص أو دعوى وجود دلالة على ذلك في الكتاب و قد خفيت علينا كما ورد النص في ترك الصلاة متعمدا و محاربة أولياء اللّه. قيل و هكذا لو دل النص على عدم قبول شهادته أو الصلاة خلفه أو غير ذلك مما يعتبر فيه العدالة كما ورد النهي عن الصلاة خلف العاق لوالديه. و فيه ان هذا مبني على أن الصغيرة لا تضر بذلك و هو أول الكلام و لان منافيات المروة تمنع من ترتب آثار العدالة على مرتكبها مع انها ليست من الكبائر

و لا بأس بذكر خبرين ذكرهما الشيخ

الأنصاري في رسالته في العدالة اشتملا على تعداد الكبائر.

(أحدهما) الحسن كالصحيح المروي عن الرضا (ع) فإنه كتب إلى المأمون من محض الايمان اجتناب الكبائر و هي قتل النفس التي حرم اللّه و الزنا و السرقة و شرب الخمر و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و أكل مال اليتيم

ظلما و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير اللّه به من غير ضرورة و أكل الربا بعد البينة و السحت و الميسر و هو القمار و البخس في المكيال و الميزان و قذف المحصنات و اللواط و شهادة الزور و اليأس من روح اللّه و الأمن من مكر اللّه و القنوط من رحمة اللّه و معونة الظالمين و الركون إليهم و اليمين الغموس و حبس الحقوق من غير عسرة و الكذب و الكبر و الإسراف و التبذير و الخيانة و الاستخفاف بالحج و المحاربة لأولياء اللّه و الاشتغال بالملاهي و الإصرار على الذنوب.

(ثانيهما) صحيحة عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني المروية في الكافي عن أبي جعفر الثاني عن أبيه عن جده (ص) يقول دخل عمرو بن عبيد على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 237

أبي عبد اللّه (ع) فلما سلم و جلس تلا هذه الآية الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ* ثمَّ أمسك فقال له أبو عبد اللّه (ع) ما أمسكك قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عز و جل فقال (ع): يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك باللّه يقول اللّه مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ و بعده اليأس من روح اللّه لأن اللّه تعالى يقول لٰا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكٰافِرُونَ ثمَّ الأمن من مكر اللّه لأن اللّه عز و جل يقول فَلٰا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخٰاسِرُونَ (و منها) عقوق الوالدين لأن اللّه تعالى جعل العاق جبارا شقيا و قتل النفس التي حرم اللّه بالحق لأن اللّه تعالى يقول فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا الاية. و قذف المحصنة لأن اللّه

تعالى يقول لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ و أكل مال اليتيم لان اللّه تعالى يقول إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً و الفرار من الزحف لأن اللّه تعالى يقول:

وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّٰا مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و أكل الربوا لان اللّه تعالى يقول الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ و السحر لان اللّه عز و جل يقول وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلٰاقٍ و الزنا لان اللّه تعالى يقول وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً يُضٰاعَفْ لَهُ الْعَذٰابُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً و اليمين الغموس الفاجرة لأن اللّه تعالى يقول الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ و الغلول لأن اللّه عز و جل يقول وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ و منع الزكوات المفروضة لأن اللّه عز و جل يقول فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأن اللّه عز و جل يقول وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ و شرب الخمر لان اللّه عز و جل نهى عنه كما نهى عن عبادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 238

الأوثان، و ترك الصلاة متعمدا و شي ء مما فرضه اللّه لأن رسول اللّه (ص) قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد برء من ذمة اللّه و ذمة رسول اللّه (ص) و نقض العهد و قطيعة الرحم لان اللّه تعالى يقول لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ

سُوءُ الدّٰارِ قال فخرج عمرو و له صراخ في بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم.

[قاموس المحرمات]
اشارة

و لجدنا الهادي أعلا اللّه مقامه كتاب سماه قاموس المحرمات مرتبا على الحروف الهجائية ننقله هنا حرفيا إتماما للفائدة و حفظا له من الضياع و ان كنا لا نوافقه في بعضها و لعل نظره قدس سره أن يذكر فيه حتى ما قيل بحرمته و ان لم يذهب (ره) إلى حرمته و سنتعرض لتحقيق الحق فيها في كتاب التجارة في مبحث المكاسب المحرمة.

و قد قسم (ره) المحرمات الى قسمين: القسم الأول الأفعال المحرمة و القسم الثاني الأعيان المحرمة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 239

القسم الأول في الأفعال المحرمة
(حرف الهمزة)

الإباق، الابداع في الدين، إبطال العمل، إبطال الصدقة، إتباع الهوى المخالف للشرع، اتخاذ الكافرين أولياء، اتخاذ القبور مساجد، إتيان البهائم، اجارة المحرمات عليها و لها، الإجباء (ذكره المرتضى في أماليه)، اجتماع شخصين مجردين تحت إزار واحد، الاجتهاد في مقابل النص، الاحتكار، احتقار المؤمن، إحصاء عثراته و عوراته، إحراق القراطيس المكتوبة، إحراق الموتى، الإحلاف بغير اسم اللّه، الاختيال، اختتال الدنيا بالدين، الاختلاس، أخذ الأجرة على المحرم، أخذ المساجد أو بعضها في طريق أو ملك، إخراج الحصى من المساجد، إخراج الدم من المحرم، الإخسار، (ثمَّ كتب (ره) أخذ الأجرة على الضراب و على الواجب العبادي و على القضاء و أخذ الأجرة على المحرم، ثمَّ ضرب عليه بالقلم)، إدخال النجاسة إلى المساجد، الادفان، إذاعة الحق مع الخوف و التقية، إذاعة سر المؤمن، إذاعة ما يشين المؤمن، إذلال المؤمن، الأذان الثاني يوم الجمعة، إرادة العلو في الأرض و الفساد فيها، الارتداد، الإزراء بالمؤمن، إزعاج المؤمن، إزالة المحرم شعره، الاستبداد،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 240

الإسراف، الاستهزاء بالمؤمن، استحقار بعض الأشياء، استقبال القبلة عند التخلي، استدبار القبلة للمتخلي، الاستمناء باليد (قال (ره) في

التذكرة في أحكام الخلوة، و أقول في الجواهر أيضا في الحدود). الاستنجاء بالمحترمات و بالعظم، الاستخفاف بالمؤمن، استماع الغيبة، استظلال المحرم، الاستخفاف بالحج، الاستخفاف بالدين، إسقاط الحمل، استحلال البيت الحرام، استحلال المحرمات، الاستيكال بالعلم (قال (ره) في كتاب معاني الأخبار)، الاستقسام بالأزلام، استماع الغناء و صوت الأجنبية، إسخاط الخالق، إسخاط المرأة لزوجها، الاستدانة مع نية عدم الوفاء أو العلم بعدم القدرة عليه، استمتاع المحرم بالنساء، استعمال أواني الذهب و الفضة، الاستغفار للمشركين (قال (ره) في سورة التوبة)، إشاعة الفاحشة، الأشر، الأصر، الإصرار على المعصية و صغار الذنوب، الإضلال، إضاعة الصلاة، إضمار السوء للمؤمن، الإضرار بالنفس و بالغير، إعجاب المرء بنفسه، الاعتداء، الإعانة على الإثم، إعانة الظالم على الظلم، الإغراء بالجهل، الاغلوطات، إفراط الأكل، إفضاء المرأة قبل التسع، الافك، الإفتاء بغير ما أنزل اللّه تعالى و بغير العلم، الافتراء، اكتحال المحرم، الإكراه، إكراه الفتيات على البغاء، أكل ما يحرم أكله كالميتة و الدم و لحم الخنزير و نحوها، الأكل من مال الغير بدون إذنه، أكل مال اليتيم ظلما، أكل النجس و المتنجس، الأكل على مائدة يشرب عليها الخمر (قال (ره) آخر كتاب الأطعمة في الشرائع)، أكل الطين، أكل المال بالباطل، أكل الربا، التزام الأجنبية و مصافحتها، الأمن من مكر اللّه تعالى و عذابه، الامارة الباطلة، آمين بعد الفاتحة، الانتفاء من النسب (قال (ره) في نكاح الوسائل)، الانتحار و قتل النفس، الإنفاق من الخبيث، إنكار الحق و ما أنزل اللّه تعالى، إنكار ضروري الدين و المذهب، إنكار المعروف و الحق، إهانة المحترم، إهانة المؤمن،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 241

إيذاء المؤمن، إيذاء رسول اللّه (ص) (قال (ره) في سورة التوبة).

(حرف الباء)

البخس في الكيل و الوزن

و غيرهما، البخل، البدعة، بذاءة اللسان، بطر المعيشة، البغي، البغاء، البغض، بيع آلات اللهو و الهياكل المحرمة، بيع أم الولد، بيع الجارية المغنية لغناءها، بيع السلاح لأعداء الدين، بيع الخمر أو المسكرات، بيع المصحف، بيع الدراهم المغشوشة، بيع الوقف، البيع لغاية محرمة، بيع الأعيان النجسة، البيع وقت النداء في يوم الجمعة، البهتان.

(حرف التاء)

تأخير الحج عن عام الوجوب، تبرج الجاهلية، تبديل الوصية، التبختر، التبذير، التثويب، تثليث الغسلات، تحقير المؤمن، تحريم الحلال، تحليل الحرام، تحمل الضرر، تحريم الطيبات، التحريش بين البهائم (قال (ره) في التذكرة في السبق و الرماية)، تختم الرجال بالذهب، التخنث، التخصر في الصلاة، التخلي في جملة من المواضع و جملة من الأحوال. تختم المحرم للزينة، التدليس و منه تدليس الماشطة المرأة التي يراد تزويجها و الجارية التي يراد بيعها، التداوي بالمحرم مع المندوح عنه، ترك الأمر بالمعروف، ترك الواجبات و منها ترك الصلاة الواجبة و الحج الواجب، ترك معاونة المظلوم مع القدرة، ترك معونة المؤمن، ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر، ترك جميع المستحبات، ترك رد التحية، ترك سجود التلاوة، الترجيع في الأذان، التزوج بالأمة على الحرة، التزوج ببنت أخ الزوجة أو أختها بدون إذنها، التزوير، تزين الشخص بما يحرم عليه، التسليم على الكافر، التسخير، تسمية إمام العصر (ع)، التسميع، التسمية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 242

بأمير المؤمنين لغير أمير المؤمنين، التشريح، التشريع، تشبه المرأة بالرجل و بالعكس، التشبيب بالمرأة المعروفة المعينة، التصرية، التصعير، تصوير ذوات الأرواح، التصفيق، التصدية، التصوف، التضليل، التطفيف، التطفل، تطيب المرأة لغير زوجها، التظاهر بالمعاصي، تظليل المحرم سائرا، التعرب بعد الهجرة، التعذيب بالنار، التعصب لغير الحق، تعير المؤمن، تعشر المصاحف، التغوط في بعض المواضع، تغطية المحرم

رأسه، تغطية المحرمة وجهها، تقبيل الغلام بشهوة، تقليد الأموات، التقليد في أصول الدين، التقصير، تقصير المحرم شعره أو أظافره، التكبر، التكذيب بالآيات، تكذيب الرسل، التكسب بما يجب فعله عينا، التكسب بما يحرم فعله، التمسك بعصم الكوافر، التكفير، التمكك على الغريم، التمثيل و لو بالكلب العقور، التنابز بالألقاب، التنجيم، التنكيل، تهمة البري ء، التهاون بالواجب، تلقين الخصم ما يضر به خصمه، التجسس التحسس.

(حرف الثاء)

ثلب المؤمن، الثناء بغير الحق، الثنيا، الثرثرة، الثورة.

(حرف الجيم)

الجدال على المحرم و المعتكف، جز المرأة شعرها، الجزع، الجفر، الجلد الجلوس على مائدة الخمر، الجمع بين الأختين، جماع الحائض، الجنف، جوائز الظالم، الجور في الأحكام.

(حرف الحاء)

حب بقاء الظالم لظلمة، حب الدنيا الباطلة، حب الرئاسة الباطلة، حبس الحقوق الواجبة، حب شياع الفاحشة، حب الجاه، الحرص، الحسد، حفظ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 243

كتب الضلال لغير الرد عليها، الحقد، الحكم بغير ما أنزل اللّه، الحكم بالآراء و المقاييس، حلق اللحا، حلق المحرم رأسه، حلق المرأة رأسها في المصاب، الحلف كاذبا، الحلف بالبراءة، الحنث، الحيف، الحيلة.

(حرف الخاء)

الخب، الخديعة، خذلان الحق و المحق، الخرص، خصاء الإنسان و الحيوان، الخصومة، الخضخضة، الخطاب بإمرة المؤمنين لغير أمير المؤمنين، الخلوة بالأجنبية (قال (ره) في الوسائل مقدمات النكاح أقول و في المسالك في الطلاق الرجعي و مسكنها)، الخيانة، الخيلاء، الخلاط، الخلسة. (أقول):

و خلف الوعد راجع مرآة العقول في خلف الوعد.

(حرف الدال)

دخول البيوت بلا إذن، دخول المجنب و الحائض أحد المسجدين، الدخول بالمرأة قبل التسع، الدس في الأخبار، الدسيسة، الدعوة في النسب، الدعارة، الدياثة (قال (ره) في نكاح الوسائل).

(حرف الذال)

ذم من لا يستحق الذم أو يستحق المدح، ذكر المؤمن بما يكره، ذبح المحرم الصيد.

(حرف الراء)

الربا، الردة، الرد على العلماء، الرشوة، الرضا بالظلم، الروغ، الرفث في الحج، الرقص، الركون الى الظالمين، الرمل، الرياء، رطانة الأعاجم في المساجد، في باب أحكام المساجد في الوسائل محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبد اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 244

جعفر بن محمد (ع) قال نهى رسول اللّه (ص) عن رطانة الأعاجم في المساجد و رواه عنه الشيخ في التهذيب.

(حرف الزاء)

الزجر، زخرفة المساجد و نقشها، زكاة غير الهاشمي على الهاشمي، الزفن، الزنا، الزندقة، الزور، الزمر، الزمارة، الزيغ.

(حرف السين)

السب، السجود لغير اللّه تعالى، السحر، السحاق، المساحقة، السخرية بالناس، سد باب الاجتهاد في الأحكام، السفاح، السفور، السعي بالفساد، السعاية، السرقة، السكر، السلب، سلوك ما فيه العطب، السمسرة المحرمة، السمعة، سوء الظن، السؤال من غير حاجة، سوء الخلق، السيمياء.

(حرف الشين)

الشتم، الشح المطاع، شراء المصحف الشريف، شرب المسكر، شرب النجس، الشرك، شرب الدواء لإسقاط الجنين، الشرطية للظلمة، الشطارة، الشطط، الشعبذة، الشعر الباطل، الشغب، الشغار، الشقاوة، شق عصى المسلمين، الشقاق، شق الثوب في المصاب، الشك، الشماتة بالمؤمن، الشهادة بغير علم، شهادة الزور، الشهرة.

(حرف الصاد)

صحبة الظالم، الصد عن المسجد الحرام و. و. الصد عن سبيل اللّه، الصفير، الصلب أكثر من ثلاثة أيام و بغير ما يبيحه، صلح أحل حراما أو حرم حلالا، الصلوات المبتدعة كالضحى و التراويح و خلف الفاسق و صلاة الغائب،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 245

صوم الوصال، صوم العيدين، صوم يوم الشك بنية انه من رمضان، الصوم في السفر، صياغة أواني الذهب و الفضة، الصيد لهوا، صيد الحرم و المحرم.

(حرف الضاد)

ضربة الغواص، ضرب اليتيم لغير صلاحه، ضرب النساء بأرجلهن، ضرب الدابة على وجهها، الضرر و الضرار، الضلال.

(حرف الطاء)

الطبالة، الطعن، الطغيان، طلب الرئاسة الباطلة، الطلاق البدعي، التطيب للمحرم.

(حرف الظاء)

الظلم، الظهار، ظاهر الإثم، ظن السوء.

(حرف العين)

العار، العتو، العجب، عداوة المؤمن، العرافة، العزف، العزل عن الحرة في الجماع، العسس، العسف، العشق، عصيان من تجب طاعته، العضل، عقر الحيوان، عقص الشعر في الصلاة، عقد النكاح في الإحرام، العقوق (قال (ره) في نكاح الوسائل) العلو في الأرض، العهر، العيافة.

(حرف الغين)

الغرور، غبن المسترسل، الغدر، الغش، الغصب، الغلو، الغل، الغلوطات، الغلول، غمط الحقوق، الغناء، الغواية، الغيبة، الغيلة، الغموس.

(حرف الفاء)

الفال، الفتنة، الفتوى بالباطل و بغير العلم، الفجور، الفحش، الفحشاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 246

الفخر، الفرك، الفارك، الفرار من الزحف، الفرية، الفراسة، الفسق و الفسوق الفساد.

(حرف القاف)

قتل المحرم الصيد، قتل النفس المحترمة، قتل الهرة، قتل البهائم إلا كلب الهراش، القتال في الأشهر الحرم، القتاتة، القت. قتال أهل الحق. قتل الإنسان نفسه، قتل المحرم هوام الجسد، القدح في المؤمن، القذف، قذف المحصنات، قراءة الجنب و الحائض شيئا من العزائم، قراءة سورة من العزائم في الفرائض (قال (ره) في الجزء الأول من الوسائل في القراءة) قراءة سورة يفوت وقت الصلاة بقراءتها، قرض يجر نفعا، القصاصة، القصف، القضاء من غير أهله، قطيعة الرحم، قطع شجر الحرم، قطع الفريضة، القمار، القنوط، قول الزور، قول علم اللّه في أمر باطل، قول لا و اللّه و بلى و اللّه للمحرم قراءة آمين بعد الفاتحة في الصلاة، القهقهة في الصلاة، القيافة، القيادة، القياس.

(حرف الكاف)

الكبر، كتمان العلم، كتمان الشهادة، الكتابة بغير الأحرف العربية، الكذب، كشف عورة المؤمن، الكفر، كفران النعم، الكلام في ذات اللّه تعالى، الكلام في الصلاة، كلام المرأة للأجنبي بلا ضرورة، كون الإنسان ممن يتقى شره، الكهانة، الكيمياء، الكيد.

(حرف اللام)

لباس الشهرة و الجندي و الكفار، لبس الحرير و الذهب للرجال، لبس خواتيم الذهب، لبس المخيط للمحرم، لبس السلاح في الإحرام، لبس ما يستر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 247

القدم في الإحرام، لبس المرأة الحلي للزينة في الإحرام، لبس المرأة لباس الرجل و بالعكس، لعن من لا يستحق، اللعب، اللغو، اللصوصية، اللطم، لقطة الحرم، اللمز، اللواط، اللهو.

(حرف الميم)

مجالسة أهل البدع، المثلة، المحاربة لأولياء اللّه (قال (ره) تذكر في الحدود) المحاكاة، مخالطة العصاة و مجالستهم، المخامرة، مدح من لا يستحق المدح أو يستحق الذم، المداهنة، المراء، مراودة الأجنبية، مس المحدث كتابة القرآن أو أسماء اللّه تعالى، مصاحبة الكذاب، معونة الظالمين، مقاربة الحائض و النفساء، المكاء، المكر، منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه، المشي في الأرض مرحا، المجازفة، المن (قال (ره) في الوسائل آخر الزكاة).

(حرف النون)

نبش الأموات، نتف الشعر في المصاب، النجش، النزغ، نسخ كتب الضلال، النسي ء، النشوز، النظرة بعد النظرة، النظر إلى العورة، نظر المحرم في المرآة، نفي النسب الصحيح، نقض العهد و الوصية، نكث العهود، نكث الصفقة، النكر، نكاح المشركات، نكاح البهائم (قال (ره) في الوسائل حدود) النكاح في الإحرام، النميمة، النوح بالباطل، نهر اليتيم، النهب، النهي عن المعروف، نية السوء، النيزرجيات.

(حرف الواو)

الوأد، وطي البهائم، وطي الزوجة بعد موتها، وطي الأموات (قال (ره) في حدود الوسائل) وطي المحارم، وطي الحائض و النفساء، ولاية الجائر، الوشاية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 248

(حرف الهاء)

هتك المؤمن، هتك الحرم بالصيد و نحوه، هجر كتاب اللّه، الهجر، هجاء المؤمن، الهذر، الهزء. الهمز. الهوى اتباعه.

(حرف الياء)

اليانصيب. اليمين الغموس (قال (ره) في المسالك آخر كتاب الايمان عند قول المحقق: و تتحقق الكراهة في الغموس). اليمين الكاذبة. يمين الصبر اليأس من روح اللّه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 249

القسم الثاني في الأعيان المحرمة
اشارة

قال (ره) و هي التي تعلق التحريم بذواتها و أعيانها و ورد النهي عنها بأنفسها في الكتاب أو في السنة أو في كتب فقهاء الإسلام، و الظاهر كما هو المشهور انه لا إجمال في التحريم المتعلق بالأعيان و ان المقصود به تحريم الفعل المقصود من تلك الأعيان كالأكل في حرم عليكم لحم الخنزير و نذكر أمور هذا المقصد في فصول.

فصل في المحرمات على الرجل

الأخت النسبية و الرضاعية، الام النسبية و الرضاعية، أمهات نسائكم، أم المزني بها و بنتها على الزاني، أم المدخول بها شبهة، البنات، بنات الأخ، بنات الأخت، حلائل الأبناء، الخالات الربائب، العمات.

فصل في المحرم من الحيوان

ابن أوى، ابن عرس، أرنب، أسد، الانقليس و هو المارماهي، بأشق باز، ببغاء، بحيرة، بنات وردان، البراغيث، البرغوث، البعوض، البق، البوم، تمساح، ثعلب، ثعبان، جرّي، جريث، جلال، جرذ، حرذون، حرباء، حشار، حيات، الحيوان الموطوء، خبائث، خفاش، خز، خنافس،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 250

خنزير، خلد، الدب، الدبا، الدود، ذئب، ذباب، ذبيحة أهل الكتاب، الربيثا، الرخمة، الرفش، الرق، الزنابير، الزمير، الزرافة، الزاغ، الزهر، سام أبرص، السائبة، السباع، السرطان، السلحفاة، السلابيح، السمندل، السمور، السنجاب، السنونو، الشاهين، الصقر، الصراصر، الصلور (الجري)، ضبع، ضفدع، ضب، طاوس، الطافي، الظليم، العقرب، العظاية، العقاب، العقعق، العلجوم، العنكبوت، العلق، الغراب، الفار، الفقمة، فرس المائة، الفيل، الفهد، القرد القراد، القط، القمل، القنفذ، كركدن، كلب البحر، كل حيوان لا فلس له، الكنفر، الكوسج، اللبوة لبن الحيوان المحرم، اللقلق، اللحكة، المارماهي، ما أكل السبع، ما ذبح على النصب، ما أهل به لغير اللّه، المتردية، المسوخ، الموقوذة، المنخنقة، الميتة، ما لا قشر له من حيوان الماء، ما كان ذا مخلاب من الطير، ما كان صفيفه أكثر من دفيفه، ما ليس له قانصة و لا حوصلة، المجثمة (خزانة الأدب ج 1 ص 61)، المصبورة، النحل، النسر، النسناس، النطيحة، النمل، النمر، النعامة، النيص، الدلدل، الوزغ، الورل، الوطواط، الوصيلة، الوبر، الهدهد، الهرة، اليربوع، اليعسوب.

فصل في المحرمات من الذبيحة

الأنثيان و هما البيضتان، الحدق، خرزة الدماغ، الدم، ذات الأشاجع الطحال، العلباء، الغدد، الفرث و هو الروث، الفرج، القضيب و هو الذكر، المثانة، المرارة، المشيمة، النخاع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 251

فصل في المحرمات من أمور شتى

الإثم (ترتب الإثم)، الأعيان النجسة، الأفيون، البتع، الترياق أو الدرياق، جوائز الظلمة (مكاسب)، الخمر، السقمونيا (شرائع) شحم الحنظل (شرائع)، الشوكران، الطعام النجس، الطين الا قدر الحمصة، العصير إذا غلا، العنبر، عسيب الفحل، الفقاع، الفضيخ، كل مسكر، الكحول، لحم الخنزير النبيذ.

إحصاء الواجبات الشرعية [و قاموس الواجبات]
اشارة

و لما كان الكلام يجر الكلام ننقل هنا أيضا ما كتبه قدس سره في هذا المقام من تعدد الواجبات الإلهية و إحصاء المطلوبات الحتمية الشرعية مع ما في ذلك من إتمام المقصود و بيان لقسم آخر من الموضوع لان ترك الواجبات من المحرمات بالمعنى الأعم و من الذنوب و الآثام بالمعنى الأخص قال نور اللّه مضجعه بعد ان عنون كلامه بقاموس الواجبات.

(حرف الهمزة)

الايمان باللّه، و الأمر بالمعروف، اطاعة اللّه و رسوله و اولي الأمر، الإنفاق على الإنسان و الحيوان، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، الإحرام للحج و العمرة، اجتناب الكبائر، الإمساك للزوجة بمعروف، إزالة النجاسة عن المحرمات، استقبال القبلة في بعض الأحوال، إزالة النجاسة عن مسجد الجبهة، اعتداد المراءة، استبراء الأمة، الإخفات في القراءة، الإدغام في القراءة، إنقاذ الغريق إطفاء الحريق، الإطعام في الكفارة، إتمام الصيام إلى الليل، الإفطار في السفر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 252

و المرض، إتمام العبادة بعد الشروع فيها، أداء ما أخذته اليد، إحراق البهيمة الموطوئة، أداء الشهادة، إظهار العالم علمه، اجتناب الكبائر، الإمساك عن المفطرات، إعلام المشتري بنجاسة الدهن، اطاعة الوالدين، الإرشاد.

(حرف الباء)

البر بالوالدين، بيع البهيمة الموطوئة، البيع بأسباب، البعد بين البئر و البالوعة.

(حرف التاء)

التعليم، التعلم، تطهير البدن للصلاة، التأديب، التربية، التوجه إلى القبلة توجيه الشخص إلى القبلة في حالة الاحتضار و غيره، تغسيل الميت، تكفين الميت، التفقه، التشهد، تعظيم شعائر اللّه، التولي، التبري، التوبة، تحمل الشهادة، التقصير في الحج، التجارة التيمم.

(حرف الثاء)

الثناء على اللّه.

(حرف الجيم)

الجهاد، الجهر في القراءة.

(حرف الحاء)

الحج، حسن الظن باللّه، الحكم بما انزل اللّه، الحجاب، حفظ الفروج الحداد، الحضانة، الحلق.

(حرف الخاء)

الختان، الخوف من اللّه، الخمار.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 253

(حرف الدال)

الدفاع، الدفن.

(حرف الذال)

الذب عن بيضة الإسلام، الذكر في الصلاة، ذبح الهدي، ذبح البهيمة الموطوئة، ذكر اللّه عند الغضب.

(حرف الراء)

الركوع، رمي الجمار، ردّ السلام، رد الامانة، رد المظالم، رد جواب الكتاب

(حرف الزاء)

الزكاة.

(حرف السين)

السعي في الحج، ستر العورة، السجود.

(حرف الشين)

شكر المنعم، الشهادة على الحق.

(حرف الصاد)

الصلاة، الصوم، الصدقة، الصبر، الصناعات.

(حرف الضاد)

ضرب الصعيد للتيمم، الضمان.

(حرف الطاء

الطهارة، الطواف.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 254

(حرف الظاء)

الظهر.

(حرف العين)

العمرة، العدة، العتق في الكفارة.

(حرف الغين)

غض البصر، غسل الوجه و اليدين للوضوء، الغسل.

(حرف الفاء)

فك الرقبة.

(حرف القاف)

قصر الصلاة في السفر، القيام للصلاة، القراءة، القسم بين النساء.

(حرف الكاف)

الكفارة، الكسب، الكسوة.

(حرف اللام)

لبث المعتكف في اليوم الثالث، لبس ثوبي الإحرام.

(حرف الميم)

المعرفة، مسح الرأس و الرجلين، المضاجعة، متابعة الإمام في الجماعة، مقدمة الواجب، الموالاة في أفعال الوضوء.

(حرف النون)

النظر الى الهلال ليلة الصيام و الفطر، النظرة إلى ميسرة، النية في العبادات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 255

نصرة المظلوم مع القدرة، النكاح لمن تتوق نفسه، الندم على الذنوب، النهى عن المنكر.

(حرف الواو)

الوفاء بالعقود و النذور، الوقوف بعرفة، الوقوف بالمشعر، الوصية للوالدين، وطي الزوجة في كل أربعة أشهر، الوضوء، الوعظ.

(حرف الهاء)

الهوي إلى الركوع، هدم بعض الركعات عند الشك، الهدي.

(حرف الياء)

اليقين باللّه. انتهى ما أردنا نقله عنه قدس سره.

عدم اعتبار اجتناب الصغائر في العدالة

(خامسها) في أن العدالة تدور مدار اجتناب الكبائر بخصوصها

كما هو ظاهر الأصحاب أو مدار اجتناب مطلق المعاصي بحيث يقدح في العدالة فعل الصغيرة و لو نادرا كما هو المحكي عن المفيد و الحلبي و الحلي و الأول هو الحق لأنه لو كان فعل الصغيرة قادحا في العدالة لزم الضيق و العسر و الحرج المنفيان عقلا و نقلا لتعذر الانفكاك عنها إلا في المعصومين أو من يقرب منهم كسلمان و أبي ذر. و للأخبار المذكورة في القول الأول في العدالة لا سيما رواية علقمة فإنها مقتضى الجمع بينها و بين غيرها هو عدم منافاة فعل الصغيرة. و هكذا أخبار القول الثالث فان حسن الظاهر و ظهور الصلاح لا ينافي فعل الصغيرة لا سيما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 256

صحيحة ابن أبي يعفور حيث عرّف فيها العدالة باجتناب الكبائر و لو كان اجتناب الصغائر معتبرا فيها لما صح التقييد بالكبائر فيها، و يؤيد ذلك ما دل على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر فإنه يفهم منه ان الصغيرة تكون في حكم العدل و تسقط عن كونها معصية فلا يضر وجودها في العدالة. نعم يمكن أن يقال ان خروجها عن المعصية لا ينافي اضرارها بالعدالة فان منافيات المروة ليست بمعاصي و مع هذا تنافي العدالة.

(ان قلت) ان صدر صحيحة ابن أبي يعفور يدل على أن العدالة تعرف بالستر و العفاف و المرتكب للصغيرة ليس كذلك (قلنا) ان الستر و العفاف إنما جعل امارة عليها لا انه نفسها و الامارة قد يعتبر فيها مالا يعتبر في مؤداها.

(ان قلت) ان ذيلها يدل على أن العدالة تعرف بستر العيوب أجمع و بفعل الصغيرة لم

يستر عيوبه أجمع (قلنا) هذا دليل على العدالة و الدليل قد يعتبر فيه ما لا يعتبر في المدلول.

(ان قلت) ان الآية إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ تدل على اعتبار اجتناب الصغيرة في العدالة. (قلنا) لا نسلم صدق الفاسق بمجرد ارتكاب الصغيرة بل الفاسق هو ما ليس بعادل فمفهومه تابع لمفهوم العدالة ان لم يكن واسطة بينهما و الا فالأمر واضح (ان قلت) ان ما تقدم من رواية ابن ابي يعفور في شهادة النساء «ص 222» قد جعل فيها الامام (ع) ترك التبرج دليلا على العدالة مع انه ليس معدودا من الكبائر فهذه الرواية تدل على اعتبار ترك الصغيرة في العدالة. (قلنا) الذي ينظر للرواية و يتأمل في أطرافها يجدها خالية من الدلالة على ذلك لأنه (ع) جعل الدليل على العدالة فيها أمور بعضها ليست بمتعلق للتكليف ككونها من ذوي البيوتات، فالإمام (ع) بصدد جعل امارة على العدالة فمجموع تلك الأمور المذكورة التي ترجع الى حسن الظاهر تكون دليلا عليها لأنها تلازم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 257

الملكة بحسب الغالب. و قد عرفت ان ما يعتبر في الدليل لا يلزم أن يكون معتبرا في المدلول و مضافا الى أن اجتناب الصغائر يلازم اجتناب الكبائر عادة فيمكن أن يكون ترك الصغائر دليلا على العدالة. و بهذا يظهر الجواب عن الاستدلال برواية الخصال ص 224 حيث جعل فيها الامام (ع) عدم خلف الوعد من أدلة العدالة و وجه ظهور الجواب هو ان مجموع تلك الأمور تقتضي بحسب العادة وجود العدالة مضافا الى أن المذكور فيها كمال المروة و وجوب الاخوة مع العدالة فلعل عدم خلف الوعد له دخل في وجوب الاخوة و كمال المروة.

(ان قلت) ان فعل

الصغيرة تعدي عما حدده اللّه و المتعدي ظالم لقوله تعالى وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ و الظالم لا تقبل شهادته لقوله تعالى وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فان الركون مطلق الاعتماد. (قلت) نمنع كون كل تعدي ظلما، و الآية إنما تدل على صدق الظالم بالتعدي على جميع حدود اللّه تعالى. مضافا الى منع صدق الركون على مجرد قبول الشهادة.

الإصرار على الصغائر كبيرة

(سادسها) بعد ما عرفت ان المعتبر في العدالة هو اجتناب الكبائر
اشارة

فهل الإصرار على الصغائر من الكبائر أم لا؟ و هل يضر بالعدالة على التقدير الثاني أم لا؟

ظاهر الأكثر ان الإصرار ليس من الكبائر حيث يعطفون (الإصرار على الصغائر) على الكبائر في تعريف العدالة فيقولون (اجتناب الكبائر و الإصرار على الصغائر) و العطف يقتضي المغايرة و يظهر من بعض الأصحاب انه من الكبائر بل قال الأردبيلي (ره) انه لا خلاف في ذلك و استدل على ذلك بما رواه الصدوق (ره) في كتاب العيون في الصحيح عن الفضل بن شاذان عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 258

الرضا (ع) فيما كتبه للمأمون حيث عد فيه (ع) الإصرار على الذنوب من الكبائر. (و دعوى) انها غير مذكور فيها الصغائر بل مطلق الذنوب مدفوعة (أولا) ان الشيخ الأنصاري (ره) قد ذكر فيها لفظ صغائر الذنوب. و لعله ظفر بذلك عند كتابته لهذه الرواية في رسالة العدالة و في مشارق الاحكام للنراقى ان ذلك في بعض النسخ و (ثانيا) ان الذنوب فيها عامة لأنه جمع محلى باللازم فتعم الصغائر و (ثالثا) انه لا بد أن يراد منها الصغائر لأنه لا وجه لعد الإصرار على الكبائر من الكبائر فإن فعل الكبيرة من الكبائر فبالأولى الإصرار عليها اللهم إلا أن يقال انه لا منافاة

بين أن تكون المعصية كبيرة و الإصرار عليها كبيرة أخرى بواسطة انطباق عنوان آخر عليه كالأمن من مكر اللّه. و استدل بما روي عنهم (ع) من أنه لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار بدعوى ظهور كلمة (لا) في نفي الجنس و بما روي عنهم (ع) «الإصرار على الذنب أمن من مكر اللّه» بضميمة ما روي من أن الأمن من مكر اللّه من الكبائر. و بما في قوله (ع) في معتبرة أبي بصير لا و اللّه لا يقبل شيئا من طاعته على الإصرار على شي ء من معاصيه (و يمكن أن يقال) انه ليس من الكبائر و ذلك لعدم وجود ملاك الكبيرة فيه و هو وعد اللّه عليه بالعقاب في كتابه المجيد فلا بد من تأويل ما ذكر بالحمل على أن حكمها حكم الكبيرة في الآثار كاخلالها بالعدالة و عظمة العقاب و نحو ذلك إلا إذا قام الدليل على استثناء بعض الآثار. و أيضا يمكن أن يستدل على انه ليس من الكبائر بما يدل على أن الإصرار على الصغائر يكفر باجتناب الكبائر كظاهر قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ.

و كقوله (ص): من اجتنب الكبائر غفر اللّه جميع ذنوبه حيث دلّا على أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير السيئات و غفران الذنوب و ان بلغت حد الإصرار فيفهم أن الإصرار ليس من الكبائر التي نهينا عنها. و برواية الأعمش

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 259

عن الصادق (ع) فإنها فيها «الكبائر محرمة و هي الشرك باللّه و قتل النفس» و في آخرها «و الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب»

فإنه (ع) لم يعده من الكبائر (و كيف كان) فالإصرار على الصغائر مضر بالعدالة لأنه اما أن يكون من الكبائر حقيقة أو من الصغائر التي في حكم الكبائر و يرتب عليها آثار الكبائر (ثمَّ لا يخفى) ان المشهور فيما بين القائلين بأن الإصرار على الصغائر كبيرة أن الكبيرة هو نفس الإصرار لا ان الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار فالعقاب يترتب على نفس الإصرار.

معنى الإصرار على الصغائر

(بقي شي ء) و هو انه وقع الخلاف في معنى الإصرار على الصغائر في انه هو الإكثار من فعل الصغيرة كحلق اللحية على القول بحرمته أو فعلها مع العزم على المعاودة عليها و ان لم يداوم عليها أو فعلها مع عدم التوبة منها و إن لم يعزم على المعاودة عليها، ثمَّ على القول بأنه الإكثار من فعل الصغيرة فهل هو الإكثار من نوع واحد منها أو الإكثار و لو من أنواع متعددة منها كأن يحلق لحيته و ينظر للأجنبية و يخلو بها و يمسها (التحقيق) ان معناه هو فعل الشي ء مع العزم على فعله مرة أخرى. و تكرر الفعل منه إنما يسمى إصرارا بهذا الاعتبار لوجود العزم منه على الفعل بعد وقوعه منه. و الدليل على ذلك هو ان المتبادر من الإصرار هو هذا المعنى لغة و عرفا فتحمل الأخبار الواردة في الإصرار على الصغائر على هذا المعنى مضافا إلى نقل بعضهم إجماع الإمامية على ان المراد بالإصرار هو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 260

(ان قلت) انه قد روي عن جابر عن الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى:

وَ لَمْ يُصِرُّوا من أن الإصرار هو أن يذنب و لا يستغفر و هي حجة في هذا الباب. (قلنا) الرواية ضعيفة لا جابر لها

مضافا الى أنه من المحتمل كون ذلك كناية على العزم على العمل مضافا الى أنه من المحتمل انها تفسير للإصرار في هذا المورد الخاص و لا يلزم من ذلك كون معنى الإصرار مطلقا هو ذلك نظير ذلك ما روى عنهم (ع) في قوله تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ من أن الباء فيه للتبعيض فإنه لا يقتضي كون الباء مطلقا ظاهرة في التبعيض و لو سلمنا بأن الأخبار تدل على (ان من أذنب ذنبا و لم يندم عليه كان مصرا) و لم نجعل عدم الندم كناية عن العزم. فهي انما تقتضي ثبوت حكم الإصرار في هذه الصورة بمعنى تنزيل عدم الندم منزلة الإصرار لما عرفت من ان معنى الإصرار لغة و عرفا هو فعل الشي ء مع العزم على إتيانه لا فعله مع عدم التوبة و عدم الندم فهذا نظير ان يقال الزبيب تمر و الإكثار من المدح ذم و نحو ذلك في كل مورد ألحق بطبيعة اخرى تنزيلا. هذا و قد حكي عن التحرير للعلامة (ره) الإجماع على ان الإكثار من أنواع الذنوب المختلفة و لو مع عدم المداومة على نوع منها من غير توبة قادح في العدالة و على هذا فلا ثمرة في تحقيق كونه داخلا في الإصرار أم لا

المعاصي المعتبر الاجتناب عنها ما كان معصية عنده

(سابعها) هل المعاصي التي يعتبر الاجتناب عنها في العدالة ما كان معصية بحسب ضرورة الدين

أو ما كان معصية عند المرتكب أو ما كان في نفسه معصية و تظهر الثمرة فيما لو كانت عند المرتكب ليست بمعصية و عند الغير معصية فهل يحكم الغير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 261

بفسقه أم لا. الظاهر انه ما كان يستحق العقاب عليه من المعاصي في نظر المرتكب فلو كان مجتهده ادعى نظره الى

جواز استعمال بعض الأشياء و قد ارتكبها لا يجوز تفسيقه كما انه يفسق لو ارتكب ما هو كبيرة يستحق عليها العقاب في نظره و ذلك لان الظاهر من الأدلة المتقدمة في العدالة هو توجه النهي الفعلي اليه، و الذي لم تقم الحجة عنده على ان هذا العمل معصية لم يتوجه النهي الفعلي اليه.

(ان قلت) على هذا يكون غير الإمامي إذا عمل بمذهبه عادلا (قلنا) حيث انه قد قصر في معرفة الحق فالنهي الفعلي متوجه اليه و لذا يستحق العقاب.

(و الحاصل) ان الميزان هو ما استحق العقاب عليه من المعاصي و ان لم يكن معصية عنده كما لو كان جاهلا مقصرا أو ما كان معصية عنده و ان لم تكن معصية في الواقع لمنافاته للملكة.

(ان قلت) على هذا يكون المرتكب لما يعتقد أنه كبيرة مع انها ليس بكبيرة في الواقع فاسقا و غير عادل مع انه مجتنب للكبائر في الواقع و المجتنب للكبائر بمقتضى صحيحة ابن أبى يعفور عادل ليس بفاسق.

(قلنا) انه فاسق و ليس بعادل لأن ذلك هو مقتضى الروايات الناطقة بكونه من أهل الصلاح و كون ظاهره ظاهرا مأمونا و كونه معروفا بالستر و العفاف و كونه صائنا لنفسه و كونه صالحا و كونه خيرا فان هذه العناوين لا تصدق على شخص يقدم على العمل الذي هو كبيرة عنده. و أما صحيحة ابن أبي يعفور فهي غير دالة على ذلك فان مقتضى جعل اجتناب الكبائر معرّفا للعدالة الباطنية هو أن تكون الكبائر التي في نظره أنها كبائر قد وعد اللّه تعالى عليها بالنار فان اجتناب ذلك هو الكاشف عن العدالة و الملكة المذكورة و المعرّف لها لا اجتناب الكبائر مع عدم علمه بأنها كبيرة.

النور

الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 262

اعتبار المروة في العدالة

(ثامنها) ذهب جملة من المتأخرين إلى اعتبار المروة في العدالة
اشارة

كما هو المحكي عن المحقق البهبهاني في شرحه للمفاتيح. و عن الشيخ في المبسوط و الحلي و الفاضل في كتبه في الفروع و الأصول و الشهيد الأول و المحقق الثاني و صاحب المعالم و عن البحار و الرياض انه المشهور و عن الذخيرة و المدارك نسبته إلى المتأخرين و حكي إنكاره عن آخرين كالشيخ المفيد (ره) و الشيخ في العدة و صاحب الرياض و الفاضل الأردبيلي (ره) و السيد في المدارك و اليه ذهب المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني و حكي عن المحقق في الشرائع و العلامة في الإرشاد انهما لم يذكرا اعتبار المروة في العدالة و انه لم يجد اعتبارها في كلام من تقدم على العلامة و إنما هو مذكور في كتب العامة و تبعهم العلامة (ره) على ذلك و تبعه جماعة ممن تأخر عنه و بعضهم فصل بين الشهادات و بين غيرها فاعتبرها في الشهادات دون غيرها.

(و مرادهم بالمروة)

التي هي محل البحث كما فسرها جلهم به هو اتباع محاسن العادات و اجتناب ما ينفر عنه من المباحات و يؤذن بخسة النفس (و بعبارة أخرى) ان المراد بالمروة هو تخلق الشخص بخلق الأمثال و الأقران بمقتضى العبادة فمن خلاف المروة لبس الفقيه لبس الجندي و البول في الشوارع أمام الناس و نحو ذلك مما يكشف عن دناءة الطبع و عدم المبالاة و يختلف ذلك باختلاف الأمكنة و الأزمنة و الحالات فهي عبارة عن الاستقامة بحسب الموازين العرفية و لا ينافي ذلك ما روي عن أمير المؤمنين (ع) من أن المروة إصلاح المعيشة و في الخبر عنهم (ع) انها استثمار المال و في آخر أن يضع الرجل خوانه في داره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2،

ص: 263

و غير ذلك من الاخبار فإنها غير مقصودة للفقهاء من لفظ المروة الذي أخذوه في تعريف العدالة لتصريحهم بذلك مضافا الى أن تلك الأخبار لا بد من حملها على التنزيل أو بيان مصاديق المروة الخفية لكون المروة معناها و حقيقتها هو الاستقامة بحسب الموازين العرفية كما هو الواضح. و قد عرفت ان الاستقامة معتبرة في العدالة ص 216 عرفا و شرعا فتكون المروة معتبرة فيها.

(و كيف كان) فقد استدل على اعتبار المروة في العدالة بوجوه أخرى:

(أحدها) ان المعظم قد ذهب الى اعتبارها فيها و هو يفيد الظن و الظن حجة في تشخيص معاني الألفاظ و لذا قيل بحجية قول اللغوي (و جوابه) انه معارض بذهاب آخرين الى عدم الاعتبار، مضافا الى عدم حجية الظن المذكور و لذا يرجعون الى علامات الحقيقة لا الى قولهم. و لو قلنا بحجية قول اللغوي فالمذكورون ليس من علماء اللغة و لعلهم اعتبروها في العدالة لوجوه فاسدة.

(ثانيها) ان من لا مروة له لا ثقة به فلا يجوز الاستفتاء منه (و جوابه) انه يحصل الوثوق به مما عنده من ملكة اجتناب الكبائر الموجبة لاجتنابه الفتوى بدون اجتهاد أو الفتوى بخلاف ما أدى اليه رأيه لأن ذلك من أعظم الكبائر (ثالثها) بما في صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222 من قوله (ع) أن يعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان حيث تدل هذه الفقرة على وجود حالة عفة في النفس بها يقدر الشخص على التحفظ عن القبائح مطلقا الشرعية أو العرفية دون خصوص القبائح الشرعية لوجود الإطلاق. بل لعل من عطف اجتناب الكبائر يستفاد ان المراد منها هو الستر و العفاف عن القبائح العرفية الذي هو عبارة عن المروة، مضافا إلى ان ارتكاب

خلاف المروة عيب لم يستر و كل عيب لم يستر فهو مضر بالعدالة. أما الصغرى فبالعرف.

و اما الكبرى فلقوله (ع): «و الدليل على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه»

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 264

الشامل للعيوب الشرعية و العرفية لكونه جمعا محلى باللام و هكذا قوله (ع) السابق «أن يعرفوه بالستر» (سلمنا) انه ليس بعيب إلا أنه كاشف عن عدم كونه ساترا لعيوبه و قد دلت الرواية على اشتراط ستر العيوب (و جوابه) ان المذكور في الرواية كاشف عن العدالة فهو لا يدل على اعتبار ذلك في العدالة إذ المكشوف قد يوجد بدون الكاشف. و لم يكن الظاهر من سؤال السائل و لا من جواب الامام (ع) حصر الكواشف عن العدالة.

(إن قلت) لو لم يكن ترك منافيات المروة داخل في العدالة لاقتصر الامام (ع) على جعل الكاشف اجتناب الكبائر فإنه طريق أسهل (قلنا) لا نسلم أسهلية ذلك فان اجتناب الكبائر ليس بالسهل الاطلاع عليه بخلاف ترك منافيات المروة فإنه من السهل الاطلاع عليها لابسط الناس.

(رابعها) ما روي عن الكاظم (ع) في حديث هشام من أن من لا مروة له لا دين له و من لا عقل له لا مروة له، فإنه لا ريب ان من لا مروة له ليس بخارج عن الدين، فلا بد من حمل الرواية على نفى الكمال الحاصل بالعدالة لأنه أقرب المجازات الممكنة. (و جوابه) مضافا الى ضعف الرواية انا لا نسلم ذلك فان المراد منها الحض و الحث على المروة.

(خامسها) ما روي عنهم (ع) من أن من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له و عن أبي عبد اللّه (ع): لا ايمان لمن لا حياء له. و روي عن

الصادق (ع) من لم يبالي ما قال و ما قيل فيه فهو شرك الشيطان. و غيرها من الأخبار الواردة في هذا المضمون فان عدم المبالاة و عدم الحياء عبارة عن عدم المروة أو ملازم له فاذا كان يجوز الغيبة معه فالمروة معتبر في العدالة لأن العادل لا تجوز غيبته (و جوابه) ان العادل إذا تجاهر بشي ء جازت غيبته فيجوز أن يكون عادلا و لكنه لما ارتكب خلاف المروة بفعل شي ء غير مستحي من الناس جاز غيبته في ذلك الشي ء لتجاهره به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 265

و اما رواية «لا ايمان لمن لا حياء له» و ما بعدها فهي نظير «لا دين لمن لا مروة له».

و استدل النافون لاعتبار المروة في العدالة بوجوه:

(أحدها) عدم ورود نص صريح أو مؤذن باعتبار المروة في العدالة فعدم الدليل دليل العدم. (و جوابه) انك قد عرفت ان المروة معتبرة في حقيقة العدالة ص 216.

(ثانيها) انه قد نقل ان النبي (ص) كان يركب الحمار عاريا و يأكل الطعام ماشيا. (و دعوى) عدم كون شي ء منها منافيا للمروة (مدفوعة) بقوله تعالى حكاية عنهم مٰا لِهٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْوٰاقِ (و جوابه) انا لا نسلم صدور ذلك منه بنحو ينافي المروة و حاشاه صلوات اللّه عليه أن يرتكب ذلك، و قولهم ذلك لتخيلهم ان الرسول يجب أن يكون حكمه حكم الملائكة في عدم اتصافه بصفات الإنسانية.

(ثالثها) ان ارتكاب الصغيرة مع كونها من المعاصي غير مناف للعدالة إلا مع الإصرار عليه فارتكاب خلاف المروة أيضا كذلك بالأولوية (و جوابه) ان الأولوية لا تتم عند من يقول بأن خلاف المروة من المعاصي و عند غيره لا اعتبار لهذه الأولوية لقيام الدليل عنده على أخذ

المروة في العدالة كما عرفت.

(رابعها) ان مرتكب خلاف المروة إذا لم يكن عادلا فيقتضي أن يكون فاسقا مع انه لا يسمى فاسقا بمجرد ذلك. (و جوابه) ان الفاسق ان كان غير العادل فلا نعبأ عن تسميته بالفاسق. و ان كان معناه مرتكب الذنب فلا نسميه بالفاسق و نلتزم بالواسطة بين العدالة و الفسق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 266

ترك المندوبات لا يقدح بالعدالة

(تاسعها) حكي عن جماعة من الأصحاب بأن ترك المندوبات أو فعل المكروهات لا يقدح بالعدالة

إلا إذا بلغ حدا يؤذن بالتهاون بالدين و قلة المبالات بكمالات شريعة سيد المرسلين فيقدح بالعدالة كما عن صريح الشرائع و الدروس و الروضة و مثل له بعضهم بما إذا التزم بترك المندوبات بأجمعها أو فعل المكروهات بأجمعها. و يحكى عن الشهيد الثاني (ره) انه قال لو ترك صنفا منها كالجماعة و النافلة و نحو ذلك فهو نظير ترك الجميع للاشتراك في العلة المقتضية لذلك و لو تركها أحيانا لم يضر و قد استدل على ذلك بعض المتأخرين بأن ترك المستحبات و فعل المكروهات مخالفة للمروة عند من اعتبرها لما في ذلك من الخروج عن العادات المستحسنة شرعا و عرفا (و لا يخفى ما فيه) فان الكلام في اعتبار ذلك من حيث هو لا باعتبار انطباق عنوان آخر عليه و إلا فالمتبع هو ذلك العنوان. و يمكن أن يستدل له بجملة من الاخبار:

(منها) ما رواه الشيخان في الكافي و التهذيب عن حنان في الموثق حيث فيه: ان اللّه يعذب على ترك السنة و هو ظاهر في حرمة ترك المسنونات.

(و منها) ما في التهذيب في الصحيح عن أبي جعفر (ع): ان تارك الفريضة كافر و ان تارك النوافل ليس بكافر و لكنها معصية.

(و منها) ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيد فيها الصحيح

في ترك صلاة الليل لشغله بالدنيا، ان عليه القضاء و إلا لقي اللّه مستخفا متهاونا مضيعا لسنة رسوله.

(و منها) ما دل على أن ترك صلاة الجماعة مضر بالعدالة كما دلت عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 267

صحيحة ابن أبي يعفور.

(و منها) ما دل على أن ترك الصلاة في المسجد حرام (و الجواب) عن ذلك انها معارضة بما يدل على عدم الوجوب من الاخبار المرجحة عليها بأقوائية الدلالة و الإجماع فتحمل تلك على المبالغة و شدة التأكد. و يمكن أن يستدل على عدم قدح ذلك في العدالة أيضا:

(أولا) بأن الحكم بمنافاة ذلك للعدالة ان كان من جهة كونه معصية كبيرة فهو فاسد لأن مقتضى كونها مستحبة هو جواز تركها و مقتضى كونها مكروهة جواز فعلها و ان كان من جهة كونه في نفسه منافيا للعدالة كمنافاة خلاف المروة للعدالة فهو لا دليل عليه.

و (ثانيا) ان جملة من الروايات قد دلت على ان العباد إذا أتوا بما افترض عليهم لا يسئلون عما سوى ذلك.

(منها) ما رواه في الكافي عن عابد في الصحيح قال دخلت على أبي عبد اللّه و أنا أريد أن أسأله عن صلاة الليل، الى أن قال: فقال من غير أن أسأله:

إذا لقيت اللّه بالصلوات الخمس المفروضات لم يسألك عما سوى ذلك. و روى الشيخ بإسناده عن الصادق (ع) في حديث قال فيه: من أتى اللّه بما افترض عليه لم يسأله عما سوى ذلك. و روى الصدوق في العلل عن ذريح عن الصادق (ع) قال: قال رجل: يا رسول اللّه يسأل اللّه عما سوى الفريضة؟ قال: لا. الى غير ذلك من الاخبار التي يستفاد منها جواز ترك السنة. و هذه الاخبار أقوى

دلالة من التي دلت على أن ترك السنة معصية و أرجح منها بموافقتها للإجماع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 268

عدم قدح الصنائع المكروهة و الدنية في العدالة

(عاشرها) حكي عن جماعة من العامة بأن العدالة يقدح فيها الصنائع المكروهة

كالحجامة و الحياكة و الحرف الدنية ككنس الشوارع و نزح القاذورات. و ذهب جماعة من الأصحاب الى عدم قدحها لأنها أمور مباحة و الناس في حاجة إليها و لو ردت شهادتهم لم يؤمن تركها لهم فيعم الضرر كيف و هي واجبة كفاية لتوقف النظام عليها و لم يدل دليل على قدح ذلك في العدالة (و دعوى) ان ذلك يؤذن بخسة النفس و قلة المروة (فاسدة) فإنها غير مسلمة و لو سلمت في بعضها فيكون ذلك من باب اعتبار المروة في العدالة لا من جهة خصوصيتها.

توقف العدالة على الإسلام و الايمان

(الحادي عشر) يعتبر في العدالة الإسلام و الايمان

كما هو المحكي عن العلامة و صاحب المعالم في المنتقى لأن الكفر و عدم الايمان من الكبائر للتواتر من الكتاب و السنة في خلود المتصف بهما في النار. مضافا لما هو المحكي عن روايتي أبي الصامت في التهذيب و عبد الرحمن بن كثير في الفقيه من عد إنكار حقوقهم (ع) من الكبائر السبع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 269

عود العدالة بالتوبة

(الثاني عشر) قد عرفت ان العدالة تزول بارتكاب الكبيرة
اشارة

كما في ص 225 أو الإصرار على الصغيرة كما في ص 257 أو فعل ما ينافي المروة كما في ص 262 فلا وجه لمناقشة المرحوم الأصفهاني في ذلك و الظاهر انه لا خلاف بينهم في أنه بالتوبة يزول الفسق للأخبار الكثيرة كقوله (ع): التائب من الذنب كمن لا ذنب له. و لكن وقع الخلاف في عود العدالة بالتوبة و تحقيق الحال يقتضي أن يتكلم في مقامين:

(أحدهما) في ثبوت التوبة و انه هل يكفي في ثبوتها مجرد إظهار التوبة

بقوله: تبت، أو: أستغفر اللّه و أتوب اليه. أو لا بد في ثبوتها من العلم بتحقق شرائطها القلبية من الندامة على المعصية و العزم على عدم الإتيان بها في القابل بظهور آثارها في الخارج. (و بعبارة أخرى) انه لا بد في ثبوتها من انكشاف صدق التائب و ان توبته واقعية، ظاهر الشيخ في المبسوط على ما حكي عنه الاكتفاء بمجرد إظهار التوبة حيث اكتفى في قبول الشهادة بإظهار التوبة عقيب قول الحاكم له: تب أقبل شهادتك. و قد يتمسك له بما تقدم من قوله (ع): التائب عن الذنب كمن لا ذنب له. و فيه انا لا نسلم ان هذا الشخص بمجرد قوله تبت أنه تائب عن الذنب. و قد يتمسك بما روي عن علي (ع) انه أقام الحد على قاذف و بعد اقامة الحد عليه أتاه لأداء الشهادة فقال (ع) تب حتى أقبل شهادتك فتاب و قبل. و فيه مضافا لضعف الرواية انها قضية في واقعة، و قد برهن في مقامه ان قضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال لبست ثوب الاجمال. و قد يتمسك بقاعدة الصحة و هي حمل فعل المسلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 270

على الصحة. و أجيب عن ذلك بأنه لا يكتفى به

في مثل المقام إذ هي من باب بناء العقلاء و العقلاء لم يبنوا على ذلك و إلا لا كتفي في الشاهد بقوله: أنا عادل و لم نجد من صرح بذلك. و ذهب الى الثاني جملة من المتأخرين كصاحب مشارق الاحكام و الضوابط و يمكن أن يستدل لهم بأن التوبة متقومة بالندامة و العزم القلبيين و هما من الموضوعات الخارجية فلا يثبتان إلا بالعلم أو بالطريق الذي اعتبره الشارع و اعتراف المذنب لا دليل على حجيته في ذلك.

(المقام الثاني) في أنه بعد ثبوت التوبة و تحققها و كون الشخص نقطع بتحقق التوبة منه فهل تعود له العدالة

و يكون عادلا بمجرد ذلك أو لا بد له من الاستمرار و المواظبة مدة من الزمن على ترك المحرمات و فعل الواجبات ذهب جماعة إلى الأول. و ادعى غير واحد من أنه لا خلاف في عود العدالة بالتوبة إذا كانت العدالة قد زالت بفعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة أو ما ينافي المروة بل عن مجمع الفائدة انه لا يبعد أن يكون إجماعيا و يدل عليه المعتبرة المستفيضة المصرحة بقبول شهادة القاذف و السارق و المحدود بعد التوبة و رواية السكوني عن الصادق (ع) ان أمير المؤمنين شهد عنده رجل و قد قطعت يده و رجله بشهادة فأجاز شهادته و قد كان تاب و عرفت توبته و يتم المطلوب بعدم القول بالفصل. و في المحكي عن الأردبيلي انه يمكن التعميم بتنقيح المناط. و ذهب الى الثاني جماعة و قال بعضهم لا بد من إصلاح العمل بعد إظهار التوبة بفعل الواجبات و ترك المحرمات و رفع اليد عن الأعمال السيئة و قيل و لو بمجرد ذكر أو تسبيح لقوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ

أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا و يشهد لذلك رواية قاسم بن سليمان قال سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدا ثمَّ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 271

يتوب و لا يعلم منه الا خيرا أ يجوز شهادته؟ فقال: نعم، ما يقال عندكم؟ قلت يقولون توبته فيما بينه و بين اللّه لا تقبل شهادته، قال: بئسما قالوا كان أبي يقول إذا تاب و لم يعلم منه الا خيرا جازت شهادته. فهذه الآية الشريفة مع هذه الرواية أيضا في الشهادة فتقيد تلك المستفيضة مع رواية السكوني بصورة الصلاح في خصوص الشهادة و فيما عدا الشهادة لا بد لمن يعتبر الملكة في العدالة أن لا يكتفى في عود العدالة بالتوبة إلا مع المداومة على الصلاح و الاختبار مدة يعلم بإصلاح سريرته و عود الملكة له و هكذا من اعتبر حسن الظاهر الا أن يقال أن بالتوبة يحسن الظاهر. و كيف كان فالحق ان مقتضى الأدلة ان العادل إذا صدر منه ما ينافي العدالة ففي الشهادة يكفي صدور التوبة منه مع الإصلاح للأدلة المتقدمة و القول بعدم الفصل غير مسلم و التعميم من جهة تنقيح المناط غير تام، و اما فيما عدى ذلك من التقليد و نحوه فلا بد من إحراز تحقق العدالة بأي معنى كانت.

ما كان الفسق فيه مانعا لا يشترط فيه المروة

(الثالث عشر) قد عرفت ان ما يشترط فيه العدالة يشترط فيه المروة

و ترك منافياتها اما ما كان الفسق مانعا منه أو عدمه شرط له فهل ارتكاب منافيات المروة تمنع منه أو عدمه شرط له كما لو قلنا بأن خبر الواحد يمنع من قبوله الفسق أو عدم الفسق شرط له فهل ارتكاب منافيات المروة مانع منه

أو عدمه شرط له، الحق عدم ذلك، فلا يشترط فيه ترك منافيات المروة و لا يكون ارتكابها مانعا لعدم ملازمة عدم الفسق للمروة فيجوز تحقق عدم الفسق بدون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 272

تحقق المروة، إلا اللهم أن يقال ان العادة قاضية بملازمة ارتكاب منافيات المروة للفسق لأنها تؤذن بخسة النفس و دناءتها و قلة المبالاة و ذلك يقتضي بحسب العادة عدم التقوى و ارتكاب المعاصي. و لكن الظاهر ان الملازمة غالبية لا دائمية فلا يمكن الاعتماد عليها.

الذي يضر بالعدالة هو الإصرار على ارتكاب منافيات المروة

(الرابع عشر) بعد ما عرفت ان فعل ما ينافي المروة مخل بالعدالة فهل يخل بها فعله و لو بدون الإصرار عليه

أو المخل بها هو الإصرار عليه استظهر الثاني (عمنا الأعلى الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة) في شرحه لمقدمة والده كاشف الغطاء. و الظاهر انه لا وجه لما ذكره قدس سره الا من جهة ان المنافي للمروة انما يكون منافيا لها لو أصر عليه الإنسان اما لو صدر منه مرة بدون الإصرار فلا ينافيها لأنه لا يقتضي ارتفاع الاستقامة العرفية. و عليه لو فرض ان العمل و لو بدون إصرار يقتضي ارتفاع الاستقامة العرفية و تزول به المروة فهو مضر بالعدالة و لو أتى به بدون الإصرار.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 273

ترك الصلاة جماعة يقدح بالعدالة

(الخامس عشر) أنه يستفاد من بعض الأخبار إن ترك الصلاة جماعة يضر بالعدالة

كما في خبر عبد اللّه ابن أبي يعفور عن الصادق (ع) من ان رسول اللّه (ص) قال: لا غيبة إلا لمن صلى في بيته و رغب عن جماعتنا و من رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته و سقط عندهم عدالته و وجب هجرانه و إذا رفع الى امام المسلمين أنذره و حذّره فان حضر جماعة المسلمين و إلا أحرق عليه بيته و من لزم جماعتهم حرمت غيبته و ثبتت عدالته. و كما في المحكي عن البحار عن الشهيد الثاني (ره) عن الباقر (ع) قال أمير المؤمنين (ع) من سمع النداء فلم يجبه من غير علة فلا صلاة له. و قال رسول اللّه (ص):

لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة و لا غيبة إلا لمن صلى في بيته و رغب عن جماعتنا و من رغب عن جماعة المسلمين سقطت عدالته و وجب هجرانه و إذا رفع الى امام المسلمين أنذره و من لزم جماعة المسلمين حرمت عليهم غيبته و ثبتت عدالته.

و يؤيد هذين الخبرين خبر إبراهيم بن زياد عن أبي عبد اللّه (ع) قال: من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته. و حكي عن الكفاية للسبزواري (ره) و مجمع الفائدة للمقدس الأردبيلي (ره) و البحار للمجلسي (ره) العمل بالخبرين المذكورين.

و الحق عدم قدح ذلك في العدالة و ان حصل الإصرار عليه ما لم يبلغ حد الاستهانة بالدين و الاستحقار للمسلمين و ينطبق عليه عنوان من عناوين الكبائر.

و ذلك لوجوه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 274

(أولا) الأخبار المتقدمة المبينة للعدالة حيث انها كانت في مقام تحديد العدالة فتدل بمفهومها على عدم اعتبار ذلك فيها. و فيه ان هذه الاخبار أخص منها.

(و ثانيا) إن معظم الأصحاب من المتقدمين و المتأخرين على ان ترك الجماعة ليس بقادح في العدالة لأنهم في مقام التحديد للعدالة لم يذكروه و لا في باب الجماعة تعرضوا له و لا في باب الشهادات بينوه. و لعل ذلك يكون إجماعا ممن تقدم على المذكورين و ممن تأخر عنهم كيف و قد صرح الكثير منهم على أن ترك السنن ليس بقادح في العدالة من دون استثناء لترك الجماعة و لعل هذا يكون من قبيل إعراض الأصحاب عن العمل بها الموهن لحجيتها و إن كانت صحيحة السند.

(و ثالثا) ثبوت السيرة القطعية من المتدنين على عدم معاملة من ترك الجماعة معاملة غير العادل.

(و رابعا) ضعفها سندا فإن الرواية الثانية مرسلة و الثالثة لم يعلم صحة سندها و الاولى كان في طريقها الحسن بن علي عن أبيه و الظاهر ان المراد منهما ابنا فضال الحسن و أبوه و لا أقل من احتمال ذلك فيهما و هو

كاف في ضعف السند و فيه أيضا محمد بن موسى و هو مشترك بين جماعة فيهم الضعيف و فيهم الثقة (نعم) قد روى هذا الخبر الصدوق في الفقيه بطريق صحيح و لكن ليس فيه تلك العبارة و إنما فيه ان رسول اللّه (ص) همّ بأن يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور في جماعة المسلمين و قد كان فيهم من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك و كيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من اللّه عز و جل و من رسول اللّه (ص) فيه الحرق في جوف البيت و قد كان يقول رسول اللّه (ص)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 275

لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة، و لا ريب في عدم دلالة هذه العبارة على المطلوب لأنها إنما تدل على فعل رسول اللّه (ص) ذلك و لعله قضية في واقعة لأسباب خاصة فلا تعم جميع الأحوال. و أما قوله: (لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة) فهو محمول على الكمال هذا مضافا الى ما يقال من ان اختلاف متن الرواية يوجب ضعفها. و لكن للخصم أن يقول إن استشهاد الامام (ع) بفعل رسول اللّه (ص) يوجب انعقاد ظهوره في العموم و إلا لما صح الاستشهاد.

(و خامسا) انها ظاهرة في ترك الجماعة الواجبة كجماعة صلاة الجمعة و صلاة العيدين و ذلك لأن الجماعة في الصلاة اليومية لا إشكال في استحبابها و عدم وجوبها فلا يستحق تاركها العقاب بالنار إذ المستحب لا يكون تاركه محكوما من اللّه و رسوله بالحرق و العذاب فهي ظاهرة في ترك الجماعة الواجبة خصوصا بإضافتها

إلى المسلمين. و دعوى ان الجماعة الواجبة غير معلوم تحققها في زمن الصادق (ع) بل الظاهر عدمه فتعين إرادة الجماعة المستحبة. فاسدة لأنه لو سلم فعدم وجودها لا ينافي بيان حكمها فكم بينوا الأئمة (ع) أحكاما لأمور ليست موجودة في عصورهم على أن القرينة المذكورة أدل دليل على إرادة الجماعة الواجبة فلا يزيل دلالتها مثل هذا الاستظهار.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 276

ليس كل ما يوجب عدم قبول الشهادة يوجب عدم العدالة

(السادس عشر) ان بعض الأمور و ان كانت توجب عدم قبول الشهادة كالسؤال بالكف

إذا اتخذه الشاهد صنعة و حرفة أو جرت الشهادة نفعا للشاهد أو دفعت ضررا عنه أو كونه غير ضابط ككثير النسيان و الغفلة و السهو نظير عدم قبول شهادة الولد على والده و العبد المملوك لمالكه عند بعضهم فان ذلك لا يقتضي عدم العدالة و من هنا يظهر لك فساد ما توهم من ان السؤال بالكف مخل بالعدالة لإخلاله بالشهادة و يظهر لك صحة قول بعضهم من أن ولد الزنا لا تقبل شهادته و ان كان عادلا.

الأصل في المسلم العدالة

(السابع عشر) ذهب جماعة من الأصحاب الى أن الأصل في المسلم العدالة

كما هو المحكي عن ابن جنيد في البحار و عن خلاف الشيخ و مبسوطه و عليه بعض العامة و يمكن دعوى انه يقول بذلك كل من قال بكفاية مجرد الإسلام و الايمان مع عدم ظهور الفسق في ثبوت العدالة و عليه فيكون مجهول الحال من المسلمين محكوما بالعدالة و يرتب عليه آثار العدالة. و يمكن أن يستدل لهذا الأصل.

(أولا) بما تقدم من الأدلة على القول الأول في العدالة ص 217 و قد تقدم ما فيه هناك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 277

(و ثانيا) بما ذكره صاحب المسالك من أن الظاهر من حال المسلم العدالة إذا الظاهر من حاله انه لا يترك الواجبات و لا يفعل المحرمات و لذا لو نسبه أحد إلى خلاف ذلك يفسق و يعزر. و فيه انه لا دليل على حجية هذا الظهور و لو سلمناه فلا نسلم حجيته على وجود الملكة على ذلك و لو سلمناه فلا نسلم حجيته على وجود ملكة ترك منافيات المروة.

نعم إنما يقتضي ثبوت إسلامه و إيمانه و يرتب عليه آثار ذلك من عدم جواز غيبته و انه لو نسب إلى المعاصي أو الموبقات كان

الناسب له فاسقا يستحق التعزير و نحو ذلك و بعبارة أخرى ان ما ذكره المستدل إنما هو من آثار إسلامه.

(و ثالثا) بأصالة الصحة. و فيه ما عرفته غير مرة من ان هذا الأصل إنما يثبت صحة اعماله لا وجود ملكة العدالة عنده.

(و رابعا) بأن الإسلام ملكة رادعة لصاحبه و الأصل عدم الفسق.

و فيه ان الإسلام ليس بملكة رادعة فإن ارتكاب المعاصي من المسلمين أكثر من أن تحصى. نعم التقوى و القوة القدسية رادعة و الإسلام لا يدل عليها.

(و خامسا) بما دل على حسن الظن بالمسلم و فيه أن حسن الظن في المسلم انما يقتضي عدم حمل فعله على الباطل و الفساد فهو يرجع الى أصالة الصحة و لا يقتضي ثبوت العدالة له.

(و سادسا) بأن الصحابة قد أجمعوا على ترتيب آثار العدالة على المسلم إذا لم يعرف بالفسق و لذا كانوا يأخذون بأخبار العبيد و النساء إذا عرفوهم بالإسلام و لم يعرفوا منهم الفسق و قد أقرهم رسول اللّه (ص) على ذلك حيث قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال و أمر بالنداء بالصوم مع انه لم يظهر من الأعرابي إلا الإسلام و فيه إنا لا نسلم. ذلك و قبول رسول اللّه (ص) لو سلمناه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 278

فهو فعل في واقعة لا نعلم وجهه و لو سلمنا ذلك فهو يدل على قبول الخبر منهم و لعله من جهة الوثوق به لا من جهة اعتبار العدالة فيه.

و قد ذهب المشهور إلى إنكار هذا الأصل و الحق معهم لعدم الدليل عليه و ظهور رواية ابن أبي يعفور و نحوها على نفيه فإن الأصل لو كان هو العدالة لما ذكر الامام (ع) الطرق المذكورة

في الرواية لمعرفتها و لاكتفى (ع) بالإسلام دليلا عليها.

اعتبار العدالة في باقي وظائف المجتهد

(الثامن عشر) ان العدالة كما هي معتبرة في تقليد المجتهد تعتبر في قضاء المجتهد

و نفوذ حكمه و باقي تصرفاته في الأمور العامة الثابتة للولاة و في ثبوت الولاية على الأوقاف، و الوصايا و أموال القصر و الغيّب، و ذلك للإجماع مع ان الفاسق لا يؤمن منه على الأموال و النفوس و الأعراض و يدل عليه أيضا رواية ابن أبي خديجة (إياكم أن تحاكموا إلى هؤلاء الفساق). حيث علق حرمة المحاكمة على وصف الفسق و لرواية الخصال (اتقوا الفساق من العلماء) و استدل أستاذنا كا.

على اعتبار العدالة في القضاء بالأولوية لأنه إذا اعتبرت في الفتوى و الرواية فبالطريق الأولى في القضاء لأهميته منها. و لرواية الفقيه اتقوا الحكومة فإنها للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين و منه يظهر اعتبارها في نفوذ حكمه فإن الذي ينفذ حكمه هو المجعول للقضاء و قد عرفت ان المجعول هو المجتهد العادل دون الفاسق، و أما اعتبارها في تصرفات المجتهد العامة و ولايته على الأموال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 279

الخاصة كأموال القصر فللإجماع، و لأن أغلب الأدلة المتقدمة في اعتبار العدالة في المقلد جارية في المقام و لأنها انما ثبتت للمجتهد بأدلة النيابة عن الامام و هي منصرفة إلى المجتهد العادل.

فيما لو عرض الفسق على المجتهد العادل

(التاسع عشر) أن المجتهد العادل لو صار فاسقا و العياذ باللّه فهل يجوز العدول عنه أو يبقى على تقليده

فيما قلده فيه سابقا الظاهر كما عرفت الحال فيما لو جن المجتهد أو صار عاميا فإنه يبقى على تقليده له في المسائل السابقة و لا يقلده في المسائل اللاحقة و لا يصغى لدعوى الإجماع على عدم جواز التقليد للفاسق إذ لعلهم ناظرون لتقليده في المسائل المتجددة لا للمسائل التي سبق التقليد بها مضافا الى أن هذا الإجماع معارض بإجماعهم على حرمة العدول مضافا الى احتمال استناد المجمعين الى تولاهم دلالة الأدلة على ذلك

مع انها انما تدل على اعتبار العدالة زمن الفتوى و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى في مبحث العدول تنقيح ذلك.

ثمَّ ان جعلياته كجعل شخص قيّما و حكوماته تبقى للاستصحاب مع ظهور الإجماع في ذلك و للسيرة عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 280

الشك في بقاء العدالة

(العشرون) إذا ثبتت عدالة الشخص ثمَّ مضت مدة يمكن فيها زوال العدالة

فهل يحكم ببقائها أو لا يجوز الا بعد الفحص عنه و معرفة عدالته.

الحق هو الأول لأن العدالة موضوع من الموضوعات الخارجية و هي يجري فيها الاستصحاب عند الشك في بقائها مضافا الى أن سيرة المسلمين على استصحاب بقاء العدالة حتى يعلم ارتفاعها.

طرق معرفة العدالة الطريق الأول الاختبار و المعاشرة

(الحادي و العشرون) تعرف العدالة بأمور:
(أحدها): بالعلم و القطع بأي سبب حصل سواء كان حصل بالتواتر أو الشياع المفيدين للقطع بالعدالة

أو بالاختبار الحاصل من الصحبة المتأكدة الموجبة للاطلاع على الحال و لا يكفي فيها المرة كما في الجرح بل لا بد من البحث و التفتيش ليميز بين الخلق و التخلق و الطبع و التكلف حتى يحصل العلم بها و ذلك لأن القطع حجة بالذات من أي سبب حصل لما تقرر في محله من حجية القطع مطلقا (إن قلت): إن البحث عن ذلك لا يكون إلا بالمعاشرة الاختبارية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 281

الامتحانية و هي عبارة عن التجسس المحرم لقوله تعالى وَ لٰا تَجَسَّسُوا مضافا الى الأخبار المتظافرة المتكاثرة الواردة عن الأئمة (ع) الدالة على حرمة التفحص و التفتيش و لأمرهم (ع) بوضع أمر أخيك على أحسنه و عدم اتهام أخيك. (و جوابه) ان ذلك مخصص بالنسبة لمعرفة العدالة لترتيب الأحكام عليها بذيل صحيحة عبد اللّه ابن أبي يعفور و هو قوله (ع): «فإذا سئل عنه أهل محلته و قبيلته قالوا ما رأينا منه إلا خيرا». و بما روي عن النبي (ص) انه كان يبعث رجلين لتحقيق حال الشهود من أهل محلتهم و قبيلتهم. مضافا لرواية جابر في القابلة إذا سئل عنها فعدلت. مضافا الى الإجماع العملي على ذلك و قد ألفت كتب الرجال في ذلك.

الطريق الثاني قيام البينة على العدالة
اشارة

(ثانيها): البينة بشهادة عدلين على عدالة الشخص فإنه تثبت بذلك عدالته شرعا أما في مقام الخصومة فلا اشكال فيه و لا ارتياب، و أما فيما عدى ذلك كما في مورد التقليد لمعرفة المجتهد العادل كي يقلده و نظائره فلما في موثقة مسعدة بن صدقة (و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البينة). و لا وجه للمناقشة في الرواية بضعف (مسعدة) فإن

هذه الرواية قد تمسك بها العلامة و من تأخر عنه على أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية. مضافا لما هو المحكي عن المجلسي الأول بأن مسعدة بن صدقة ممن عملت الطائفة برواياته و الظاهر كذلك فهي موثوق بها: و لا ريب ان ظاهرها كون البينة كالاستبانة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 282

و انها تقوم مقامها و الاستبانة حجة في الجميع فكذا البينة على أن الاستبانة الرافعة للحل أعم من الاستبانة في الموضوع أو الحكم أو لوازمهما فكذا البينة و لا ريب ان البينة معناها الشاهد المتعدد في مصطلح الشرع كما يؤكد ذلك توصيفها بالجمع في رواية منصور عن الصادق (ع) حيث قال: و أقام البينة العدول. (و الحاصل) انه يفهم من رواية مسعدة أن كفاية البينة في مقام إثبات موردها من المسلمات و ان لم تكن مشتملة على عموم أو تعليل يستفاد منه عموم الحجية في غير موارد الحل و الحرمة إلا انه يستفاد من قوله أو تقوم به البينة ان ثبوتها بالبينة كثبوتها بالاستبانة من باب انها من طرق إثبات المشتبهات.

و يدل على حجية البينة أيضا خبر عبد اللّه بن سليمان في الجبن عن الصادق (ع) المروي عن الكافي و التهذيب (كل شي ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة). و قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ. بناء على أن تخصيصه بمورده خلاف الظاهر. و إن الأمر بالاستشهاد يقتضي كونه مقبولا و إلا فلا ثمرة في الاستشهاد. و لما في حسنة إبراهيم بن هاشم بل في صحيحته الموجودة في الكافي و في الوافي في باب من أدان ماله بغير بينة من كتاب المعايش و المكاسب عن أبي عبد اللّه

بعد ما أعاب على ولده إسماعيل في دفعه دنانير له بضاعة الى رجل بلغه انه شارب الخمر (فاذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم).

فإنه لا ريب في عدم ارادة العموم الجمعي من المؤمنين لعدم إمكان شهادة جميع المؤمنين عنده فلا بد ان يراد منه الجنس و قد خرج شهادة الواحد بالدليل كما سيجي ء إن شاء اللّه تعالى فيشمل شهادة الاثنين فصاعدا و سيجي ء الكلام فيها في حجية الشياع إن شاء اللّه تعالى. و قد استدل بعضهم بالإجماع و بالضرورة الفقهية على حجة البينة في الموضوعات مطلقا و هو لا وجه له لوجود المخالف كما هو المحكي عن ظاهر السيد في الذريعة و المحقق الأول في المعارج و المحقق الثاني في الجعفرية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 283

و صاحب الوافية حيث حكى انهم حكموا بعدم ثبوت الاجتهاد بشهادة العدلين لعدم الدليل على اعتبارها. و قد يستدل على حجية شهادة العدلين في المقام بذيل صحيح ابن أبي يعفور (فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا). و فيه ما لا يخفى فان المراد بالخير بقرينة ما سبق على الفقرة و تأخير عنها هو غير العدالة من الأعمال الطيبة كملازمته للصلاة و ليس ذلك يستدعي الثبوت شرعا بل هو موجب لثبوت كون ظاهره حسنا الذي هو أحد الطرق التي تثبت بها العدالة. و قد استدل الشيخ الأنصاري (ره) فيما حكي عنه بما في رواية جابر عن أبي جعفر (ع) شهادة القابلة جائزة على انه استهل أو برز ميتا إذا سئل عنها فعدّلت و فيه إنما تدل على ثبوت عدالتها و أما كيفية الثبوت بالقطع من جواب السؤال عن العدالة أو بشهادة عدلين

أو واحد أو بالشياع فهو مسكوت عنه في الرواية. و قد يستدل أيضا بما في رواية علقمة من لم تره بعينك يرتكب معصية و لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل الستر و العدالة بالفحوى أو بضميمة عدم القول بالفصل بين الفسق و العدالة. و فيه ما لا يخفى فإنه لا فحوى و لا دلالة على اعتبار الشهادة في الفسق بل غاية ما تدل عليه ان الشهادة بالفسق مانعة من ثبوت العدالة. و أما ما استدل به من إرسال النبي (ص) للفحص عن عدالة الشهود فللخصم أن يقول انه لعله على وجه القطع. مضافا الى أنه مختص بصورة المرافعة و قد استدل بعض المعاصرين على عموم حجية البينة ببناء العقلاء على العمل بها مطلقا و عدم ثبوت الردع عنها شرعا إلا في بعض الموارد كالزنا. و أنت خبير ان بناء العقلاء دليل لبي و كيف يمكن إثبات عمومه حتى في غير مورد المرافعة و حتى عند الظن بالخلاف و حتى إذا لم يكن الشاهد من أهل الخبرة إلا بالاستقراء التام لجميع الموارد عند أغلب العقلاء و دون ذلك خرط القتاد. و قد استدل أيضا بقوله (ص): «إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان». بأن ظاهره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 284

مفروغية حجية البينة المصطلحة. و لا يخفى ما فيه فإنه إنما يقتضي حجيتها في خصوص مورد القضاء و المنازعة و هذا من ضروريات المذهب بل الدين و إنما محل الكلام في ثبوت الموضوعات بها في غير مورد المنازعة كما هو محل الكلام فهذه الرواية لا تنفع المستدل بنفسها و لا من جهة إمضائها لبناء العقلاء إذ هي على تقدير الإمضاء إنما هي تمضيه

في خصوص مورد النزاع.

و قد أورد على حجية البينة في الموضوعات الغير المحسوس بها. كالعدالة و الاجتهاد و الأعلمية بأن الشهادة عليها شهادة عن حدس إذ الشاهد لا يعرف و لا يشاهد الملكة و انما يحدسها بالاختبار و الشهادة لا تقبل في الحدسيات و قد تقدم منا الجواب بأن الأمور الحدسية القريبة الواضحة الآثار لا فرق بينها و بين الأمور الحسية في قبول الشهادة فيها. و قد أورد على الاستدلال برواية مسعدة بن صدقة (أولا) بضعف سندها و قد عرفت ما فيه.

(و ثانيا) بعدم ظهور البينة في التعدد و قد عرفت ما فيه.

(و ثالثا) بعدم دلالتها على العموم كما هو المطلوب فإنها انما تدل على ثبوت الحلية في مورد كانت الحلية فيه ثابتة بالأمارة أو بالاستصحاب. و أما غيره فالرواية أجنبية عنه و الا لزم تخصيص الأكثر لثبوت الحرمة بالاستصحاب و اخبار ذي اليد و حكم الحاكم. و لا يخفى ما فيه فإنه لو كان ذلك ينافي العموم لكانت عمومات أصل البراءة لا يتمسك بها لأنها يلزم تخصيصها بالأكثر مع ان أدلة الاستصحاب و اخبار ذي اليد و حكم الحاكم و غيرها من الامارات حاكمة أو واردة على هذا الدليل فلا يضر الكثرة، مع أن الكثرة المخلة بالعموم غير مسلم وجودها بل متيقنة العدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 285

فوائد تتعلق بالمقام
اشارة

و هاهنا فوائد:

(الاولى) ان البينة يثبت بها العدالة

و سائر الموضوعات حتى مع الظن بالخلاف لظهور الأدلة المذكورة في حجيتها مع عدم تقييدها بعدم الظن بالخلاف.

(الثانية) ان الشهادة العملية كالشهادة القولية في ترتيب آثار العدالة

فيكون اقتداء العدلين بشخص شهادة عملية بعدالته فنثبت به عدالته كما هو المحكي عن الشهيد (ره) في الدروس و ذلك لأن الأدلة التي تدل على حجية الشهادة تدل على حجية الشهادة العملية بتنقيح المناط بل بالطريق الأولى فإن العمل أقوى من القول في الدلالة على الواقع.

(الثالثة) هل يشترط في الشاهدين كونهما من أهل الخبرة أم لا؟

بل يقبل شهادتهما حتى لو كانا عاميين مقتضى إطلاق الأدلة هو الثاني و مقتضى الاحتياط هو الأول.

(الرابعة) هل تقبل شهادة النساء أم لا؟

يظهر من بعضهم قبولها و من الآخرين عدمها. و الحق ان العدالة موضوع من الموضوعات الخارجية فكما تقبل فيها شهادة النساء تقبل في العدالة ذلك، نعم في شهادتهن على الجرح محل إشكال إذا كن منفردات لعدم ثبوت حقوق اللّه تعالى بهن منفردات و الشهادة بالفسق ترجع الى ذلك.

(الخامسة) انه يكفي الإطلاق عند الشهادة بالعدالة كأن يقول هو عدل أو لا بد من ذكر السبب و التفسير

كأن يقول هو عدل لوجود الملكة عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 286

و يعبرون عن ذلك بالتعديل و التزكية سواء ذكر السبب أم لا و قد اختلف الفقهاء و الأصوليون من الخاصة و العامة في ذلك على أقوال:

(الأول) أنه يجوز الاكتفاء في التعديل بالإطلاق مطلقا و حكي القول به عن الشيخ و العلامة و الشهيد و المقدس الأردبيلي و ابن البراج و ابن حمزة و ابن إدريس و نسب القول به للقاضي أبي بكر و الشافعي.

(الثاني) انه لا يجوز الاكتفاء بذلك بل يجب بيان السبب و التفسير و هو المحكي عن ابن جنيد و عن العلامة في المختلف.

(الثالث) إن المعدل إن كان عالما بأسباب العدالة كفى الإطلاق و إلا وجب ذكر السبب و حكي القول به عن العلامة. و الظاهر ان مرادهم أن يكون عالما بأسباب العدالة عند المشهود له.

(الرابع) الاكتفاء بالإطلاق في العدالة حيث يعلم عدم المخالفة فيما يتحقق به العدالة و مع انتفاء ذلك يكون القبول موقوفا على ذكر السبب و هو المحكي عن المعالم و المنية.

(الخامس) إن المعدل إن كان مبالغا في الاحتياط كفى الإطلاق و الا فلا. و يستدل للقول الأول بوجوه: (منها) أن قول العدلين فلان عدل و نحوه مما لم يشتمل على ذكر السبب شهادة العدلين بالعدالة فيجب قبولها لعموم ما دل على حجية البينة و لما في

صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. (و منها) إن أسباب الفسق غير محصورة الأنواع و لا متناهية الأفراد و يكفي في الجرح ذكر فرد منها و لا تحصل العدالة إلا بالتحرز عنها و عن منافيات المروة جميعا فلو لزم التفسير في الشهادة بالعدالة لوجب ذكر جميعها و هي كثيرة يعسر ضبطها و يتعذر عدها. (و منها) ما ذكره المرحوم الشيخ حسن في شرح مقدمة والده لكشف الغطاء من أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 287

سيرة العلماء على الأخذ بقول المعدل من دون سؤال و بحث مع العلم بالاختلاف في كفاية الواحد في العدالة و عدمها أو في معنى العدالة أو في عدد الكبائر أو في معنى الإصرار على الصغائر أو في معرفة منافيات المروة أو في الألفاظ الدالة على ذلك أو غيرها مما لا يكاد اتفاق فقيهين فيها و لو لا ذلك لما قام للتعديل و الجرح سوق.

احتج للقول الثاني بأنه ربما كان الشي ء سببا للجرح عند الحاكم لا عند الشاهد فيشهد بالعدالة بناء منه على عدم تأثير ذلك الشي ء فيه و بعبارة أخرى ان الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة فإن الاختلاف مثلا في عدد الكبائر يوجب أن يكون بعضها غير قادح في العدالة عند الشاهد و قادح عند العامل بها فإذا أطلق الشاهد الشهادة بالعدالة مع احتمال العامل فيها ذلك كان اقدامه على العمل بها اقدام على أمر يحتمل عدم اطلاع الشاهد عليه و فيه ان ذلك إنما يتم لو كان البناء في الشهادة على تحصيل العلم أو الظن بالمشهود به و هو باطل إذ البناء فيها على مجرد السببية و صدق

الاسم و لذا لم يجب على الشهود في الطهارة و النجاسة و الطلاق و النكاح و البيع و الصلح و سائر المعاملات ذكر السبب مع تحقق الاختلاف في الأسباب فإن الشاهد قد يشهد بوقوع البيع لوقوعه بالمعاطاة مع أن الحاكم لا يرى صحة بيع المعاطاة و أمثال هذا أكثر من أن تحصى، نعم يشترط في قبول الشهادة عدم العلم بالمخالفة للواقع لما عرفته منا من أن الشهادة من قبيل الامارة و الامارة ليست بحجة مع العلم بالخلاف مضافا الى انه لو لم تقبل الشهادة بدون ذكر السبب لاحتمال استناد الشاهد إلى أمر لا يصح الاعتماد عليه عند السامع لما جاز الاعتماد على الشهادة في أغلب الموارد و أكثرها و هو مخالف لسيرة المسلمين قديما و حديثا. (نعم) الحق أن يقال انه إذا احتمل السامع إن الشاهد أراد بالعدالة معنى غير المعنى الذي هو عنده و لم يكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 288

هناك أمارة تنفي هذا الاحتمال لا يجوز الاعتماد على الشهادة كما لو كانت العدالة عند السامع هي الملكة و احتمل انها عند الشاهد الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو مجرد ترك المحرمات و فعل الواجبات أو عدم اعتبار المروة فيها. لكن قد عرفت فيما سبق ان المعنى العرفي و اللغوي هو الملكة فاذا أطلقها الشاهد حملت عليه و لا يلزم الاستفسار و باقي الأقوال في التعديل و الجرح لم أظفر بحجة لها عند كتابتي لهذه الأسطر (فتلخص) ان الشاهدين لو شهدا و قالا فلان عدل أو ما دل عليه كفى و لا يحتاج أن يقولا متصف بالملكة التي تمنعه من الاقدام على الكبائر و الإصرار على الصغائر أو منافيات المروة

أو يقول اشهد أنه مؤمن يصلي و يصوم و يزكي و يحج و محافظ على دينه و لا يحتاج أن يقول أن فلانا عدل عليّ ولي كما هو المنسوب لابن جنيد أو يأتي مع قوله عدل أما ب (عليّ) أو (لي) أو (مقبول الشهادة) كما هو المحكى عن أكثر المتأخرين. ثمَّ لا يخفى انه لا يشترط في الشهادة بالعدالة أن يأتي بلفظ أشهد و ما يشتق منه بل يكفي كلما يدل على انه في مقام الشهادة لعمومات أدلة الشهادة المعتضدة بذهاب معظم الأصحاب الى ذلك. و هكذا لا يشترط العربية و عدم اللحن كما يشترط في القراءة في الصلاة بل يجزي كل لغة لما ذكرناه من العمومات المعتضدة بذهاب معظم الأصحاب الى ذلك. و يكفي ظهور اللفظ في المشهود عليه و لا يلزم الصراحة لحجية الظهور. و يجوز الاعتماد على كتابة المزكي و إشارته خلافا للشهيد في الدروس و ذلك إذا حصل العلم بأن الخط خطه و انه قاصد للتزكية، و هكذا الإشارة لصدق الشهادة على ذلك. و لا يشترط في المزكي الحياة فلو زكى أحدا ثمَّ مات قبلت تزكيته لما تقدم من العمومات. و قد رجع علماء الإسلام الذين يعتبرون العدالة في الراوي إلى أقوال أهل الرجال الذين ماتوا في التزكية و الجرح و هكذا لا يشترط في المزكي و الجارح أن يكون من أهل الفن في الجرح و التعديل لما ذكرناه من العمومات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 289

لا تصح الشهادة بالعدالة و الجرح الا باعتبار ما يراه المشهود عليه كبيرة

(السادسة) قد عرفت في الأمر السابع ص 260 ان الميزان في عدالة الشخص و عدمها هو ما كان معصية و كبيرة في نظره

اجتهادا أو تقليدا حكما أو مصداقا. فلو شرب الخمر و لم يعلم انه خمر أو استمع الغناء في الرثاء أو

شرب العصير لفتواه أو فتوى مقلده بحلية ذلك لم يضر ذلك بعدالته. و هكذا لو عكس الأمر بأن علم ان هذه المرأة محرمة عليه وطئها لرضاعها معه عشر رضعات و قد وطئها فان للشاهد أن يشهد بعدم عدالته و إن كان لا يرى الشاهد ان ذلك محرم لدلالته على انتفاء ملكة العدالة عنه. و عليه فالشاهد لا يجوز له أن يشهد بالعدالة إلا بإحراز الملكة الموجبة لاجتناب ما هو معصية و كبيرة عند المشهود عليه و لا يجوز له أن يشهد بالفسق و الجرح و عدم العدالة إلا إذا أحرز صدور ما هو معصية و كبيرة عند المشهود عليه، و لو شك فيما صدر منه انه كان في نظره معصية أم لا؟ أو كان كبيرة في نظره أم لا؟ حمل عمله على الصحة.

(ان قلت) ان كون المعصية كبيرة أو صغيرة من الأحكام الوضعية فلا يؤثر فيها اعتقاد الفاعل، فنفس المعصية و ان كانت دائرة مدار اعتقاد الفاعل لكن اتصافها بالكبيرة و الصغيرة ليس بنابع لاعتقاد الفاعل بل هو من أحكام الوضع يرتب الأثر عليه كل من يعتقد وجوده فاذا اعتقد الشاهد ان هذا الفاعل يعلم بأن فعله معصية و لكنه يراه صغيرة و الشاهد يراه كبيرة رتب الشاهد عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 290

آثار الكبيرة و شهد بجرحه كما في تقريرات الآشتياني (ره) في كتاب القضاء (قلت) تأثير الكبيرة في الجرح باعتبار ملازمتها لعدم ملكة العدالة و الذي يلازم عدم الملكة في الشخص هو ما كان كبيرة في اعتقاد ذلك الشخص فان ذا الملكة لا تمنع ملكته صدور ما ليس بكبيرة في نظره بل و هكذا حسن الظاهر يلازم ذلك و

بعبارة أخرى الملاك الذي جعل الميزان هو المعصية عند الفاعل بنفسه يقتضي أن تكون المعصية كبيرة عند الفاعل. (فتلخص) ان الشاهد إذا رأى معصية من شخص فلا يجوز له أن يشهد إلا بما رآه منه فلو رآه يشرب العصير شهد بشر به العصير و إذا رآه ينكح الأجنبية شهد بنكاحه للأجنبية و لا يجوز له أن يشهد بأنه عاصي أو فاسق أو غير عادل إلا إذا علم بأنه معتقد لحرمة ما صدر منه و معتقد بأنه كبيرة فإنه حينئذ له أن يشهد بأنه عاصي و فاسق و غير عادل.

و هكذا الحال في منافيات المروة كما أنّه لا يشهد بعدالة الشخص إلا إذا علم بأن له ملكة ملازمة لفعل الواجبات في اعتقاده و ترك الكبائر في اعتقاده و ترك الإصرار على الصغائر في اعتقاده و ترك منافيات المروة في اعتقاده أما المشهود عنده فعليه العمل بظاهر الشهادة. و الاختلاف بينه و بين الشاهد في العدالة و الجرح لا أثر له لأن الميزان ما كان جرحا عند المشهود عليه فإنه هو الذي يكون اجتنابه لازما في عدالته و فعله موجبا لفسقه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 291

الطريق الثالث خبر العدل الواحد بالعدالة

(ثالث الأمور التي يثبت بها العدالة شهادة العدل الواحد): كما عن ظاهر التذكرة و المحكي عن الحدائق و الأردبيلي (ره) و تردد فيه بعضهم كالشهيد الثاني (ره) حيث يقول و في قبول خبر الواحد وجه منشأه الشك في شمول أدلة حجية خبر الواحد و كيف كان، فالحق عدم ثبوت العدالة به لسيرة الفقهاء على ذلك في مقام التزكية و لموثقة مسعدة ص 271 و لرواية عبد اللّه و الآية الشريفة ص 282. فإنه لو كان يكفي خبر الواحد

لما كان وجه لاعتبار البينة و لما في هداية الحر العاملي و في تفسير العسكري (ع) من ان رسول اللّه (ص) إذا لم يعرف الشهود بعث برجلين من خيار أصحابه يسألان عنهم في قبائلهم و محالهم فاذا أثنوا عليهم قضى (ع) على المدعى عليه و لعدم تمامية ما استدلوا به على كفاية خبر الواحد فيها فقد استدلوا على ذلك بوجوه:

(أحدها): ما ورد عنهم (ع) المؤمن وحده حجة و فيه انها غير معلومة الاعتبار و ليست معلومة الدلالة إذ ليست ظاهرة في كون قوله حجة بل لعله مثل الإطلاق حجة الإسلام على الفقيه.

(ثانيها): مفهوم آية النبإ: فإن مفهومها يدل على قبول خبر العدل الواحد في الموضوعات قطعا لكون موردها الموضوع لا الحكم و قد أوضحنا ذلك في الأصول و جوابه ما ذكرناه و ذكره علماء الأصول من عدم دلالتها على حجية الخبر الواحد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 292

(ثالثها): بناء العقلاء على قبول خبر العدل في الموضوعات و الأحكام من دون وجود الرادع عنه. (و جوابه) ان الامام (ع) قد ردع عنه بما دل على اعتبار البينة في الموضوعات من موثقة مسعدة بن صدقة و رواية عبد اللّه ابن سليمان و الآية الشريفة المتقدمات فإنه لو كان يكفي خبر الواحد لما كان وجه لاعتبار البينة.

(رابعها): ما ورد في أبواب الفقه في الموضوعات التي يقبل فيها الخبر الواحد الثقة كعزل الوكيل و دخول الوقت و كون المرأة زوجته و خبر البائع في استبراء الأمة، فإذا جاز قبول خبر الثقة جاز قبول خبر العدل. (و جوابه) ان الدليل إنما قام على قبول خبر الواحد الثقة في هذه الموارد بخصوصها و هذا لا يقتضي حجية خبر الثقة

في الموضوعات بأجمعها و لا حجيته في العدالة بخصوصها مع انه معارض بما ورد في الفقه في الموضوعات التي لا يقبل فيها إلا شهادة عدلين مثل رؤية الهلال. و مثل الشهادة على الشهادة، و مثل الشهادة على الطلاق، و مثل الشهادة على الموضوعات في مقام المنازعات و المرافعات المشترط فيها التعدد، و مثل الشهادة على الذنوب.

(خامسها): عموم صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222 حيث فيها ان ذلك يجيز شهادته فإنه يشمل الشاهد الواحد. (و جوابه) ان من لاحظ الرواية يرى أنها ناظرة للصحة الشأنية لا الفعلية فإن محل الكلام في الرواية هو ذاك، و بعبارة أخرى إنها تدل على اعتبار شهادة الواحد اما انه بنحو الكفاية وحده أو منضما للغير فلا دلالة لها على ذلك.

(سادسها): صحيحة الحلبي و فيها الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ قال: صلى فيها حتى يقال لك أنها ميتة بعينها. و فيه إنما تدل على أن القول يمنع من الصلاة فيها لا انه يثبت كونها ميتة مضافا الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 293

ظهورها في قول ذي اليد و هو غير ما نحن فيه سلمنا دلالتها على اعتبار خبر الواحد لكنها ساكتة عن كونه تمام السبب في الثبوت أو جزء السبب. ألا ترى إلى مرسلة الفقيه فان فيها (شهادة الرجل على شهادة الرجل مقبولة و هي نصف شهادة) مضافا الى معارضتها برواية الجبن التي هي أشهر منها. ثمَّ ان بعضهم بنى الخلاف في ذلك على أن التزكية إن كانت من باب الشهادة فيعتبر فيها التعدد و ان كانت من باب الرواية و الظنون الاجتهادية فيكفي فيها الواحد. و أجاب بعضهم ان الشهادة و

الرواية ليستا من الموضوعات الشرعية المتغايرة المحكوم في أحدهما بقبول الواحد و الآخر بلزوم التعدد و انما يسمى عندهم ما يعتبر فيه التعدد بالشهادة و ما يكتفى فيه بالواحد بالرواية و ليس بينهما فرق لأن كل منها أخبار و لذا يقال للشاهد انه صادق أو كاذب. كما يقال للراوي ذلك.

نعم شهادة الواحد بالعدالة تقبل في الراوي دون الشاهد بناء على كفاية الظن في الخبر كما انه ذهب جمع من الأصحاب إلى قبول اعتراف المدعى عليه بعدالة الشاهد لترتب القضاء و نسب ذلك الى التحرير و الإيضاح و التنقيح لأنه إقرار من المدعى عليه بموجب الحكم فيصح الأخذ بإقراره. و في ذيل المروي عن هداية الحر العاملي من فعل النبي (ص) إذا تخاصم اليه رجلان و لم يعرف للشهود قبيلة. سئل عنهما الخصم فان قال ما علمت منهما الا خيرا أنفذ شهادتهما. و في المروي عن تفسير العسكري (ع) و عن وسائل الحر العاملي عن النبي (ص) و ان كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون أقبل على المدعى عليه فقال: ما تقول فيهما؟ فان قال ما عرفنا الا خيرا غير أنهما غلطا فيما شهدا عليّ أنفد شهادتهما. و ذهب الفاضل العميدي إلى المنع من ذلك و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيه عن قريب.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 294

الطريق الرابع حسن الظاهر

(رابع الأمور التي يثبت بها العدالة حسن الظاهر): و المقصود منه الظاهر الحسن بأن لم يطلع على معصية منه و لا على عمل قبيح منه و كان متصفا بلزوم الطاعات و ترك المحرمات. و الدليل عليه الروايات المتقدمة في القول الثالث بل و القول الأول فإن مقتضى الجمع بينها و بين القول بالملكة

الذي هو الحق كون حسن الظاهر طريقا للعدالة. و صحيحة محمد لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه الخير مع يمين الخصم في حقوق الناس. و صحيحته الأخرى يسلم الذمي و يعتق العبد أ يجوز شهادتهما على ما كانا أشهدا عليه قال:

نعم إذا علم منهما بعد ذلك خيرا. و رواية القاسم بن سليمان في القاذف التائب إذا تاب و لم يعلم منه إلا خيرا جازت شهادته، بل هو مقتضى صريح رواية عبد اللّه ابن أبي يعفور حيث فيها (و الدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك).

و قد يورد (أولا) على جعل حسن الظاهر طريقا شرعيا للعدالة بأنه له مراتب يتصل مبدؤها بمجهول الحال و ينتهي آخرها بالعصمة فأي مرتبة قد جعلها الشارع طريقا و مع الشك يسقط الجميع عن الطريقية. (و جوابه) ان المراد هو أن يكون ما يظهر من أفعاله و أقواله ليس بمحرم و لا بمناف للمروة فهذه هي المرتبة المرادة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 295

و يورد عليه (ثانيا) ان الظاهر أمر إضافي فإن الذي يظهر لأهله منه باطن بالنسبة لغيرهم و الذي يظهر لأهل محلته منه باطن بالنسبة لغيرهم و الذي يظهر لأهل بلدته منه باطن بالنسبة لغيرهم و الذي يظهر لزوجته منه باطن بالنسبة لغيرها فأي ظاهر يكون حسنه طريقا إليها و مع الشك فيسقط الجميع عن الحجية (و جوابه) ان المراد ان ظهور ذلك بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يعرف عدالته و هذا يحتاج الى مقدار من المعاشرة التي يعرف معها ان ظاهره حسن.

و قد يورد عليه (ثالثا) بما عن احتجاج الطبرسي و تفسير

العسكري عليه السلام عن الرضا (ع): إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته و هديه و تماوت في منطقه و تخاضع في حركاته فرويدا فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا و ركوب المحارم بها لضعف بنيته و مهانته و جبن قلبه فنصب الدين فخا لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فان تمكن من حرام اقتحمه الحديث. لكنه مع عدم وضوح سنده قاصر عن معارضة الأخبار المتقدمة دلالة و سندا و قد حمله في الوسائل على أعلا مراتب العدالة و انه مخصوص بمن يؤخذ منه الأحكام. ثمَّ ان المتحصل من الأخبار ان حسن الظاهر و صلاحه يعرف بأمور:

(أحدها) أن يعرف بالستر و العفاف و كف الجوارح الأربع.

(و ثانيها) باجتناب الكبائر و هذان الأمران لما كانا من الأمور الواقعية النفس الأمرية التي يصعب العلم بها فطريقة معرفتهما هي ساترية الإنسان لجميع عيوبه حتى الصغير منها بأن يتصف بصفة الحياء و لا يرضى بظهور أي نقص عليه حتى ارتكاب الصغيرة على حد يحرم على المسلمين التفتيش لما وراءه و على باطنه و هذا هو المسمى عند الناس بالمحافظة على الشرف. و لا ريب ان المسلم المؤمن إذا كان كذلك فيعرف بالستر و العفاف و اجتناب القبائح و الكبائر (و ثالثها) المحافظة على الصلوات الخمس بمواقيتها و هذا يعرف بالاطلاع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 296

على تعاهد هذا الشخص بصلاة الجماعة في الأوقات الخمسة أو بالسؤال عنه في محلته أو قبيلته و إجابتهم بأنه ملازم للصلاة في أوقاتها و هذه الأمور تستفاد من صحيحة ابن أبي يعفور. و المروي في المجالس: من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته.

(و رابعها)

في النساء ان يكن مستورات بالمشاهدة أو معروفات بالستر و العفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذاءة و التبرج للرجال في أنديتهم و هذا يستفاد من رواية ابن أبي يعفور الثانية.

(خامسها) عدم الظلم في المعاملة مع عدم الكذب في الحديث مع عدم الخلف في الوعد و هذا يستفاد من رواية الخصال ص 224 و رواية عبد اللّه بن سنان: و الظاهر من مجموع الأخبار هو معرفة صلاحه و أمانة ظاهره و هذه المذكورات من قبيل الأمثلة للأسباب الموجبة لمعرفة ذلك بقرينة اختلاف الأخبار مع اشتمال بعضها على الصلاح و الخير و أمانة الظاهر فيعرف ان الميزان هو ذلك بأي سبب كان. ثمَّ أن حسن الظاهر طريق للعدالة سواء أفاد الظن بحسن باطنه أم لا، و سواء حصل الظن بخلافه أم لا، لإطلاق الأدلة و عدم تقييدها بذلك.

(إن قلت): إن قوله (ع) في مرسلة يونس: «إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا» معناه ان ظاهره يأمن منه بأن باطنه صحيح فتكون الرواية دلت على اعتبار الظن بالباطن فتقيد الإطلاقات الواردة في حسن الظاهر.

(قلنا): مضافا الى انها مرسلة ان المراد منها ان ظاهره مأمون من الخيانة بمعنى أنه لا يظهر منه الخيانة و يأمن منه بحسب مقتضى أوضاعه و أفعاله.

(ان قلت): ان مثل قوله (ع): لا تصل الا خلف من تثق بدينه و ورعه) يقيد الإطلاقات الواردة في حسن الظاهر بحصول الوثوق منه بالباطن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 297

(قلنا): ان إطلاقات حسن الظاهر كأدلة الامارات حاكمة عليه لأنها تدل على تنزيل حسن الظاهر منزلة الوثوق و العلم هذا ان اعتبر الوثوق بالإمام من باب الطريقية و ان اعتبر من باب الموضوعية فهو خارج عن محل الكلام لأنه

يكون معتبرا بنفسه موضوعا للحكم و نحن كلامنا في مورد يكون حسن الظاهر طريقا لا موضوعا للحكم.

الطريق الخامس الشياع
اشارة

(خامس الأمور التي يثبت بها العدالة الشياع): قال جدي الهادي (ره) و قد يسمى بالاستفاضة و هو في الموضوعات بمنزلة الشهرة في الأحكام اه. و قد ذهب الى حجيته في العدالة جماعة من الأصحاب كما هو المحكي عن الشهيد في الذكرى و الدروس و الجعفرية و ابن فهد في الموجز و صاحب المعالم و كيف كان فالظاهر ان محل الكلام هو أن يخبر جماعة بالعدالة و كلهم معلوموا الفسق أو مجهولو الحال بحيث يبلغ اخبارهم حد الشياع و الشهرة الذي هو أدنى مرتبة من التواتر و لم يفد اخبارهم القطع و إنما قيدناه بذلك لأنهم لو كانوا عدولا فهو داخل في البينة فيكون حجة و هكذا لو أفاد العلم و القطع فهو حجة أيضا لأن القطع حجة بذاته من أي سبب حصل و الحاصل ان محل كلامنا هو الشياع و الشهرة بقطع النظر عن افادته للعلم و كون المخبرين عدولا و الكلام يقع فيه في مقامين:

(أحدهما) في حجية الشياع في الموضوعات مطلقا العدالة أو غيرها فإنه إذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 298

ثبت ذلك ثبتت حجيته في العدالة.

(و ثانيهما) في حجيته في خصوص العدالة.

أما الكلام في المقام الأول [و هو حجية الشياع في الموضوعات مطلقا]

فنقول قد استدل على حجية الشياع في الموضوعات مطلقا بأمور:

(أحدها) الإجماع: ففي المحكي عن الرياض انه يثبت بالشياع الموت و الملك المطلق و الوقف و الزوجية و الولاء و العتق و الرق و العدالة بلا خلاف أجده إلا من الإسكافي فخص الثبوت به بالنسب. و فيه ما لا يخفى فإنه يظهر من كلمات جماعة انه يشترط في الثبوت بالشياع افادته القطع كما هو المحكي عن الدروس و الكشف.

(ثانيها) بناء العقلاء على العمل بالشهرة و الشياع و السيرة المستمرة

على ترتيب آثار العدالة بمجرد الشهرة و الشياع فان الكثير من الناس يقتدون بالشخص بمجرد اشتهار عدالته دون أن يشهد عندهم عادلان. (و جوابه) ان ذلك غير مسلم و لذا اشتهر «رب مشهور لا أصل له» و اشتهر فيما بينهم عدم حجية الشهرة التي يكون نقله الخبر فيها لا يوثق بهم كما هو محل البحث. و أما اقتداء الناس بمشهور العدالة فلعله من جهة الاكتفاء في ثبوت العدالة بحسن الظاهر، أو كان يحصل اليقين لهم بمجرد الشياع أو لأجل التسامح و قلة المبالاة بالدين.

(ثالثها) الأولوية بدعوى اقوائية الظن الحاصل من الشياع من الظن الحاصل من البينة. (و جوابه) ان البينة لم تكن حجيتها من جهة الظن بل من باب التعبد و قيام دليل خاص بها مضافا الى انا لا نسلم ذلك فإنك قد عرفت ان محل الكلام هو الشياع من مجهولي الحال أو المعلوم فسقهم.

(رابعها) ما في مرفوعة زرارة من قوله (ع): خذ بما اشتهر بين أصحابك و دع الشاذ النادر حيث دل على الأخذ بالمشهور و الشائع و ترك ما يقابله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 299

(و جوابه) انها مختصة بالرواية حيث سئل الراوي فيها عن الخبرين المتعارضين فأجاب (ع) بذلك.

(خامسها) ما في مقبولة ابن حنظلة بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة من قوله (ع): ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به و يترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه الى أن قال الراوي: قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات. الخبر بناء على ان المجمع عليه في الموضعين هو

المشهور بقرينة إطلاق الإمام (ع) المشهور عليه في قوله و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور. مضافا الى أن التعليل بقوله فان المجمع عليه لا ريب فيه يقتضي أن المشهور كالمجمع عليه لأن المشهور أيضا لا ريب فيه. (و جوابه) انه مختص بالرواية مع عدالة الراوي كما هو فرض السائل فيكون أجنبيا عما نحن فيه.

(سادسها) ما في آية النبإ من التعليل بقوله تعالى أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ بتقريب ان المراد من الجهالة هي السفاهة و الاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه و الشهرة لا يكون العمل بها سفاهة و لا اعتمادا على ما لا ينبغي الاعتماد عليه. (و جوابه) ان الآية إنما تقتضي عدم جواز الأخذ بما يكون الأخذ به سفاهة اما انه يجوز الأخذ بغيره فلا دلالة فيها عليه على ان المشهور الذي نقله الفساق أو مجهولو الحال يكون الأخذ به من الجهالة و السفاهة.

(سابعها) ما رواها المشايخ الثلاثة كل بإسناده إلى يونس بن عبد الرحمن عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أ يحل للقاضي ان يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ فقال عليه السلام: خمسة أشياء يجب الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، و المناكح، و الذبائح و المواريث، و الشهادات. فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 300

و لا يسأل عن باطنه و في (رواية الفقيه) الأنساب مكان المواريث كما انه حكي عن بعض نسخ التهذيب (ظاهر الحال) بدل ظاهر الحكم. و رواه في الخصال عن محمد بن الحسن عن الصفار عن إبراهيم بن هاشم عن أبي جعفر المقري رفعه الى أبي

عبد اللّه عن آبائه عن علي (ع) انه قال: خمسة يجب على القاضي و ذكر نحو ما مر و تقريب الاستدلال بهذه الرواية ان اضافة ظاهر الى الحكم من قبيل إضافة الصفة لموصوفها مثل (جرد قطيفة) فالمراد هو الحكم الظاهر و الحال الظاهر و المراد بالحكم هو النسبة الخبرية و المراد بظهورها هو وضوحها بين الناس و هو يكون بشياعها فيكون المعنى انه يجب الأخذ بالنسبة الظاهرة بين الناس في هذه الأمور و هو يكون بشيوعها.

و يورد عليه بأن المراد منه بيان حكم قبول الشهادة و لا يخفى ما فيه فإنه خلاف ظاهر صدره و ذيله مع فهم الأعاظم خلاف ذلك مع ان الشهادة لا يقتصر فيها على الخمسة المذكورة.

و يورد عليه أيضا ان ظهور النسبة غير ظهور الأخبار عنها فإنه قد تكون النسبة واضحة و ظاهرة دون ان يظهر الخبر عنها و يشيع مثل ظهور ان هذه البناية مسجد لوجود أمارة المسجدية فيها مع عدم اطلاع الناس على ذلك و مثل ظهور ان هذه المرأة زوجة لهذا الرجل مع عدم اطلاع الناس عليها و ربما يكون العكس كما لو أخبر عن أمر كثير من الناس و لكن ليس بظاهر التحقق و الثبوت كما اتفق في هذا العصر من اخبار جماعة بارتشاء أحد السادة الصلحاء مع استبعاد تحقق هذا الشي ء منه لمكان صلاحه و تقواه و استدل المستشكل على ارادة ظهور تحقق النسبة لا ظهور الخبر من الرواية بقوله (ع) بعد ذلك: (فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه) فان ظاهر هذه الفقرة هو ظهور الأمان منه للقاضي بما يتحلى و يتجلى فيه من الصفات من السيماء

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 2، ص: 301

و الصلاح و التقوى لا ظهور ذلك للناس و إلا لقيده الامام (ع) بذلك.

(ثامنها) صحيحة حريز أو حسنته بابن هاشم المروية في فروع الكافي في باب حفظ المال انه كانت لإسماعيل دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج الى اليمن فقال إسماعيل يا أبه ان فلانا يريد الخروج الى اليمن أ فترى أن أدفعها له يبتاع لي بضاعة فقال (ع): يا بني أما بلغك إنه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل هكذا يقول الناس، فقال: يا بني لا تفعل! فعصى أباه و دفعها اليه فاستهلكها و لم يأت بشي ء منها و في تلك السنة حج أبو عبد اللّه (ع) و حج إسماعيل فجعل إسماعيل يطوف بالبيت و هو يقول: أجرني و اخلف علي فلحقه أبو عبد اللّه (ع) و قال له: مه يا بني فلا و اللّه مالك على اللّه هذا و لا لك أن يؤجرك و لا يخلف عليك و قد بلغك انه يشرب الخمر فائتمنته. فقال إسماعيل: يا أبه إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت الناس يقولون. فقال (ع): يا بني ان اللّه يقول في كتابه:

يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. و يقول: يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم و لا تأتمن شارب الخمر الخبر. و في بعض النسخ المنقولة عن الكافي (المسلمون) بدل المؤمنون و تقريب الاستدلال به هو ان الامام (ع) أمر ابنه أن يصدّق المسلمين فيما يقولون و يرتب آثار الواقع على ذلك و لا ريب انه لا يريد الاستغراق من (المسلمين) لعدم تحقق ذلك فلا بد أن يريد به الاستغراق العرفي و هو الشياع. (و بعبارة) أخرى ان الامام (ع) وبخ

ولده إسماعيل على عدم عمله بالشياع ثمَّ أمره بالعمل به بقوله فاذا شهد عندك المسلمون فصدقهم. و نظيرها رواية حماد بن بشير عن أبي عبد اللّه عليه السلام المروية أيضا في فروع الكافي في باب شارب الخمر قال أبو عبد اللّه (ع) إني أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن فأتيت أبا جعفر (ع) فقلت له: إنني أريد أن أستبضع بضاعة. فقال (ع) لي: أما علمت انه يشرب الخمر. فقلت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 302

قد بلغني من المؤمنين إنهم يقولون ذلك. فقال لي: صدقهم فان اللّه تعالى يقول يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. ثمَّ قال: إنك إن استبضعته فهلكت أو ضاعت فليس لك على اللّه تعالى أن يأجرك. و أجاب عنه المرحوم الأصفهاني بأدنى توضيح منا انه (ع) لم يرتب جميع آثار الواقع بل خصوص ما ينفع السامع و لا يضر المخبر عنه لموافقته للاحتياط و هو عدم إعطائه الدنانير كما فعل خلاف ذلك في خبر آخر حيث قال (ع): «كذّب سمعك و بصرك عن أخيك المؤمن فإذا شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا و قال لم أقله فصدقه و كذبهم).

فإنه (ع) أمر بتكذيب خمسين بينة عادلة فيما يضر المخبر عنه و لا يجدي المخبر اليه فكيف يأمر بتصديق ما هو أدون من بينة عادلة واحدة في ترتيب جميع آثار الواقع انتهى، و لا يخفى ما فيه فان الاستدلال بالرواية من جهة أمره (ع) بتصديق المؤمنين في شهادتهم مضافا الى ظهورها في ترتيب آثار الواقع التي من جملتها عدم الائتمان بالمخبر عنه بأنه يشرب الخمر إذ ليس المراد صرف تصديق المؤمنين فيما ينفعهم و هو إظهار الموافقة لهم بل المراد الارتداع

عن دفع المال الى من أخبروا عنه بأنه يشرب الخمر. و لذا عقب الامام (ع) كلامه بأحكام شارب الخمر من انه لا يزوج الحديث. و أما رواية الخمسين قسامة فحيث انها تعارض أدلة البينة فلا بد من حملها على ما لا يترتب عليه أثر شرعي. و يمكن أن يجاب بأن يقال ان ظاهر الآية الشريفة التي استدل بها الإمام في الروايتين المذكورتين اعني قوله تعالى في سورة البراءة وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. ان من الناس من يؤذي النبي (ص) بقوله: هو أذن يصدق و يقطع بكل ما يسمع و هذه صفة نقص تنافي كمال النفس فرد اللّه تعالى عليهم و خطأهم فيما اعتقدوه و أبان انه (ص) اذن خير لا الاذن التي اعتقدتموها ثمَّ فسر اللّه عز و جل اذن الخير بأنه يصدّق اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 303

تعالى بكل ما أخبره قاطعا و يظهر التصديق للمؤمنين و ان قطع بكذبهم بأن لا يرتب آثار العقوبة أو التفسيق أو التعزير أو إظهار القطع بالخلاف و هذه صفة لا ينال المؤمنون منها إلا الخير فيكون المراد بالتصديق هو عدم ترتيب آثار التكذيب من العقوبة و التفسيق و التعزير و إظهار القطع بالخلاف و هذا المعنى هو ظاهر الآية بل هو صريحها لأن هذا معنى اذن الخير. و لعل هذا هو المعنى المراد من رواية الخمسين قسامة بل هو الظاهر منها فان المراد بالتصديق للمؤمن هو ذلك اعنى عدم إظهار تكذيبه بواسطة شهادة خمسين قسامة عليه و ان قطع بصدق قول الخمسين و كذب المؤمن، كما ان المراد بتكذيب

الخمسين قسامة بقرينة المقابلة عدم إظهار تصديقهم بأن يرتب الآثار على قول الخمسين التي توجب تكذيب المؤمن و إن قطع بصحة شهادتهم و لذا نسب في صدر الرواية التكذيب الى السمع و البصر فان المراد عدم إظهار صدق السمع و البصر فلا منافاة في الرواية بين الأمر بتصديق المؤمن و تكذيب خمسين قسامة أصلا و رأسا. و عليه فيتضح معنى رواية إسماعيل لأن ائتمان الذي شهد المؤمنون عليه بشرب الخمر يكون تكذيبا لهم علانية و هو خلاف ما جاءت به السنة من لزوم إظهار تصديقهم لكونهم مؤمنين. (و الحاصل) ان المعنى المقصود من التصديق في الرواية بقرينة الاستشهاد بالآية هو عدم التكذيب للمؤمنين بإظهار آثار التكذيب كالإئتمان أو الصلاة خلفه جماعة و ليس المراد به ترتيب آثار الصدق على قولهم بحيث يحد على شربه و يلعن على شربه و يعزر على شربه بواسطة شهادة المؤمنين. فالرواية لا تدل على حجية الشياع و انما تدل على عدم تكذيب الشياع. و قد أجيب عن هذه الرواية بأن المراد بها التواتر و هو حجة. (و جوابه) انها ظاهرة في الشياع للفظ (الناس) الصادق على العدد الذي يحصل به الشياع.

(تاسعها) ما رواه في الكافي و التهذيب بطرق عديدة أكثرها صحيحة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 304

عن أبي عبد اللّه (ع) في باب اختلاف الزوجين أو ورثة أحدهما مع الآخر في متاع البيت فان فيه قال (ع): لو سألت ما بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذ بمكة لأخبروك أن الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها فهي التي جاءت به و هذا المدعي ان زعم انه أحدث فيه شيئا فليأت عليه البينة

و وجه الاستدلال انه (ع) حكم بالمتاع للمرأة من غير يمينها لاستفاضة ذلك بحيث لو سئلوا لأخبروا بذلك. (و جوابه) ان الامام (ع) تمسك بالسيرة لا بالشياع فان المسؤول لم يذكر في الرواية و انه من هو فغرض الامام (ع) انك لو سألت من هو حجة لأخبرك بالسيرة المذكورة المفيدة للعلم هذا لو كان المراد لو سألت أي شخص ممن هو موجود بين لابتيها. و اما ان كان المراد المجموع الذي بين لابتيها فهذا من الشياع المفيد للعلم و هو خارج عن محل الكلام.

(و أما المقام الثاني) و هو الكلام في حجية الشياع في العدالة بخصوصها

فنقول استدل على ذلك بأمور:

(أحدها) ما في آخر صحيحة ابن أبي يعفور ص 222 و هو قوله عليه السلام: فإذا سأل عنه أهل محلته و قبيلته قالوا: ما رأينا منه الا خيرا.

و أجاب عنه بعضهم بما توضيحه منا بأن اللازم ذكر تمام الفقرة حتى يتضح الحال قال (ع): «و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين و أن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاه الا من علة. فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما رأينا منه الا خيرا مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين» فان ظاهر هذه الفقرات ان الامارة على العدالة هو التعاهد لصلاة الجماعة في الأوقات الخمس تعاهدا الى حد بحيث لو سئل عنه في قبيلته و أهل محلته. قالوا: ما رأينا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 305

منه إلا خيرا. فان كونه كذلك هو الذي يجيز شهادته و يحقق عدالته بين المسلمين فتكون هذه الفقرة نظير قولنا إذا مرض

زيد فإذا سئل عنه قالوا طريح الفراش فزره) فجواب قوله: «فاذا كان كذلك لازما لمصلاه» هو قوله: «فان ذلك يجيز شهادته». و عليه فيكون المستفاد من الفقرة المذكورة ان الامارة و الدليل على العدالة هو الملازمة للصلاة جماعة ملازمة تستدعي الشياع عنه بالخير و ليس نفس الشياع هو امارة و لا أقل من احتمال ذلك في الفقرة و الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل فيه الاستدلال هذا غاية ما أمكن من تقريب رد هذا الخصم. و لكن يمكن أن يقال ان قوله (ع): (فإذا سئل عنه) لا يصلح إلا أن يكون شرطا ثانيا بعد قوله: فاذا كان كذلك. و قوله: فان ذلك يجيز شهادته يكون جوابا لهما أو للأول منهما و يكون جواب الشرط الثاني محذوفا لدلالته عليه أو بالعكس. نعم لو كانت العبارة بحيث إذا سأله عنه كان الحق مع الخصم لكنه من باب تعدد الشرط و وحدة الجزاء و لازم ذلك كفاية كل منهما في تحقق الجزاء فتكون الرواية ظاهرة في كفاية الشياع غاية الأمر الشياع عند أهل قبيلته أو أهل محلته لا مطلقا و لعل ذلك من جهة كونهم أهل الخبرة به دون من عداهم و عليه فلا تدل الرواية على حجية نفس الشياع و إنما تدل على حجية قول أهل الخبرة به و لكن الرواية في ما ذكره الخصم أظهر لمكان الفاء في (فإذا) دون أو.

(ثانيها) ما روي أن النبي (ص) كان يبعث رجلين لتحقيق حال الشهود في قبائلهم و محلاتهم فاذا أثنوا عليهم قضى للمدعي على المدعى عليه فان في ذلك دلالة على كفاية الشياع في تزكية الشهود و عدالتهم. و فيه مع الشك في صحة الرواية انه يحتمل ان الضمير

عائد في (أثنوا) إلى الرجلين المرسلين لا إلى قبائلهم و أهل محلاتهم فتكون أجنبية عن الشياع مضافا الى احتمال انه من باب الرجوع الى أهل الخبرة و الظاهر ان هذه الرواية هي الرواية التي رواها صاحب الوسائل عن تفسير الحسن العسكري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 306

عليه السلام و الاولى نقلها ليتضح لك حقيقة الحال و لا أقل من شرحها لفعل النبي (ص). قال كان رسول اللّه (ص) إذا تخاصم اليه رجلان قال للمدعي:

أ لك حجة؟ فان أقام بينة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه و إن لم تكن بينة حلف المدعى عليه باللّه ما لهذا قبله ذلك الذي ادعاه و لا شي ء منه و إذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير و لا شر. قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان أين سوقكما فيصفان، أين منزلكما فيصفان ثمَّ يقيم الخصوم و الشهود بين يديه ثمَّ يأمر فيكتب أسامي المدعي و المدعى عليه و الشهود و يصف ما شهدوا به ثمَّ يدفع ذلك الى رجل من أصحابه الخيار ثمَّ مثل ذلك الى رجل آخر من خيار أصحابه ثمَّ يقول ليذهب كل واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما و أسواقهما و محالهما و الربض الذي ينزلانه فيسأل عنهما فيذهبان و يسألان فإن أتوا خيرا و ذكروا فضلا رجعوا الى رسول اللّه (ص) فأخبراه أحضر القوم الذي أثنوا عليهما و احضر الشهود فقال للقوم المثنين عليهما هذا فلان بن فلان و هذا فلان بن فلان أ تعرفونهما فيقولون: نعم فيقول: ان فلانا و فلانا جاءاني عنكما فيما بيننا بجميل و ذكر صالح إن كما قالا؟ فان قالوا نعم قضى حينئذ بشهادتهما على

المدعى عليه. فان رجعا بخبر شي ء و ثناء قبيح دعا بهم فيقول أ تعرفون فلانا و فلانا؟ فيقولون: نعم. فيقول: اقعدوا حتى يحضروا فيقعدون فيحضرهما فيقول للقوم أ هما هما؟ فيقولون: نعم. فاذا ثبت عنده ذلك لم يهتك سترا بشاهدين و لا عابهما و لا وبخهما و لكن يدعو الخصوم الى الصلح فلا يزال بهم حتى يصطلحوا لئلا يفتضح الشهود و يستر عليهم و كان رؤوفا رحيما عطوفا على أمته فإن كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون و لا قبيلة لهما و لا سوق و لا دار أقبل على المدعى عليه فقال: ما تقول فيهما؟ فان قال ما عرفنا إلا خيرا غير انهما قد غلطا فيما شهدا عليّ أنفذ شهادتهما و إن جرحهما و طعن بهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 307

أصلح بين الخصم و خصمه و احلف المدعى عليه و قطع الخصوم بينهما. و الحاصل ان هذه الرواية إنما تدل على جواز الشهادة بحسن الظاهر عند علم الشاهد به و لو لم يكن هناك شياع.

(ثالثها) قوله (ع) في معتبرة عبد اللّه ابن المغيرة ص 221 كل من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح و قوله (ع) في حسنة إبراهيم ص 224 بعد أن يعرف منه خيرا. و فيه ما لا يخفى فإنه من المحتمل ان المراد بالمعرفة هو العلم و اليقين فيكون ذلك أجنبيا عما نحن فيه لأنه كما تقدم المراد إثبات حجية الشياع الذي يفيد الظن و إلا فالذي يفيد العلم لا حاجة لإثبات حجيته لأنه حجة بنفسه.

مضافا الى أن معرفة الصلاح و الخير غير معرفة الخبر عنهما فلو كان لسان الروايتين معرفة الخبر عنهما لكان فيهما دلالة

على حجية الشياع لكن معرفة الصلاح و الخير عبارة عن معرفة حسن الظاهر. و هذا نظير ما تقدم في مسألة الفرق بين ظهور النسبة و ظهور الاخبار عنها ص 300 فراجع ذلك حتى يتضح لك حقيقة الحال.

الطريق السادس الوثوق بالعدالة
اشارة

(سادس الأمور التي يثبت بها العدالة الوثوق بالعدالة و الاطمئنان بها) الذي هو العلم العادي في نظر العرف و العقلاء و لعله هو المراد لجدي (ره) في كشف غطائه حيث جعل الطريق الثاني لمعرفة العدالة الظن لشياع يفيد الظن المتاخم للعلم و هو الذي يظهر من الشيخ الأنصاري (ره) اعتباره في مطلق الموضوعات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 308

[حجية الوثوق في مطلق الموضوعات]

و الكلام فيه (أولا) في حجيته مطلقا. (و ثانيا) في حجيته في خصوص العدالة.

أما الكلام في الأول فنقول: ان محل البحث هو الوثوق الحاصل من غير الطرق المعتبرة كالبينة و حسن الظاهر و إلا لو حصل من الطرق المعتبرة فلا إشكال في حجيته بواسطة حجية ذلك الطريق كما انه في غير الموضوعات المعتبر فيها العلم لإمكان ان يدعى بأن العلم و المعرفة المتبادر منهما عند العرف ما يعم الوثوق و الاطمئنان إذا عرفت ذلك فمقتضى القاعدة عدم حجيته لما قرر في محله من ان حجية غير القطع تحتاج الى جعل و الأصل عدم الجعل.

و قد استدل على حجية الوثوق في سائر الموضوعات:

(أولا) بالسيرة المستمرة على ترتيب آثار الواقع على ما يوثق به و بناء المتشرعة على المعاملة مع الوثوق و الاطمئنان معاملة العلم الحقيقي. و فيه منع اتفاق العقلاء في جميع الأعصار و الأمصار على الاعتماد في أمورهم على الوثوق و الاطمئنان من أي سبب حصل فإن أحدا لم يرفع يده عن أمواله و إعراضه بمجرد حصول الوثوق من دون أن ينظم له سند معتبر و لا يدفعون لمدعي الوكالة بمجرد الوثوق. و أما بناء المتشرعة فهو لو كان ثابتا للزم القول بحجية الوثوق في جميع الموارد فيكتفى به في تنجز كل حكم

لم تقم عليه حجة شرعية أو عقلية و يكتفى به في الخروج عن عهدة التكاليف المنجزة و لو مع التمكن من العلم الحقيقي و الظاهر ان ذلك لا يلتزم به أحد.

(و ثانيا) بدليل الانسداد لأن باب العلم منسد في أغلب الموضوعات و قلة الطرق المعتبرة كالبينة العادلة و نحوها فيها و لزوم الوقوع في خلاف الواقع من الرجوع الى الأصول في موردها لأن نوعها عدمية كأصالة عدم النسب و عدم الزوجية و عدم التذكية و عدم الوقف و عدم البيع و نحو ذلك و هو خلاف المصلحة فلا يرضى به الشارع، و تعذر الاحتياط و تعسره و الوثوق أقرب الطرق للواقع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 309

بعد العلم. (و جوابه) ما سبق من عدم انسداد باب العلم و العلمي في الموضوعات لما تقدم ص 68.

[حجية الوثوق في خصوص العدالة]

و اما الكلام في الثاني و هو حجية الوثوق في خصوص العدالة فقد استدل بأمور:

(أحدها) رواية أبي علي بن راشد لا تصل إلا خلف من تثق بدينه و أمانته و في نسخة المكاسب (و ورعه) بدل (أمانته) و قول الصادق (ع) في خبر البصري: إذا كنت خلف امام تتولاه و تثق به فإنه يجزيك قراءته و مثله عن الفقه الرضوي. و فيه انه مختص بصلاة الجماعة فلا دليل على اعتبار الوثوق في جميع موارد اعتبار العدالة.

(ثانيها) ما في مرسلة يونس المتقدمة ص 221 (فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه). و فيه انها إنما تدل على كفاية حسن الظاهر لا اعتبار الوثوق بالعدالة فقد يكون الظاهر مأمونا و لكن لا يحصل منه الوثوق بملكة العدالة.

(ثالثها) رواية الصدوق (ره) في الخصال المتقدمة ص

224 و هي من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجبت اخوته. و وجه الاستدلال بها يكون في فقرتين:

(إحداهما) قوله (ع): «ظهرت عدالته» حيث يدل على أن المذكورات توجب الوثوق بعدالته فتكون ظاهرة في اعتبار الوثوق. (و جوابه) ان تلك الأمور تكون موجبة لحسن الظاهر فتثبت العدالة بها سواء حصل الوثوق أم لا.

(ثانيهما) قوله (ع): «و وجبت اخوته» بتقريب ذكره الشيخ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 310

الأنصاري (ره) حكي عنه من كتاب الصلاة في باب الجماعة و هو انه لا تجب اخوة غير الثقة المعتمد المظنون به حسن حال الباطن. (و جوابه) واضح انه لا دليل على ما ذكره فإنه أي مانع ان يوجب الشارع اخوة من كان بتلك الصفات المذكورة التي لها الدخل في حسن المعاشرة.

(رابعها) ما ورد في تفسير قوله تعالى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ عن أمير المؤمنين (ع) قال: ممن ترضون دينه و أمانته و صلاحه و عفته و تيقظه فيما يشهد به (و جوابه) مضافا لضعف الرواية بإرسالها ان كون الشاهد مرضيا لا يلازم الوثوق بوجود الملكة الباطنية للعدالة عنده فإن الذي ظاهره حسنا يكون مرضيا مع انه قد لا يحصل الوثوق به.

الطريق السابع الظن بالعدالة

(سابع الأمور التي يثبت بها العدالة الظن بها) و الكلام فيه تارة في اعتباره في مطلق الموضوعات و قد تقدم ذلك ص 68 و تارة في خصوص العدالة و استدل على ذلك بوجوه:

(أحدها) دليل الانسداد و تقريبه ان العلم بالعدالة متعسر و لو رجعنا للأصول في موارد الجهل بها لزم تضييع الحقوق و تعطيل الجماعات و الأسواق لأن الأصل عدم العدالة

فلا بد من العمل بالظن كما في نظائره من الموضوعات بل الأحكام الشرعية عند بعضهم. (و جوابه) ما عرفته غير مرة من وجود طرق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 311

لمعرفة العدالة سهل التناول كحسن الظاهر و البينة العادلة فلا يلزم من عدم جعل الظن في موارد الجهل تضيع الحقوق و تعطيل الجماعات و الأسواق بل لعل العمل بالظن فيها قد يوقع الإنسان في خلاف الواقع فتبطل الحقوق و يصلي خلف غير العادل.

(ثانيها) الأصل لأن وجوب الأخذ بقول المجتهد العادل زيادة على الظن به مشكوك و الأصل عدمه. و فيه انه لا يثبت اعتبار الظن مضافا الى ان وجوب الأخذ بقول المجتهد العادل ثابت بالأدلة فلا بد من إحرازه إما بالعلم أو العلمي.

(ثالثها) ما تقدم من رواية الأمالي ص 224 من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة جماعة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته. و وجه الاستدلال انه ليس المقصود ظن الخير إذ ليس هو تحت قدرة الإنسان فلا بد أن يكون المراد به ترتيب آثار الخير بعد الظن به و معنى هذا كون الظن بالخير حجة و بتقريب آخر أن أمر المولى بترتيب آثار الواقع بلسان تحصيل الظن به يستفاد منه أن الظن بذلك الواقع حجة فيه و إلا لما كان معنى للتعبير بهذا اللسان. و فيه ما لا يخفى فان ذلك كناية عن عدم اتهامه نظير قولهم أحسن فيه الظن و كثير ما تستعمل كلمة (ظن الخير) في ألسنة العرب بهذا المعنى فيكون معناه المراد نظير ما روي عنهم (ع): «ضع أمر أخيك على أحسنه» سلمنا ذلك لكن لما كان المراد ليس هو الظن الوجداني و إنما المراد ترتيب آثار

الواقع بالسبب المذكور في الرواية و هو الصلوات في اليوم و الليلة جماعة، فالرواية إنما تكون دالة على ان السبب المذكور و هو الصلوات الخمس جماعة موجب لترتيب آثار الخير نظير ما اشتمل عليه ذيل صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 312

الطريق الثامن حكم الحاكم بالعدالة

(ثامن الأمور التي يثبت بها العدالة حكم الحاكم) بناء على تعميم حكم الحاكم لمثل ذلك أو لأنها كانت مورد النزاع، و الحاصل ان الموضوعات الخارجية و ان كان القول بثبوتها بحكم الحاكم محل إشكال إلا ان الظاهر انه يثبت به مثل هذه الموضوعات التي غالبا ينسد فيها باب العلم كالهلال و الاجتهاد. و قد نقل الآشتياني الإجماع على ثبوتها كما ذهب الى ذلك عمنا الأعلى الشيخ حسن في شرح مقدمة كشف الغطاء.

الطريق التاسع دعوى العدالة

(تاسع الأمور التي يثبت بها العدالة دعوى العدالة) بأن يخبر الشخص عن نفسه بأنه عادل كما ذهب بعضهم الى مثل ذلك في الاجتهاد فقبل دعوى الاجتهاد فيه و يمكن أن يستدل لذلك بوجوه:

(أحدها) ان العدالة من الملكات الخفية التي لا يطلع عليها إلا صاحبها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 313

كاحتلام الصبي و حيض المرأة و طهرها. و فيه ما لا يخفى فإنه يمكن الاطلاع عليها بالمعاشرة مع انه يوجد الفارق بين مثل احتلام الصبي و العدالة فإنه قد يشتبه الشخص فيتخيل انه عادل بخلاف الاحتلام. سلمنا لكن لا دليل على قبول قول ما لا يعلم إلا من قبله مطلقا بنحو الكلية و انما التزم بذلك في موارد خاصة.

(ثانيها) عموم آية النبإ و آية السؤال للأخبار عن نفسه بأنه عادل و فيه انها منصرفة عن اخباره عن نفسه بالعدالة كيف لو تمَّ ذلك للزم قبول قول المدعي العادل في عموم الدعاوي و هو كما ترى.

(ثالثها) انسداد باب العلم و العلمي فيها فلو رجع الى الأصل فيها ضاعت علينا أغلب الأحكام. لأن الأصل عدم العدالة. و فيه ما عرفته غير مرة من عدم تمامية هذا الدليل.

الطريق العاشر تصريح المشهود عليه بعدالة الشهود

(عاشر الأمور التي يثبت بها العدالة) هو ما لو صرح المشهود عليه بعدالة الشهود فان على الحاكم ان يقبل شهادتهما عليه و يحكم بها. و حكي القول بذلك عن التحرير و الدروس و التنقيح و الإيضاح و لكن ظاهر الأكثر عدمه و هو المحكي عن العميدي و قد تقدم منا الكلام في ذلك في الطريق الثالث للعدالة و الإعادة لا تخلو عن الإفادة فنقول: قد استدل على ذلك في الإيضاح بأن المشهود عليه قد أقر بوجود شرط الحكم

عليه و كل من أقر على نفسه بشي ء نفّذ عليه و فيه ان الحكم انما يرجع للقاضي و عند استناده إلى البينة قد اشترط عليه الشارع أن تكون عادلة و ليست كونها عادلة حقا محضا للخصم حتى يسقطه و لعله الى ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 314

يشير من قال بأن شرط الحكم انما هو العدالة المعلومة للحاكم لا العدالة الواقعية و ان لم تكن معلومة له و لا ريب انه لم يحصل له العلم بالعدالة من قول المدعى عليه و (الحاصل) ان البينة و إن كان يثبت بها المشهود به إلا انه فيما نحن فيه بالنسبة إلى المشهود عليه لا يثبت بها ذلك لعلمه بغلطها و عدم مطابقتها للواقع و بالنسبة إلى الحاكم لم يحرز جامعيتها لشرائط الحجية حتى يحكم على طبقها.

و أيضا رد عليه في المستند بالمنع من كونه إقرارا على نفسه لأنه لا يلزم من وجوده الوجود، و لأن كونه إقرارا على نفسه موقوف على كونه مقبولا عند الحاكم و قبوله عند الحاكم موقوف على كونه إقرارا على نفسه و هو دور.

و استدل عليه صاحب المستند تبعا لبعض معاصريه بما روي في تفسير الإمام العسكري (ع) و عن هداية الحر العاملي و وسائله ان رسول اللّه إذا تخاصم اليه رجلان في حق قال للمدعي أ لك بينة؟ فان أقام بينة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه الى أن قال (ع): فاذا كان الشهود من أخلاط الناس لا يعرفون و لا قبيلة لهما و لا سوق و لا دار أقبل على المدعى عليه و قال: ما تقول فيهما فان قال ما عرفت إلا خيرا غير انهما قد غلطا

فيما شهدا عليّ أنفذ عليه شهادتهما. و لا يخفى ما فيه فإنه مضافا الى الشك في صحة سنده و اختصاصه بصورة العجز عن الفحص عن الشهود لعدم معرفة القبيلة و السوق و الدار لهما انه أعم من المدعى لأن المدعى التصريح بالعدالة لا التصريح بعلم الخير فيهم و قد حمل بعضهم هذا الخبر على صورة حصول العلم له (ص) من قول المدعى عليه باعتبار ان الغالب حصول العلم من ذلك. و فيه ما لا يخفى لوضوح عدم حصول العلم منه.

و يمكن أن يستدل للحكم المذكور بقوله تعالى في سورة البقرة:

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ فإنه يفهم منها الحكم المذكور باعتبار ان الميزان الذي جعله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 315

الشارع هو ما يرضى به الطرفان من الشهود لا الحاكم و فيما نحن فيه قد رضي بالشهود الطرفان المدعي و المدعى عليه بل لعل التعبير (بترضون) دون (المرضيين) اشارة و إرشاد الى أن المعتبر في الشهادة هو المرضي عندنا لا من هو مرضي في الواقع و عند اللّه عز و جل.

و يمكن أن يستدل له بأن اشتراط الفحص عن عدالة الشهود على الحاكم من باب المنة على المشهود عليه و الإرفاق به فاذا هو أسقطه كان سبب الحكم للحاكم قد تمَّ فله الحكم بالشهود الذين اعترف المشهود عليه بعدالتهم.

الطريق الحادي عشر الاستصحاب

(الحادي عشر من الأمور التي تثبت بها العدالة) الاستصحاب و هو انما يكون فيما لو علم بالعدالة سابقا أو قام دليل شرعي على ثبوتها سابقا و لم يعلم بعد ذلك بزوالها فإنه يستصحب بقائها للسيرة و لأدلة الاستصحاب و قد تقدم ذلك منا

عدة مرات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 316

طرق معرفة الجرح

(الثاني و العشرون) من تنبيهات هذا المبحث انه قد عرفت الطرق الموجبة لمعرفة العدالة.
اشارة

و اما الفسق فالطرق الموجبة لمعرفته يمكن معرفتها بملاحظة ما ذكرناه في الطرق الموجبة لمعرفة العدالة باعتبار كونها موضوعا من الموضوعات الخارجية فإن الجرح و فسق الشخص أيضا من الموضوعات الخارجية، و بعبارة أخرى أن الطرق المتقدمة ما ثبت كونه طريقا للموضوع الخارجي كما يكون طريقا للعدالة يكون طريقا لغيرها من الفسق و غيره من الموضوعات الخارجية كالبينة حتى انه وقع الخلاف فيما بينهم في جواز الاكتفاء في الجرح بالواحد كالتعديل. و في المحكي عن المعالم ان طرق معرفة الجرح كالتعديل، و الخلاف في الاكتفاء بالواحد و اشتراط التعدد جار فيه و المختار في المقامين واحد آه.

و أما ما كان منها طريقا للعدالة فقط كحسن الظاهر فهو ليس بطريق للفسق لأن طريقيته انما ثبتت للعدالة فقط.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 317

فوائد تتعلق بالمقام

«أحدها» كفاية الإطلاق في الشهادة بالجرح
اشارة

و هنا فوائد:

(أحدها) انه قد تقدم في مبحث إثبات العدالة بالبينة كفاية الإطلاق في التعديل، و أما الجرح ففي كفاية الشهادة به بنحو الإطلاق من دون ذكر السبب أو لا بد من ذكر التفسير و السبب محل خلاف بين الفقهاء و الأصوليين على أقوال:

(الأول) الاكتفاء بالإطلاق من دون ذكر السبب و التفسير كأن يقول هو فاسق و هو المحكي عن النهاية عن قوم.

(الثاني) عدم الاكتفاء بالإطلاق و لزوم ذكر سبب الجرح و تفسيره و هو المحكي عن الإسكافي و الشيخ و ابن البراج و ابن حمزة و ابن إدريس و أكثر الأصحاب و استدل للأول بما استدل به لكفاية الإطلاق في التعديل.

و لا وجه لدعوى معارضتها بالعمومات المانعة من العمل بغير العلم لأنها حاكمة عليها شأن سائر أدلة الأمارات و استدل للثاني بالأصل أعني أصالة عدم الحجية و

بالعمومات المانعة عن العمل بغير العلم. و لا يخفى ما فيه فان الأصل لا يجري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 318

بعد قيام الدليل على الحجية و هو حاكم على العمومات المانعة من العمل بغير العلم شأن سائر أدلة الامارات. و استدل أيضا بأن الناس يختلفون فيما به الجرح و ما هو المضر بالعدالة فإذا كانت الشهادة بالجرح مستندة لما هو خلاف رأي الحاكم لا يقبلها الحاكم. و مع إطلاق الشهادة يدور أمرها بين المقبولة و غيرها و الشك في الشرط يستلزم الشك في المشروط. و فيه ما ذكرنا في جواب من منع من إطلاق التعديل مضافا لما تقدم ص 289 من عدم العبرة برأي الحاكم و المزكي و انما العبرة برأي المزكى

و قد يستدل له بأن الأخبار عن الجرح من دون ذكر السبب اخبار عن أمر حدسي

من حيث اختلاف المذاهب فيما يوجب الجرح و لا دليل لنا على وجوب تصديق العادل في الأخبار عن الأمور الحدسية الاجتهادية و ذلك لان الأدلة الدالة على وجوب تصديق العادل انما هي تنفي احتمال تعمد الكذب منه و لا تنفي احتمال الخطأ منه لان الصدق الذي تأمر به هو الصدق الذي هو تحت اختياره و هو الصدق من جهة عدم تعمده الكذب و أما الصدق من جهة عدم خطأه و اشتباهه فهو ليس تحت اختياره. و عليه فاذا كان في اخبار العادل عن شي ء ما يدل على نفي خطئه و اشتباهه نأخذ بخبره و نعمل به كما في اخباره عن الحسيات حيث ان بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ فيها لندرة وقوع الخطأ فيها و إذا لم يكن في اخبار العادل عن شي ء ما يدل على نفي الخطأ عنه فلا نأخذ به كما في اخباره عن الأمور الحدسية

الاجتهادية حيث ان العقلاء لم يكن بنائهم فيها على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ فأصالة عدم الخطأ غير جارية فيها فلا يعمل بتلك الأخبار. و لا يخفى ما فيه لما حققناه في محله من أن الأخبار عن الأمور الحدسية التي قريبة الى الحس لابتنائها على مقدمات واضحة جلية يبنون العقلاء على أصالة عدم الخطأ و الاشتباه فيها لعين ما ذكر في الأخبار عن الأمور الحسية من ندرة وقوع الخطأ فيها و لذا تراهم يقبلون الأخبار عن الاجتهاد في العلم و عن الأفضلية فيه، و عن العدالة،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 319

و عن الطهارة، و عن النجاسة بل و عن الملكية و الزوجية و الرقية و نحو ذلك.

و العجيب من المرحوم الاشتياني في كتاب القضاء اعتمد على الدليل المذكور و لم يتفطن لما ذكرناه من الجواب. و الأغرب من ذلك انه أورد على نفسه بالشهادة بالملكية و الزوجية و أجاب (ره) عنه بأن ذلك خارج عن محل الفرض لوجود أصل يحرز به الواقع و هو أصالة الصحة في المشهود به فيكون حال هذا الأصل في المقام حال أصالة عدم الخطأ الجارية في الأخبار عن الحسيات. و وجه الفساد هو ان أصالة عدم الخطأ من المخبر إذا كانت لا تجري في الأخبار عن الحدسيات فهنا أيضا لا تجري فلا نأخذ باخباره. و أصالة الصحة لا تخرج الشي ء عن كونه حدسيا قد يخطأ فيه المخبر فهنا نحتاج إلى أصلين أصالة الصحة و أصالة عدم الخطأ (و الأول) جاري في مقدمات المخبر عنه و هي أسباب الملكية و الزوجية (و الثاني) جاري في نفس الشخص المخبر.

[الفائدة] «الثانية» التعارض بين الجرح و التعديل
اشارة

(الثانية) إذا قامت البينة على عدالة شخص و قامت بينة أخرى

على جرحه. كقول المفيد (ره) في محمد بن سنان انه ثقة و قول الشيخ انه ضعيف و كقول ابن الغضائري في داود الرقي انه فاسد المذهب لا يلتفت اليه و قول غيره انه كان ثقة. قال فيه الصادق (ع): أنزلوه مني منزلة المقداد من رسول اللّه (ص) فهنا صور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 320

(الاولى) وقوع التعارض بينهما مع عدم المزية لإحداهما على الأخرى
اشارة

لا باعتبار حال المزكي و الجارح كأن كان إحداهما أعدل و لا باعتبار كلامهما كأن كان كلام أحدهما أظهر و لا باعتبار أمر خارج ككون إحداهما أكثر فذهب جماعة إلى التوقف بمعنى لا يحكم بالفسق و لا بالعدالة كما في مجهول الحال و هو المحكي عن الخلاف و التهذيب و المختلف و المنية و الدروس و المسالك و الكفاية و الظاهر انه المشهور بين الأصحاب بل بين علماء الإسلام. و استدلوا على ذلك بان الشهادات قد تقابلت و لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فيتوقف عن الحكم على طبق إحداهما. و فيه انهم إن أرادوا بالتوقف هو سقوطهما و فرض المقام كما لو لم تكن بينة أصلا فهو مبني على تساقط الحجتين عند التعارض و نحن قد قررنا في محله ان مقتضى القاعدة عند التعارض هو التخيير و سيجي ء ان شاء اللّه في التنبيه في آخر هذه الصورة ما يوضح الحال. قالوا: و تظهر الثمرة بين القول بالتوقف و بين القول بالجرح انه على القول بالتوقف يرجع الى الحالة السابقة من العدالة أو الفسق إن كانت معلومة و إلا فيكون من قبيل مجهول الحال لتساقط البينتين و أما على القول بتقديم الجرح فيؤخذ به و لا يعتني بالحالة السابقة و أيضا على القول بالتوقف لو قام دليل آخر

على العدالة أخذ به لسقوط البينتين و جعلهما كالعدم للتوقف فيكون الدليل بلا معارض بخلاف ما لو رجحنا الجرح و ذهب آخرون الى تقديم شهادة الجرح كما عن الشرائع و عن المبسوط للشيخ (ره) و عن المعالم نسبته الى أكثر الناس و استدلوا له.

(أولا) بأن بتقديم الجرح جمعا بينهما إذ غاية قول المعدل انه لم يعلم فسقا و الجارح يقول انا علمته فلو حكمنا بالعدالة كان الجارح كاذبا، و إذا حكمنا بفسقه كانا صادقين و الجمع اولى ما أمكن، و لذا لو ظهرت عدالته بالاختبار ثمَّ قامت البينة على فسقه عملنا بقول البينة. و جوابه ان الفرض ان العدالة تنافي الفسق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 321

و تضاده فالذي يشهد بالعدالة يعلم بعدم الفسق و لذا فسرت العدالة بالملكة اللازمة لفعل الواجبات و ترك المحرمات فتقديم كل منهما يوجب كذب الآخر. و في صورة الاختبار إذا حصل العلم بالعدالة طرحنا البينة و عند عدم حصول العلم فهو ليس بحجة و لا بد من الأخذ بالبينة.

(و ثانيا) إن الظن الحاصل من قول الجارح أقوى. و فيه انا لو سلمنا ذلك فلا دليل لنا على حجية هذا الظن.

(و ثالثا) بما رواه الكافي و التهذيب عن أبي عبد اللّه (ع) ان أمير المؤمنين (ع) كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان و شهد له ألف بالبراءة جازت شهادة الرجلين و أبطل شهادة الألف لأنه دين مكتوم فإنه من التعليل يفهم ان البينة إذا قامت على أمر خفي ترجح على البينة المعارض لها و لا ريب ان الفسق أمر خفي و لذا علل بعض الأصحاب وجه تقديم الجرح بأنه مما يخفى و فيه

ان الرواية ضعيفة. و لو تنزلنا فهي مخصوصة بالدين الخفي كالزندقة.

(و رابعا) ما روي عنهم (ع) «من أن الغائب على حجته إذا حضر» فإنه لو لا تقديم الجرح على التعديل لم يكن لذلك وجه. و فيه انه انما يقتضي سماع رد الغائب إذا حضر و هو لا يقتضي تقديم جرحه بل قد يتوقف في الحكم عند تقديمه البينة الجارحة.

(و خامسا) انه يجب تقديم بينة الجرح لأنها تدل على ما لا تنفيه بينة التعديل و كانت ساكتة عنه فيجب الأخذ بها تصديقا لهما و عملا بهما من دون تصرف فيهما كالبينتين الغير المتعارضتين و ذلك ان بينة الجرح تدل على صدور الكبيرة منه و ساكتة عن وجود ملكة العدالة عنده كما ان بينة التعديل تدل على وجود الملكة المذكورة عنده و ساكتة عن عدم صدور الكبيرة منه غاية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 322

الأمر أنها تعرف عدم صدور الكبيرة من المشهود عليه بواسطة أصالة عدم صدورها منه أو اليقين بعدم صدورها منه أو اليقين بالتوبة منها بعد صدورها منه. فتكون هذه محتملات في بينة التعديل من غير دلالة لها على أحدها.

و إذا كان الأمر كذلك فالواجب هو الأخذ بما دلت عليه كل من بينة التعديل و الجرح و طرح ما سكتت عنه كما هو الشأن في سائر الأدلة و مقتضى ذلك أن يكون للمشهود عليه ملكة (كما هو مدلول بينة التعديل) و ان يكون قد صدرت منه الكبيرة (كما هو مقتضى بينة الجرح). و لا يخفى ما فيه فان العدالة تنافي الفسق و تعانده. و قد عرفت فيما تقدم ص 225 من انها الملكة الملازمة لفعل الواجبات و ترك المحرمات فهي لا ينفك

عنها عدم الكبيرة كيف و لو كان ينفك عنها ذلك لما كان فائدة باشتراط العدالة في الشاهد و غيره لعدم الامانة به و استوى هو و الفاسق في احتمال تعمد الخيانة فالشهادة بالعدالة غير ساكتة عن الدلالة على عدم صدور الكبيرة و عدم صدور منافيات المروة بل هي دالة على ذلك.

و الشهادة بالجرح دالة على عدم الملكة المذكورة أعني الملازمة لعدم الكبيرة و لعدم منافيات المروة. و أما الملكة التي تجتمع مع صدور الكبيرة فهي ليست بالعدالة فلم تكن مشهودا بها هذا على تفسير العدالة بالملكة و أما على تفسيرها بحسن الظاهر فالفسق الذي ينافيها هو فعل ما ينافي حسن الظاهر فالشهادة بالجرح تدل على عدم حسن الظاهر و هكذا على تفسيرها بأنها فعل الواجبات و ترك المحرمات أو ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق و الحاصل ان دعوى السكوت عما ذكر في شهادة التعديل أو الجرح لا وجه لها و العجب من مدعيها.

(و سادسا) ان الأخبار بالعدالة إخبار بأمر وجودي و هو الملكة و عدمي و هو عدم صدور الكبيرة و منافيات المروة و لا ريب ان الأخبار بالأمر العدمي مستنده عدم العلم و الأصل. فلا يعارض ما هو بمنزلة الدليل بالنسبة إليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 323

أعني أخبار الجارح بوجود الكبيرة أو منافيات المروة كما لا يعارض الأصل الدليل. و (الحاصل) ان الحاصل من قوله (فلان عادل) هو العدالة الظاهرية و الحاصل من قوله (فلان فاسق) هو كونه غير عادل واقعا و من المعلوم انه لا تنافي بين العدالة الظاهرية و الفسق الواقعي كما لا تنافي بين الطهارة الظاهرية و النجاسة الواقعية فيما إذا قامت البينة عليهما بحيث علمنا

كون البينة على الطهارة من جهة الأصل. و بهذا يظهر ان الأخذ بشهادة الجارح ليس طرحا لشهادة المعدل لأن رفع اليد عن الأصل بعد قيام الدليل على خلافه ليس بطرح له.

و ان الجمع فيما نحن فيه ليس من قبيل الجمع بين الروايتين المتعارضتين حتى يقال انه جمع لا دليل عليه بل لا يعقل من حيث عدم إمكان أن يصير كلام متكلم قرينة على المراد من كلام متكلم آخر. و ذلك لأن مرجع الجمع فيما نحن فيه الى العمل بأدلة البينة في كل منهما و (بعبارة أخرى) ان الامارة إذا كانت بحيث يزول ذاتها بالعلم بالخلاف كانت نسبتها الى كل امارة على خلافها كنسبة الأصل إلى الدليل في عدم المعارضة و انما تصلح الامارة للمعارضة إذا لم يكن العلم بخلافها رافعا لذاتها و انما يرفع حكمها كالخبر مثلا فان العلم بخلافه يكذبه و لا يزيل ذاته و لا يخرجه عن كونه خبرا و إنما يزيل اعتباره و حجيته و هذا بخلاف عدم الوجدان و عدم البيان و عدم الدليل و نحوها من الامارات العدمية بعد الفحص و التتبع و كأصل البراءة و الاستصحاب. فان العلم بالوجود و الدليل و البيان يضادها بذاتها و يوجب زوال نفسها لا انه يوجب عدم اعتبارها و فيما نحن فيه ان العلم بالجرح و الدليل عليه يزيل موضوع التعديل و ذاته لأنه عبارة عن الأخبار بالملكة مع عدم ثبوت صدور الكبيرة منه و هذا الاستدلال الظاهر انه للشيخ الأنصاري (ره) و قد آمن به عدة من تلاميذه المحققين (ره) و لكن يمكن أن يجاب عنه من جهات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 324

(الاولى) إن العدالة كما عرفت هي

الملكة الملازمة لترك الكبائر و الإصرار على الصغائر، و أما الملكة الغير الملازمة لها فليست من العدالة شأن سائر الأمور ذات الملكات. و عليه فالشاهد بالعدالة لا بد من استناده إلى الملكة التي يعلم بملازمتها لذلك فهو يعلم بعدم صدور الكبيرة منه إن كان مستند شهادته هو العلم و إن كان مستند شهادته هو الامارة الشرعية كحسن الظاهر فهو يكون ممن قامت عنده الامارة الشرعية على عدم صدور الكبيرة منه و ليس يكون الأصل الذي ذكره هو المستند أبدا فان الأصل المذكور إنما يجري مع الملكة الغير الملازمة لعدم صدور الكبيرة لأن الملكة الملازمة له يعلم معها بعدم الكبيرة فلا يجري الأصل. فإذا كان الأصل المذكور انما يجري مع الملكة الغير الملازمة و الملكة الغير الملازمة ليس هي بالعدالة فتكون دائما بينة التعديل تعارض بينة الجرح.

(الثانية) انا لو سلمنا ذلك لكنا لا نعلم استناد بينة التعديل الى الأصل فلعلها استندت الى العلم بعدم الكبيرة أو استندت إلى التوبة بعد الفسق لا إلى أصالة عدم الكبيرة فلا يكون الجرح بالنسبة إليها من قبيل الدليل بالنسبة الى الأصل بل ربما يكون الأمر بالعكس فيكون الجرح بمنزلة الأصل و التعديل بمنزلة الدليل فيما لو كان مستند الجرح هو صدور الكبيرة و أصالة عدم التوبة و مستند التعديل هو العلم بالتوبة نعم لو كان دائما و أبدا التعديل مرجعه الى عدم العلم بالكبيرة و الجرح مرجعه الى العلم بها اتجه تقديم الجارح أما مع قيام الاحتمال المزبور في كل جرح و تعديل فلا وجه لتقديم الجرح لأن نسبة الأصلية و الدليلية الى كل منهما على حد سواء (و دعوى) ان ذلك الاحتمال أمر خارج عن مدلول قول المعدل لأن

حاق معنى التعديل لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي و هي الملكة و عدم العلم بالفسق كما أن حاق معنى الجرح لا يزيد عن الأخبار بأمر وجودي و هو فعل الكبيرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 325

و عدم العلم بوجود أمر آخر بعده و هو التوبة فيؤخذ بكل منهما في معلومه و هو الأمر الوجودي فقط دون مجهوله بل يرجع في المجهول منهما الى الأصل إذا لم يعارضه قول الآخر. و مقتضى الأخذ بقول المعدل في معلومه تصديقه في وجود ملكة العدالة. و لا يصح الرجوع في مجهوله و هو الفسق الى الأصل بأن يقال الأصل عدم الفسق لأن قول الجارح في معلومه يثبت الفسق و حينئذ يرجع في مجهول قول الجارح و هو التوبة الى الأصل و هو أصالة عدم التوبة.

فيكون الحاصل من التصديقين هو ثبوت الفسق و الثابت من الأصلين هو أصالة عدم التوبة. و اما احتمال استنادا المعدل الى العلم بالتوبة بعد الفسق الذي شهد به الجارح. فلا يدل ظاهر لفظ التعديل عليه لان العام لا يدل على الخاص بل على القدر المشترك فإن الأخبار بالرجل لا يرتب عليه أحكام مجي ء زيد بل أحكام مجي ء الرجل ففيما نحن فيه الاخبار بالتعديل لا يرتب عليه آثار العدالة الحاصلة بالتوبة بعد المعصية لأن العدالة قد تحصل بالملكة الابتدائية مع عدم تحقق الفسق في الخارج كما قد تحصل بالتوبة بعد الفسق و القدر المشترك بينهما هو الملكة مع عدم الفسق فاذا أخبر المعدل وجب تصديقه في ذلك القدر المشترك لا في الملكة الحاصلة بالتوبة.

(فاسدة) لأنه لو سلمنا ما ذكره من عدم دلالة التعديل على عدم الفسق و تنزلنا له عما قررناه من

ان التعديل هو شهادة بالملكة الملازمة لعدم الفسق فنقول ان مجهول الجارح هو العدالة فلا يجري الأصل فيها لأنها معلومة من قول المعدل فكما ان مجهول المعدل و هو الفسق الأصل لا يجري فيه للمعلوم من قول الجارح و هو الفسق فكذلك مجهول الجارح و هو العدالة لا يجري فيه الأصل للمعلوم من قول المعدل و هو العدالة.

(إن قلت): ان العدالة المجهولة للجارح هي العدالة بنحو التوبة من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 326

الكبيرة لأنها هي التي تزيل الفسق و هي لا يدل عليها قول المعدل لأن العام لا يدل على أحد أفراده فيجري الأصل في عدمها. (قلت): هكذا نقول في طرف المعدل فان الفسق المجهول له هو الفسق بالكبيرة بعد العدالة و الأخبار بالفسق اخبار بالعام لأن الفسق قد يكون قبل العدالة و قد يكون بعدها و قد يكون بدون تحققها أصلا فهو عام لا يدل على رفع هذا الفرد (فتلخص) ان الأصل في كل منهما على حد سواء فلا يمكن أن يحكم بعدالة المشهود عليه فعلا و لا بفسقه فعلا و إنما يحكم بأنه قد صار عادلا و صار فاسقا و لا يعلم المتأخر منهما حتى يستصحب بقائه أو عدم حدوث ما يضاده.

(الثالثة) ان صدور الكبيرة له أفراد ثلاثة منه ما هو قبل العدالة و منه ما هو بعدها و منه ما هو بدونها و الفسق إنما يكون أثرا للفردين الآخرين دون الأول و من المعلوم ان الشهادة بالجرح لما كانت مطلقة كما هو محل الكلام فإنما يثبت بها القدر المشترك بين الثلاثة و هو ليس من آثاره فسق المشهود عليه فعلا بعين ما ذكره الخصم في الشهادة بالعدالة من

أنها انما تثبت القدر المشترك بين الملكة قبل المعصية أو الملكة بعدها و القدر المشترك ليس من آثاره العدالة فعلا (الرابعة) ان احتمال استناد المعدل الى العلم بالتوبة و ان كان ما ذكره الخصم فيه صحيحا لكن لما كان اخبار المعدل يحتمله كان الثابت بقول المعدل هو العدالة التي هي القدر المشترك بين العدالة الواقعية و الظاهرية و لا ريب انها لا تثبت لها آثار العدالة الظاهرية لأنها من أفرادها فلا يكون الثابت بالتعديل بمنزلة الأصل و إنما تكون بمنزلة الأصل لو كان الثابت به خصوص العدالة الظاهرية فهو نظير ما إذا ثبت بالشهادة الطهارة أعم من الظاهرية و الواقعية فإن الثابت بها حينئذ لا يرتب عليه آثار الطهارة الظاهرية و لا يحرز حينئذ في الشهادة على النجاسة انها بمنزلة الدليل بالنسبة إليها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 327

(الخامسة) انا لو سلمنا ان التعديل اخبار بالعدالة الظاهرية و ان الاخبار بالعدالة الظاهرية و إن كان يجتمع مع الاخبار بالفسق الواقعي لكن دليل حجية الشهادة يقتضي وجوب الالتزام بالمضمون سواء كان حكما ظاهريا أو واقعيا

[معنى صدق العادل في الإخبار عن الحكم الظاهري كما لو أخبر عن الطهارة الظاهرية]

فمعنى وجوب تصديق المخبر بالعدالة الظاهرية هو الالتزام بآثارها و لو في مرحلة الظاهر. و هكذا معنى وجوب تصديق الخبر بالفسق الواقعي هو الالتزام بآثار الفسق الواقعي و حينئذ فيكون دليل حجية الشهادة يقتضي الالتزام بكل منهما و هو محال فالعمل بشهادة الجارح يكون ترجيحا لها على شهادة المعدل لا انه جمعا بينهما و بعبارة أخرى انه لو كان مفاد أدلة حجية الشهادة بالأمر الظاهري و مفاد أدلة حجية خبر العادل بالأمر الظاهري هو الحكم ظاهرا بثبوت ذلك الأمر الظاهري لارتفع بمجرد قيام الدليل على الحكم واقعا فتكون

العدالة الظاهرية يرفعها الأخبار بالفسق الواقعي و لكن التحقيق ان مفادها هو ترتيب الأثر الشرعي واقعا على هذا الأمر الظاهري. فالمخبر به و ان كان أمرا ظاهريا إلا ان الحكم بثبوته و ترتيب الأثر عليه ليس ظاهريا. (توضيح ذلك) ان الشخص إذا أخبر بأمر ظاهري كالعدالة و انحصار الوارث و الطهارة و كل ما يشتمل على أمر عدمي ففي تصديقه يحتمل أمران: (أحدهما) الالتزام الواقعي بالحكم الظاهري و (الثاني) الالتزام الظاهري بالحكم الواقعي و على الأول يقع التعارض مع الأخبار بضده دون الثاني إلا ان التحقيق هو الأول لأن ليس معنى (صدّق) إلا الالتزام بمضمونه و ترتيب الآثار عليه لا ان معناه أن المضمون ثابت لك على نحو ثبوته للمخبر حتى يرتفع عند قيام الدليل على ضده كما كان الأمر كذلك في المخبر و ذلك لأن الحكم الظاهري بظاهريته و بحدوده و بما هو حكم ظاهري غير قابل لأن يثبته الشارع بما هو شارع في حق الغير بعنوان التصديق لأن الغير إن كان شاكا في الحكم الواقعي فهو ثابت في حقه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 328

الحكم الظاهري من غير حاجة لإثباته لذلك الغير بعنوان التصديق للمخبر و إن كان عالما بالواقع فيجب عليه العمل بعلمه لا بالأخبار بالحكم الظاهري فلا بد ان يكون مورد التصديق بالأخبار بالحكم الظاهري هو ما لا يكفي مجرد الشك في الحكم به كالطهارة فإن الذي لا يكفي فيه مجرد الشك الابتدائي و لا بد فيه من الفحص كانحصار الوارث فاذا شهد به الشاهد صدقه الحاكم في الفحص الذي امتاز به الشاهد عن غيره.

(ان قلت): ان ما دل على وجوب تصديق المخبر لا يجعل المخبر له اولى

من المخبر و أقوى منه في العمل بخبره و اعتقاده و الا لزم زيادة الفرع على الأصل. فكما ان المخبر يرفع اليد عن عدالة الشخص الظاهرية المستندة لثبوت الملكة و أصالة عدم صدور الكبيرة منه إذا قام الدليل على صدور الكبيرة من ذلك الشخص كذلك المأمور بتصديق المخبر يرفع اليد عن العدالة الظاهرية لذلك إذا قام الدليل على صدور الكبيرة منه. فالأصل و الدليل و ان لم يوجدا في حق المأمور بالتصديق حقيقة الا انه وجدا حكما. (قلنا): ليس في ذلك زيادة و انما هو مقتضى الأمر بالتصديق فان معنى تصديق المخبر في خبره هو ترتيب آثار الواقع على وجوده و تنزيله منزلة الموجود فاذا أخبر بانحصار الوارث بهذا الشخص و أمرنا الشارع بتصديقه فمعناه ترتيب آثار ارث هذا الشخص للميت مع الفحص اللازم عن وارث غيره و عدم وجوده فلو عمل بأمارة تدل على وجود وارث غيره لم يكن قد صدقناه في خبره ألا ترى انه لو شهدت البينة بملكية الدار لزيد من جهة يده عليها فإنها تعارضها البينة على نفي ملكيته لها. مع انه نفس الشهود بالملكية من جهة اليد لو قامت عندهم البينة بنفي الملكية لقدموها على اليد.

(و سابعا) ما حكاه المرحوم الاشتياني عن بعضهم من انه يرجح بينة الجرح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 329

على بينة التعديل من حيث كون مستند الاولى قطعيا، و الثاني ظنيا فان الشاهد بالجرح يستند إلى رؤية الكبيرة كالزنا و نحوه و الشاهد بالتعديل يستند الى الظن بعدم صدور الكبيرة. و قد تقرر في محله انه ترجح الرواية المعلومة الصدور عن الامام (ع) بالسماع أو بغيره على غيرها في صورة التعارض. و فيه

مضافا الى انا لا نسلم ان مستند المعدل ظنيا لا قطعيا فان المعدل يعلم بالملكة الملازمة لترك الكبائر أو تقوم عنده الحجة على ذلك كالجارح و لو سلمنا ذلك فهو قياس على الرواية لا يصح الاعتماد عليه.

[ترجيح احدى البينتين على الأخرى بالقرعة]
اشارة

هذا و قد يرجح احدى البينتين على الأخرى بالقرعة لأن القرعة لكل أمر مشكل و لبعض الأخبار المتضمنة للقرعة عند تعارض البينات. و لا يخفى ما فيه لوهن عمومها لما نحن فيه لعدم القائل بها في المقام.

[عند عدم الترجيح لإحدى البينتين على الأخرى هل يرجع الى الأصول أو تقف الدعوى]

(تنبيه) انه بناء على عدم الترجيح لإحدى البينتين على الأخرى فهل يرجع الى الأصول فيستصحب الحالة السابقة من العدالة أو الفسق أو يتخير بينهما و على تقدير أن يرجع الى الأصول و كان الأصل يقتضي عدم العدالة فهل تقف الدعوى أو يرجع الى ميزان آخر في حلها كاليمين و بعبارة أخرى انه يتوقف عن الحكم مطلقا أو عن الحكم بمقتضى البينة فقط كما لو لم تكن بينة أصلا. مقتضى ما بنينا عليه من التخيير عند تعارض الحجتين هو أن يختار في العمل بأيهما شاء و عليه فلا وجه لطرح البينتين و الرجوع الى ميزان آخر أو التوقف عن الحكم مطلقا. (نعم) يمكن أن يقال انه في باب الدعاوي يؤخذ ببينة التعديل لأن صاحبها مدعي لعدالة الشهود و لا يؤخذ ببينة الجارح لأنه منكر لعدالة الشهود لأن البينة على المدعي و اليمين على من أنكر و إن أبيت عن ذلك و قلت لا نسلم جريان هذه القاعدة هنا فالمستفاد من الأخبار الواردة في تعارض البينات بواسطة تنقيح المناط هو أن يستحلف كل من الذي أقام بينة التعديل و الذي أقام بينة الجرح فان امتنع أحدهما عن اليمين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 330

حلّف الآخر و حكم على طبق بينته و إن لم يمتنع كل منهما عن اليمين أقرع بينهما في اليمين فكل من خرجت القرعة له حلف و ان امتنعا عن اليمين معا أقرع بينهما و

إن كان في غير مقام الدعوى كمعرفة عدالة الراوي أو اجتهاد المجتهد أو عدالة المجتهد تخير في الأخذ بأحدهما إلا اللهم أن يدعى الإجماع على عدم جواز التخيير. و عليه فلا بد من تساقطهما و الرجوع الى الأصل من العدالة أو الفسق و مع عدم الأصل فيتوقف و يكون مجهولا لأن البينة إذ ذاك بمنزلة المعدومة

(الصورة الثانية) أن يقع التعارض بين الجرح و التعديل و يكون لأحدهما مرجح داخلي

كأن يكون أحدهما أعلم من الآخر أو أورع منه أو أضبط منه أو أدق منه أو نحو ذلك و بعبارة أخرى يكون أحدهما أرجح من الآخر بحسب المرجحات السندية و قد ذهب الى الترجيح بذلك جماعة و ينسب ذلك لصاحب النهاية و التهذيب و المنية و المعالم. و يظهر من إطلاق كثير من الكتب الفقهية كالخلاف و الكفاية و المسالك و غيرها لزوم التوقف هنا و عدم الترجيح و يكون المشهود عليه بمنزلة مجهول الحال بل ينسب إلى الشرائع و المعارج لزوم تقديم الجارح هنا و يمكن أن يقال انه لا دليل على الترجيح بذلك.

(إن قلت): قوة الظن بصدق من كانت المرجحات معه. (قلنا):

لا دليل على حجية هذا الظن و لا على الترجيح به.

(إن قلت): إن قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ. يدل على ترجيح العالم على الجاهل و هو يقتضي ترجيح شهادته على غيره و إلا لزم المساواة بينهما و يتم في الباقي بضميمة عدم الفصل. (قلنا):

مضافا الى انصراف إطلاق الآية الشريفة الى غير محل البحث معارضتها بالعمومات المانعة من العمل بغير العلم تعارض العامين من وجه.

(إن قلت): ان الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات في باب تعارض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 331

الاخبار تدل على الترجيح بها في باب الشهادات.

(قلنا): هي مختصة بتعارض الروايات أو القضاء. لا بتعارض البينات في الموضوعات الصرفة كالعدالة و الفسق.

(إن قلت): انه قام الإجماع على الترجيح بالمرجحات المورثة للظن عند التعارض بين الحجتين. (قلنا): قد عرفت عدم تحقق الإجماع لوجود المخالف في المسألة.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 331

(إن قلت): انه لا يجوز الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح لقبح ذلك عقلا فلا بد أن يأخذ بالراجح. (قلنا): انا ننكر تحقق الرجحان بذلك عند الشارع مضافا الى وجود القائل بأنا نطرحهما و لا نأخذ بأحدهما فلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح (نعم) يظهر من بعض الروايات الترجيح بالأعدلية عند التعارض و في الكافي و التهذيب و الفقيه عن أبي عبد اللّه (ع) انه إذا شهد رجل على رجل فجاء الرجل فقال لم أشهد تجوز شهادة أعدلهما و سيجي ء إن شاء اللّه انه في التهذيب و الاستبصار و الفقيه يقدم الأعدل عند تعارض البينات و ان كانت البينة الأخرى أكثر عددا.

(الصورة الثالثة) أن يقع التعارض بين الجرح و التعديل و لكن يكون أحدهما أرجح من الآخر بالشياع

و الاستفاضة، أو كثرة العدد و نحو ذلك و الذي يظهر من المحكي عن التهذيب و الاستبصار هو الترجيح بالأكثرية مع الحلف عند التساوي في العدالة و الا لأعدلهما شهودا و هو الذي يظهر من الصدوق (ره) و الذي يظهر من المحكي عن العلامة (ره) في الخلاصة الترجيح بالأكثرية عددا حيث انه (ره) في ترجمة إبراهيم بن سليمان رجح تعديل الشيخ و النجاشي له على جرح ابن الغضائري لكثرة العدد، و كذا في ترجمة إسماعيل بن مهران و لكن في نهاية الأصول خالف

ذلك و لم يعتبر الترجيح بزيادة العدد. و السيد رحمه اللّه في ملحقات العروة قد ذكر ان الجرح و التعديل إذا تعارضا و كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 332

شهود الجرح اثنين و شهود التعديل أربعة يمكن ان يقال بتساقط اثنين باثنين و بقاء اثنين للتعديل و كذا العكس، و الأولى من ذلك إذا كان كل منهما اثنين و بعد التساقط وجد اثنان آخران لأحدهما و فيه ان ذلك لما كان في عرض واحد أوجب التساقط. و لكن يمكن أن يقال بتقديم البينة التي هي أكثر عددا للروايات الدالة على الأخذ بها مع حلف الذي أقامهم على مدعاه.

(الصورة الرابعة) إذا كان المتعارضان يمكن الجمع العرفي

المعتبر بين كلاميهما و الحكم بصدقهما كأن يكون أحدهما كالخاص بالنسبة إلى العام الذي قبله و المقيد بالنسبة للمطلق قبله و المبين بالنسبة للمجمل قبله و الناسخ بالنسبة للمنسوخ قبله كأن شهد المزكي بالعدالة مطلقا أو مفصلا من دون ضبط وقت معين و شهد الجارح بفعل ما يوجب الجرح في وقت معين قدم الجرح لحصول الشهادتين من دون تعارض بينهما أصلا. و لو قال الجارح رأيته يرتكب يوم كذا كبيرة. و قال المزكي: لقد تاب بعد ذلك و هو فعلا ذو ملكة قدم قول المزكي و ذلك للزوم الجمع العرفي لبناء العقلاء عليه و قد أمضاه الشارع و للإجماع على ذلك. و من هنا اشتهر الحكم بتقديم مدعي الزيادة على غيره لأن شهادته بالنسبة إليها خالية عن المعارض لأن الآخر معترف بجهله بها و معه لا يتحقق التنافي بينهما نظير ما لو شهد الجارح بصدور الكبيرة عن زيد مع اعترافه بعدم علمه بتوبته عنها و شهد المعدل بعدالته مدعيا توبته عنها أو شهد المعدل

بعدالته مع اعترافه بعدم علمه بصدور كبيرة منه و شهد الجارح بفسقه مدعيا علمه بصدور معصية منه و نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 333

(الثالثة) صحة الشهادة بالعدالة أو الفسق إذا قامت الامارة المعتبرة عليهما
اشاره

(الثالثة) انه لا إشكال في جواز الشهادة بالعدالة أو الفسق فيما لو علم بهما من تكرار المعاشرة و كثرة الصحبة أو من البراهين القطعية كالبراهين على الوحدانية أو نحو ذلك من الأمور الموجبة للعلم بهما، و اما لو قام عنده طريق معتبر و حجة شرعية على العدالة أو الفسق كأن شهد عنده شاهدان بعدالة زيد أو فسقه أو نحو ذلك من طرق معرفة العدالة أو الجرح أو قام الاستصحاب عليهما فهل يجوز له الشهادة بهما أم لا؟ الحق جواز أن يشهد بالسبب المثبت للعدالة أو الفسق كأن يشهد بأن فلانا قامت البينة على عدالته أو فسقه أو استفاضت عدالته أو فسقه أو أن هذا الشخص كان عادلا بالأمس و هو الى الآن مستصحب العدالة أو ما يؤدي هذا المعنى نحو قوله و لا أعلم مزيلا لها أو لا أدري زوالها عنه لان جميع ذلك مشهودة و معلومه و على الحاكم أن يرتب الأثر على السبب المذكور إذا قامت البينة العادلة عليه فلو شهد عدلان بحسن ظاهر زيد عند الحاكم و كان الحاكم يرى ان حسن الظاهر طريق للعدالة حكم بعدالة زيد و هكذا لو شهدا بكونه عادلا أو فاسقا في اليوم الذي قبل هذا اليوم و كان الحاكم يرى حجية الاستصحاب استصحب عدالته أو فسقه لان دليل البينة يدل على ترتيب جميع الآثار الشرعية للمشهود عليه و من جملتها ثبوت العدالة به كما ان دليل البينة ينزلها منزلة العلم. و من جملة آثار العلم استصحاب المعلوم الى

الزمن الحاضر. و يدل على ذلك أيضا الأخبار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 334

الدالة على قبول الشهادة على الشهادة. و أما جواز الشهادة بنفس العدالة و الفسق عند عدم العلم بهما فالظاهر انه لا تجوز بلا خلاف للأدلة التي قامت على عدم جواز الشهادة على شي ء إلا عند العلم به كما في روايتي علي بن غياث و علي بن غراب لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك. و في النبوي و قد سئل عن الشهادة. هل ترى الشمس؟ فقال: نعم فقال: على مثلها فاشهد قال في السرائر: و ما روي عنهم (ع) في هذا المعنى أكثر من أن يحصى و يجبر ضعف هذه الروايات عمل المشهور بها. و يدل عليه أيضا ان الشهادة بالشي ء إخبار عنه و ظاهر الأخبار عن الشي ء أنه يخبر عن الواقع المنكشف له فلو أخبر عنه بدون العلم به لزم التدليس و التغرير بالغير. و الحاصل انه لا اشكال عندهم في قيام الأدلة على عدم جواز الشهادة بغير العلم إلا ما أخرجه الدليل و الفسق و العدالة لم يخرجهما الدليل فلا تجوز الشهادة بهما بدون العلم و أما عند قيام الدليل المعتبر عليهما فيجوز الشهادة بهما فهنا مقامان:

(المقام الأول) في جواز الشهادة بالعدالة إذا قام عليها الدليل المعتبر

و الدليل على ذلك:

«أولا» ان في الاقتصار على صورة العلم بالعدالة حرجا شديدا موجبا لاختلال أمور المسلمين لانسداد باب العلم بها غالبا مع كثرة الاحتياج لمعرفتها.

«و ثانيا» قيام السيرة على ذلك لتعديل علماء الرجال في كتبهم لمن قامت البينة عندهم على عدالته.

«و ثالثا» إن ما دل على اعتبار الامارات يدل على ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه و من آثار الواقع جواز الشهادة به، و ببالي اني رأيت

هذا الاستدلال لبعض العلماء الأعلام و لكن لا يخفى ما فيه فان موضوع جواز الشهادة قد أخذ فيه العلم بالواقع فجوازها ليس من آثار الواقع و إنما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 335

من آثار العلم به و أدلة الأمارات إنما تجعلها تقوم مقام العلم الطريقي لا العلم الموضوعي.

«و رابعا» الأخبار الكثيرة الدالة على ذلك (منها) ما تدل على جواز الاكتفاء بحسن الظاهر في مقام الشهادة كصحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222 (و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس). و لا ريب ان التعديل إظهار للعدالة. و نظيرها ما في رواية عبد اللّه بن سنان المتقدمة ص 224 (وجب أن يظهروا في الناس عدالته) و (منها) ما يستفاد منها ان كلما يجوز الاستناد إليه في مقام العمل يجوز الاستناد إليه في مقام الشهادة كرواية حفص (المنجبر ضعفها لو كان برواية المشايخ الثلاثة لها و موافقتها لفتوى المشهور و الإجماع المنقول) عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال له رجل إذا رأيت شيئا في يد رجل أ يجوز لي أن أشهد انه له قال (ع) نعم. قال الرجل: أشهد انه في يده و لا أشهد انه له فلعله لغيره. فقال (ع): أ فيحل الشراء منه؟ فقال الرجل نعم. فقال (ع): فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك ثمَّ تقول بعد الملك هو لي و لا يجوز أن تنسبه الى من صار ملكه من قبله إليك ثمَّ قال (ع): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق فإنه يفهم من هذا التعليل انه يجوز الشهادة بالشي ء إذا قامت عليه الحجة الشرعية حيث (ع) جعل الشي ء المصحح

للشهادة هو الشي ء المصحح للبيع و الشراء. و هكذا يجوز الشهادة بالعدالة بواسطة استصحابها للإجماع على الشهادة على الموضوعات كالملك و الدين و نحوهما بواسطة الاستصحاب و للتعليل في رواية حفص المتقدمة. و لصحيحة ابن وهب و لموثقتيه المرويات في كتاب الشهادات. و هكذا يجوز الشهادة بالعدالة عند قيام شاهدين عدلين عليها و قد حكي عن الشيخ (ره) كفاية السماع عن العدلين فصاعدا في مطلق الحقوق فيصير بسماعه شاهد أصل و متحملا للشهادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 336

و يمكن أن يستدل له بالتعليل في رواية حفص المتقدمة. و بمكاتبة الصفار الصحيحة و فيها فهل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرضين التي فيها إذا يعرف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولا فوقع (ع) نعم يشهدون على شي ء معروف إن شاء اللّه. و قد ذهب بعضهم الى جواز الشهادة بالعدالة بواسطة الاستفاضة كما جوّز الشهادة بأمور أخرى بواسطة الاستفاضة و هي النسب و الملك و الوقف و الزوجية و الولاء و العتق و الموت و الولاية للقاضي و الرق و المحكي عن بعض المتأخرين عدم حصرها بتلك الأمور و جوّزها في كل ما يتعذر فيه المشاهدة في الأغلب و استدلوا على ذلك بالإجماع.

و لا يخفى ما فيه لمخالفة الإسكافي في ذلك ما عدى النسب. و المحكي عن الشهيد الثاني بمنع ذلك في الموت. و يمكن أن يقال ان الاستفاضة ليست بمعتبرة شرعا إلا في النسب لأنه لو لا ثبوت النسب بالاستفاضة و صحة الشهادة به لم يثبت نسب غالبا و لأن السيرة على ذلك. و دعوى ان الموت يتعذر مشاهدته للشهود في

أكثر الأوقات. و الوقف و العتق و الملك و الرقية و الولاية و العدالة و غيرها لو لم يجز في الشهادة عليها الاكتفاء بالاستفاضة لبطلت أكثر تلك الحقوق بتطاول الزمان و الدهور. فاسدة لأنها لو تمت لاقتضت جواز الشهادة بالاستفاضة في غير تلك الموارد، و للأخبار المعتبرة للعلم في الشهادة و للآيات و الروايات المانعة من اتباع غير العلم و قد تقدم منا عدم حجية الاستفاضة ص 297 فكيف يصح الاعتماد عليها في الشهادة و هكذا لا يجوز الشهادة بالعدالة بواسطة الظن بالشي ء حتى الظن المتاخم للعلم المعبر عنه بالاطمئنان لعدم حجيته للأخبار المعتبرة للعلم في الشهادة و للآيات و الروايات المانعة من اتباع غير العلم و لما تقدم ص 307 من عدم حجيته. و من هنا ظهر لك انه لا وجه لما في قضاء الاشتياني رحمه اللّه و غيره من جواز الاعتماد على الظن أو الاطمئنان بالعدالة في الشهادة بها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 337

لعدم الدليل على ذلك. و دعوى لزوم العسر و الحرج لا وجه لها لعدم لزومه عند الاعتماد على ما هو الطريق الشرعي للعدالة.

(و أما المقام الثاني) و هو جواز الشهادة بالجرح إذا قام الدليل المعتبر عليه
اشارة

فالظاهر ان مذهب الأكثر عدم جوازه. و قد نقل بعضهم عدم الخلاف في ذلك و لكن يمكن أن يستدل للجواز بالتعليل في رواية حفص و الاستدلال بأن ما دل على اعتبار الدليل يدل على ترتيب آثار الواقع على ما قام عليه و من آثار الواقع جواز الشهادة به فاسد لما تقدم ص 334 و هكذا يجوز الشهادة به للاستصحاب و لقيام البينة عليه.

[حكم الحاكم إذا قامت الشهادة عليها]

(ثمَّ هذا الذي ذكرناه) إنما هو في بيان وظيفة الشاهد في أداء الشهادة بالعدالة أما الحاكم فهل يجب عليه الحكم بها أو يجوز له أو يحرم عليه إلا مع بيان السبب فان الوجوه المتقدمة إنما تدل على جواز الشهادة بواسطة قيام الدليل المعتبر و ليس لها دلالة على وجوب قبول الحاكم لها. فإنه يمكن التفكيك بينهما ألا ترى انه لا إشكال في جواز الشهادة بالجرح و التعديل المطلقين للعالم بهما و لكن عند الأكثر انه لا يجب على الحاكم بل لا يجوز الحكم بها إلا مع بيان السبب أو اتفاق الشاهد مع الحكم في أسبابهما. (و كيف كان) فقد استدل صاحب المستند على عدم كفاية الإطلاق في الشهادة و انه لا بد من بيان المستند لها من انه الحس أو اليد أو الاستصحاب أو البينة و نحو ذلك مما هو مستند الشهادة بوجهين:

(أحدهما) إن الشهادة اختلفوا في المستند لها، فبعضهم خصه بالحس و لم يكتفي بغيره و المكتفون بغيره اختلفوا فيما بينهم منهم من اكتفى بالاستفاضة الظنية، و منهم من اكتفى بالاطمئنان الى غير ذلك من وجوه الاختلافات فيما بينهم، و مع هذا الاختلاف و تشتت الآراء كيف يعلم الحاكم يتحقق ما هو الشهادة الصحيحة عنده بمجرد الشهادة المطلقة حتى يجوز له

أو يجب عليه الحكم بها.

و الأصل تحقق عدمها و عدم تحقق الشهادة المقبولة. و (دعوى) ان العدالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 338

مانعة من الشهادة المطلقة مع الاختلاف في المستند فمع إطلاق الشهادة يعلم انه أراد ما هو المجمع عليه أو المقبول عند الحاكم.

(فاسدة) لأن العدالة لا تستلزم الاطلاع على هذه الاختلافات و لا تنافي البناء على مذهبه أو مذهب مجتهده مع انه قد لا يوافق رأي الحاكم. و لا يخفى ما فيه فان عموم ما دل على حجية البينة يقتضي قبول الحاكم ذلك لأنها من أجلي أفراد البينة و لما في صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه (ع) إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. نعم للحاكم أن يستفسر من الشاهد عن مستند شهادته و يتفحص عن الواقعة كما يظهر من أحوال أمير المؤمنين (ع) في قضائه.

(الثاني) إن الشهادة إخبار عما شاهده و عاينه و لم يعلم شمولها لما كان مستندها غير الحس فلا يدل عمومات قبول الشهادة على وجوب قبول الخبر الكذائي في ترتيب الحكم عليه و الأصل عدمه. و فيه ان الأدلة التي دلت على جواز الشهادة بواسطة تلك الأمور كانت تدل على ان تلك الأمور بمنزلة الحس و المشاهدة فهي توسّع موضوع قبول الشهادة نظير أصل الطهارة الموسع لموضوع الطهارة على انا لا نسلم عدم شمول أدلة قبول الشهادة للشهادة المستندة للأدلة المعتبرة. كيف و قد أطلق الإمام (ع) الشهادة على ذلك أو أمضي إطلاقها عليه كما تقدم في رواية حفص ص 335 و مكاتبة الصفار الصحيحة المتقدمة ص 336 و صحيحة ابن وهب أو حسنته قال قلت له ان ابن ابي ليلى يسألني الشهادة على ان هذه الدار مات

فلان و تركها ميراثها و انه ليس له وارث غير الذي شهدنا له فقال: اشهد فإنما هو على علمك. قلت: ان ابن أبي ليلى يحلفني الغموس قال احلف انما هو على علمك. فان ترك الميت للدار ميراثا و انتفاء وارث آخر له ليس إلا باستصحاب الوجود في الأول و العدم في الثاني. و موثقته الأخرى الرجل يكون له العبد و الأمة قد عرفت ذلك فيقول: أبق غلامي أو أمتي فيكلفونه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 339

القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته لم يبع و لم يهب فنشهد على هذا إذا كلفناه قال (ع): نعم فإنه أطلق الشهادة على الأخبار بأن هذا غلامه و هذه أمته و هو إنما يكون بالاستصحاب لبقاء العبودية و الامام (ع) أمضى هذا الإطلاق الى غير ذلك مما يعلم منه إن الاخبار عن الشي ء بواسطة الاستناد لدليل معتبر يسمى شهادة مضافا الى أن كون الشهادة بمعنى المعاينة لا يوجب عدم شمول أدلتها لما استند الى الدليل المعتبر فإن أدلتها منها ما هو بلسان البينة و منها بلسان اخبار ذي العدل و نحو ذلك لا بلفظ الشهادة.

[الفائدة] (الرابعة) كفاية الواحد في تزكية الراوي

قد تقدم ص 291 عدم طريقية الخبر الواحد للعدالة و لكن القوم حتى القائلين بعدم حجية خبر الواحد في العدالة اختلفوا في عدالة الراوي و جرحه هل يكفي فيهما الواحد أو لا بد من التعدد؟ المشهور بين الأصحاب بل أكثرهم ذهبوا الى الاكتفاء بالعدل الواحد في تزكية الراوي و جرحه دون الشاهد و نحوه مما يعتبر فيه العدالة و هو المحكي عن الشيخ و العلامة (ره) و سائر المتأخرين و ذهب القليل الى خلافه فاشترطوا في التزكية و الجرح شهادة عدلين

و الذي استدل به على ما ذهب إليه الأكثر وجوه:

«الأول» ما ذكره العلامة (ره) في كتبه الأصولية و حاصله ان الرواية تثبت بخبر الواحد و شرطها تزكية الراوي و شرط الشي ء لا يزيد على أصله و بعبارة أخرى انه كيف يحتاط في الفرع بأزيد مما يحتاط في الأصل. (و أجيب عنه) بعدم الدليل على نفي زيادة الشرط على المشروط و انها مجرد دعوى لا برهان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 340

عليها مضافا الى كثرة وقوع ذلك في الأحكام الشرعية فإن عدالة الشاهد الواحد شرط لشهادته مع انها لا تثبت إلا بشاهدين و الايمان شرط لصحة الصلاة مع أن الايمان لا بد فيه من الاجتهاد و الصلاة يكفي فيها التقليد بل قيل ان شرط الشي ء يكون هو الأصل للشي ء لتوقف الشي ء عليه. و عليه فيجوز أن يكون الأمر فيه أهم.

«الثاني» آية النبإ و هي قوله تعالى إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فكما دلت على التعويل على رواية الواحد كذلك دلت على التعويل على تزكيته و فيه انه قد أثبتنا في الأصول عدم دلالتها على قبول خبر الواحد العدل.

«الثالث» بما دل على قبول خبر الواحد العدل فإنه كما يدل على قبول خبره في الأحكام الشرعية يدل على قبول خبره في العدالة. و فيه أنها إنما تدل على قبوله في الأحكام الشرعية لا في الموضوعات الخارجية كالعدالة و لو سلمنا عمومها للموضوعات الخارجية فهي مخصصة بأدلة البينة فإنه مقتضى اعتبارها في الموضوعات هو عدم اعتبار الشاهد الواحد فيها و إلا لاكتفى الشارع به من دون حاجة لاعتبار البينة على انه في شمولها للأخبار العادل بعدالة شخص مشكل نظير ما إذا قال قول المجتهد حجة فان

في شموله لأخبار مجتهد باجتهاد شخص محل اشكال و ذلك لأن الظاهر ان الاجتهاد يكون ثابتا للمخبر في حد ذاته لا من جهة ثبوت هذه الحجية فهكذا الأدلة الدالة على حجية خبر العدل فإنها إنما تدل على حجية خبر الشخص الثابت له العدالة لا من جهة هذه الحجية.

«الرابع» ان المدار في أمثال زماننا بتزكية الشيخ (ره) و النجاشي و الكشي و العلامة و أمثالهم و هم ينقلون تعديل أكثر الروايات عن غيرهم و لم يعلم نقلهم لها عن اثنين عادلين. فالقول باشتراط التعدد في أمثال زماننا لازمه عدم معرفة عدالة الراوي لأن هؤلاء المذكورين لم يعرفوا العدالة بالمعاشرة و لم يعلم نقلهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 341

لها عن شاهدين عادلين قال الشيخ البهائي فيما حكي عن كتابه مشرق الشمسين و لقد بالغ بعض المعاصرين قدس سره و عنى به صاحب المعالم في الإصرار على اشتراط العدلين في المزكي نظرا الى أن التزكية شهادة و لم يوافق على تعديل من انفرد الكشي أو الشيخ الطوسي أو النجاشي أو العلامة مثلا بتعديله و جعل الحديث الصحيح عند التحقيق منحصرا فيما يوافق اثنان فصاعدا على تعديل رواته و يلزمه عدم الحكم بجرح من تفرد أحد هؤلاء بجرحه و هو يلتزم بذلك و لم يأت على هذا الاشتراط بدليل عقلي يعوّل عليه أو نقلي يركن اليه و لعلك قد أحطت خبرا بما يتضح به حقيقة الحال و مع ذلك فأنت خبير بأن علماء الرجال الذين وصلت إلينا كتبهم في هذا الزمان كلهم ناقلون تعديل أكثر الرواة عن غيرهم. و توافق اثنين منهم على التعديل لا ينفعه في الحكم بصحة الحديث إلا إذا ثبت أن مذهب

ذينك الاثنين عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بالعدل الواحد و دون إثباته خرط القتاد بل الذي يظهر خلافه. كيف لا و العلامة مصرح في كتبه الأصولية بالاكتفاء بالواحد و الذي يستفاد من كلام الكشي و النجاشي و الشيخ و ابن طاوس (ره) و غيرهم اعتمادهم في التعديل و الجرح على النقل عن الواحد كما يظهر لمن تصفح كتبهم فكيف يتم لمن يجعل التزكية شهادة أن يحكم بعدالة الراوي بمجرد اطلاعه على تعديل اثنين من هؤلاء انتهى. (و فيه) انه لا بد و أن تكون تزكيتهم على وجه المعاشرة أو الاطلاع على حسن الظاهر المبيح للشهادة بالعدالة و نحو ذلك من الطرق المبيحة للشهادة بها المتقدمة ص 333 لئلا يلزم التدليس على من تأخر عنهم (و التحقيق) كما يقتضيه النظر الدقيق هو أن المعتبر في الراوي عند الأكثر هو الوثوق به أو الظن بعدالته حتى استدل بعضهم على ذلك بأن معظم الأحكام مستفاد من أخبار الآحاد و أغلب أحوال رجالها مظنونة فلو لم يعمل بالظن فيها لزم هدم الشريعة و بطلان أحكام الشيعة، و لعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 342

بعضهم أراد بعدالة الراوي هو ذلك و من المعلوم ان الوثوق يحصل بذلك بل بالأدنى منه. و أما العدالة عند من يعتبرها في الراوي فلا مناص له من الالتزام في ثبوتها بشهادة عدلين كما هو الشأن في سائر الموضوعات الخارجية. و ذلك لأن الأخبار عنها إنما يكون حجة من باب الشهادة و الشهادة على الموضوعات الخارجية بمقتضى القاعدة لا بد فيها من تعدد الشاهد.

(إن قلت): انه يكون من باب أخبار أهل الخبرة كأخبار الطبيب بالمرض فيكفي فيها الواحد. (قلنا): مع انه يمكن المناقشة

في اعتبار الواحد من أهل الخبرة و لذا اعتبر التعدد في الشهادة على إنبات اللحم و شد العظم في الرضاع مع كون المرجع فيه أهل الخبرة. و أما مثل اخبار الطبيب المبيح للإفطار أو التيمم فهو إنما يكون من باب حصول الظن بالضرر للإجماع على اعتبار مطلق الظن بالضرر، سلمنا ذلك لكنه لو كان من باب اخبار أهل الخبرة لما كان وجه لاشتراط العدالة في المخبر فإن أهل الخبرة يشترط في قبول خبرهم المعرفة و الوثوق، سلمنا ذلك لكن كان عليهم أن يقيدوا خبر الواحد بكونه من أهل المعرفة و الاطلاع بالعدالة. سلمنا ذلك لكن يمكن للخصم أن يقول إنما يكون اخبار أهل الخبرة حجة في الأمور الخفية التي يختص الاطلاع عليها بطائفة مخصوصة و العدالة ليست منها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 343

(الشرط السابع عشر في المفتي) الحياة
اشارة

(الشرط السابع عشر في المفتي الحياة) فلا يجوز تقليد الميت نقل والدي المرحوم الحجة الشيخ محمد رضا شبل المرحوم الحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء عن شيخه (ره) (و لعله الحجة النائيني) انه قال لي بعض العلماء ان وجوب تقليد الأعلم و عدم جواز تقليد الميت مسئلتان مسلمتان عند الإمامية و اني لا أرى فيهما دليلا قاطعا فقلت له ان اساسهما مسئلة الإمامة فإن الإمامية أوجبوا في الإمامة ان لا يكون المفضول اماما مع وجود الفاضل و أوجبوا أيضا ان يكون الامام حيا و هاتان المسئلتان يرتضعان من ذلك الثدي فقال كشفت عني كربة أقول و نعم ما قال شيخنا (ره) انتهى أقول لعل نظرهم الى ان المجتهد نائب عن الامام (ع) فاذا كان الأصل لا يجوز فيه ذلك فبالطريق الاولى الفرع و من يقوم مقامه: و سيجي ء ان شاء

اللّه توضيح ذلك و تحقيقه منافي الأدلة الدالة على المنع من تقليد الميت (ثمَّ ان وظيفة العامي) في هذه المسألة ان ادى نظره و اجتهاده المعتبر في نظره الى شي ء أخذ به و الا قلد فيها من هو متيقن عنده صحة تقليده فيها مع تمكنه من الرجوع اليه و لا يصغي لما ذكره بعض المعاصرين من رجوعه إلى الحي لأنه قدر متيقن عنده إذ من المحتمل انه لم يكن قدرا متيقنا عنده فالحق انه يلزم اجتهاده فيها بنحو يرى تقليد الميت صحيحا و ان عجز رجع لمن يعتقد بصحة تقليده فيتبع فتواه كما هو شأن سائر المسائل و سيجي ء ان شاء ا؟؟ ه في اشتراط الأعلمية في هذا المقام ما ينفعك، و اما حكم هذه المسألة الذي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 344

يفتي به المفتي لو رجع له العامي فيها فقد اختلف القوم في ذلك على أقوال:

[الأقوال في هذه المسألة أعني مسألة تقليد الميت]
(أولها) القول باشتراطها

و هو المعروف عن الإمامية حتى ادعى المحقق النراقي في المناهج الإجماع المحقق عليه و استدل عليه في المفاتيح بظهور اتفاق الإمامية عليه و عن الشهيد الثاني (ره) في المسالك عدم وجود المخالف في ذلك و عن المعالم الإطباق من الأصحاب على عدم الجواز.

(و ثانيها) القول بعدم الاشتراط و جواز تقليد الميت

و هو المعروف عند المخالفين بل في المحكى عن المنهاج إجماع العامة على جواز تقليد الميت و لذا صار بنائهم على تقليد أئمتهم الأربعة و على الاجتهاد في أقوالهم و خالفهم في ذلك الإمام الرازي فمنع من تقليد الميت لأنه لا بقاء لقول الميت و قد ذهب اليه من أصحابنا المحقق القمي (ره) فجوز تقليد الأموات كما هو المحكي عن أجوبة مسائله و هو المحكي عن جماعة من الأخباريين و في المحكي عن منية الممارسين للمحدث السماهيجي حيث ذكر في جواب من سأله عن الفرق بين المجتهدين و الأخباريين ثلثة و أربعين فرقا و عد من جملتها اختلافهم في هذه المسألة الا ان التحقيق ان الأخباريين لم يخالفوا الأصحاب في هذا المقام و ذلك لأن الأخباريين منعوا من الاجتهاد و أنكروا الفتوى التي هي من فروعه فيكون العمل عندهم بها باطل من غير فرق بين حياة المفتي و مماته فهم لم يخالفوننا في هذا المقام و انما خالفوننا في أصل التقليد و العمل بالفتوى و اما رجوعهم للعلماء انما هو في العمل بالرواية المنقولة بألفاظها أو بمعناها لأنهم أطبقوا على عدم العمل بالفتوى و جعلوه قولا بالرأي الممنوع عنه في الاخبار فمعنى جواز تقليدهم للأموات هو العمل برواياتهم و هذا المعنى لا ينكره الأصحاب فالجواز لتقليد الأموات الذي يقول به الأخباريون يقوله الأصحاب و لا ينكره أحد منهم فمن الغريب عد

الأخباريين من المخالفين في هذا الباب و اللّه العالم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 345

(ثالثها) القول بالتفصيل بين وجود الحي و إمكان التوصل له، فالمنع

و بين صورة فقده أو عدم إمكان التوصل اليه فالجواز. و هذا القول محكي عن العلامة (ره) نقله عنه ولده السعيد فخر المحققين و استبعده و حمله على محمل آخر كما حكي استبعاده عن المفاتيح. و أيضا حكي هذا القول عن المقدس الأردبيلي رحمه اللّه و الشيخ سليمان البحراني و الشيخ علي بن هلال. و ربما يقال ان هذا ليس تفصيلا في المقام فان الكلام إنما هو في الجواز عند التمكن من استعلام حال الواقعة من الحي و أما عند عدمه فللكلام محل آخر. و لكن لا يخفى ان من أصحاب القول الأول من صرح بالمنع حتى عند عدم التمكن من الحي لفقده أو تعذر الوصول اليه كما هو المحكي عن الشيخ علي (ره) في حاشيته على الشرائع و عن صاحب الرياض و عن بعض شراح الجعفرية.

(رابعها) القول بالتفصيل بين من علم من حاله انه لا يفتي إلا بمنطوقات الأدلة

و مدلولاتها الصريحة أو الظاهرة الواضحة كالصدوقين (ره) و من شابههما من القدماء فالجواز و بين من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل بالإفراد الخفية للعمومات أو اللوازم الغير البينة اللزوم للملزومات فالمنع و هذا القول هو المحكي عن الفاضل التوني (ره) في الوافية و لكن الظاهر ان الفاضل التوني قد منع من تقليد المفتي المذكور حيا و ميتا فلم يكن ذلك تفصيلا في المقام منه و إنما هو منع من أصل التقليد في الفتوى.

(خامسها) التفصيل بين ما إذا كانت فتوى الحي مخالفة لفتوى الميت فالمنع

و بين صورة ما إذا كانت موافقة فالجواز.

(سادسها) القول بالتفصيل بين التقليد الابتدائي بأن يقلد الميت ابتداء و بين التقليد الاستمراري

بأن يبقى على تقليد الميت بعد أن قلده و هو حي فيمنع من الأول دون الثاني و قد نسب هذا التفصيل لجدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 346

و لصاحب الفصول و شريف العلماء و السيد في المفاتيح و صاحب الضوابط، و لكن المشهور المنع من تقليد الميت مطلقا ابتداء و استمرارا.

و تحقيق الحق في هذا المقام يستدعي ذكر أدلة الأقوال أو ما يمكن أن يكون دليلا لها و بيان ما قيل فيها أو يمكن أن يقال فيها فنقول و الاستعانة باللّه تعالى. انه عرفت فيما سبق ان العاجز عن الاجتهاد في هذه المسألة يرجع لما يحكم عقله بها و إذا كان عاجزا عن ذلك يرجع لمن يحرز جواز تقليده فيها

[أدلة القول الأول، و هو المنع من تقليد الميت مطلقا]
اشارة

فمحل كلامنا هنا إنما يكون فيما هو مقتضى الأدلة ليفتي به المجتهد عند رجوع العامي إليه في ذلك فنقول: احتجوا للقول الأول و هو المنع من تقليد الميت مطلقا بأدلة كثيرة:

(الأول) أصالة حرمة العمل بالظن

التي دلت الأدلة الأربعة عليها كما في رسائل الشيخ الأنصاري (ره) أو لأصالة حرمة التقليد المستفادة من الكتاب خرج عنها فتوى الحي إجماعا و بقي الموارد المشكوكة تحت الأصل المذكور و منها فتوى الميت. و (دعوى) ان اختصاص الإجماع المذكور بالحي غير صحيح لأن السلف كانوا يعملون بفتاوى علي بن بابويه عند إعواز النصوص.

(فاسدة) لأنه قد صرح الأنصاري (ره) بأن تلك الفتاوى ليست بمنزلة الفتاوى المعمولة عندنا فإن أمثالها من فتاوى أصحاب الأئمة (ع) تكون مضامين الروايات كما يرى الأخباريون ذلك في مطلق الفتاوى التي يعملون بها حيث انها عندهم إخبار منقولة بالمعنى و هي حجة للمجتهد و المقلد إذا جمعت شرائط حجية الرواية عنده و من اطلع على حال السلف و كيفية الاستفتاء و الإفتاء يقطع بذلك، و يكفيك شاهدا في المقام ما قاله العمري بعد ما سئل عن كتب الشلمغاني فإنه قال: أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني فضال خذوا ما رووا و ذروا و ما رأوا فإنه (ره) أفتى بنص الرواية و هذا النحو من الفتيا كان مختصا بزمان الأئمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 347

عليهم السلام و ما قاربه حيث لم يكن الفقه و الاستنباط بهذه الصعوبة. (و لا يخفى ما فيه) فان هذا الدليل يرجع الى دعوى أن أدلة التقليد مختصة بالحي و الخصم يدعي شمول الأدلة الدالة على حجية التقليد لمطلق الفتوى سواء كانت للحي أو للميت فتكون مخرجة لفتوى الميت عن

أصالة الحرمة فلا بد من النظر في أدلة التقليد. و قد ادعى الأستاذ (كاره) إن أدلته إذا كانت أدلة حجية الخبر فهي فيها إطلاق للحي و الميت انتهى. (إلا اللهم) أن يدعى ان هذا الأصل إنما يقال مع قطع النظر عن الأدلة و يتمسك بالفطرة في حجية التقليد إذ مع إجمال أدلته لا شمول لها و يكون الأصل هو الجاري.

(الدليل الثاني) ان الأمر دائر بين التعيين و هو الأخذ بقول الحي و بين

التخير بينه و بين الأخذ بقول الميت و العقل حاكم بوجوب الأخذ بما احتمل تعينه للقطع بفراغ الذمة به.

(إن قلت): إن هذا الأصل إنما يتم على مذهب من يبني على الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين التعيين و التخيير في مثل خصوص الرقبة المؤمنة أو مطلق الرقبة و أما على مذهب من يبني على البراءة من الكلفة الزائدة فلا يتم هذا الأصل كأن نقول انا نعلم بوجوب التقليد و نشك في الزائد و هو خصوص الحي. (قلنا): فرق بين الطريق و غيره فإن الأصل في الطرق الغير العلمية هو الحرمة إلا ما خرج بالدليل و أما في التكاليف فالأصل هو البراءة. و ذلك لأن عدم وجوب الكلفة الزائدة في مثل الرقبة المؤمنة يقتضيه أصل البراءة و فيما نحن فيه يرجع الى الشك في التخصيص الزائد لعمومات النهي عن العمل بغير العلم فانا نشك انها خصصت بفتوى العالم الميت كما خصصت بفتوى الحي أم لا و هو شك في زيادة التخصيص المنفصل. و لا ريب انه يتمسك فيه بأصالة العموم و ينفى الزائد المشكوك من التخصيص.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 348

(إن قلت): إن الشك هنا يرجع الى أن الحياة من المرجحات لفتوى الحي على الميت عند التعارض بينهما أم لا؟ و الأصل عدم

المرجحية لأن المرجحية أمر توقيفي كالحجية و الأصل عدمه. (قلنا): إن هذا الأصل لما كان يرجع الى زيادة التخصيص للعمومات الناهية عن العمل بغير العلم. و قد عرفت ان زيادة التخصيص منفية بأصالة العمومات المذكورة فيكون دليلا لفظيا على نفيها فكيف يرجع لأصالة عدم المرجح.

(ان قلت): ان هذا الأصل يعارضه الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل و ذلك انه في صورة ما إذا قلد شخصا ثمَّ مات فيستصحب جواز تقليده و بضميمة عدم الفصل يتم المطلوب. (قلنا): مضافا الى أن عدم الفصل لا يتم فيما أثبته الأصل كما قرر في محله ان القول بالفصل غير ثابت لكثرة من قال بجواز تقليد الميت بقاء لا ابتداء.

(ان قلت): ان الاحتياط في هذه المسألة ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعية كما إذا كان قول الميت موافقا للاحتياط. (قلنا):

ان الاحتياط في المسألة الأصولية مقدم على الاحتياط في المسألة الفرعية بقاعدة المزيل و المزال.

(ان قلت): قد يكون الميت أعلم فحينئذ يحتمل تعيين الأخذ به و لا يقطع بفراغ الذمة بالأخذ بقول الحي. (قلنا): قام الإجماع على عدم وجوب تقليد الميت الأعلم فلا يحتمل تعيين وجوب الأخذ به. (و الجواب عن هذا الدليل الثاني) ان هذا الأصل معارض بالاستصحاب الذي سيجي ء بيانه في أدلة المجوزين في الدليل الثالث لهم و باطل فيما إذا كان قول الميت موافقا للأصل إلا اللهم ان يقال انا نتكلم مع قطع النظر عن الأدلة و نقول ان الضرورة اقتضت حجية قول المجتهد و قد دار الأمر بين قول الحي و بين قول الميت و حيث ان العقل قام عنده احتمال الترجيح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 349

للحي فلا يحكم بالتخير لأن الذمة مشتغلة بالتكليف

فلا بد أن يرجع لما هو مقطوع البراءة به عن التكليف عنده و هو قول الحي. إلا ان هذا لا يتم في الميت إذا كان فيه مزية محتملة للترجيح على الحي كما إذا كان الميت أعلم أو كان الحي أعمى أو نحو ذلك و لا يتم في الميت الذي كان العامي قد قلده لعدم القطع حينئذ بترجيح الحي على الميت.

و الإجماع المدعى على ترجيح الحي على الميت حتى في هذين الصورتين مضافا الى انه خروج عن محل البحث لأن الكلام مع قطع النظر عن كل دليل انه غير مسلم في الصورتين المذكورتين.

(الدليل الثالث) الإجماع من الإمامية على حرمة العمل بقول الميت

و يمكن استعلامه من كلمات علمائهم فقد نقل عدم الخلاف في ذلك عن المحقق الثاني في شرح الألفية و عن المسالك و نقل الإجماع على ذلك عن المعالم و آداب المعلم و المتعلم و عن ابن أبي جمهور الأحسائي، و عن الوحيد البهبهاني (ره) في فوائده و قد تمسك به جملة من علماء العصر، قال عمنا الأعلى الشيخ حسن في شرح مقدمة كشف الغطاء ان الإجماع المنقول مع الشهرة العظيمة المحصلة و السيرة المستمرة و الطريقة المستقيمة من أقوى الأدلة على المنع من تقليد الأموات و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه. و أما ما ذكره الشهيد الأول في الذكرى من خلاف بعض العلماء فهو كما يراه الشهيد الثاني من أن العلماء يعم العامة و الخاصة فلعل نظره الى العامة و أما مخالفة الأخباريين فقد عرفت ان ذلك بواسطة تخيلهم أن الجائز من الفتوى هو الرواية المنقولة بالمعنى و لا ريب ان الرواية المنقولة بالمعنى يجوز العمل بها و ان كان الراوي ميتا، و أما مخالفة القمي (ره) فالظاهر انها من جهة تخيله الانسداد

على ان الإجماع متحقق قبل زمانه فلا تضر مخالفته. و أما دعوى مخالفة الصدوق (ره) كما أشار إليها في الوافية حيث قال و أيضا ابن بابويه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 350

صرح بجواز العمل بما في كتابه من لا يحضره الفقيه مع انه كثيرا ما ينقل فتاوى أبيه. (فاسدة) لأنه لم يعرف ذلك عن الصدوق و تجويزه العمل بفتاوى أبيه (ره) لأنها مضامين الروايات المعتبرة عنده لا أنها فتاوى كما هو الحال في كتاب الهداية لشيخنا الصدوق (ره) فإنه مأخوذ من متون الأخبار و هذا هو الذي بعث صاحب البحار على إدراج فتاويه في ضمن ما جمعه من الأخبار و هكذا يقال مثل ذلك في كتاب المقنع للصدوق (ره) أيضا، و في المحكي عن السرائر، ان كتاب نهاية الشيخ الطوسي (ره) كتاب خبر لا كتاب بحث و نظر. و لا يخفى ما فيه فإنه من المحتمل ان هؤلاء المجمعين قد استندوا الى دليل لو اطلعنا عليه لم يكن معتبرا عندنا: مع ان حمل ما ذكره الشهيد الأول على العامة لا دليل عليه بل هو خلاف الظاهر: مع ان ما حكي عن الجعفرية و شرح الإرشاد للأردبيلي من انه قول الأكثر يظهر منه وجود المخالف من عندنا و إلا فقول الإمامية ليس بأكثر من العامة إلا اللهم أن يكون صاحب الجعفرية و شرح الإرشاد لم يتفحصا فعبرا بما هو المتيقن لهما: و عن شرح الجعفرية للفاضل الجواد ان جواز تقليد الميت قول بعض علمائنا و لعله أراد الأخباريين، و يؤيد ذلك ما ذكره صاحب المعالم و غيره من تقليد المتأخرين للشيخ الطوسي (ره) في الفتوى الى أن فتح الحلي باب الاجتهاد. و دعوى

إن هذه المسألة مستحدثة إذ لم يكن المعروف في زمان الأئمة (ع) التقليد بين أتباعهم و إنما كانوا يعملون بالروايات فالإجماع فيها غير معتبر. (فاسدة) فإن الفتوى كانت موجودة بينهم كما تدل عليه أخبار التقليد التي نقلناها في مبحث التقليد كيف و التقليد كان في عصر الأئمة (ع) فإن أهل المذاهب من أهل السنة كانوا في عصرهم عليهم السلام.

(الدليل الرابع) ما احتج به المحقق الثاني في حاشية الشرائع تبعا للعلامة و هو مؤلف من مقدمتين:

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 351

(إحداهما) ان المفتي إذا مات سقط قوله بموته بحيث لا يعتد به.

(و ثانيهما) ان ما هذا شأنه لا يجوز الاستناد اليه و لا العمل به شرعا.

«أما الأولى» فللإجماع على أن خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل العصر يمنع من انعقاد الإجماع اعتدادا بقوله فاذا مات و انحصر أهل العصر بالمخالفين له انعقد الإجماع و صار قوله لا يعتد به و لا يعتنى به شرعا.

«و أما الثانية» فظاهرة. (و جوابه) ان هذا إنما يوجب عدم الاعتداد بقوله في الصورة المذكورة أما لو فرض ان أهل عصره مختلفون في الفتوى بحيث يكون موته غير موجب لانعقاد الإجماع فلا دليل حينئذ على عدم الاعتداد بقوله. مضافا الى ان هذا مبني على طريقة خاصة في استفادة رأي المعصوم من الإجماع و لعلها قريبة من طريقة اللطف في الإجماع و هي طريقة قد قرر في محله عدم صحتها فلا تصلح دليلا على عدم الاعتداد بقول الميت.

(الدليل الخامس) ما احتج به أيضا المحقق الثاني في حاشيته على الشرائع من ان دلائل الفقه لما كانت ظنية

لم تكن حجيتها إلا باعتبار الظن و الفهم الحاصل منها و هذا الظن و الفهم يمتنع أن يبقى بعد الموت لضعف الإدراكات بضعف الأبدان و لذا يذهب الظن و يزول العلم بضعف البدن بهرم أو مرض أو حال النزع و قد أخبر بذلك اللّه تعالى في محكم كتابه وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لٰا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً و عليه فتبقى الفتوى خالية عن السند بعد الموت فكما انه تزول حجية الفتوى بتبدل نظر المجتهد لأنه يزول مستندها فكذا إذا مات زال مستندها فتزول عنها الحجية و تخرج عن كونها معتبرة شرعا و لا ينقض بالغفلة و الاغماء و النوم لوجود الظن في خزانة

النفس. و فيه انه منقوض بصورة النسيان للمستند فإنه عند النسيان تبقى الفتوى معتبرة شرعا مع ذهاب الظن عن خزانة النفس عند النسيان و قد تقدم ذلك في مبحث وجوب تجديد النظر على المجتهد. ثمَّ انه منقوض بالرواية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 352

أو نقل رأي لشخص. فإنها يقال فيها انها لا تكون حجة إلا باعتبار العلم بصدورها أو الظن المعتبر كما لو رآها مكتوبة بكتابه مع ذهاب العلم أو الظن المعتبر بموته. (وحلة) ان المستند لفتوى المجتهد نظير سائر الآراء في سائر العلوم هو الدليل الذي اعتمد عليه حال صدورها فبقاؤها أمر اعتباري يستند الى ذلك الدليل الذي كان في وقته. و الأمور الاعتبارية حدوثها يحتاج الى سبب و علة و أما بقائها فهو يستند الى اعتبار المعتبرين ألا ترى ان إعطاء المنزلة لشخص أو جعل صفة اعتبارية له كالزوجية يحتاج في حدوثه لسبب ثمَّ يكون بقائها تابع لاعتبار المعتبرين، فالفتوى نظير الشهادة و الإقرار و اخبار ذي اليد في أن إبقائها إنما يكون بمجرد قيام الدليل عليها في نفس المفتي مع عدم تبدل رأيه فيها حتى لو نسي الاستدلال عليها أو ذهل عنه نظير العقد الذي هو سبب للزوجية فتنسب الفتوى للمفتي و الرأي لصاحبه بمجرد صدورهما منهما علي سبيل اليقين دون أن يبطلهما و يعدل عنهما. و لذا ترى العقلاء ينسبون الفتاوي للمجتهدين الأموات و يقولون أن فتواه كذا و ينسبون الآراء للأموات من العلماء و الفنيين و يقولون رأيهم كذا. و ليس ذلك إلا من جهة ان بقائهما أمر اعتباري و ليس بحقيقي و إلا فهما يعدمان بمجرد صدورهما و الغفلة عنهما. و الأمور الاعتبارية تابعة لمقدار اعتبار

المعتبرين. و العقلاء هم يعتبرون بقاء الرأي و الفتوى بمجرد صدورهما عن عقيدة مع عدم العدول عنهما. و عليه فيرتب آثار الوجود للفتوى لأن وجودها إنما يكون بهذا النحو كما يرتب الآثار على الوجود الاعتباري للزوجية بمجرد العقد من دون إبطاله و إفساده سواء كانت آثار شرعية كجواز العمل شرعا بالفتوى أو عقلية كالتناقض مع غيرها أو عرفية كتسمية صاحبها بالفقيه أو المجتهد أو المتبحر لأن وجودها الواقعي إنما يكون بهذا الحد و هذا النحو شأن سائر الاعتباريات. و إنما لم يرتب الأثر عليها إذا كان المعتبرون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 353

لا يعتبرونها و يرونها معدومة كما إذا عدل عنها صاحبها. و أما بالموت فهم يرون البقاء لها و لذا تنسب للمفتي بعد موته. و (الحاصل) ان مستند بقائها هو ذلك لا ظنون المجتهد و العالم. و أما الدليل عليها فلا يلزم استحضاره في صحة العمل بها فان العمل بها مرتب على نفسها لا على دليلها كما هو ديدن العقلاء في العمل بآراء الأطباء و أصحاب الفن. و لعل ذلك هو المراد من قول والدي الرضا (ره) في حاشيته على الكفاية ان بقاء الرأي ليس عبارة عن استحضاره و الالتفات اليه فعلا و إلا لكان النائم و الغافل ليس له رأي و إنما المناط في بقاء الرأي عدم التردد فيه و العدول عنه كان ذو الرأي حيا أو ميتا و لا نسلم تقومه بالحياة حتى في نظر العرف فإن الرأي رأي فلان ما لم يعدل عنه حيا كان أو ميتا، و لذا تنسب الآراء إلى الأموات. (نعم) الكلام في حجية الرأي فقد يقال انه بالموت نشك في حجيته فنقول: ان دليل

التقليد اما العقل و الفطرة و هو لا يفرق بين الحي و الميت. و أما النقل فلاشتراك الأدلة بين التقليد و الرواية و لا ريب ان الرواية لا يشترط فيها ذلك انتهى. مضافا الى ان للخصم أن يطلب البرهان من المستدل على المقدمة المذكورة في دليله و هي خروج الفتوى عن الحجية عند الشرع عند ذهاب المستند بالموت.

(و الحاصل) ان مقدمته القائلة بأن الفتوى قد ذهب مستند بقائها بالموت غير صحيحة لأن مستند بقائها ليس إلا اعتبار المعتبرين و هو موجود بعد الموت سلمنا ذهاب المستند لكن للخصم أن يقول لا نسلم عدم اعتبارها شرعا بذهاب مستندها بالموت (و دعوى) انها يزول مستندها بالعدول فكذا بالموت (فاسدة) فإن بالعدول يبطل المستند و يكون فاسدا بخلاف الموت فإنه لا يفسده و لا يبطله و لذا تعتبر انها رأي للميت و لا تعتبر انها رأي للذي عدل عنها و هذا نظير الرواية فإنه لو اعترف الراوي بخطئه في روايته لا تقبل منه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 354

(إن قلت) ان الفتوى تزول حجيتها بالجنون أو الهرم أو الإغماء بالإجماع و ما ذلك إلا لكون الرأي موضوعا لها و هو يزول بتلك الأمور فكذا يزول بالموت. (قلنا) لا نسلم زوال حجيتها بذلك، نعم لا يقلد في آرائه المستحدثة بعد عروض تلك الأمور عليه، و أما نفس فتواه السابقة فلا تزول حجيتها بذلك. و دعوى الإجماع في مثل هذه المسائل التي يقل التعرض لها و مستحدثة غير مقبولة مضافا الى احتمال استناد المجمعين الى ما ذكره الخصم من تخيل ذهاب الرأي بذلك فلا يكون الإجماع كاشفا عن رأي المعصوم عليهم السّلام.

(الدليل السادس) انه لو جاز تقليد الميت مع انه يجب تقليد الأعلم لزم التكليف بما لا يطاق

إذ أنه حينئذ يجب أن نقلد

الأعلم من العلماء الأحياء و الأموات مع انه لا نتمكن من معرفة الأعلم في الأزمنة السابقة. (و أجيب عنه) بأن معرفة الأعلم في الأموات ليس بأشكل من معرفته في الأحياء بل لعله أسهل، و لو سلمنا ذلك فنقول بسقوط التكليف بتقليد الأعلم لعدم التمكن منه لا انه يوجب حرمة تقليد الميت. و أجاب عنه المرحوم الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة في شرحه لمقدمة جدنا كاشف الغطاء (ره) بأن معرفته ممكنة و مع عدم المعرفة فالأصل عدم التفاضل، انتهى. و لكن لا يتم هذا الأصل بناء على ان الأفضلية شرط و إنما يتم بناء على انها مانعة.

(الدليل السابع) إن وجوب تقليد الأعلم مع جواز تقليد الميت يوجب عدم جواز تقليد الاحياء

في الغالب إذ قل ما يتفق أن يعلم الأعلم في الاحياء حتى بالنسبة إلى الأموات فالإجماع على وجوب تقليد الأعلم في الاحياء دليل على ان الأموات لا عبرة بأقوالهم و هذا الدليل قد حكي عن رسالة الشهيد (ره) المعمولة في هذه المسألة بعبارة أخرى حاصلها لو صح تقليد الميت يلزم من ذلك التزام شنيع و هو وجوب الرجوع الى الأعلم من الاحياء و الأموات و عدم الرجوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 355

الى الأعلم من الاحياء و هو خلاف الإجماع، انتهى. و دعوى كما عن المرحوم السيد نعمة الجزائري إن هذا الفرض خارج بالإجماع فيبقى الكلام فيما لا إجماع عليه فان مثل ذلك كاف في تخصيص العام و التمسك بما عدى المخرج بالدليل.

(فاسدة) لأن هذا أمر باطل محال لزم من جواز تقليد الميت من حيث اتفق أو على وجه مخصوص و كل حكم لزم منه المحال فهو محال فيكون جواز تقليد الميت على ذلك الوجه محالا و به يتم المطلوب (و دعوى) منع لزومه من جواز

تقليد الميت و لعله لزم من وجوب تقليد الأعلم (مدفوعة) بأن وجوب تقليد الأعلم عندهم مفروغ عنه فالإجماع المحكي على وجوب تقليد الأعلم لا بد من تخصيصه بالاحياء على وجه يظهر منه عدم الاعتداد بتقليد الأموات (و الجواب عنه) انه لا يتم عند من لا يرى وجوب تقليد الأعلم مضافا الى ان هذا رجوع الى التمسك بالإجماع على وجوب تقليد الأعلم من الاحياء و هو لا يسلمه الخصم و الكلام فيه عين الكلام في الإجماع المدعى على عدم جواز تقليد الميت (و بعبارة أخرى) ان الإجماع إن كان موجودا فهو يمنع من وجوب الرجوع الى الميت و إن لم يكن موجودا فلا ضير فيه مضافا الى ان وجوب تقليد الأعلم إذا كان من دوران الأمر بين التعيين و التخيير فهو لا يجي ء في المقام لاحتمال التعيين في المفضول من جهة انه حي و قد تمسك بهذا الدليل أيضا (بعض علماء العصر) و جعل اللازم الفاسد هو انحصار التقليد بشخص واحد من عصر المعصوم عليهم السّلام الى زماننا هذا و هو باطل بضرورة المذهب (و لا يخفى ما فيه) فإنه لا يلزم ذلك لجواز التساوي في العلمية أو التردد في الأعلمية، أو كان كل يرى الأعلمية في مجتهد غير ما يراه الآخر من الأعلمية في المجتهد الآخر، فان كل ذلك مصحح لتعدد مرجع التقليد حتى على القول بوجوب الرجوع الى الأعلم و جواز الرجوع للميت.

(الدليل الثامن) ما عن المحقق (ره) انه يجب العمل بالفتوى المتأخرة للمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 356

عند تعددها و اختلافها بالإجماع و في الميت لا يميز فتواه السابقة عن المتأخرة.

(و جوابه) كما ذكره بعضهم انه ان أريد انه لا يمكن العلم بالتقديم و التأخير مطلقا فهو غير سديد ضرورة

إمكان العلم بذلك في كثير من الموارد كما إذا علم تأخير تأليف الكتاب الموجود فيه الفتوى أو لم يصدر منه كتاب في الفتوى غيره و ان أريد منه انه قد لا يمكن ذلك فهو لا ينهض مانعا من التقليد فإن الحي قد لا يمكن العلم بذلك في فتواه أيضا. و الحاصل ان المقام يكون من قبيل تعارض الفتاوى و الرجوع في ذلك أما الى تساقطها و العمل بغيرها، و أما الى التخيير بينها.

(الدليل التاسع) ان اجتهاد الحي أقرب الى الواقع من اجتهاد الميت

لأن الحي يقف غالبا على فتوى الميت و على ما هو مستنده فيها فإذا أفتى بخلافها علم انه قد بلغ نظره الى ما لم يكن قد بلغ اليه نظر الميت، و لا ينافي ذلك كون الميت أفضل و أحوط من الحي بالمدارك لأن أثر الفضل إنما يظهر في الأفكار الابتدائية فيمكن ظهور خطأه في الدليل للمفضول و لو من جهة الإصابة بالمعارض الذي خفي على الفاضل. قال المرحوم الشيخ ملا جواد كتاب في منزوحات البئر أنه اشتهر ان المتأخرين أدق نظرا من المتقدمين. (و جوابه) إن هذه الأغلبية لو سلمناها فهي لا توجب الرجوع الى الحي فيما لو فرض ان الميت أقرب للواقع من الحي أو مساوي له مضافا إلى أن الميت لقربه إلى زمان الأئمة (ع) يتوفر القرائن الحالية و المقالية لديه فيكون أقرب للواقع من الحي مضافا الى أن الميت قد يكون أفضل و أفقه من الحي بمراتب و أحوط منه في الاجتهاد و التأمل في المدارك و أعرف منه بوجوه الاستدلال فيصل إلى نهاية ما لا يصل الحي إلى بدايته فيكون قوله أقرب للواقع من الحي مضافا الى ما سيجي ء ان شاء اللّه تعالى من أن حجية التقليد من

باب التعبد لا من باب الوصف فليست دائرة مدار الظن فلا يجب ملاحظة الأقربية مضافا الى أن فتوى الميت قد تكون أقرب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 357

للواقع من جهة موافقتها للاحتياط أو للمشهور أو لبعض القرائن.

(الدليل العاشر) ان الرجوع من الخطأ الى الصواب ممكن في حق الحي دون الميت

فيكون الأخذ بقول الحي أوثق لأن عدم رجوعه مع إمكانه يوجب تأكد الظن بالواقع (لا يقال) أن الرجوع من الفتوى قد يكون من الحق إلى الباطل فان الميت إذا كان قد أصاب الواقع كان أبعد عن الخطأ لعدم إمكان الرجوع في حقه بخلاف الحي فإنه إذا أصاب أمكن أن يرجع لشبهة يصادفها و الحاصل إن احتمال الرجوع من الحق إلى الباطل منسد بالنسبة إلى الأموات بخلاف الأحياء فلا تكون في إمكان الرجوع دلالة على أقربية القول من الواقع إذا لم يرجع لأن عدم الرجوع مع إمكانه إنما يقتضي تأكد الظن بالواقع إذا كان الرجوع دائما عن الخطأ الى الصواب و حيث يمكن أن يكون الأمر بالعكس فلم يكن فيه زيادة الظن. (فإنه يقال) ان المدار على ما هو الغالب في رجوع المجتهدين و لا ريب أن أغلب موارد رجوعهم إنما يكون عن الباطل إلى الحق و أما الرجوع عن الحق ففي غاية الندرة (و جوابه) ان عدم الرجوع مع الإمكان لا يوجب تأكد الظن بالواقع و الأوثقية بقوله إذ لعله لتوهم عنده أغفله عن الواقع أو لانشغاله عن مراجعة المسألة مرة ثانية كما يتفق ذلك للأحياء حتى ماتوا مضافا الى أن ذلك لو كان موجبا لتأكد الظن بالواقع لأوجب تأكده في الميت أيضا لأنه قد بقي على رأيه حتى مات. مضافا لما عرفته في جواب الدليل التاسع.

(الدليل الحادي عشر) [ظهور أدلة حجية فتوى المجتهد اعتبار الحياة في المفتي]

ما تمسك به بعض علماء العصر من ان ظاهر ما دل على حجية فتوى المجتهد ظاهر في اعتبار الحياة في المفتي لأن الدليل على التقليد أما الإجماع و هو لبي يؤخذ بالقدر المتيقن منه و هو تقليد الحي و هكذا بناء العقلاء و هكذا السيرة، و أما الكتاب

فالسؤال في قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* حقيقة في الاستعلام من الحي. و الإنذار في قوله تعالى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 358

لا يكون إلا من الحي. و أما الأخبار فقوله (ع): انظروا في خبر أبي خديجة و قوله (ع): و ينظران في حديث عمر بن حنظلة ظاهران في الحي لأنه إن أريد بالنظر معناه الحقيقي فهو لا يتحقق إلا بالنسبة إلى الحي و إن كان المراد معناه المجازي فهو متعدد مثل اسألوا و ارجعوا فيحتمل عدم الشمول للميت و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال و قوله (ع): من الفقهاء صائنا لنفسه في تفسير العسكري فهو ظاهر في الحي لأن الظاهر هو اتصاف المقلد الذي ترجع اليه العوام بكونه من الفقهاء و صائنا لنفسه و حافظا لدينه و من الظاهر عدم صدق هذه العناوين على الميت. (و جوابه) إن غاية ما يقتضي ذلك عدم الدلالة على تقليد الميت لا على اعتبار الحياة فيه فإنه لو سلم ما ذكره الخصم فهي تدل على جواز تقليد الحي من دون تعرض فيها لتقليد الميت فللخصم أن يتمسك بأدلة أخرى على جواز تقليد الميت من دون معارضة هذه الأدلة لها كأن يتمسك بدليل الانسداد و بالفطرة الدينية و الاستصحاب فهذا الدليل لا يتم إلا بعد إبطال أدلة المجوزين لتقليد الميت و مع ابطال أدلتهم لا نحتاج الى ذلك لأن مجرد الشك في الطريق كاف في عدم اعتباره مضافا الى عدم تسليم اختصاصها بالحي فإن الرجوع الى الأئمة (ع) يصدق عليه انه سؤال لأهل الذكر مع موتهم (ع) و العناوين تصدق على ذواتها وقت الحياة فإن المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في حينه.

(الدليل الثاني عشر) ان الإجماع قد ينعقد على خلاف قول الميت فيكون قوله معلوم البطلان

و العامي لا خبرة له بمواقع الإجماعات فتقليده للأموات قد يؤدي الى التقليد في أمر معلوم البطلان و خلاف الإجماع فيجب عليه التحرز عن تقليد الميت حذرا عن العمل بخلاف ما قام عليه الإجماع. (و جوابه) بالنقض بأن الحي قد تكون فتواه خلاف ما قام عليه الإجماع في العصر السابق عليه، و حلّه ان الدليل إذا قام على حجية التقليد الشامل للأموات فلا يضر هذا الاحتمال و هل هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 359

إلا كاحتمال أن يكون هناك دليل على خلاف رأيه أو أن رأيه خلاف الواقع.

(الدليل الثالث عشر) ما يظهر في مطاوي كلمات بعض أساتذة العصر ان المرجع في باب التقليد هو المفتي

فلا بد أن يكون حيا حين الرجوع إليه لأن باب الفتوى بخلاف باب الرواية فإن المرجع فيه هي الرواية لا الراوي فإن المستفاد من الآيات و الروايات الدالة على حجية الفتوى أن المرجع الفقهاء و رواه الأحاديث و العارف بالأحكام بخلاف أدلة حجية الرواية، فإن المستفاد منها وجوب الرجوع الى الرواية لا الراوي ألا ترى أن المستفاد من قوله تعالى إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ إن الموضوع هو النبإ لا المنبئ، و كذا قوله (ع): «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» فان موضوع عدم جواز التشكيك ما يرويه الثقات لا الثقات.

و لا يخفى ما فيه فان أدلة جواز التقليد كالإجماع و دليل الانسداد و الفطرة و السيرة دالة على أن المرجع هو قول المفتي لا نفس المفتي و هكذا لو قلنا أن أدلة حجية الخبر تدل على حجية الفتوى كما هو رأي أستاذنا المرحوم الشيرازي فإنه على هذا تكون الأدلة على حجية التقليد و الرواية واحدة، و هكذا لو استدللنا له بآية النفر فإنها تدل على الحذر من الإنذار الذي تشتمل عليه الفتوى

لا من نفس المنذرين. و هكذا ما تقدم من قوله عليه السلام لأبان بن تغلب: «و أفتي الناس» فإنه يدل على أن المرجع هو الفتوى و قوله (ع): و بقول العلماء فاتبعوا الى غير ذلك مما يدل على أن التقليد هو المرجعية في الفتوى. و لو سلمنا أنه ورد نص بذلك فلا بد من حمله بدلالة الاقتضاء على أن المرجع في باب التقليد هو الفتوى إذ لا معنى للرجوع الى نفس المفتي.

(الدليل الرابع عشر) [عدم إمكان التمسك بأدلة التقليد عند اختلاف فتوى الحي مع الميت]

ما ذكره بعض المعاصرين إن أدلة التقليد من الآيات و الروايات لا مجال للتمسك بها فيما إذا اختلفت فتوى الحي مع الميت كما هو المهم في محل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 360

الكلام لتكاذبهما المانع من شمول الدليل لهما أو لأحدهما فلا بد في إثبات الحجة من رأي الميت أو الحي من الرجوع الى دليل آخر من إجماع أو بناء العقلاء أو سيرة المتشرعة أو الأصل. و الثلاثة الأول يشك في تحققها بالنسبة إلى تقليد الميت فلا بد من الرجوع الى الأصل العقلي عند الدوران بين التعيين و التخيير حيث يعلم بجواز الرجوع الى الحي و يشك في الميت فان الحكم في مثله بالرجوع الى معلوم الحجية. و لا يخفى ما فيه فان التحقيق أن التعارض بين الطرق لا يمنع من شمول دليل الحجية لها و إن مقتضى ذلك هو التخيير بينها كما تقدم منا ذلك (و توضيح الحال و تنقيحه) إن أدلة التقليد لا يخلو الحال فيها إما أن يكون فيها إطلاق أو مجملة و على كلا التقديرين أما أن نقول بالطريقية في الأمارات أو بالسببية فإن كان فيها إطلاق. (و قلنا):

بالطريقية كان في صورة التعارض بين الفتويين هو

التخيير لعدم وجود مرجح ثابت شرعا لأحدهما فيكون الفتويان متساويي الإقدام بالنسبة لأدلة التقليد و مجرد احتمال الأرجحية لا يوجب الأخذ بها مع إطلاق الأدلة فإن هذا الإطلاق يقتضي جواز الأخذ بأيهما شاء و العمل بأيهما أراد كما تقدم منا ذلك.

(و لو قلنا) بالسببية مع إطلاق أدلة التقليد فكذلك، و أما إذا لم يكن فيها إطلاق، فإن قلنا بالطريقية فنقول إنا نعلم بدخول قول الحي لأنه قدر متيقن و نشك في شمولها لقول الميت و هكذا بناء على السببية فالحق عدم حجية قول الميت للشك في دخولها في أدلة الحجية على هذا القول و لكنك قد عرفت ان الحق وجود إطلاق و لم يثبت وجود مرجح لأحدهما على الآخر مضافا الى جريان الاستصحاب الذي سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في ثالث الأدلة للمجوزين المقدم على هذا الأصل حتى على القول بإجمال أدلة التقليد مضافا الى انه غير تام في صورة ما إذا كان الميت أعلم من الحي لعدم اليقين بحجية الحي مضافا الى أن الخصم كما سيجي ء إن شاء اللّه عنده أدلة خاصة على جواز تقليد الميت مثل لزوم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 361

الحرج مضافا الى أنه لو تمَّ فإنما يصلح دليلا للمفصل بين صورة التوافق في الفتوى و بين عدمها.

(الدليل الخامس عشر) [توقف حل مشكلات الناس كالأمور الحسبية و المسائل المستحدثة على الرجوع إلى المجتهد الحي]

و لم أر من تعرض له و هو أن المجتهد له الولاية على الأمور الحسبية من محافظة أموال القاصرين و الغائبين و له القضاء و له تغليظ الدية و الولاية على الأيتام و المجانين و السفهاء و الغيب و الأوقاف التي لا والي لها و وارث من لا وارث له و يقوم بوصية من لا وصي له و يدفع له

الحقوق الشرعية من حق الامام (ع) و الأنفال و يجري الحدود و التعزيرات و يأخذ أرش الجنايات و يقوم بالقضاء بين الناس لفصل الخصومات و أخذ الحق من الممتنع و نحو ذلك مما يتوقف على مراجعة المجتهد الحي و لا يمكن الرجوع فيه الى الميت و من ذلك المسائل المستحدثة التي لم تكن في زمان الميت و من ذلك أيضا جواز تقليد الميت أو وجوب البقاء عليه لما سيجي ء إن شاء اللّه من عدم جواز الرجوع للميت في مسألة تقليد الميت، فالناس في حاجة الى المجتهد الحي يرجعون اليه و يحلون مشكلات أمورهم لديه و يعرفون حكم المسائل المستحدثة منه و هو الزعيم الديني لهم و النائب عن الامام المنتظر فيهم للقيام بتلك الاعمال فلا يجوز جعل الميت هو الزعيم الديني و النائب عن حجة آل محمد (ع) و بضميمة عدم القول بالفصل يتم المطلوب. (و جوابه) إن هذا إنما يثبت وجوب حياة الزعيم الديني و لزوم الرجوع الى الحي في تلك الأمور المذكورة و لا يمنع من تقليد الميت نعم لو قلنا بعدم جواز التبعيض في التقليد أو عدم القول بالفصل بين المسائل المستحدثة و غيرها أمكن أن يجعل ذلك دليلا على المسألة. لكن في كلا الأمرين نظر بل الحق خلافه فإن جملة من العلماء من جوزوا التبعيض في التقليد و جملة منهم من جوزوا التقليد ابتداء. و لا بد لهم أن يلتزموا في المسائل المستحدثة من تقليد الحي.

(إن قلت): انه إذا كان المجتهد نائبا عن الامام (ع) و من المعلوم ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 362

إمام كل عصر لا بد و أن يكون موجودا، فالنائب عنه بالطريق الاولى أن

يكون موجودا بل الميت لا يصلح للنيابة عن أحد فضلا عن أن يكون نائبا عن الامام (ع). (قلنا) إن نيابته إنما هي في الولاية و شؤون الإمامة لا في معرفة الأحكام الشرعية منه و إنما الدليل على معرفة الاحكام من المجتهد هو التعبد الخاص لا من جهة نيابته.

(الدليل السادس عشر) [أولوية عدم جواز تقليد الميت من عدم جواز البقاء على تقليد الحي الزائل رأيه بهرم أو بمرض]

ما يظهر من الآخند (ره) في كفايته انه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي بسبب الهرم أو المرض إجماعا لم يجز حال الموت بنحو أولى قطعا. و لا يخفى ما فيه و ذلك لأن محل كلا منا هو الفتاوى التي صدرت منه حال حياته و جامعيته لشرائط المرجعية و نحن نلتزم من ان الفتاوى الصادرة من الهرم أو المريض حال صحته و نشاطه و جامعيته للشرائط حجة بل قد يقال انه لا يجوز العدول عنها و إنما الإجماع قائم على عدم الرجوع لهما في الفتاوى التي تصدر منهما حال الهرم و المرض كيف و الإجماع المدعى خصوصا في مثل هذه المسألة المستحدثة لا يكشف عن رأي المعصوم لاحتمال استناد المجمعين الى أن غيرهما يكون هو القدر المتيقن و إن الاستصحاب لحجية قولهما غير جاري و قد تقدم منا الكلام في ذلك في الشرط الثاني لجواز تقليد المجتهد، و لو سلمناه فلا وجه للأولوية فان عروض ذلك للمجتهد موجب لسقوطه عن المنصبية لهذا المقام الكريم و هو النيابة عن الامام (ع) بخلاف الموت فإنه لا يسقطه عن المنصبية كما في الإمام (ع) فان الموت لا يسقطه عن منصبيته فيكون قوله حجة حتى بعد موته (ع).

(الدليل السابع عشر) ما روي من أن العلم يموت بموت حامليه.

و فيه عدم تسليم صحة سنده و معارضته بما دل على أن أهل العلم أحياء من جهة علمهم كقوله (ع) و العلماء باقون ما بقي الدهر: فإنه ظاهر في أن جهة بقائهم هو العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 363

فلا بد أن يكون باقيا. مضافا الى انه كناية عن مطلوبية انتشار العلم و عدم حبسه و بذله إلى أهله.

(الدليل الثامن عشر) [الروايات الدالة على لزوم الرجوع إلى المجتهد الحي]

الصحيح الذي رواه الصدوق (ره) في علل الشرائع عن ابن محبوب عن يعقوب السراج قال لأبي عبد اللّه (ع) هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم فقال (ع) إذا لا يعبد اللّه يا أبا يوسف. فدل هذا الحديث على لزوم الرجوع للعالم الحي و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام في هذا الخبر في الأدلة على المنع من جواز البقاء على تقليد الميت و يظهر بذلك عدم دلالته.

(الدليل التاسع عشر) ما نقله الشيخ حسن في شرحه لمقدمة أبيه جدنا كاشف الغطاء بأن العامي لا يجوز له الأخذ بفتوى المجتهد مع العدول.

و احتمال العدول قائم في الميت فلا يجوز تقليده، و أجاب عنه (ره) بأن مع احتمال العدول يجب التمسك بأصالة عدمه و مع يقينه فيؤخذ بمجهول التاريخ و إلا فيطرح.

(الدليل العشرون) الأخبار

الدالة على الرجوع في معالم الدين الى يونس بن عبد الرحمن و زرارة و محمد بن مسلم و أمثالهم و لو جاز الرجوع الى الميت لارجعهم الامام (ع) الى الأصول الصادرة من بعض الرواة الأموات، و فيه ما لا يخفى فإنه الأدلة المذكورة لم تكن فيها منع من الرجوع لغير المذكورين كيف و الوجوب الموجود فيها ليس وجوب عينيا قطعا لجواز الرجوع لغيرهم من الاحياء قطعا فلا بد أن يكون الوجوب تخييريا مضافا الى أنها قضايا في وقائع خاصة مضافا الى أن أصول الروايات للأموات يجوز الرجوع لها لأنها روايات لا فتاوى.

(الدليل الواحد و العشرون) ان تقليد الميت أما أن يكون بتقليد الميت فيلزم الدور

أو بتقليد الحي و هو رجوع إلى الحي، و فيه إن تقليد الميت يمكن أن يكون بحكم عقله و اجتهاده كما لو كان عمله بالتقليد من جهة الانسداد و كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 364

قول الميت يفيد الظن الأقوى أو كان مراهقا للاجتهاد و أدى نظره الى حجية الاستصحاب و تمَّ في نظره استصحاب التخيير و نحو ذلك و يمكن أن يكون برجوعه إلى الحي. و دعوى الخصم أن هذا يكون رجوعا للحي لا معنى لها لأنه إن أراد أنه رجوع له في فتاواه فهو باطل لأنه إنما يعمل بفتاوى الميت و إن أراد انه رجوع له في مسألة جواز تقليد الميت فنحن لا نمنع من ذلك و لا محذور فيه.

(الدليل الثاني و العشرون) السيرة المستمرة

من بدء الشريعة إلى الآن على تقليد الأحياء دون تقليد الأموات ابتداء. (و جوابه) إن العوام لما كانوا لا يفهمون كتب الأموات لذا كانوا لا يرجعون إليهم على أن السيرة لم يعلم منها أنها على وجه الإلزام أم على وجه الاستحسان أم للسهولة أو للاحتياط.

أدلة القائلين بجواز تقليد الميت مطلقا
اشارة

استدل القائلون بجواز تقليد الميت مطلقا ابتداء و استمرارا أمكن التوصل للحي أم لا أفتى الميت بمضمون الأخبار أم لا، بالأدلة الأربعة العقل و الكتاب و السنة و الإجماع و إليك بيانها.

(الدليل الأول) [حجية قول الميت لإفادته الظن]

ما عول عليه المحقق القمي (ره) و حاصله ان قول الميت مفيد للظن و كل ما يفيد الظن فهو حجة، أما الصغرى فوجدانية، و أما الكبرى فلتمامية مقدمات دليل الانسداد من كون التكاليف باقية و باب العلم بها منسد على العامي في هذه الأزمنة و ليس له طريق شرعي إليها لأن الدليل على التعبد بالتقليد مفقود بالنسبة إلى العامي إذ الأدلة اللفظية من الكتاب و السنة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 365

غير واضحة الدلالة لديه لما فيها من المناقشات الى ما شاء اللّه تعالى و عدم معرفته الصحيح منها من الفاسد: و الأدلة اللبية من الإجماع و الضرورة و السيرة غير ثابتة لأن السلف المعاصر للإمام (ع) كان باب العلم في حقهم مفتوحا و كانوا يعملون به و الإجماع موهون بخلاف جملة من الأصحاب كفقهاء حلب و الأخباريين و الاحتياط على العامي يستلزم العسر و الحرج المعلوم انتفائهما عن الشريعة بالضرورة فلا مناص للعامي بعد هذا إلا الاعتماد على الظن في الخروج من عهدة التكاليف فالتقليد يكون اعتباره في حق العامي من باب الظن الثابت اعتباره من باب الانسداد و لا فرق فيه في نظر العقل بين الحاصل من قول الحي أو الميت إذ المناط واحد بل قد يكون الظن الحاصل من الثاني أقوى و عليه فيجب اتباعه لأنه أقرب الى الواقع. و دعوى ان الإجماع المحكي و الشهرة على عدم جواز تقليد الميت يفيدان الظن بعدم جواز الاعتماد على

قول الميت في الفروع. (فاسدة) إذ بعد تسليم انعقاد الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تكن متداولة في زمان المعصوم و إفادة المنقول منه كالشهرة الظن. لا ترجيح لهذا الظن بالنسبة إلى الظن الحاصل في المسألة الفرعية لو لم نقل بأن الظن بالواقع أقوى لأن المقصود هو الوصول الى الواقع.

و الجواب عنه أولا: إن منعه السيرة استنادا الى انفتاح باب العلم للموجودين في عصر الامام (ع) إن أراد بالانفتاح إمكان وصولهم الى الواقع علما فهو ممنوع جدا و إن أراد بالانفتاح ما هو الأعم من العلم و الطرق الشرعية المعلومة الاعتبار فهو حق لكنه لا ينفعه إذ من تلك الطرق قول العالم للجاهل و فتواه في غير مورد الرواية المنقولة لفظا و معنى. و أما منعه الإجماع بخلاف الحلبيين و الأخباريين فليس في محله لانقطاع الأول و انقراضه و رجوع خلاف الثاني إلى الخلاف في الموضوع بواسطة حسبانهم ان الفتوى مغايرة لما هو جائز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 366

عندهم و لذلك لو لم يكن العمل بالفتوى عندهم عمل بالرأي لم يكونوا مانعين منها.

(و ثانيا): إن وجوب التقليد على العامي ليس من باب الانسداد بل هو أمر ضروري و ليس علمه بوجوبه عليه أدنى من علمه بوجوب الصلاة عليه لمسيس الحاجة و توفر الدواعي إليه هذا بالنسبة لأصل مشروعية التقليد و أما بالنسبة إلى الخصوصيات من أنه هل يجب تقليد الحي أو الميت أو الأصولي أو الاخباري أو الأعلم الى غير ذلك من الموارد المختلف فيها فان قدر على الترجيح فهو و إلا أخذ بالقدر المتيقن و إلا فحكمه التخيير و إن التفت الى وجوب التقليد فيها لأنها مسألة شرعية قد

اشتبه عليه الحال فيها و لم يتمكن من الاجتهاد المعلوم اعتباره فيها رجع للمجتهد، فالثمرة من عقد هذه المسألة و نظائرها إنما هي للمجتهد إذا رجع العامي إليه فيها.

(و ثالثا): ان لازم كون الظن طريقا للعامي أما انهدام بنيان الشرع أو كون العامي مجتهدا إذ لا اختصاص لدليل الانسداد بالتقليد بل يعم سائر الأمارات التي تفيد الظن.

(و رابعا): أنه قد اشتهر في السنة الأصوليين ان الظن المانع يقدم على الظن الممنوع عند التعارض مطلقا حتى لو كان المانع أضعف من الظن الممنوع، و الظن الحاصل من حكاية الإجماع و فتوى المشهور بحرمة تقليد الميت مانع من العمل بالظن الحاصل من قول الميت في المسألة الفرعية و لو سلمنا الأخذ بالأقوى منهما فلا نسلم أن الظن من قول الميت بالمسألة الفرعية أقوى من الظن الحاصل بعدم حجيته.

(و خامسا): إن التقليد لو كان حجة من باب حجية الظن المطلق فاما أن يكون المعتبر هو ظنه قبل الفحص عن أمارة أخرى تعارض قول المجتهد من خبر أو إجماع أو نحو ذلك و هو باطل لأنه يلزم أن يكون ظن العامي أقوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 367

من ظن المجتهد ضرورة انه لا عبرة بظن المجتهد قبل الفحص فكيف يجوز للعامي أن يعمل بظنه قبل الفحص، و أما أن يكون المعتبر هو ظنه بعد الفحص و هو باطل لقيام السيرة على خلاف ذلك و لم نر من المجتهدين من أفتى بوجوب الفحص على العامي في كل مسألة مع انه يلزم العسر و الحرج العظيم على العامي فالتحقيق أن حجية التقليد من باب التعبد.

(ثاني الأدلة لهم) [استلزام المنع من تقليد الميت شراكة المجتهد للشارع في الأحكام الشرعية]

ما حكي عن السيد الجزائري في منبع الحياة و هو أن قضية المنع

من تقليد الميت صحة إحدى صلاتي العامي و بطلان الأخرى إذا مات المجتهد المقلد بين الصلاتين و لازم ذلك أن يكون المجتهد شريك الشارع في الأحكام الشرعية و هذا لا ينطبق على أصولنا لأن علمائنا يحكون كلام المعصومين و يعملون به من دون تفاوت بين حياتهم و مماتهم.

و الجواب عنه (أولا): بالنقض بصورة ما إذا عرض للمجتهد الحي ما يوجب العدول كالفسق أو الجنون أو الكفر أو تبدل رأي.

(و ثانيا) بالحل بأن هذا ليس فيه شركة للشارع في الاحكام و إنما هو بيان لأحكام الشرع غاية الأمر أن ذلك البيان سقط عن الحجية و صار غيره حجة.

(ثالث الأدلة لهم) الاستصحاب

و هو يقرر على وجوه ثلاثة:

(أحدها) استصحاب حكم نفس الواقعة التي يريد التقليد فيها نظير استصحاب أحكام الشرائع السابقة و أحكام الحاضرين في زمن الخطاب بالنسبة للموجودين فعلا كأن يقال ان الواقعة كان حكمها كذا لفتوى المجتهد الميت به فالأصل بقائه.

(ثانيها) استصحاب الحكم الشرعي الفرعي الثابت لفتوى المجتهد الميت كأن يقال إن فتوى المجتهد الفلاني كان ثابتا لها جواز الأخذ بها و الأصل بقائه.

(ثالثها) استصحاب الحكم الوضعي و هو حجية قول المجتهد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 368

(و الحاصل) إن الاستصحاب فيما نحن فيه يتصور تارة في حكم نفس الواقعة و أخرى في حكم الأمارة التي قامت عليه أعني فتوى المجتهد الميت و الثاني يتصور بنحوين فإنه تارة يتصور بالنسبة لحكمها التكليفي و هو جواز الأخذ بها و تارة لحكمها الوضعي و هو حجيتها. و لكن لا يخفى انه لا يصح الاستصحاب الأول من جهة عدم اليقين السابق إذ ليس عنده علم سابق بأن الواقعة حكمها ما أفتى به المجتهد الميت و هكذا ليس عنده أمارة

معتبرة إذ ليس عنده إلا فتوى الميت بذلك و هي غير معلومة الحجية لديه لأن الكلام في حجيتها بخلاف أحكام الشرائع السابقة فإنه قد قامت الحجة عليها بأخبار نبيهم الصادق الأمين.

(إن قلت) إن فتوى المجتهد أمارة معتبرة على حكمها بواسطة أدلة التقليد الدالة على حجيتها و إنما الكلام ان الحكم الذي هو مدلول الفتوى يثبت للمكلفين بعد موت المجتهد. نظير أحكام الشرائع السابقة فإن الشك في ثبوتها للمكلفين بعد نسخ الشريعة السابقة (قلت): نحن نشك في بقاء الفتوى على حجيتها بعد موت المفتي بها بحيث يكون الموت مسقطا لحجيتها حتى في ظرفها أو مزيلا لحجيتها بعد موته فلم يكن للمكلف بعد موت مفتيها إحراز حجة على الحكم الذي تضمنته.

(إن قلت): انه يستصحب الحجية للفتوى. (قلنا): هذا رجوع الى الاستصحاب بالوجه الثالث. ثمَّ ان الاستصحاب الثاني يرجع للثالث إذا قلنا بأن الأحكام الوضعية مجعولة بالذات فان جواز الأخذ بقول المجتهد عبارة عن حجية قوله أو منتزع منها كما يرجع الثالث للثاني لو قلنا بأن الأحكام الوضعية مجعولة بالتبع فإنه حينئذ معنى جعل الحجية عبارة عن جعل جواز الأخذ بقول المجتهد. و كيف كان فالجواب عن الاستصحابين المذكورين:

(أولا) أنه لا يقين للعامي الحي سابقا بثبوت الحجية و جواز الأخذ بقول المجتهد الميت لا وجدانا كما هو واضح و لا تعبدا إذ لا دليل للعامي عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 369

إلا فتوى المجتهد الميت و هي مشكوكة الحجية بالنسبة للعامي فعلا كما ذكره بعض محشي العروة (و لا يخفى ما فيه) فان الفتوى حجة في ذلك الزمان بواسطة أدلة التقليد. ففي زمان حياة المجتهد متيقن ثبوت الحكم المذكور أعني حجية قوله (إن قلت) ان

أدلة التقليد إنما تثبت حجية قول المجتهد لمن أخذ به و رجع اليه و هذا لم يكن آخذا به حتى يكون حجة عليه سابقا (قلنا) هي تثبت حجيته مطلقا من دون القيد المذكور فلا وجه للتقييد به.

(و أجيب ثانيا) عن الاستصحابين المذكورين بأنهما باطلان لأنهما تعليقيان لأن العامي إنما يكون قول المجتهد حجة عليه أو يجوز له الأخذ به لو كان موجودا في زمان المجتهد أو كان بالغا في زمانه أو عاقلا في زمانه فهما استصحابان لأمرين معلقين على وجود الموضوع و هو العامي أو على صفة من صفاته كبلوغه أو عقله لو كان موجودا في زمان المجتهد و لكن المجتهد مات قبل بلوغ العامي أو عقله و قد بنى على ذلك على ما ببالي المرحوم استاذنا المشكيني و بعض محشي العروة (و لا يخفى ما فيه) فان المستصحب هو حجية قول المجتهد الميت و جواز الأخذ به بنحو القضية الحقيقية بمعنى ان قوله حجة على العامي المكلف باعتبار أفراده المحققة و المقدرة الوجود فإنه كل فرد عامي مكلف سواء كان موجودا أو يوجد في زمن ذلك المجتهد يجوز له الأخذ بقوله و يكون قوله حجة عليه على سبيل التعيين إذا لم يكن مجتهد غيره أو التخيير لو وجد مجتهد مساويا له فهذه القضية هي المتيقنة تعبدا في زمان حياة المجتهد بواسطة أدلة التقليد و نشك في بقائها بعد موته فنستصحبها نظير استصحاب أحكام الشريعة السابقة بل و نظير استصحاب سائر الأحكام كصلاة الجمعة عند حضور الامام عليه السّلام فان المتيقن سابقا ليس الحكم لخصوص الأشخاص السابقين بخصوصية وجودهم بل المتيقن هو الحكم للإنسان المكلف بما هو إنسان متحقق في ضمن أفراده و نشك في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 370

اختصاص هذا الحكم بالسابق أو أنه باقي هذا الحكم للأزمنة اللاحقة و هكذا استصحاب أحكام الحاضرين بالنسبة للموجودين بعد زمانهم فنشك ان زمن الحياة له مدخلية في الحكم، كما نشك في أن زمن الشريعة له مدخلية في الحكم، كما نشك ان زمن الحضور له مدخلية في الحكم فنستصحب بقائه بعد ذلك الزمن (و بعبارة أخرى) ان المتيقن السابق تعبدا بواسطة أدلة التقليد هو الحكم بالحجية و جواز الأخذ لكل مكلف شأن سائر الأحكام الشرعية و لكن نشك في بقائه لاحتمال أن الحياة لها دخل في تحققه كما نشك في بقاء وجوب صلاة الجمعة بعد زمن حضور الامام (ع). (و الحاصل) ان مقتضى الأدلة ان الحياة ظرف للحجية و ليست من مقومات موضوعها لعدم تقييدها بها و لو سلمناه فالعرف يراها ظرفا لا أنها من مقومات الموضوع.

(و أجيب ثالثا) عن هذين الاستصحابين في الكفاية ما حاصله انه لا مجال للاستصحاب لعدم بقاء موضوع المستصحب عرفا الذي هو شرط في جواز الاستصحاب، فان الموضوع للحجية و جواز الأخذ هو رأي المجتهد بدليل انه إذا تبدل رأيه لا يجوز تقليده في الرأي المتبدل و من المعلوم ان الرأي غير باق بنظر العرف بعد الموت و ان لم يكن واقعا ينعدم لكن العرف يرى ان الموت ينعدم به الإنسان و آرائه لبنائه على تقوّم ذلك بالحياة التي زالت بالموت، و لذا يرى ان حشره يوم القيامة من باب اعادة المعدوم، و قد تقرر في باب الاستصحاب ان المدار في بقاء الموضوع و عدمه على نظر العرف لا العقل و لا الواقع.

(إن قلت) فعلى هذا كيف يستصحب بعض الأحكام الثابتة حال الحياة

كطهارته و نجاسته و جواز نظر زوجته له (قلنا) ان ذلك لما كان في نظر العرف غير متقوم بحياته و إنما يرى انه متقوم ببدنه و جسمه الباقي بعد موته، فيكون العرف يرى ان الموضوع لها باقي بعد الموت و إن احتمل ان الحياة لها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 371

دخل في عروضها واقعا (و لا يخفى ما فيه) لما تقدم في جواب الدليل الخامس من أدلة المانعين ص 351 من أن الفتوى بقائها أمر اعتباري لا عيني خارجي و يكون منشأ اعتبارها هو حدوث الرأي مع عدم إفساده من المفتي بها أو نقول ان نفس حدوث الفتوى موضوع لحجيتها نظير حدوث الشهادة فإنه موضوع للحجية على التمليك و نظير حدوث الحد فإنه موضوع لحرمة الاقتداء بالمحدود و أما عدم جواز تقليده في الرأي المتبدل فلظهور فساد الرأي و خطأه مضافا إلى ان الفرق موجود هو وجود دليل خاص على ذلك.

(و أجيب رابعا) عن هذين الاستصحابين بما ذكره بعض أساتذة العصر ما حاصله ان الشك إنما هو في حدوث التكليف بجواز الأخذ بالفتوى بعد موت المفتي لأن مرجع الشك إلى الشك في سعة التكليف و ضيقه بالنسبة لمن يوجد بعد موت المفتي فانا نحتمل أن تكون حجية فتوى المجتهد مختصة بمن عاصره و كان من وظيفته الرجوع اليه، و أما العامي الموجود بعد موته فلا علم بحجية فتواه في حقه و لا علم بجعل الحكم في حقه و لو بنحو القضية الحقيقية حتى يجري الاستصحاب و يثبت به بقاء الحكم بل الذي يجري في حقه استصحاب عدم الجعل بلا معارض (و الحاصل) انه لا يقين سابقا بحجية فتوى المجتهد الميت بالنسبة لمن

وجد بعده و إنما ثبت اليقين بالحجية بالنسبة إلى الموجودين في زمانه كما قد ذكره عند البحث عن جريان الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة من أن مرجع الشك في نسختها إلى احتمال ضيق دائرة الجعل و عدم سعتها بالنسبة إلى من يوجد في زمان التشريع للشريعة اللاحقة فيكون المراد بالنسخ بيان أمد الحكم بحسب الجعل الأول لا رفعه لكونه مستلزم للبداء المستحيل في حقه تعالى. و (بعبارة أخرى) إن الحجية المستصحبة إن أريد بها الحجية الفعلية فاستصحابها يكون من الاستصحاب التعليقي و ذلك لفرض دخول الحياة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 372

و البلوغ في تنجز الإحكام إذ لا يعقل ثبوت الحجية الفعلية للمكلف قبل وجوده و إن أريد بها الحجية في مرحلة الإنشاء و الجعل فالاستصحاب في هذه المرحلة و إن لم يكن من الاستصحاب التعليقي إلا أنه لا يقين في هذه المرحلة بالثبوت ليكون الشك شكا في البقاء بل الشك إنما هو في جعل الحجية لمن يوجد بعد المجتهد لاحتمال تقييد موضوع الجعل بحياة المجتهد فيشك في سعة موضوعه و ضيقه فالمعدوم في عصر المجتهد أو الذي لم يكن بالغا أو عاقلا يشك في شمول الجعل بالنسبة اليه و معه يرجع إلى استصحاب العدم الأزلي. قال: و بهذا يشكل استصحاب الأحكام للشرائع السابقة و في استصحاب عدم النسخ في شريعتنا المقدسة لوجود القدر المتيقن في الموردين و في الزائد يرجع إلى استصحاب العدم الأزلي لعدم العلم بانتقاضه ففي المقام القدر المتيقن جعل الحجية لفتوى المجتهد حال حياته. و أما جعل الحجية لفتواه بعد موته فهو مشكوك فيه فيرجع إلى أصالة عدمه و لا يعارضه استصحاب الحجية الثابتة حال حياته. (و لا

يخفى ما فيه) فانا نختار الشق الأول و نستصحب الحجية الفعلية بنحو القضية الحقيقية فإن المستفاد من أدلة التقليد حجية الفتوى فعلا لكل مكلف فهذا الحكم في حد ذاته نستصحبه للمكلف بعد وفاة المجتهد فنقول ان فتوى المجتهد كانت حجة فعلية على كل مكلف حين حياة المجتهد فهكذا بعد حياته فليس ذلك من الاستصحاب التعليقي و قد تقدم توضيح ذلك في ص 369 في جواب الإيراد الثاني على الاستصحابين، و انا نختار الشق الثاني، و دعوى عدم اليقين بالثبوت لاحتمال تقيد موضوع الجعل إلخ. فهي في منتهى الغرابة لأن لازمه إنكار الاستصحاب في كل مورد يكون الشك من جهة عروض حالة على الموضوع كما لو شك في كرية الماء المسبوق بالكريه أو إضافته بعد ما كان مطلقا أو في بقاء اجتهاد المجتهد أو عدالته فان الشك إنما يكون من جهة الشك في بقاء الموضوع الحقيقي له لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 373

الموضوع الحقيقي علة تامة لتحقق المحمول و حينئذ فلا يتصور الشك في المحمول إلا مع الشك في الموضوع، و عليه فيكون الشك لدى الحقيقة ليس شكا في البقاء و المتيقن السابق غير المشكوك اللاحق فالمجتهد المذكور بعد عروض المرض أو احتمال عروضه له بحسب الدقة غير المجتهد الذي تيقن ثبوت الاجتهاد له و إلا لما كان متيقن الاجتهاد سابقا و الآن قد شك في اجتهاده، و هذا يرجع للإشكال المعروف في استصحاب الأحكام من عدم اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة في استصحابها لأنه مع اتحادهما لا يعقل الشك في الحكم لكون الموضوع علة تامة لثبوت الحكم إلا على البداء الممتنع على الشارع المقدس، ففي الآن الثاني الذي يشك في ثبوت

الحكم ان كان الموضوع السابق موجودا فلا يشك في الحكم و إن كان غير موجود أو مشكوك الوجود فلا مجال للاستصحاب لعدم اليقين بالحكم سابقا لهذا الموجود فعلا بعين ما ذكره الخصم، و قد أجاب عنه القوم بما حاصله: انا نختار عدم بقاء الموضوع على الوجه الذي كان علة لثبوت الحكم و ليس المتيقن السابق عين المشكوك اللاحق بحسب الدقة العقلية إلا أن ذلك لا يضر بالاستصحاب لأن الميزان فيه هو نظر العرف، فاذا كان العرف يرى بأن المشكوك اللاحق عين المتيقن السابق صح الاستصحاب لصدق البقاء ففي ما نحن فيه ان الحكم لما كان متيقن الثبوت لماهية المكلف باعتبار أفراده و بعد موت المجتهد يشك في ثبوته لها لاحتمال دخل حياة المجتهد في موضوعه و لكن العرف يرى ان هذا شك في بقائه لها لا شك في حكم جديد لها و ان حياة المجتهد من قبيل الظرف للحجية كانت أدلة الاستصحاب تقتضي استصحاب ذلك الحكم لماهية المكلف باعتبار أفراده هذا مضافا إلى انه لو بنينا على ذلك لم يتم استصحاب حجية الرواية بعد موت الراوي، و لا الشهادة بعد موت الشاهد، و لا اليد بعد موت ذيها (و الحاصل) ان التكليف بالأخذ بالفتوى و حجيتها لما كان بنحو العموم للمكلف باعتبار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 374

ما يوجد له من الأفراد بمعنى انه حجة على كل مكلف وجد أم لم يوجد بنحو القضية الحقيقية و لكن نشك في أن زمان المفتي قيد للتكليف بالأخذ بالفتوى أو ظرف له فيكون الشك في وجود التكليف فيما بعد ذلك الزمان شك في بقائه في نظر العرف الذي هو الميزان في صدق الشك في البقاء

و عدمه في باب الاستصحاب فيكون نظير الشك في وجوب صلاة الجمعة فإنه في عصر الامام (ع) التكليف بها عام لكلي المكلف سواء كان موجودا أو يوجد في زمانه و لكن يشك في بقاء هذا التكليف بعد غيبة الإمام (ع) للشك في أن حضوره كان من قبيل الظرف للتكليف المذكور أو من قبيل الشرط، و حينئذ فيستصحب ذلك الحكم و هو وجوب صلاة الجمعة إلى الزمان الثاني، و أيضا نظير استصحاب أحكام الحاضرين بالنسبة للموجودين بعدهم، و لعل الخصم تخيل ان الحكم المذكور للافراد الخارجية لا للكلي باعتبار ما له من الأفراد فذهب به الوهم الى أن الشك إنما كان في الحدوث لا في البقاء، و لو تمَّ ما ذكره لزم عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المشكوك فيها من جهة الزمان فلا يصح استصحاب مثل وجوب صلاة الجمعة بالنسبة إلى الموجودين في زمان الغيبة للاحتمال المذكور.

(و أجيب خامسا) عن الاستصحابين كما عن بعض أساتذة العصر بأن الاستصحاب إنما يجري عند عدم الدليل، و قد دل الدليل على اشتراط الحياة في المفتي بالإجماع على ذلك و ظهور الآيات و الروايات الدالة على حجية فتوى المجتهد في ذلك، أعني في اعتبار الحياة في المفتي (و لا يخفى ما فيه) فان المستدل بالاستصحاب إنما يستدل به على فرض عدم وجود دليل شرعي على ذلك مضافا الى ما عرفت من عدم تمامية الإجماع ص 349 و عدم تمامية دلالة الآيات و الروايات على ذلك ص 358 و 359.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 375

(و أجيب سادسا) عن الاستصحابين بأن الموضوع لجواز التقليد هو رأي المجتهد و ظنه و هو غير باقي قطعا بعد موته لزواله بزوال

الحياة. و جوابه ما عرفته من أن الرأي حدوثا مع عدم إفساده من صاحبه هو الموضوع لجواز التقليد و ان بقائه أمر اعتباري لا عيني خارجي و العقلاء يعتبرون بقائه بعد موته و لا يرون الموت يرفعه عن صاحبه بخلاف ما إذا أفسده صاحبه كما تقدم ص 351.

و قد أورد بعض أساتذة العصر على هذا الجواب بما حاصله انه إنما يتم ذلك إذا كان الموضوع للحجية هو الرأي بما هو فإنه يمكن أن يقال ان حدوثه كاف في ثبوت الحجية له حدوثا و بقاء و لو فرضنا ارتفاعه خارجا، و أما إذا كان الواجب على العامي هو الرجوع الى الفقيه و العالم و الناظر في الحلال و الحرام و أهل الذكر و غير ذلك من العناوين الغير القابلة للانطباق على الميت كما استظهرناه من الأدلة اللفظية فلا تتحد القضية المتيقنة و المشكوك فيها، فان الظاهر من من أدلة التقليد أن يكون المرجع متصفا بهذه الأوصاف حين ما يرجع له العامي و لا عبرة باتصافه فيما مضى و بذلك يظهر الفرق بين المقام و مسألة حجية الخبر، فإن الحجية في تلك المسألة إنما تثبت للخبر بما هو فالمرجع هو نفسه فلا عبرة بحياة المخبر، و هذا بخلاف المقام، فان المرجع فيه عنوان العالم و الفقيه و نحو ذلك.

انتهى. (و لا يخفى ما فيه) لما تقدم في جواب الدليل الثالث عشر من أدلة المانعين ص 359 من أن أدلة التقليد تدل على حجية الفتوى إذا كان المفتي بها حين إفتائه بها متصفا بالصفات المعتبرة في المفتي نظير المستفاد من أدلة حجية الخبر فإنها إنما تدل على حجية الخبر إذا كان المخبر حال اخباره به متصفا بالصفات المعتبرة

في المخبر فان كل من الأدلة نظرها لنفس الفتوى و الرواية و ليست أدلة التقليد تدل على الرجوع لنفس الشخص المتصف بالصفات المذكورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 376

فإنه لا معنى له فلو دلت لا بد من حملها على الرجوع الى فتواه و رأيه صونا للكلام عن اللغوية مضافا الى أنه منها ما اشتمل على الفتوى كيف و من أدلته الانسداد و الفطرة و الإجماع و السيرة و هي موضوعها الفتوى، ثمَّ كيف يفرق بين الخبر و الفتوى مع ان الأدلة لكلا البابين واحدة عند الكثير فلو لم يفهم القوم ذلك لما استدلوا على حجيتها بأدلة لفظية واحدة فإذا كان موضوع الحجية هو الرأي بما هو رأي لكن بشرط أن يصدر حال اتصاف صاحبه بالصفات المطلوبة في المفتي نظير الرواية كان الموضوع للحجية موجودا بعد الموت لان الموضوع هو نفس الفتوى و نفس الرأي نظير الرواية فإن وجودهما اعتباري منشأه صدورهما مع عدم الصدور من صاحبهما ما يدل على فسادهما أن نقول ان الموضوع للحجية نفس حدوث الرأي و الرواية نظير حدوث الحد الموجب لحرمة الصلاة خلف المحدود كما التزم به بعضهم.

(و أجيب سابعا) عن الاستصحابين بأن قاعدة الاشتغال تعارضهما لأن المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و هو الأخذ بقول المجتهد الحي و بين التخيير بين الميت و الحي، فالفراغ اليقيني إنما يحصل بالأخذ بالحي (و فيه ما لا يخفى) فإن قاعدة الاشتغال لا تعارض الاستصحاب كما قرر في محله من انه مقدم عليها لحصول الفراغ اليقيني التعبدي به.

(و أجيب ثامنا) عن الاستصحابين انه ان أريد الاستصحاب للحكم الواقعي فلا يقين به في السابق لأن الأحكام الواقعية لا يقطع بها

إلا من ضرورة أو إجماع أو خبر محفوف بالقرائن القطعية أو تواتر و إن أريد استصحاب الحكم الظاهري فموضوعه ظن المجتهد الحي لأنه من جهة وجوب العمل بظن المجتهد و الظن قد زال بالموت قطعا (و لا يخفى ما فيه) فإنه منقوض بكل حكم قامت الامارة المعتبرة عليه إذا شك في بقائه لأن الحكم الواقعي لا يقين به سابقا و الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 377

الظاهري موضوعه الظن و قد زال و بالحل انا نستصحب الحكم الواقعي و اليقين الحاصل به هو اليقين التعبدي فإنه قد حقق في محله أن لا تنقض اليقين بالشك يشمل اليقين التعبدي، سلمنا نستصحب الحكم الظاهري و موضوعه الظن لكن الموضوع لا يزول بالموت لأن حدوث الظن هو الموضوع نظير الحد يثبت بمجرد حدوث الجريمة، نعم إنما يزول لو أفسد هذا الظن نفس الظان كما تقدم تفصيل ذلك ص 371 فعند حصول الظن تثبت الحجية و بعد الموت نشك في زوالها من جهة احتمال اعتبار الحياة في حجيته أو كون الموت مانعا منها فنستصحب بقائها و استصحاب الحكم الظاهري أكثر من أن يحصى فإنا لو أجرينا البراءة أو أصالة الطهارة ثمَّ شككنا فيها استصحبنا ذلك الحكم الظاهري (و أجيب عن الاستصحابين تاسعا) بأن الاستصحاب إنما ينفع في المقام إذا كان الميت أعلم من جميع المجتهدين الاحياء أو أنه لم تعلم المخالفة بينه و بينهم، و أما في صورة العلم بالمخالفة و كان في الاحياء من هو أفضل منه أو مساويا له لم يكن قوله حجة أما مع وجود الأعلم فالوجه ظاهر و اما مع التساوي فلأن دليل الحجية لا يشمل المتعارضين و القائل بالتخيير إنما استند

للإجماع، و من الظاهر انه لا إجماع في المقام فالأمر يكون في المقام دائر بين التعيين و التخيير في الحجية و المرجع فيه أصالة الاشتغال لأن الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فتحصل ان الاستصحاب بعد موت المجتهد اما أن لا يتم في نفسه و اما أن لا يفيد القائل بجواز تقليده ابتداء (و لا يخفى ما فيه) أولا انا نتكلم في حجية فتوى المجتهد الميت مع قطع النظر عن الأمور الأخر من كونه فاسقا أو مفضولا أو نحو ذلك فان الكلام فيه مع فرض المساواة من جميع الجهات ما عدى الحياة.

(و ثانيا) مع جريان الاستصحاب و قطع النظر عن الأدلة كما هو المفروض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 378

لا أثر لأعلمية الاحياء عند من يرى الرجوع الى الأعلم من جهة قاعدة الاشتغال لأن الاستصحاب حاكم عليها، و أما دعوى عدم شمول دليل الحجية للمتعارضين فغير صحيحة لما سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث اشتراط الأعلمية شموله لهما و ان مقتضى القاعدة هو التخيير، و قد أطلنا الكلام هناك في هذا المقام نظرا لأهميته بين العلماء الاعلام.

(و أجيب عن الاستصحابين عاشرا) ان الاستصحاب ان كان للحكم الواقعي فلا يقين به في السابق كما هو واضح و ان كان للحكم الظاهري فأيضا لا يقين به لان اليقين به فرع وجود المكلف في زمان حياة الميت و رجوعه اليه و المفروض عدم وجود المكلف في حياة المجتهد و عدم تحقق الرجوع إليه في وقت من الأوقات فأين له اليقين بالحكم الظاهري، و اما أصل الشرطية و هي انه «لو كان في زمان حياته لكان حكمه كذا» فهي معلومة و لم يقع فيها شك أصلا لكن

اليقين بها لا يجدي في إثبات حكم ظاهري للمكلف لصدق الشرطية مع امتناع طرفيها و في المقام لم يوجد المكلف في حياة المجتهد فامتنع ثبوت الحكم الظاهري له فكيف يستصحب، و اما استصحاب أحكام الشرائع السابقة فلا ريب فيه لتمامية أركان الاستصحاب فيها، للعلم بثبوت الحكم الشرعي الواقعي في الزمان السابق على نهج القضايا الحقيقية فأين هذا مما نحن فيه، و قد ظهر لك ما في هذا الجواب مما ذكرناه في الأجوبة السابقة، فإن أدلة التقليد تدل على حجية الفتوى من دون تقييدها بالرجوع للفتوى كما تقدم و هل هو الا عين المتنازع فيه، ثمَّ انه على تقدير التقييد يثبت عدم حجية الفتوى للمكلف الموجود بعد موت المفتي لعدم حصول القيد و هو الرجوع له زمن حياته فلا نحتاج الى هذا الكلام، ثمَّ قد عرفت ان المستصحب هو الحكم الواقعي المتيقن بواسطة قيام الامارة عليه و هي دليل التقليد، و المستصحب ليس بقضية شرطية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 379

و إنما هو قضية فعلية فراجع ما ذكرناه في الأجوبة عن الاستصحابين يتضح لك الحال إنشاء اللّه.

(رابع الأدلة للمجوزين) لتقليد الميت مطلقا آية النفر في سورة البراءة

و هي قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ فإن الآية ظاهرة في وجوب التفقه و وجوب الإنذار و هما يستتبعان وجوب الحذر و القبول الشامل بإطلاقه لفتوى الحي و الميت فإنه يصدق على الميت بلحاظ زمان حياته انه أنذر بهذه الفتوى و حصل لمقلده التخوف و لو بعد مماته فيجب اتباعه و لو أبيت عن ذلك فلنفرض ان المجتهد قد أنذر في حال حياته و لم يتبعه العامي عصيانا ثمَّ بدا

له بعد موته اتباعه فهل ترى عدم صدق الإنذار في مثله و يتم المدعى في الباقي بضميمة عدم القول بالفصل. (و أجيب عن ذلك) ان ظاهر الآية اختصاص الحكم بإنذار الأحياء لأن الحياة لها مدخلية في حقيقة الإنذار. و الأمر بالتفقه و الإنذار متوجهان الى الاحياء (و لا يخفى ما فيه) لوضوح عدم مدخلية الحياة في حقيقة الإنذار و بقائه بعد الموت ألا ترى يصدق عرفا و لغة الإنذار على تهديد الميت و تحذيره لقومه أو أولاده بشي ء يقع بعد مماته، و الغريب ان هذا المورد استدل بهذه الآية تبعا للقوم على حجية الرواية فلو تمَّ ما ذكره لم يصح منه و منهم الاستدلال بها على حجية الرواية في هذه العصور لأنه لا بد و أن يكون في سلسلتها راوي ميت.

(خامس الأدلة للمجوزين) آية الكتمان

و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ و قد تقدم تقريب الاستدلال بها على جواز التقليد في أدلته و إذا تمَّ الاستدلال بها على ذلك فهي غير مختصة بالإحياء بل تدل على وجوب القبول من الأموات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 380

و الاحياء فراجع ذلك (و دعوى) انه لا إطلاق لها بالنسبة إلى الميت إذ لا يعقل في حقه الكتمان (مدفوعة) بأنه يتصور فيه الكتمان باعتبار زمان حياته فهي حيث دلت على ان هذا الميت يحرم عليه الكتمان حال حياته فتدل على وجوب قبول ما صدر منه حال حياته و لو بعد مماته ألا اللهم أن يقال انه لا إطلاق في المداليل الالتزامية بالنسبة إلى شي ء من الأحوال لأن الاستلزام أمر معنوي كما ينسب ذلك للشيخ الأنصاري (ره).

(سادس الأدلة للمجوزين) آية السؤال

و هو قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* بتقريب ان المراد بالسؤال هو الرجوع لهم لوضوح عدم ارادة خصوص الاستفهام بقرينة مناسبة الحكم للموضوع و الكلام فيها مثل الكلام في الآية السابقة عليها. و قد يقرب الاستدلال بها بأنه لو سئل ثمَّ مات المسؤول قبل عمل السائل و أخذه بالسؤال فإن الآية تدل على جواز العمل بقوله و يتم في الباقي بضميمة عدم القول بالفصل.

(سابع الأدلة للمجوزين) إطلاق ما دل على الرجوع لمثل زكريا بن آدم

و زرارة و محمد بن مسلم كما تقدم في 31 في أدلة التقليد فإنه بإطلاقه يشمل الرجوع لهم أحياء أو أمواتا و لذا استدل بذلك على حجية رواياتهم على من كان بعد زمانهم.

(ثامن الأدلة) [إطلاق ما جاء في التوقيع الشريف من الرجوع إلى رواه الحديث أحياء أو أمواتا]

ما رواه المشايخ الثلاثة في الغيبة و إكمال الدين و الاحتجاج في التوقيع الشريف لإسحاق بن يعقوب الذي قال فيه المرحوم الشيخ محمد طه نجف: انه مقطوع به أو كالمقطوع (و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) و وجه الاستدلال انه (ع) أمر بالرجوع إليهم سواء كانوا أحياء أو أمواتا لا سيما و قد شبه حجية قولهم بحجية نفسه الزكية (ع) و لذا استدل به على حجية الرواية حتى إذا كان الراوي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 381

ميتا، و قد أوردنا عليه و أجبنا عنه عند ما ذكرناه في أدلة التقليد ص 32

(تاسع الأدلة لهم) [رواية: فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه.]

ما حكي عن الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري من قوله (ع) في حديث طويل: «فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه». و وجه الدلالة ان الامام (ع) كان في مقام بيان صفات المفتي و لم يذكر فيها الحياة و ذلك يقتضي عدم اعتبارها و لكن الخبر ضعيف إنما يصلح للتأييد به لا التمسك به و يمكن أن يقال انه موثوق الصدور لأن أمارات الصدق ظاهرة عليه مع اشتهاره و اعتماد جملة من العلماء عليه فيصح التمسك به، و قد تقدم الكلام فيه ص 29 في أدلة التقليد فراجع. و نظير ذلك قوله (ع): «من عرف أحكامنا و نظر في حلالنا و حرامنا» فإنه يشمل الحي و الميت إلا انه لا يخفى ان ذلك في المخاصمة و هي لا تكون إلا عند الحي لا الميت فراجع الرواية.

(عاشر الأدلة لهم) قول العسكري (ع) في كتب بني فضال: «خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا»

فإنه لو كان تقليد الميت حرام لما احتاج الامام (ع) الى هذا الكلام لأنه يحرم على من كان بعدهم أن يأخذ برأي كل أحد مضافا الى أن تخصيص عدم الأخذ برأيهم فقط دون من عداهم يدل على جواز الأخذ برأي من عداهم بعد موتهم و إلا لمنع الامام (ع) من الأخذ بكل رأي أحد بعد الموت. (و دعوى) ان المراد المنع من آرائهم الاعتقادية لا وجه لها بعد عموم المنع و عدم تقييده (و لا يخفى ما فيه) فإنه مضافا الى انه من المحتمل ان بعضهم كانوا في زمن العسكري (ع) كما قيل ذلك في علي بن الحسن الفضال و وجود الشلمغاني عند السؤال. أن حرمة تقليد الميت ليست من المسائل البديهية حتى الامام (ع) يعتمد عليها في بيان

عدم الأخذ بآراء بني الفضال. و اللقب و الوصف ليس بحجة حتى تدل الرواية بمفهومها على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 382

جواز الأخذ برأي صحيح العقيدة، و قد تقدم الكلام في هذه الرواية ص 204

(الحادي عشر من أدلتهم) [رواية: هذا ديني و دين آبائي]

ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى بيوم و ليلة عن أبى الحسن (ع) بعد أن نظر فيه و تصفحه قال هذا ديني و دين آبائي. قال الفاضل التوني: و الظاهر انه كتاب فتوى فحصل تقرير الامام (ع) على تقليد يونس بعد موته، و بأن الصدوق صرح بجواز العمل بما في الفقيه مع انه كثيرا ما ينقل فيه فتاوى أبيه، و بما روي من أمرهم بالرجوع الى محمد بن مسلم و يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان كما هو المحكي عن تراجمهم في الكشي و تخصيص ذلك بحال الحياة دون الممات يحتاج الى دليل، و أجيب بأن الكتاب المذكور كان كتاب اخبار و لهذا عد من الأصول الأربعمائة و هذا هو الغالب في مؤلفاتهم و لم يتحقق الى الآن ان أحد من أصحاب الأئمة ألف في زمانهم (ع) كتاب فتوى إلا أن يشتمل عليها مع أدلتها سلمنا ذلك و لكن شهادة الإمام (ع) بصحته وجب كونه بمنزلة الخبر الواحد الصادر عنهم (ع) إلا انه ليس يجوز للعامي العمل به فإنه يكون نظير الخبر المقطوع الصدور فإنه لا يجوز للعامي أن يأخذ به و إنما يجوز ذلك للمجتهد و اما الصدوق فلعله من جهة ان فتاوى أبيه بمنزلة متون الاخبار عنده و اما الأمر بالرجوع الى ابان بن تغلب و غيره فقد أجيب عنه بأن ظاهره الرجوع إليهم في زمان الحياة دون الممات

لا سيما بقرينة السؤال (و لا يخفى ما فيه) فإنه لا ظهور في ذلك، و لذا تمسك بعضهم على حجية الخبر به مع انه حجة حتى بعد الممات

(الثاني عشر من أدلتهم) قوله (ع): «حلال محمد حلال الى يوم القيامة و حرامه حرام الى يوم القيامة»

فإن موت المجتهد لو كان مؤثرا في عدم جواز الأخذ بفتواه كان ذلك موجبا لتحريم ما أحل اللّه تعالى و تحليل ما حرم اللّه تعالى، و هل هذا إلا مضحكة للنسوان و ملعبة للصبيان (و لا يخفى ما فيه) فان الخصم يدعي ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 383

ما أحله اللّه هو الأخذ بالحي فقط و قد حرم الأخذ بالميت و هذا الحكم موجود ليوم القيامة فلو جعل الأخذ يعم الميت و الحي كان تبديلا لحكم اللّه و تحليلا لما حرم اللّه تعالى و هو الأخذ بالميت.

(الثالث عشر من أدلتهم) الأخبار الدالة على أن العلماء ورثة الأنبياء

و ان مدادهم أفضل من دماء الشهداء و ان العلماء أفضل من أنبياء بني إسرائيل.

و وجه التقريب ان تنزيل العلماء منزلة الأنبياء و جعلهم ورثة الأنبياء يقتضي عدم سقوط أقوالهم بعد مماتهم كالأنبياء (و لا يخفى ما فيه) فإنها ظاهرة في فضل العلماء و علو منزلتهم و هذا غير مسألة حجية أقوالهم و اعتبارها عند الشارع ثمَّ ان الرجوع الى الأنبياء ليس من باب التقليد بل من باب حصول القطع من أقوالهم و ليس الرجوع الى العلماء من هذا الباب بل هو من باب التقليد فلا يصح التنزيل من هذه الجهة و جعل قولهم مثل قول الأنبياء بعد موتهم فتأمل لما ذكرناه في مبحث الولاية.

(الرابع عشر من أدلتهم) انا نعلم بسبب الاستقراء و التتبع للحجيات المجعولة من الشارع عدم مدخلية الموت و الحياة فيها

لأنا نرى انه حكم بحجية قول المعصوم و لم يكن للموت و الحياة دخل فيه و نرى انه حكم بحجية قول العدلين إذا شهدا عند الحاكم فماتا قبل صدور الحكم و لم يكن الموت يزيل حجية قولهما و هكذا الروايات لم تبطل بموت رواتها و هكذا قضاء القضاة و حكمهم لم يبطل بالموت و هكذا قول أهل الخبرة و ذي اليد و قول أهل البلد في تعيين القبلة و قول الشخص فيما لم يعلم إلا من قبله و قول المرأة فيما يتعلق بفرجها (و الحاصل) انه إذا استقرئنا أبواب الفقه من أولها إلى آخرها نجد كل من جعل الشارع قوله حجة في حال حياته قد جعله الشارع حجة في حال مماته، فاذا شككنا في قول المفتي الذي جعله الشارع حجة في حال حياته انه حجة في حال مماته حكمنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 384

بحجيته بعد مماته أيضا للاستقراء المذكور و إلحاقا للفرد المشكوك بالأعم الأغلب لأن

القول بأنه ليس بحجة بعد مماته قول عادم النظير في أبواب الفقه (و فيه ما لا يخفى) فان الاستقراء عندنا ليس بحجة إلا إذا أفاد اليقين.

(الخامس عشر من أدلتهم) انه لو لم يجز تقليد الميت لزم الحرج

لأنه أغلب الناس فاقدون للاجتهاد و لا ريب في ان الكثير من الأزمنة و الأمكنة تخلو عن المجتهد و عن إمكان التوصل اليه بخلاف ما لو جوزنا تقليد الميت فإنه لهم في تلك الحال أن يرجعوا اليه (و فيه ما لا يخفى) إذ هذا الفرد نادر إذ الغالب التمكن من تقليد الحي و الرجوع اليه و لو فرض تحقق هذه الصورة فنلتزم فيها عدم وجوب تقليد الحي لما ذكره الخصم و لكن لا يوجب ذلك جواز تقليد الميت لان الحرج إنما يرفع التكليف لا انه يثبت التكليف و حينئذ يكون العامي بمنزلة ما لا دليل عنده ليرجع للاحتياط إن أمكن و إلا رجع للظن لأنه أقرب طرق الواقع لديه.

(السادس عشر لهم) انه لو لم يجز تقليد العالم الميت لكان مساويا للجاهل

الميت في عدم الاعتناء بقوله و عدم تقليده و هو باطل لقوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ (و فيه ما لا يخفى) فإن الآية الشريفة ليست ناظرة للتقليد و عدمه بل هي ناظرة للفضيلة و الكرامة و الشرف.

(السابع عشر لهم) ان العلماء قلدوا الأموات في أخبارهم

عن ان هذه الرواية عن الكتاب الفلاني و التقطيع للأخبار و وضع كل جزء من الرواية الواحدة في باب مناسب له و ان هذا الراوي عدل و ان معنى اللفظ كذا الى غير ذلك، و هو إفتاء منهم مضافا الى انه إذا جاز التقليد في هذه الأمور التي هي أسس الاحكام فليجز في غيرها (و جوابه) ان ذلك ليس بإفتاء منهم بل هي شهادة و اخبار حصل لهم من تتبع الاخبار و تصفح الآثار و النظر في اللوازم لمعرفة الملزومات و لو سلمنا أنها إفتاء منهم لكن الرجوع لهم ليس بتقليد و لذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 385

نفس المجتهدين يرجعون لهم و إنما هو من باب الانسداد أو من باب الرجوع لأهل الخبرة أو من باب حجية الرواية أو لدليل خاص أو غير ذلك، على انا لو سلمنا حجية تقليد الأموات في ذلك فلا نسلم حجية تقليدهم في الأحكام الفرعية للفرق بين الموضوعين لأن ثبوت الحجية في ذلك لا يوجب حجية التقليد.

(الثامن عشر لهم) ان أدلة التقليد إنما هي إمضاء لبناء العقلاء من الرجوع لأهل الخبرة،

و لا ريب ان العقلاء لا يفرقون بين الحي و الميت كما هو الحال في سائر موارد الرجوع الى أهل الخبرة (و جوابه) ان هذا مبني على فساد ما أقامه المانعون و إلا فيكون ردعا للعقلاء عن تقليد الأموات.

(التاسع عشر) قياس فتوى الميت على فتوى الغائب

(و جوابه) انه قياس مع الفارق لوجوده في قيد الحياة و تمكنه من البحث و الفحص و إظهار رأيه بخلاف الميت.

(العشرون) اعتبار فتوى الميت في إجماع السابقين

فلو لم تقبل فتواه لم تقدح مخالفتها و لم تعتبر موافقتها (و جوابه) ان حكم الإجماع غير حكم التقليد و يمكن عكس الدليل عليهم بأن يقال انه لو كانت فتواه ميتا معتبرة لاعتبرت في إجماع اللاحقين.

(الواحد و العشرون) ان الأمر بالكتابة و حفظ الكتب و توريثها

و السيرة المستمرة على ذلك دليل على اعتبار ما فيها (و جوابه) كما في شرح مقدمة كشف الغطاء للمرحوم عمنا الأعلى الشيخ حسن ان ما ذكر ان كان بالنسبة إلى كتب الرواية فهو لحفظ الرواية و لا كلام لنا فيه و ان كان لكتب الفتاوى فهو لتعرف الإجماع و المشهور و ما عليه المعظم و الجمهور و لمعرفة كيفية الاستنباط و الاستدلال و الانتقال الى الفحص عن المعارض عند تعدد الأقوال و للتنبيه على الفروع و الانتقال الى الافراد الخفية و ضبط الأبواب و بيان ما عند الأصحاب.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 386

(الثاني و العشرون) الأخبار الواردة في أجور المعلمين و المتعلمين

و طلب التعلم فإنها شاملة للأحياء و الأموات (و جوابه) ان التعلم غير التقليد فإنه يكون في العلوم الغير الشرعية و في العقائد الإلهية و الأصول الفقهية.

(الثالث و العشرون) ان الفتوى رواية في المعنى

فكما يؤخذ بها بعد الموت فكذا يؤخذ بالفتوى (و جوابه) ما تقدم منا من الفرق بينهما لأن الفتوى اخبار عن الرأي و لا تخلو من شائبة الإنشاء بخلاف الرواية.

(الرابع و العشرون) [رواية: علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا عليها]

ما رواه محمد بن إدريس الحلي عنهم (ع) في الطريق الصحيحة و غيرها (علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا عليها) فان ظاهره ان التفريع كالأصل في الأخذ به و كما ان الأصول لا تموت بموت الامام (ع) فهكذا الفروع لأنها مثلها في استناد الحكم إليها (و جوابه) ان التفريع لما كان بحسب نظر المجتهد فجواز العمل به بعد موته يحتاج الى دليل لاحتمال خطأه فيه.

حجة القائلين بالتفصيل بين التمكن من الرجوع الى الحي و بين عدم التمكن

قد عرفت فيما سبق عند تعداد الأقوال في هذه المسألة انه يظهر من المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة، و عن العلامة و غيره التفصيل بين صورة التمكن من الرجوع الى الحي فيحرم تقليد الميت و بين صورة عدم التمكن من الرجوع الى الحي اما لفقده أو لعدم إمكان الوصول اليه فيجوز تقليد الميت و لعل صورة الحرج في إمكان الوصول إليه ملحقة بصورة عدم التمكن من الرجوع الى الحي عندهم، و استدلوا على ذلك بلزوم الحرج و العسر المنفيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 387

في الشرع و استصحاب حجية قول الميت و بأن حكم المسألة قد تحقق و حصل من الدليل و الدليل لم يتغير بموت المستدل، و لا يخفى ان الحرج كما تقدم إنما يرفع التكليف بالرجوع إلى الحي و لا يثبت جواز الرجوع الى الميت و الاستصحاب و ما بعده لو تمَّ لكان يقتضي الرجوع الى الميت حتى مع التمكن من الحي (فالحق أن يقال) ان أدلة اعتبار الحياة ان كانت تثبت كون الحياة شرطا عند التمكن فلا بد عند ارتفاعه يثبت حجية قول الميت و ان كانت تثبت كون الحياة شرطا مطلقا فعند ارتفاعه يرتفع المشروط و لا يصح الرجوع اليه.

و لا ريب ان الظاهر من أدلة الاشتراط كالإجماع و نحوه ان الحياة شرط مطلقا فعند ارتفاعه يرتفع المشروط و هو الحجية. و عليه لا بد للعامي أن يرجع الى ما يحكم به عقله إذ ليس هناك حي يرجع اليه كما هو الفرض و الذي يحكم به عقله هو الرجوع الى ما هو الأقرب فالأقرب للواقع لعدم وجوب الاحتياط عليه لكونه فيه العسر و الحرج و للإجماع و الضرورة الدينية على عدم وجوبه و لعدم معرفته طرق الاحتياط (و الحاصل) انه يجب على العامي في هذا الحال أعني حال عدم التمكن من الرجوع للحي هو الرجوع الى ما يحكم به عقله و الذي يحكم به عقله هو الأقرب للواقع فالأقرب بحسب نظره لأنه لم يكن عنده طريق للواقع قد عبده الشارع به و قد ذكروا القوم ان الأقرب له هو القول المشهور إن أمكن تحصيله للعامي ثمَّ المنقول عن المشهور بشهادة عدلين إن أمكن و إلا فعدل واحد ثمَّ الأخذ بأوثق الأموات و أعلمهم كالشيخ (ره) و العلامة و المحقق و الشهيدين و نظائرهم ثمَّ الأخذ بقول مطلق الأموات ثمَّ الأخذ بمطلق الظن. و لا يخفى ان هذا هو واقع الحال و إلا فقد يحصل له الظن بغير ذلك و هو المتبع لانسداد باب العلم و العلمي عليه، و في مقدمة جدي كاشف الغطاء انه إذا انسد الطريق على العامي لفقد المجتهد أو بعده أو منعت التقية و نحوها عن الوصول اليه أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 388

الكتابة له أو تعسر ذلك و كان الاحتياط لا عسر فيه و لا حرج وجب الأخذ به و إلا اعتمد مع العلم بالتكليف و

إجماله مع قابليته في الجملة على ترجيحه من الأدلة من كتاب و سنة أو إجماع ثمَّ شهرة منقولين أو محصلين و إن لم يكن أهل لذلك رجع الى الكتب المعتمدة المشتملة على فتاوى الأموات الأقرب الى الضبط و الاعتماد فالأقرب ككتب الشهيد و المحقق و نحوهما مباشرة أو بالواسطة، و قد علق على ذلك ولده الحسن بقوله و لا يبعد تقديم هذه المرتبة الأخيرة على سابقتها لأن هذا نوع من التقليد لمن هو أهل للاجتهاد في الجملة بخلاف الأولى لقلة الاعتماد على رأي غير المجتهد، ثمَّ قال جدي كاشف الغطاء (ره): فان فقد القابلية و الواسطة رجع الى بعض الثقات العارفين فيما يفهمونه من الأدلة الأعرف فالأعرف و الأعدل فالأعدل بالمشافهة و بالواسطة و ان تعذر ذلك رجع الى الظنون الحدسية و الاستقرائية و خبر الفاسق و غيرها إلا ما دخل في اسم القياس في وجه قوي، و قد علق على ذلك شبله الحسن بقوله و يقوى الأخذ به (أي بالقياس) لان تحريمه و الحال هذه محل منع و نظر بل الظاهر تقديم الحكم ببقاء التكليف و العمل بالقياس حين لا مندوحة عنه. ثمَّ قال جدي كاشف الغطاء (ره): و إذا تعذر الجميع وجبت الهجرة عن تلك الديار و ربما قيل بالوجوب في جميع أقسام الاضطرار، و قد علق على ذلك شبله الحسن بقوله و هو الحق ان كان المراد به السفر أو شبه السفر مع عدم الضرر لدلالة آية النفر و لقاعدة باب المقدمة القاضية بوجوب التعلم و للأخبار المطلقة الدالة على طلب العلم و ان كان المراد به مفارقة الأوطان و الاعراض عن البلدان و تحمل الضرر الناشي عن ترك المال الذي يضر

تركه بالحال فوجوبه من جهة فوات اختياري الاجتهاد و التقليد يحتاج الى دليل بل الدليل على خلافه لما دل على نفي العسر و الحرج. و ان الشريعة سمحة سهلة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 389

حجة القائلين بالتفصيل بين من علم انه لا يفتي إلا بمنطوق الأدلة و بين غيره

قد عرفت فيما سبق التفصيل بين من علم من حاله انه لا يفتي إلا بمنطوقات الأدلة و مدلولاتها الصريحة كابني بابويه و غيرهما من القدماء فيجوز تقليده حيا كان أو ميتا و بين من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل باللوازم الغير البينة في الافراد الجزئية الغير الواضحة الاندراج فلا يقلد ميتا، و يظهر من صاحب الوافية القول به، و لعل الوجه في ذلك ان الأول يكون تقليده عبارة عن العمل بالرواية و هو جائز لأن أدلة حجية الخبر تدل على حجيتها سواء كان الراوي حيا أو ميتا و ان الثاني يقتصر فيه على القدر المتيقن و المتيقن من ذلك هو تقليد الحي (و لكن لا يخفى ما فيه) فإنه مضافا الى عدم القول به ممن تقدم على صاحب الوافية فيكون خرقا للإجماع المركب، إن العامي لا يجوز له العمل بالرواية إلا إذا كان مجتهدا كما قرر في محله فلا يجوز للعامي أن يعمل بالقسم الأول من باب جواز العمل بالرواية و إنما يجوز له أن يعمل به من باب التقليد و قد فرض الخصم ان القدر المتيقن منه هو الحي.

حجة المفصلين بين صورة موافقة الميت مع الحي و صورة المخالفة

ذهب بعضهم الى جواز تقليد الميت لو كانت فتواه مطابقة لفتوى الحي و عدم الجواز لو كانت مخالفة و استدل على الدعوى الثانية بالأدلة التي أقاموها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 390

المانعون من تقليد الميت، و استدل على الدعوى الاولى ان العمل لما كان موافقا لرأيهما كان صحيحا لا محالة لحجية أحدهما سواء قلنا ان التقليد التزام بقول الغير أو عمل به لأنه طريق و كاشف عن الواقع لا يترتب على عدم الالتزام به عدم صحة العمل. نعم يحرم من

باب التشريع الالتزام بحجية قول الميت شرعا إذا لم يقم دليل على حجيته شرعا.

حجة القول بالتفصيل بين التقليد الابتدائي و الاستمراري

قد عرفت فيما سبق ان بعضهم من فصل بين التقليد ابتداء للميت فمنع منه و بين التقليد الاستمراري للميت بمعنى بقائه على تقليده فصححه، و لعل أكثر المتأخرين على هذا التفصيل فاذا قلد مجتهدا ثمَّ مات المجتهد بقي على تقليده له. قال العلامة الشبري حفظه اللّه و نسب هذا القول إلى علامة زمانه و نادرة أو انه الشيخ جعفر النجفي كاشف الغطاء. ثمَّ ان القائلين بالبقاء على تقليد الميت اختلفوا في مقامات ثلاثة: (أحدها) في وجوب البقاء و جوازه، فبعضهم قال بوجوب البقاء، و آخرون قالوا بالجواز و ان العامي مخير بين أن يعدل إلى الحي أو يبقى على تقليد الميت.

(ثانيها) في صحة البقاء على سائر المسائل سواء عمل بها أو لم يعمل أو البقاء على خصوص المسائل التي عمل بها أو التي صارت محل ابتلائه و إن لم يعمل بها أو التي التزم بها في تقليده و إن لم تكن عمل بها و لا محل ابتلائه.

(ثالثها) في صحة البقاء بشرط كون الميت أعلم أو صحة البقاء مطلقا حتى لو كان الحي أعلم.

و قد استدلوا على حرمة التقليد للميت ابتداء
اشارة

بما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 391

سبق من الأدلة و على صحة التقليد للميت استمرارا بوجوه:

(أحدها) الاستصحاب

، و قد قرر بوجوه:

(منها) استصحاب الأحكام الشرعية الفرعية التكليفية أو الوضعية التي قلده فيها كوجوب جلسة الاستراحة و نجاسة الماء القليل بالملاقاة و حرمة العصير العنبي و وجوب القصر عند قطع أربعة فراسخ و نحو ذلك لليقين بثبوتها عليه و بعد موت المجتهد يشك في ذلك فيستصحبها.

(إن قلت) ان ثبوت هذه الاحكام لمعروضاتها في حق المقلد متقوم برأي المجتهد و ظنه إذ لولاه لما ثبتت في حقه و إذا كان الرأي له دخل في موضوعها فلا بد في الاستصحاب من إحراز بقائه بعد الموت (قلنا) ان الرأي ليس له دخل في عروض الاحكام لموضوعاتها و إنما هو كسائر الحجج التعبدية واسطة في الكشف و الإثبات فحرمة شرب التتن على المقلد بواسطة كشف فتوى المجتهد لا انه بعنوان أنه أفتى به المجتهد فيجوز استصحابها حتى مع القطع بزوال الرأي بالموت أو النسيان و نحوهما و لا ينتقض ذلك بتبدل الرأي زمان حياة المجتهد لأن شرط حجية الرأي هو كاشفيته عن الواقع و مع التبدل تزول كاشفيته نظير الشاهد إذا ظهر له الخطأ في مستنده، و ليس ذلك من جهة اشتراط حجية الرأي ببقاء الرأي، مع انا نقول باستصحاب بقاء الرأي بعد الموت كما نستصحب بقاء رأي المجتهد في زمن حياته و ترتب عليه آثار الحجية.

(إن قلت) هذا في آرائه القطعية إما آرائه الظنية فحيث بالموت ينكشف له الواقع فهي تزول قطعا (قلنا) لكن نحتمل بقائها بانقلاب ظنه الى القطع فيكون خروجا من حد الضعف إلى القوة و في مثله يجري الاستصحاب لأن الموضوع هو الكاشفية و

هي موجودة في المرتبتين.

و (منها) استصحاب حجية قول المجتهد في حقه أو جواز عمله بقوله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 392

(و منها) استصحاب حرمة العدول عنه على القول بها.

(و منها) استصحاب وجوب البقاء على تقليده فإنه في زمن حياته يجب البقاء فهكذا بعد مماته.

(و منها) ان تقليده قد صح و انعقد حال حياة المجتهد فيستصحب صحته بعد موته، و هذا كما لو صح البيع و انعقد و شك في صحته من جهة عروض عارض و مزيلية مزيل كما لو فسخ المغبون العالم بالغبن حال العقد و شككنا في تأثير فسخه و انه رافع لصحة العقد أم لا فانا نستصحب صحته. و قد أورد على الاستصحاب (أولا) كما هو في الكفاية انه لا يقين بالحكم شرعا سابقا فان جواز التقليد إن كان بحكم العقل و قضية الفطرة فواضح فان ذلك لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف و العذر فيما أخطأ و إن كان بالنقل فكذلك لما هو التحقيق من أن قضية الحجية شرعا ليس إلا ذلك لا لحكم ظاهري و لا واقعي فلا مجال لاستصحاب ما قلده به لعدم القطع به سابقا إلا على ما تكلفناه في بعض تنبيهات الاستصحاب، انتهى ملخصا و موضحا. (و فيه ما لا يخفى) فإنه لا مانع من استصحاب الحجية التي هي حكم وضعي فكما كانت ثابتة لفتوى المجتهد زمان حياته فهي ثابتة عند موته (و بعبارة أخرى) ان هذه المنجزية عند الإصابة و العذرية عند المخالفة لما كانت مجعولة من الشارع و لو بجعل منشئها و لو بنحو تقرير العرف فنستصحبها بعد موت المجتهد للفتوى، مضافا إلا أن ما تكلفه في ذلك المقام أعني التنبيه

الثاني من تنبيهات الاستصحاب إذا لم يكن هناك ما يقتضي فساده كفى جريانه و لا وجه لرفع اليد عنه من حيث انه جرى بالتكلف، ثمَّ ان ذلك نظير ما لو شك في تبدل رأيه. و أورد على الاستصحاب (ثانيا) كما في الكفاية بما حاصله انه لا بد من إحراز بقاء الموضوع عرفا و لم يحرز في المقام لأن الرأي قيد لموضوع الاحكام التقليدية عرفا و لو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 393

احتمالا و الرأي منتف عرفا بعد الموت فلا يجوز استصحابها لعدم إحراز بقاء موضوعها (و فيه ما عرفت) من ان العرف لا يرى ذلك قطعا و إنما يرى ان حدوث الرأي مع عدم تبدله و إفساده من صاحبه هو الموضوع و ان حياته لا دخل لها في الحجية لأن الحجية من جهة الكاشفية عن الواقع و الحياة لا دخل لها في كاشفية الفتوى عن الواقع فالموت عندهم كالنوم و الغفلة و النسيان.

(ثاني الأدلة) [على صحة تقليد الميت استمرارا]

ما ذكره أستاذنا المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي (قده) و حاصله انه يمكن أن يقال انه بعد أن أخذ الحكم من الحي و قام الدليل على حجية فتواه عليه كان ممن يعلم بالوظيفة فلا دليل على جواز رجوعه الى غيره كما يقال مثل ذلك في العدول من الحي إلى الحي فيثبت المطلوب بمقدمتين:

(إحداهما) حجية قول الحي بالنسبة اليه. و (الثانية) عدم جواز رجوع من كان له حجة الى غيره و كلتا المقدمتين ثابتتان. (إن قلت) انا نمنع من حجية قوله حتى بعد موته لأن حجية الفتوى متقومة بالظن و الرأي لأن الفتوى ترجع الى نقل ما يقتضيه نظره في المسألة بعد ضم جهاتها بعضها الى بعض، و من الواضح ان

ذلك قائم برأيه و نظره. بل ما يحكيه المفتي ليس إلا الحكم الظاهري و تقومه بالظن من الأمور الواضحة و لذا يقع وسطا في القضية التي يستنتج منها الوظيفة فيقال هذا ما أدى اليه ظني و كل ما أدي اليه ظني فهو حكم اللّه في حقي و حق مقلدي و اما زوال الرأي و الظن بالموت فلعله مما لا ينبغي الإشكال فيه لأنهما متقومان بالحياة فبعد الموت تزول الحجية بزوال موضوعها فلا تقاس الفتوى بالرواية أو بالشهادة أو بسائر الحكايات التي لا تتقوم بالظن و الرأي (قلنا) نمنع من كلتا المقدمتين، أما المقدمة القائلة بأن حجية الفتوى متقومة بالرأي و الظن فوجه منعها ان المفتي به هو ما يقتضيه القواعد المقررة و رأي المجتهد و ظنه ليس إلا طريقا لاستفادة ذلك فان المجتهد يخبر بأن مقتضى القوانين الشرعية لي و لك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 394

أيها العامي ذلك فان كان هنا خبر دال على المسألة فواضح، فإن حجية الأخبار غير مختصة بالمجتهد فهو يخبره عن مفاد الحجة له و ان كان هناك تعارض و ترجيح فكذلك و ان كان هناك رواية و كان لها معارض بدون ترجيح فالوظيفة بمقتضى اخبار التخيير هو التخيير و هذا أيضا غير مختص بالمجتهد و ان لم تكن هناك رواية و كان المقام مقام الرجوع الى الأصول فيخبره المجتهد ان وظيفته هنا الأصل و مفاد الأصل كذا، و ما عرفنا موضوعية لظن المجتهد في مقام رجوع المقلد اليه فهو كرجوع المريض الى الطبيب في معرفة الدواء (نعم) المجتهد يتكل و يستريح الى فهمه و المقلد يستريح للواقع الذي أخبره به كما ان الراوي يستريح إلى الرواية

بمقتضى ما يسمعه و المروي له يستريح الى ما روي له و ليس لشي ء من الرواية و السماع موضوعية في مقام الوظائف المجعولة فمدخلية الرأي و الظن في الفتوى مثل مدخلية الرؤية و السماع في الرواية و الشهادة من حيث ان المناط بالمرئي و المسموع. و أما المقدمة الثانية و هي ان زوال الرأي بالموت يوجب زوال الحجية عن الفتوى فمنعها من جهة انا نمنع مدخلية الرأي في الحجية بقاءا و إنما له مدخلية فيها حدوثا كما يؤيد ذلك بقاء الحجية و جواز العمل و لو بعد زوال الرأي في حال حياته بالغفلة بل و زواله من رأس ما لم ينته الى توقف أو رجوع عن الرأي إلى دليل و حينئذ فلا مانع من استصحاب حجيته و جواز الرجوع اليه بل يمكن المنع من زوال رأيه بعد الموت. غاية الأمر أن يصير مظنونه معلوما و حدسه حسا.

(ثالث الأدلة) على جواز البقاء على تقليد الميت

ما روي في جواب السؤال عن كتب الشلمغاني ممن كانت بيوتهم منها ملائا و كانوا يعملون بها قبل الردة ظاهرا. من قول الشيخ ابن روح (ره) أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني فضال خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا فإنه يدل على جواز الأخذ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 395

بما رأوا أيضا لو لا الردة. (و دعوى) احتمال ان المقصود بما رأوا نفس الرأي الذي ارتدوا به (فاسدة) ضرورة أن الردة حدثت بعد امتلاء بيوتهم من كتبهم فهي خالية عن آراء الضلال و لا أقل من وجود كتاب واحد منها أخذوا منه قبل الردة خالي عن ذلك بحيث يوجب عدم النهي عن العموم. و بالجملة ظاهر العبارة مع قرائن الحال و

شواهد الاعتبار ان الردة مانعة عن الأخذ بالرأي لاشتراط الايمان دون الأخذ بالرواية لكفاية حصول الوثوق في قبولها من أي شخص كانت. و لا يخدش ذلك ظهورها في جواز الأخذ ابتداء و استمرارا (ضرورة) أن قيام الدليل المخرج لصورة الابتداء لا يوجب سقوط الرواية عن الحجية في الباقي، هذا مضافا الى أن السائل ممن كان عاملا برأيهم لأنه هو موردها و الخطاب و الجواب إنما كانا مشافهة له (و لكن لا يخفى) ما فيه فإنه من المحتمل ان كتبهم كانت مشتملة على الروايات فقط إذ من البعيد جدا اعمال الرأي و النظر في تلك الأعصار من أصحاب الأئمة (ع) فلما ظهرت منهم الآراء الباطلة خشي الشيعة ان ذلك يوجب طرح رواياتهم و لو بواسطة احتمال دس الاخبار المكذوبة بواسطة سوء عقيدتهم فأزال الإمام (ع) الاحتمال المذكور و بين ان خبث آرائهم فعلا لا يضر بما رووه و لما كان قد يتخيل البسيط ان الأخذ بالروايات منهم يصحح الاعتماد عليهم في تلك الآراء الباطلة استدرك الامام (ع) و ابن روح (ره) ذلك و قال: ذروا آرائهم.

و قد تقدم الكلام في هذه الرواية ص 204 و 381.

(رابع الأدلة) على جواز البقاء على تقليد الميت السيرة

على البقاء على تقليد الميت فان الطبيب إذا قال للإنسان إذا كان هذا سمالا تستعمله يبقى على تقليده له و هي عمدة أدلة التقليد و لم يفرق فيها بين الحياة و الموت كيف و الارتكاز الفطري الذي هو مصدر السيرة الذي قد جعلوه هو الدليل على التقليد للعامي لم يكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 396

فيه ملاحظة للموت و الحياة في كاشفية الفتوى و حجيتها بل السيرة المعلومة من الشيعة في عصر الأئمة (ع) عدم رجوعهم عما

أخذوه تقليدا بعد موت المفتي لهم. و لو كان ذلك لنقل إلينا بواسطة عموم البلوى و مثله يعطي العلم برضاء الامام (ع) و تقريره الشيعة على البقاء، و الإجماع على المنع من تقليد الميت القدر المتيقن منه هو الابتدائي، و الآيات و الأخبار لو دلت على الرجوع للمجتهدين الأحياء فهي مطلقة تشمل من ماتوا بعد الرجوع إليهم احياء فلا رادع عن السيرة. و قد أجيب عن ذلك بأن المعلوم لدينا ان نوع أصحاب الأئمة (ع) في عصرهم يأخذون الأحكام على سبيل الرواية عن المعصومين الأطهار (ع) من دون دخل للرأي فيه و هو ليس بتقليد و لم يعلم الى الآن حال من تعبد بفتوى غيره منهم في عصر الامام (ع) انه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته، فكيف يدعى السيرة القطعية و يؤيد ذلك ما في تقريرات الشيخ الأنصاري (ره) من الفرق بين ذلك العصر و هذا العصر من أن ذلك العصر لم يكن الاجتهاد فيه مبني على هذه الظنون و الحدسيات بل يحصل من الرواية الواضحة الصدور البينة الوجه لمشافهة الواسطة للإمام (ع). (و لا يخفى ما فيه) فإنه من الواضح الجلي ان الشيعة في عصر الأئمة (ع) لم يكن كلهم يرجعون للأئمة في مسائلهم لبعد المسافة و شدة الخوف من الأعداء فكانوا يرجعون لرواتهم في مسائلهم و هم يفتون لهم بما يظهر لديهم من كلمات الأئمة (ع) و لم يكن ذلك بخفيف المؤنة، بل لعله يكون الاشتباه عليهم أزيد و لذا كانت تخفى عليهم أخبار التقية و يفتي و يعمل بمضمونها و نحن بواسطة ما عندنا من كتب الأخبار يكون الأمر علينا أوضح منهم، سلمنا لكن إذا ثبت جواز البقاء على

تقليد الميت في بعض المسائل يثبت في البعض الآخر بضميمة عدم القول بالفصل سلمنا لكن السيرة العامة و الركيزة الفطرية على ذلك التي هي مصدر العمل بالتقليد و لم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 397

يردعوا الأئمة (ع) عنها.

(و الحاصل) انه لا ريب في وجود التقليد في زمن النبي (ص) و الأئمة (ع) و ليس أمرا مبتدعا في زماننا قطعا و لا شك في اختلاف المذاهب في ذلك العصر المذكور و كثرة المجتهدين في عصر الأئمة (ع) و كان العوام يأخذون من كل مجتهد مسألة فلو كان العدول إلى الحي أمرا لازما لوجب على الأئمة ذكره و اشتهر كالشمس في رابعة النهار لكون المسألة مما تعم بها البلوى فالتقليد كنظائره من الخبر الواحد و الإقرار و اليد و البينة.

(خامس الأدلة لهم) ان الإجماع على المنع من تقليد الميت القدر المتيقن منه هو الابتدائي

فيخرج عن أدلة جواز التقليد و اما الاستمراري فيبقى تحتها (و فيه) ان معاقد الإجماع عامة تشمل الابتدائي و الاستمراري قبل قول المفصل المذكور. هذا و قد عرفت فيما تقدم من أن الإجماع هنا ليس بحجة لوجود المخالف و لاحتمال استناد المجمعين لقاعدة الاحتياط و عدم جريان الاستصحاب عندهم فلا فرق بين الابتدائي و الاستمراري من هذه الجهة.

(سادس الأدلة لهم) التمسك بإطلاق أدلة التقليد

بدعوى ان أدلة التقليد مطلقة تدل على حجية فتوى المجتهد لكل مكلف عامي في زمان حياته سواء مات ذلك المجتهد أم لا، فهي تدل على وجوب الرجوع الى المجتهد و العمل بفتواه سواء مات ذلك المجتهد بعد الأخذ بفتواه أم لم يمت (و بعبارة أخرى) ان أدلة التقليد إذا كانت منصرفة لتقليد الأحياء بمعنى ان ظاهرها هو الأخذ من الحي، فهي لا تشمل التقليد الميت الابتدائي و لكنها تشمل الاستمراري لأنه قد أخذ فيه الفتوى من الحي. و أجاب عنه استاذنا المشكيني (ره) ان الأخذ من الحي صادق بالنسبة إلى الأعمال الماضية و ليس كذلك بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة بل الصادق فيها هو الأخذ بقول الميت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 398

(و لا يخفى ما فيه) فان المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في حينه و هذا يصدق عليه إنه قد أخذ بقول المجتهد حين حياته، و قد أورد المحقق الأصفهاني (ره) على التمسك بالإطلاق على جواز البقاء بأن من شرط التمسك بالإطلاق هو ثبوت المطلق في سائر مراتب الإطلاق، و المفروض ان رأي الفقيه هو الموضوع الذي يراد ثبوت جواز العمل به في حالتي الحياة و الممات مع انه ينعدم في حال الممات بانعدام موضوعه عند العرف (و لا يخفى ما فيه) فان الرأي

له وجود اعتباري بمجرد تكونه في نفس صاحبه و يكون حالتي الحياة لصاحبه و الممات من الطواري عليه.

(سابع الأدلة لهم) انه لو حكم بوجوب العدول في الاستمراري لزم الحرج

و هو منفي في الشرع (و جوابه) انه لا عسر في ذلك فهو نظير أخذه المسائل الشرعية أول تقليده و نظير ما إذا تبدلت آرائه و لا يلزم من العدول اعادة أعماله السابقة حتى يكون عليه عسر و حرج لما تقدم منا في تبدل رأي المجتهد.

(ثامن الأدلة لهم) ان الأمر في المقام يدور بين الأخذ بالميت

لاحتمال تعينه لفتوى بعضهم بوجوب الأخذ به و بين التخيير بينه و بين الأخذ بالحي.

(و جوابه) انه بعضهم أفتى أيضا بوجوب الأخذ بالحي فلو أريد الرجوع الى الاحتياط فلا بد من الأخذ بأحوط القولين من الميت و الحي و إلا فالتخيير بينهما لاحتمال وجوب كل واحد منهما حذرا من الترجيح بلا مرجح و بطلان تساقطها و بقاء المقلد بلا طريق للواقع أو رجوعه لغير الفتوى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 399

أدلة المانعين من التقليد الاستمراري للميت
اشارة

مضافا الى أدلة القول بالمنع من تقليد الميت مطلقا استدل القوم على المنع من البقاء على تقليد الميت بأمور:

(أحدها) ما في تقريرات الشيخ الأنصاري (ره) من الإجماع على المنع من تقليد الميت مطلقا

كما هو الظاهر من كلماتهم و معاقد إجماعاتهم للمتتبع لكلام القوم و قد حدث هذا التفصيل من بعض المتأخرين كما نص عليه السيد الصدر في المحكي من كلامه و حينئذ فيكون الإجماع منعقد عند المتقدمين على خلاف هذا التفصيل، انتهى ملخصا. و لا وجه لما أجاب به بعض المتأخرين من عدم انعقاده لوجود المخالف أو ان القدر المتيقن هو الابتدائي لما عرفت من أن المخالف هو من المتأخرين لا من المتقدمين و إطلاق معاقد الإجماعات تشمل الابتدائي و الاستمراري (و دعوى) صاحب الفصول ان التقليد الاستمراري ليس بتقليد حقيقة و إنما هو استمرار له فهي فاسدة فإن استمرار الشي ء عبارة عن وجوده في الآن الثاني و إلا لم يستمر وجوده. (و الاولى) أن يجاب عنه بأن هذا الإجماع غير كاشف عن رأي المعصوم لاحتمال استناد المجمعين فيه للاحتياط في نظرهم و عدم جريان الاستصحاب عندهم أو لأدلة غير صحيحة في نظرنا مضافا إلى معارضة إطلاق هذا الإجماع بإطلاق الإجماع على عدم جواز العدول عمن قلده فإنه مطلق يشمل محل البحث و إطلاق إجماعهم على جواز التقليد للمجتهد فإنه يشمل الاستمرار على تقليده حتى بعد موته و الابتدائي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 400

(ثانيها) ان الأخذ بقول الحي أحوط و أولى

كما هو المحكي عن الفاضل الأسترابادي (و فيه ما لا يخفى) فإنه كيف يكون أحوط مع الإجماع المدعى على عدم جواز العدول الذي معقده يشمل ما نحن فيه فنحن كما نحتمل الحرمة في البقاء نحتمل الحرمة في العدول فمقتضى القاعدة التخيير بينهما كما تقدم في ثامن الأدلة للقائلين بصحة البقاء على تقليد الميت.

(ثالثها) ان الدليل على لزوم التقليد للعامي هو الفطرة

فإنه لا دليل له غيرها و القدر المتيقن له هو الرجوع للحي و ما عداه مشكوك الحجية و مع الشك في الحجية لا حجية كما تقرر في محله (و جوابه) ان الفطرة عند العامي لا يفرق فيها بين الحي و الميت إذ لا يرى أن الحياة و الموت له دخل في الكاشفية عن الواقع.

(رابعها) ان العامي إنما يبقى على تقليد الميت بالرجوع إلى الحي

و لا يجوز للمجتهد الحي أن يفتي بالبقاء على تقليد الميت في المسائل المخالفة له لأنها في نظره أحكام بخلاف ما أنزل اللّه تعالى لفتواه بخلافها (و جوابه) انها ليست بخلاف ما أنزل اللّه في حق العامي و هو إنما يفتي للعامي لا لعمل نفسه ألا ترى ان المجتهد يفتي للعامي بأن حكم هذا الماء طاهر له لعدم علمه السابق بنجاسته مع انه بالنسبة إليه يكون نجسا لعلمه السابق بنجاسته.

(خامسها) ان المجتهد بموته ينكشف له خطأه فيما أخطأ به من الفتاوى فيعدل عنه.

و حيث ان موارد العدول غير معلومة فلم يجز الفتوى بالبقاء عليها (و جوابه) انه لا ينافي الجعل للحجية العلم الإجمالي بالكذب كما في الامارات و البينات سلمنا لكن لا علم إجمالي لنا بعلم الميت بأنه قد أخطأ في فتاواه إذ لعلها كانت مطابقة للواقع. و عليه فلا نعلم بعد و له عن بعضها إجمالا، و مع الشك نستصحب بقاء رأيه كما لو شككنا في تبدل رأيه في زمان حياته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 401

(سادسها) [ظهور رواية: هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر.]

الصحيح الذي رواه الصدوق (ره) في علل الشرائع عن ابن محبوب عن يعقوب السراج قال لأبي عبد اللّه (ع) هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم فقال له إذا لا يعبد اللّه يا أبا يوسف. وجه الدلالة هو ان الخبر ظاهر في اعتبار وجود مجتهد يكون هو المرجع في الأحكام الشرعية يفزع اليه. و في البقاء على تقليد الميت لا يكون فزع للحي.

(إن قلت): إن هذا الخبر قد رواه في البصائر بهذا النحو و هو قال:

قلت لأبي عبد اللّه لا تخلو الأرض من عالم منكم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم فقال (ع): لا إن هذا ليتبين في كتاب اللّه تعالى فقال يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا عدوكم ممن يخالفكم وَ رٰابِطُوا إمامكم وَ اتَّقُوا اللّٰهَ فيما يأمركم و فرض عليكم، و هذا يدل على اعتبار وجود الإمام في كل عصر لا لزوم الرجوع لمجتهد حي في كل عصر. (قلنا): لعلهما روايتان من راوي واحد فالأولى تدل على لزوم وجود المجتهد الحي. و الثانية على لزوم وجود الامام (ع) في كل عصر و عدم خلو

زمان منه (ع) و مع فرض المنافاة فالمقدم هي النسخة الأولى لأن الأصل عدم الزيادة مع انه لا يلزم ظهور الامام منهم (ع) فإن امام العصر (ع) غائب عنا. (و جوابه) ان هذه الرواية إنما تدل على لزوم وجود المجتهد الحي و نحن نقول بذلك فان البقاء على تقليد الميت لا بد أن يكون العامي يرجع للحي فيه. مضافا الى أن ظاهر الخبر هو الرجوع إليه في الشؤون العامة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و اقامة الحدود و حفظ الأموال للقاصرين و غير ذلك مما يتوقف على المجتهد الحي و هذا لا يستطيع أحد إنكاره فإن هذه الأمور لا يستطيع الميت القيام بها و قد تقدم انه لا بد من وجود مجتهد حي يفزع فيها اليه و لعل رواية البصائر ناظرة لذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 402

(سابعها) ان جواز البقاء على تقليد الميت يوجب انحصار المرجع في التقليد بواحد

و هو مناف لضرورة المذهب كما هو واضح و (لا يخفى ما فيه) انه لا يلزم منه الانحصار إلا إذا قلنا بوجوب تقليد الميت ابتداء و كان الميت أعلم ممن يوجد بعده و قلنا بوجوب تقليد الأعلم حتى مع الموافقة للمفضول في الفتوى مضافا الى أنا لا نسلم منافاته لضرورة المذهب.

اختلاف القائلين بصحة البقاء في ثلاثة مقامات

ثمَّ ان القائلين بصحة البقاء على تقليد الميت اختلفوا في مقامات ثلاثة:

(أحدها) في وجوب البقاء و جوازه.

(و ثانيها) في صحة البقاء في سائر المسائل أو خصوص ما عمل بها أو ما كانت محل ابتلائه و إن لم يعمل بها.

(و ثالثها) في صحة البقاء مع كون الحي أفضل بناء على وجوب تقليد الأفضل و في هذا المقام الثالث توجد سبعة مذاهب فبعضهم جوّز الأمرين بأن يكون المقلد مختارا بين البقاء على تقليد الميت و بين الرجوع الى الحي سواء كان أحدهما اعلم أم لا. جمعا بين ما دل على لزوم البقاء و بين ما دل على لزوم الرجوع للحي.

و بعضهم أوجب البقاء مطلقا مدعيا على ذلك الإجماع. و بعضهم أوجب البقاء إلا إذا وجد من هو أعلم من الميت فيرجع الى الحي الأعلم. و بعضهم أوجب العدول إلا إذا كان الميت أعلم فيتخير. و بعضهم في هذه الصورة أوجب البقاء إذا كان الميت أعلم. و بعضهم أوجب الرجوع الى الأعلم منهما و مع التساوي يتخير. و بعضهم فصل بما حاصله انه في صورة ما إذا كان جاهلا بمخالفة الميت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 403

للحي الذي هو جائز تقليده في الفتوى فجوز البقاء و في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى فان كان الميت أعلم أوجب البقاء على تقليده و ان كان الحي

أعلم أوجب العدول اليه و أما مع العلم بتساويهما أو احتمال أعلمية أحدهما فأوجب الاحتياط.

حجة القائلين بوجوب البقاء على تقليد الميت مطلقا

ذهب مشهور المتأخرين إلى وجوب البقاء مطلقا و إن اختلفوا فيما يجب عليه البقاء هل هو الفتاوى مطلقا أو خصوص الفتاوى التي عمل بها العامي أو خصوص ما إذا كانت محل ابتلائه سواء عمل بها أم لم يعمل و الدليل على وجوب البقاء على التقليد مطلقا ان التقليد إنما يصح إذا لم تكن حجة لديه و هو بتقليده للغير و التزامه بأقواله و فتاويه كانت عنده حجة على الأحكام الشرعية سواء عمل بها أم لم يعمل ابتلى بها أم لم يبتل. نعم مع عدم تقليده له لم تكن فتاواه أحكاما له لعدم صدق الرجوع اليه و أدلة التقليد ظاهرة في ثبوت الاحكام في خصوص من رجع الى المجتهد فان قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* إنما تقتضي حجية الجواب بالنسبة للسائل و الراجع إليهم لا مطلق المقلد إلا إذا قام دليل آخر على وجوب متابعة الغير للسائل في الجواب كما في السؤال من الأئمة (ع) و هكذا مثل قوله (ع) نعم.

عند ما قال له عبد العزيز بن المهدي ربما احتاج و لست ألقاك في كل وقت أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني الى غير ذلك من أدلة التقليد الدالة على الحجية لخصوص الآخذ و الملتزم لا مطلق المقلد. و يمكن أن يقال عليه ان العامي إذا لم يرجع للمجتهد الذي قلده فاستصحابه للحجية أو غير ذلك يقتضي وجوب بقائه و ان الحي إذا رجع إليه العامي لمعرفة احكامه انها هي التي قلد بها الميت أم غيرها يرى أن للعامي حجتين: إحداهما فتوى الميت. و الثانية الأدلة التي

قامت عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 404

على الحكم الشرعي فإنها في نظره حجة عليه و على العامي و قد عرفت أن مقتضى تعارض الحجتين هو التخيير.

الحجة الثانية لهم هو الاستصحاب فإنه يقتضي وجوب البقاء. (و جوابه) انه بعد رجوعه للحي كان رأي الحي حجة عليه فيصح أن يعمل به و لذا يعمل به في البقاء و عدمه و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى في حجة القائلين بالتخيير ما ينفعك هنا

حجة القائلين بالتخيير بين البقاء و العدول

احتج القائلون بالتخيير بين البقاء و العدول بوجوه:

(أحدها) إنا نشك في انه يجب البقاء أو يحرم البقاء و عند دوران الأمر بين الوجوب و التحريم مع عدم وجود أصل أو دليل يعين أحدهما يكون الحكم هو التخيير. (و جوابه) ان الدوران إنما يوجب التخيير في صورة ما إذا كانا في مورد لا يمكن الاحتياط أما في مورد اختلاف الفتاوى فغالبا يمكن الاحتياط فلا يصح التخيير كأن أحدهما يفتي بالجمعة فيبقى على تقليده فيها و الآخر بالظهر فيقلده فيها ثمَّ هو يأتي بهما احتياطا معا إلا اللهم أن يريد انه من قبيل التخيير بين الحجتين فان الحق عندنا هو التخيير بينهما عند التعارض.

(ثانيها) ان مقتضى حجية فتوى الميت هو استمرار حجيتها و مقتضى نظر الحي ان حكم العامي هو ما تقتضيه الأدلة بحسب نظره فيكون التعارض بين الفتويين نظير التعارض بين الروايتين فيتخير بينهما و نظير التعارض بين فتوى المجتهدين الحيين المتساويين.

(إن قلت): انه قد ثبت حجية فتوى الميت في حقه بالاستصحاب فتكون هي المتبعة دون غيرها. (قلنا): برجوعه للحي أيضا صارت فتوى الحي حجة عليه فيتعارض الحجتان للعامي عند الحي و لا يصح إرجاعه للاحتياط

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 2، ص: 405

لأنه قام الإجماع على عدم وجوبه عليه فيتعين التخيير. مضافا الى ما تقدم منا من ان مقتضى تعارض الأمارتين هو التخيير.

(إن قلت): ان حجية فتوى الميت عند الحي بالنسبة للعامي بالاستصحاب لبقائها و حجية فتوى الحي بالنسبة للعامي بالأدلة و الأمارات التي قامت عنده على الحكم الشرعي حيث دلت على ان ذلك هو حكمه و حكم مقلده و الاستصحاب لا يعارض الامارة. (قلنا): أولا ان الأدلة الدالة على حجية فتوى الميت بالنسبة لمقلده لا تنحصر بالاستصحاب لبقاء الفتوى كما تقدم. و ثانيا ان الاستصحاب هنا في عرض أدلة الأحكام لأن موضوعه غير موضوعها فان موضوعه رأي الغير بالنسبة للعامي و موضوعها رأي الحي بالنسبة إلى نفس الحي الذي هو صاحب الرأي و إنما صار حجة بالنسبة إلى العامي بواسطة أدلة التقليد فان المجتهد إنما يقول هذا حكمي بواسطة مؤدى اجتهاده. و يقول و هو حكم مقلدي بواسطة أدلة التقليد. و أدلة التقليد بالنسبة لفتوى الحي الذي يرجع اليه و فتوى الميت التي عمل بها على حد سواء كما تدل على حجيتها تدل على حجية تلك فيكون المجتهد الحي يرى الاستصحاب في بقاء فتوى الميت و يرى ان الواقع هو ما أدى اليه نظره فلذا يصح أن يفتي له بالعمل بالحجة عنده أو بالحجة عند العامي.

(ثالثها) ان العمومات الدالة على جواز التقليد تعم تقليد الميت و الحي خرج منه تقليد الميت ابتداء بالإجماع فيبقى الباقي غاية الأمر ان العامي لا يعلم ذلك إلا بأمر الحي فيلزمه أن يخيره بين تقليده و بين تقليد الميت فيما عمل به في حياته. و أجيب عن ذلك بأن أدلة التقليد لا عموم لها و لا إطلاق و

هي بمنزلة الدليل اللبي المثبت لأصل مشروعية التقليد. (و لا يخفى ما فيه) فقد تقدم عمومها و إطلاقها في مسألة التقليد للميت و لذا التجأ أكثر المحققين الى التمسك بالإجماع على عدم صحة التقليد الابتدائي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 406

(رابعها) ان السيرة على ذلك. و فيه انا لا نسلم اتصالها بزمان المعصومين (ع) و إمضائهم لها.

حجة القائلين بالتفصيل بين كون الميت أعلم فيبقى و إلا فلا

احتج القائلون بالبقاء في صورة ما إذا كان الميت أعلم. و أما إذا كان الحي اعلم وجب الرجوع اليه و ان تساويا فالخيار إن شاء بقي و إن شاء رجع الى الحي و الدليل على ذلك ان تقليد المجتهد من أول الأمر مقيد بصورة عدم وجود الأفضل فإذا وجد الأفضل لم يصح تقليده و لذا يعدل عنه لو وجد الأفضل في زمان حياته، فبالطريق الاولى بعد مماته و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى تحقيق هذا المبحث في اشتراط الأعلمية لأنه مبني على ان أدلة اشتراطها تشمل حتى صورة ما إذا كان تقليده للمفضول صحيحا أم لا.

حجة القائلين بالتفصيل في البقاء بين كون المسائل عمل بها أم لا

احتج القائلون بالتفصيل في البقاء بين ما إذا كانت المسائل التي قلده فيها قد عمل بها العامي فيبقى، و إن لم يعمل بها فلا يبقى بأن التقليد هو العمل فاذا لم يعمل لم يكن قد قلد فيكون رجوعه للميت فيها من التقليد الابتدائي و هو باطل بالإجماع. (و جوابه) انك قد عرفت عدم اعتبار العمل في التقليد، و يكفي فيه مجرد الالتزام و بهذا ظهر لك فساد ما ذكره بعض علماء العصر تبعا لبعض من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 407

تقدم عليه من عدم دوران هذا الحكم و هو جواز البقاء على التقليد على عنوان التقليد لعدم أخذ هذا العنوان في لسان الدليل نفيا و إثباتا، و وجه الظهور انه:

من جملة الأدلة هو الإجماع على بطلان التقليد للميت ابتداء فلو كان التقليد هو الالتزام لم يكن ذلك من التقليد الابتدائي الذي قام الإجماع على بطلانه.

و الغريب انه نفسه اعترف بأن السيرة قد قامت على جواز التقليد للميت ابتداء إلا أنا خرجنا عنها في باب التقليد الابتدائي في

الأحكام الشرعية بالإجماع و الآيات. فقد أخذ الإجماع على عدم جواز التقليد في المقام على ان رواية الاحتجاج المتقدمة ص 381 قد أخذ فيها التقليد.

حجة القائلين بالتفصيل في البقاء بين المسائل التي ابتلى بها و بين غيرها

احتج القائلون بالتفصيل في البقاء بين ما إذا كانت المسائل التي قلده العامي بها قد ابتلى بها سواء عمل بها العامي أم لم يعمل لفسقه أو غفلته أو احتياطه و بين غيرها بأنه بالابتلاء بها قد تنجز التكليف عليه فيستصحب دون المسائل التي لم يبتل بها. (و جوابه) انه بالتقليد له صارت أقواله حجة عليه سواء ابتلى بها أم لا.

حجة القائلين بالتفصيل بين صورة العلم بالمخالفة بين فتوى الحي و فتوى الميت و بين صورة عدمه

احتج من جوز البقاء على تقليد الميت في صورة عدم العلم بالمخالفة في الفتوى بإطلاق الآيات و الروايات الدالة على جواز التقليد و بالسيرة العقلائية على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 408

ذلك و عدم ردع الشارع عنها، و أما في صورة العلم بالمخالفة فالصور ثلاثة:

(إحداها) أن يعلم بأعلمية الميت من الحي و فيها يجب البقاء على تقليد الميت لقيام السيرة العقلائية على العمل بقول الأعلم في مورد المعارضة مع غير الأعلم مضافا الى حكم العقل بالأخذ بقول الأعلم لدوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و محل التعيين هو تقليد الأعلم و لا وجه للتمسك بإطلاق الأدلة لعدم إمكان شمولها للمتعارضين للتكاذب و لا لأحدهما لعدم المرجح فلا بد لنا من الرجوع لما استقرت عليه السيرة العقلائية المذكورة و مع عدم ثبوت السيرة المذكورة نرجع لحكم العقل المذكور.

(ثانيها) ان يعلم بأعلمية الحي من الميت و فيها يجب العدول عن الميت إلى الحي لما تقدم في الصورة الأولى.

(ثالثها) أن يعلم بتساويهما أو يحتمل تساويهما أو يحتمل اعلمية كل منهما و فيها يجب عليه الاحتياط لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ان أمكن الاحتياط و مع عدم إمكانه فالتخيير و لو شك في ثبوت بناء العقلاء فمقتضى الأصل هو الاحتياط للعلم الإجمالي بتنجز الأحكام

الواقعية، و لكون الشبهة قبل الفحص فيلزم العمل بأحوط القولين أو الجمع بينهما إذا كان الاحتياط في الجمع و عند عدم إمكان الاحتياط يتخير، و لا يخفى ما فيه فإنه قد تقدم و سيجي ء إن شاء اللّه في مبحث الأعلمية عدم سقوط المتعارضين عن الحجية و ان أدلة الحجية تشملهما و مع عدم شمول أدلة الحجية يخرج المقام عن دوران الأمر بين التعيين و التخيير لعدم حجيتهما فالقاعدة هي الرجوع الى الأصول العملية أو الى خصوص الاحتياط في الحكم الفرعي. و السيرة العقلائية التي ادعاها الخصم لم يعلم اتصالها بزمن المعصومين (ع) حتى يستكشف منها حجية فتوى الأعلم عند المعارضة و لعلهم كانوا يحتاطون أو يتخيرون أو يرجعون للأصول العملية كما أن دعوى استقرار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 409

بناء العقلاء على الاحتياط مع التساوي أو احتماله خلاف المشاهد فأنا إلى الآن لم نجد من العوام من احتاط في عمله مع علمهم باختلاف المجتهدين في الفتوى أو الرأي و إنما يتخيرون في الأخذ بأحدهما: ثمَّ انه مع احتمال التساوي قد يكون أحدهما بعينه محتمل الأعلمية فحكم العقل يقتضي الأخذ بفتواه الدوران المذكور و للسيرة المذكورة لو كانت ثابتة في متيقن الأعلمية ففي محتملها لا يستبعد ثبوتها ثمَّ ان مقتضى القاعدة مع عدم الدليل هو العمل بالأصول العملية أو خصوص الاحتياط لا الرجوع الى أحوط القولين أو الجمع بينهما إذ هما يكونان بمنزلة العدم لعدم شمول أدلة الحجية لهما.

(ثمَّ ان الأغرب من ذلك كله) ان المفصل المذكور بعد ذلك ذكر انه في صورة العلم بمخالفة فتوى الميت لفتوى الحي لا يمكن الالتزام بحجية فتوى الميت لعدم شمول أدلة الحجية للمتعارضين و لم يثبت

دليل على التخيير بينهما و عليه فلا بد من الاحتياط في الحكم الفرعي لو لا انا علمنا بعدم وجوب الاحتياط الكلي و حينئذ يدور الأمر بين تقليد الحي تعيينا و التخيير بينه و بين تقليد الميت و في مثله يستقل العقل بلزوم تقليد الحي لدوران الأمر بين التعيين و التخيير انتهى.

(و لا يخفى ما فيه) فان عدم وجوب الاحتياط الكلي لا يوجب عدم الاحتياط في هذا المورد كما في الشبهة قبل الفحص مضافا الى أن ذلك يقتضي الرجوع الى الأصول العملية و لا تصل النوبة إلى الدوران المذكور لعدم ثبوت الحجية لهما و لا لأحدهما مضافا الى أنه ينافي ما سبق منه من استقرار بناء العقلاء على الاحتياط و ان مقتضى الأصل العملي هو الاحتياط دون البراءة لتنجز الأحكام بالعلم الإجمالي بها و لكون الشبهة قبل الفحص و ان اللازم هو العمل بأحوط القولين أو الجمع بينهما. (و دعوى) ان ما سبق إنما هو في التقليد الاستمراري للميت و هذا في التقليد الابتدائي. (فاسدة) لعدم وجود ذلك في كلامه و لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 410

الدليل في كلامه يشمل كلا المسألتين من دون فرق بينهما.

تنبيهات تتعلق بمسألة البقاء على تقليد الميت
الأول جواز العود الى الميت بعد العدول عنه

(التنبيه الأول) إذا عدل عن الميت إلى الحي فهل يجوز له العود من هذا الحي إلى الميت أم لا. ذهب جماعة تبعا لصاحب العروة إلى المنع من العود للميت و استدل قسم منهم بأنه يكون تقليدا ابتدائيا للميت و قد قام الإجماع على المنع منه و مقتضى هذا أنه لو قلنا بأن التقليد هو العمل لا الالتزام فيكون في صورة الالتزام بقول الحي دون العمل به يجوز العود الى الميت إذ لم ينقطع تقليده بتقليد آخر

إلا أن يقال ان مجرد الالتزام بقول الغير و إن لم يكن تقليدا يكون موجبا لانقطاع استمرار تقليد الميت. (و التحقيق) أن يقال ان الكلام تارة يقع بالنسبة إلى العامي و أخرى بالنسبة الى ما يحكم به المجتهد عند رجوع العامي له.

(أما الكلام في الأول): فهو أن يقال إن العامي إن عرض له التحير في المسألة فإن اجتهد في المسألة و أدى رأيه إلى شي ء فهو المتبع و إلا فالواجب عليه أن يرجع للمجتهد الذي يكون قوله حجة عليه بحسب نظره.

(و أما الكلام في الثاني): فنقول إن عدوله عن الميت إلى الحي إن كان صحيحا فلا يجوز العود الى الميت لقيام الحجة عنده و لحرمة العدول من مجتهد الى آخر و إن كان عدوله عن الميت عدولا غير صحيح لكون الميت أعلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 411

و قلنا بوجوب تقليد الأعلم أو لذهاب المجتهد الى وجوب البقاء وجب العود الى الميت لكون تقليده للحي فاسدا.

الثاني عدم جواز عمل العامي بفتوى الميت أو فتوى الحي بجواز البقاء و هل يبقى على الأول أو الثاني إذا ماتا كليهما
اشارة

(التنبيه الثاني) انه لا إشكال في ان القائل بصحة البقاء على تقليد الميت يجوّز البقاء على تقليده في غير فتواه بصحة البقاء و عدمها، و أما فتواه بذلك فهل يجوز للعامي البقاء عليها و يستند إليها من دون الرجوع الى الحي أم لا ثمَّ على تقدير عدم جواز الرجوع للميت في هذه الفتوى فهل له أن يقلد الحي فيها بأن يرجع للحي في الأخذ بفتوى الميت بجواز البقاء أو عدمه فيقع الكلام في مقامات ثلاثة:

(أحدها) في تقليد العامي للميت في هذه الفتوى

فنقول في توضيح الحال و تنقيحه انه إذا قلد مجتهدا كان يفتي بجواز البقاء على تقليد الميت أو عدمه فمات ذلك المجتهد فهل يجوز للعامي البقاء على تقليده فيها عملا بهذه الفتوى منه أو يجب عليه الرجوع للمجتهد الحي فيعمل بما يفتي له من جواز البقاء أو عدمه ذهب الأصحاب إلى وجوب الرجوع الى الحي و عدم جواز العمل بفتوى الميت بجواز البقاء على تقليد الميت و عدمه و استدل بعضهم على ذلك بأنه يكون تقليدا ابتدائيا للميت و ذلك لأن التقليد عبارة عن العمل و العامي لم يعمل بهذه الفتوى في زمان حياة المجتهد الميت الذي كان قد قلده بل لم تكن محل ابتلائه في ذلك الزمان أعني زمان حياة مجتهده حتى يتحقق في موردها حكم فرعي أو تصير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 412

حجة فعلية عليه حتى يستصحبها. و لكن هذا الوجه لا يرضى به من كان بنائه على كون التقليد مجرد الالتزام و لو لم يعمل بل و لو لم يبتلي بالمسألة العامي كصاحب عروة الوثقى و غيره. و الاولى أن يعلل ذلك بأن يقال ان العامي أما أن يكون متيقنا بجواز البقاء على

تقليد الميت فلا يجوز له تقليد غيره فيها سواء كان حيا أو ميتا لعلمه بالمسألة و أما أن يكون شاكا فيها فحينئذ لا يجوز له تقليد الميت فيها إذ صحة تقليده فيها مبني على صحة تقليد الميت عنده إذ لو لم يصح عنده كيف يجوز له تقليده فيها و صحة تقليد الميت عنده مبني على صحة تقليده فيها حيث الفرض ان العامي لم يكن له طريق للصحة في تقليده في هذه المسألة إلا نفس هذه الفتوى من الميت فبقاؤه على تقليد الميت استنادا لفتواه بذلك يكون على وجه دائر نظير تقليده للغير في صحة أصل التقليد أو عدمه و حينئذ فلا بد أن يجتهد فان تمكن من الرجوع الى أدلة التقليد و استفاد منها جواز البقاء أو عدمه فهو لأنه يكون مستنده أدلة التقليد لا فتوى مجتهده الذي قد مات (بجواز البقاء على تقليد الميت) و أما ان كان لم يتمكن من ذلك فلا بد له من معرفة حكمه من جواز البقاء أو وجوبه أو حرمته من الرجوع الى القدر المتيقن عنده كالحي الأعلم فان أفتى له بالبقاء بقي و إن أفتى له بعدمه رجع للحي.

عدم جواز رجوع العامي للحي في تقليد الميت في خصوص مسألة جواز البقاء و عدمه

(ثاني المقامات) [عدم جواز رجوع العامي للحي في تقليد الميت في خصوص مسألة جواز البقاء و عدمه]

و هو انه بعد ما عرفت عدم جواز رجوع العامي للميت في الفتوى بجواز البقاء أو عدمه فهل له أن يرجع للحي في خصوص هذه المسألة بأن يقلد الحي في البقاء على فتوى مجتهده الذي قد مات في هذه المسألة أعني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 413

مسألة البقاء و عدمه فإذا أفتى له مجتهده الذي قد مات بجواز البقاء على تقليد الميت

فيقلد الحي في البقاء على هذه الفتوى و هي جواز البقاء على تقليد المجتهد الميت و حينئذ فيكون عمله بفتاوى مجتهده الميت مستندا لفتوى نفس المجتهد الميت بجواز البقاء لا لفتوى الحي بجواز البقاء لأنه قد رجع للحي في خصوص هذه الفتوى فصارت حجة عليه و هي تقتضي العمل بفتاوى الميت و هكذا إذا أفتى له مجتهده الميت بحرمة البقاء على تقليد الميت فرجع للحي في خصوص هذه الفتوى فأفتى له بالبقاء عليها فحينئذ لا يجوز له العمل بفتاوى مجتهده الميت استنادا لفتواه بعدم الجواز المستندة لفتوى الحي بالبقاء عليها. (التحقيق) أنه لا يجوز أيضا الرجوع الى الحي و تقليده في هذه المسألة أعني مسألة جواز البقاء على تقليد الميت أو عدمه بالنسبة لخصوص هذه الفتوى أعني الفتوى بجواز البقاء أو عدمه كما لا يجوز الرجوع لنفس الميت فيها و لذا اشتهر فيما بين الفقهاء المفتين بجواز البقاء انه لو قلد العامي مجتهدا ثمَّ مات فقلد ثانيا فجوز له البقاء ثمَّ مات فقلد ثالثا فجوز له البقاء فإنه يبقى على تقليد الأول بالرجوع لفتوى الثالث بجواز البقاء لا بالرجوع لفتوى الثاني بجواز البقاء و ذلك لوجوه:

(أحدها) ان فتوى الحي في هذه المسألة بجواز البقاء أو عدمه لو رجع إليها العامي و قلده فيها فحينئذ لا وجه لرجوعه للميت في فتواه بجواز البقاء و عدمه لمعرفته حكمها تعبدا بالرجوع إلى الحي و لا يبقى له شك في الجواز و عدمه فلا تكون فتوى الميت في هذه المسألة حجة عليه نظير ما لو عرف حكم هذه المسألة بالاجتهاد.

(و ثانيها) ما ذكره بعض محشي العروة و سبقه لذلك المرحوم آقا ضياء هو انه إذا رجع الى الحي في

مسألة جواز البقاء على تقليد الميت فالتقليد المأخوذ موضوعا في هذه القضية لا بد أن يكون في غير هذه المسألة لامتناع أخذ الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 414

في موضوع نفسه فيمتنع أن يفتي الحي بجواز البقاء على تقليد الميت في جواز البقاء على تقليد الميت أو بحجية رأى الميت في حجية رأى الميت فلا بد أن يكون موضوع الحجية غير هذه المسألة. (و لا يخفى) ما فيه فان الموضوع هو نفس الطبيعة بوجودها النفس الأمري فيكون الحكم تابعا للموضوع حتى لو تحقق بعد ثبوت الحكم له ألا ترى أنه لو قال الرسول (ص) آمن بكلامي أ ليس يشمل نفس هذا الكلام و هكذا في القرآن الشريف من الآيات الآمرة بالايمان بالكتاب و بما أنزل فان هذا الحكم يشملها نفسها و قد حققنا ذلك في كتابنا (نقد الآراء المنطقية) في شبهة الجذر الأصم. نعم لا يمكن أخذ نقيض الحكم في موضوع الحكم فلو أفتى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت في هذه المسألة و كان الميت يفتي فيها بعدم الجواز لا يمكن أن تشمل فتوى الحي لهذه المسألة لأنه يلزم من وجود الحكم عدمه لأنه يلزم من جواز البقاء عدم جواز البقاء و الذي يلزم من وجوده عدمه يمتنع وجوده و لذا قيل في مبحث حجية الخبر عدم شمول أدلة حجية الخبر للأخبار الدالة على عدم حجيته و في مبحث حجية الشهرة ان أدلتها لا تشمل الشهرة على عدم حجية الشهرة و في مبحث حجية الظنون الكتابية انها لا تشمل الظنون الكتابية الدالة على حرمة العمل بالظن الى غير ذلك من النظائر التي يلزم من الحكم باندراج بعض أفرادها فيها خروج بقية

الأفراد فإن ذلك الفرد مما ينبغي القطع بعدم اندراجه تحت إطلاقه أو عمومه.

(ثالثها) ان المسألة الواحدة لا تتحمل الحجتين أما المتحدتان بالنتيجة كما لو كان كل منهما يفتي بجواز البقاء على تقليد الميت فلأنه إذا قامت أحد الحجتين سقطت الحجة الثانية عن حجيتها لأن شرط الحجية أن توجب معرفة ما قامت عليه و إلا لم تكن حجة فإذا قامت الحجة الاولى و حصلت منها المعرفة كانت الحجة الثانية لا تفيد المعرفة و إلا لزم تحصيل الحاصل. و دعوى أنها تؤكد حجية الأولى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 415

لا تنافي سقوطها عن الحجية و صيرورتها مؤكدة فإن التأكيد غير الإفادة و التأسيس، و أما إذا كان الحجتان مختلفتين بالنتيجة كأن أفتى الحي بوجوب البقاء و الميت بوجوب العدول لزم تكاذبهما و سقوطهما عن الحجية مع التساوي و الا قدم الأقوى منهما و سقطت الأخرى و فيما نحن فيه لما أخذنا بفتوى الحي سقطت الأخرى فلا يرجع للحي في فتوى الميت بوجوب العدول.

(إن قلت): هذا فيما إذا كان موضوع الحجتين واحد، أما إذا اختلف موضوعهما صارت كل منهما لمسألة غير مسألة الأخرى فيجوز الرجوع في إحداهما للأخرى كما فيما نحن فيه فان الميت الذي يفتي بوجوب العدول عن تقليد الميت إنما يفتي بالنسبة لمن قبله من المجتهدين ممن قلده العامي. و الحي يفتي بوجوب البقاء بالنسبة لهذا المجتهد الذي أفتى بهذا الفتوى لأن الفرض هو الرجوع إليه في هذه الفتوى فاختلف موضوع الحجتين الأولى بالنسبة لمن سبق. و الثانية بالنسبة للمفتي بهذه الفتوى. (قلنا): ليست الفتوى الاولى تختلف عن الفتوى الثانية في الموضوع فان كل منهما حكم شرعي إلهي لا يختص بشخص دون آخر

فالميت إنما يفتي بوجوب العدول بنحو القضية الحقيقية الكلية من دون خصوصية للأشخاص الذين قبله أو بعده و هكذا الحي إنما يفتي بنحو القضية الكلية الحقيقية من دون خصوصية لشخص دون آخر و لذا كانت الفتوى غير حكم الحاكم فموضوع الفتويين واحد لا متعدد.

(إن قلت): إن هذا نظير ما لو قامت الحجة على حجية الخبر ثمَّ أخبر زيد بحجية اخبار عمر و أخبر عمر بحجية اخبار بكر، فان كلا منهما يكون حجة في مؤداة. (قلنا) ان الموضوع هنا مختلف بخلاف ما نحن فيه كما عرفت.

(هذا غاية) ما يمكن من تقريب هذا الوجه (و لكن لا يخفى ما فيه) فان ما نحن فيه ليس من قبيل الحجتين بل من قبيل الحجة على الحجة فهو نظير فتوى المجتهد الذي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 416

يرجع إليها لقيام رواية أو إجماع على حجيتها بخصوصها كأن قال لك الامام عليه السلام فتوى يونس في هذه المسألة حجة عليك مع أن الموضوع واحد و المسألة واحدة فإنه هنا تكون الحجة على فتوى المجتهد الميت في هذه المسألة هو رأي الحي و فتواه و ان اتحد الموضوع و كانت القضية واحدة فالحق في الاستدلال هو الوجه الأول.

هل يبقى العامي على تقليد المجتهد الأول أو الثاني إذا ماتا كليهما

(ثالث المقامات) [هل يبقى العامي على تقليد المجتهد الأول أو الثاني إذا ماتا كليهما]
اشارة

و هو انه بعد ما عرفت عدم صحة رجوع العامي و تقليده لمجتهده الميت في فتواه بجواز البقاء و عدمه و هكذا عدم صحة رجوعه للحي في تقليد مجتهده الميت في هذه الفتوى و عرفت انه انما يصح أن يرجع للحي في البقاء على غير هذه المسألة من الفروع الفقهية التي قلد الميت فيها.

فهل للعامي أن يبقى على تقليد الميت

الأول في الفروع أو على تقليد الميت الأخير في الفروع في صورة ما لو قلد مجتهدا فمات ثمَّ قلد مجتهدا ثانيا و أمره بوجوب العدول فعدل اليه أو جوز له العدول فعدل اليه فمات ثمَّ قلد ثالثا فأمره بالبقاء على تقليد الميت فهل يبقى على تقليد الأول أو الثاني أو جوز له البقاء فهل يجوز له البقاء على الأول أو الثاني و الكلام تارة في وظيفة العامي. و أخرى في حكم الواقعة ليفتي به المجتهد للعامي إذا رجع اليه فيه. أما وظيفة العامي فهي أن يرجع للمجتهد الحي فما أفتى له به عمل به، فان قال له أبقي على الأول بقي و إن قال له ابقي على الثاني بقي و إن قال له يجوز لك البقاء على كل واحد منهما تخير بينهما. و الحاصل ان العامي يتبع في هذه المسألة نظر الحي إذا لم يجتهد في المسئلة. و أما حكم الواقعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 417

الذي ينبغي للمجتهد أن يفتي به لمقلده. فبعضهم قال بالرجوع للأول و بعضهم كالسيد في العروة قال بالرجوع للثاني، و بعضهم كالمرحوم آقا ضياء ذهب الى التخيير بين الأول و الثاني، و ذهب بعضهم كأستاذنا السيد أبو الحسن الأصفهاني قدس سره الى أن الأظهر التفصيل بين ما إذا كان مذهب الثالث وجوب البقاء فيبقى على تقليد الأول و بين ما إذا كان مذهب الثالث جواز البقاء فيبقى على الثاني و ان كان ذهب (ره) بعد ذلك الى وجوب مراعاة الاحتياط في هذه المسألة.

حجة القول الأول

يمكن أن يحتج للقول الأول و هو الرجوع الى الميت الأول بأن القائل بالبقاء و هو المجتهد الثالث يرى أن عدوله للثاني كان

تقليدا فاسدا و انه كان على العامي أن يبقى على الأول نظير ما إذا قلد الفاسق أو غير المجتهد فعليه أن يرجعه إلى الأول، (و فيه) ان المجتهد الثالث ان كان يوجب البقاء فالحق كما ذكر و ان كان يجوّز البقاء فيرى أن التقليد للثاني و العدول عن الأول كان صحيحا فيصح البقاء عليه.

حجة القول الثاني

احتج من قال بالرجوع الى الثاني بوجهين:

(أحدهما) ان المجتهد الثالث إنما يقول بالبقاء من جهة الاستصحاب للاحكام أو استصحاب حرمة العدول و هذان الاستصحابان قد انقطعا في الأول بتقليده للثاني الذي عدل اليه و إنما يجريان بالنسبة لتقليده للثاني. (و جوابه) ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 418

المجتهد الثالث ان كان يوجب البقاء فهو يرى ان تقليده الثاني فاسد فيكون الاستصحاب بالنسبة للتقليد الأول و استصحاب حرمة العدول عنه جاريان فيه و لا أثر لتقليده الثاني فعلى المجتهد الثالث في هذه الصورة أن يرجع العامي لتقليد الأول. (و دعوى) انه يكون تقليدا للميت ابتدائيا فهو باطل. (فاسدة) لأن هذا لا يكون تقليدا للميت ابتدائيا لفساد عدوله الى الثاني بل إبقاء للتقليد الأول و لو سلمناه فعمدة أدلة القائلين بفساد التقليد الابتدائي للميت هو الإجماع و هو دليل لبي لا يعلم شموله لهذا المورد. (و إن شئت قلت) إن فتوى الثالث بوجوب البقاء مقتضاها أن يكون ذلك تكليفا للعامي من حين موت المجتهد الأول و إن رجوعه للثاني لم يكن بمحله غاية الأمر يكون معذورا في المخالفة فيجب عليه في نظر المجتهد الثالث بقائه على تقليده الأول.

(إن قلت) ان مقتضى تقليد الثالث و إن كان فساد الرجوع الى الثاني إلا أن فتواه لم تكن حجة في حق العامي حينما

عدل للمجتهد الثاني و كان عدوله صحيحا للثاني حينما عدل اليه لفتوى مجتهد بذلك و فتوى الثالث إنما صارت حجة عليه بعد انقضاء تقليد الثاني فيكون تقليده الثاني تقليدا صحيحا و معه يكون الرجوع الى الأول تقليدا ابتدائيا. (قلنا) ليس الميزان هو نظر العامي و إنما الميزان هو نظر المجتهد الثالث و انه هل يفتي له بالبقاء على الأول أو الثاني و لما كان نظر المجتهد الثالث هو وجوب البقاء فيكون التقليد للثاني في نظره فاسدا فلا يصح له أن يفتي للعامي بالرجوع اليه خصوصا و حجية الفتوى من باب الطريقية و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك في حجية القول الرابع.

(إن قلت): إن ما وقع من التقليد السابق للمجتهد الثاني انعقد و لا يؤثر فيه فتوى المجتهد الثالث و لذا لا يجب إعادة الأعمال التي وقعت على طبقه و لا قضائها و إذا انعقد فقد صار صحيحا. (قلنا): هذا لا يقتضي صحته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 419

الواقعية فإن عدم التأثير قد يكون من جهة أخرى خصوصا و قد عرفت ان حجية الفتوى من باب الطريقية. نعم لو قلنا أن الفتوى المتأخرة تكون نسخا صح ذلك و لكنه لا يلتزم بذلك أحد و إنما هي أمارة كاشفة ليس إلا.

(و ثانيهما) ما عن الأنصاري (ره) من أن تقليده للثاني و رجوعه عن الأول بالنسبة للمسائل التي رجع فيها في حال حياة الثاني وقع صحيحا. (و جوابه) كما ذكره المرحوم الأصفهاني أن التقليد الأول أيضا كان صحيحا فكل واحد من التقليدين وقع صحيحا فمجرد الصحة مع تساوي النسبة لا توجب الترجيح مضافا الى ما سبق منا من ان الميزان هو رأي الثالث

فلو كان يوجب البقاء على التقليد يرى أن التقليد الثاني هو الفاسد فلا بد أن يرجع العامي للأول كما تقدم في جواب الدليل الأول لهذا القول.

حجة القول الثالث

احتج القائل بالتخيير بينهما ان كلا منهما تقليد صحيح فيصح الإرجاع لكل منهما و يكون العامي مخيرا بينهما فان مستند القائل بالبقاء وجوبا أو جوازا إنما يكون هو الاستصحاب لاحتمال بقاء الأحكام المأخوذة من المجتهد السابق في حق العامي و حيث ان هذا الاحتمال في الأحكام المأخوذة من كل منهما في نظره على السوية بلا ترجيح لأحدهما على الآخر يلزمه التخيير في البقاء على تقليد الأول أو الثاني. (و دعوى) أن تقليده الأول انقطع برجوعه للثاني بتقليد صحيح. (فاسدة) لاشتراكهما في هذه الجهة فإنه كما انقطع تقليد الأول برجوعه للثاني بتقليد صحيح كذلك انقطع تقليد الثاني برجوعه الى المجتهد الحي فالحكم الظاهري في كل من التقليدين تبعا لموضوعه مرتفع قطعا فلا يبقى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 420

إلا احتمال بقاء الأحكام المأخوذة من السابق و إذا كان هذا الاحتمال بالإضافة الى كل من الحكمين السابقين على السوية بلا ترجيح لأحدهما على الآخر يلزمه جريان الاستصحاب في حق مقلده بالإضافة الى كل منهما من غير ترجيح و لازمه تخيير العامي في البقاء على تقليد أيهما شاء. (و لا يخفى ما فيه) فإنه إذا كان المستند هو الاستصحاب فلازمه التساقط لا التخيير و لا بد من الرجوع لأحوط القولين إلا بدعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط و عليه فلا بد له من الرجوع لشخص آخر في الفروع. مضافا لما عرفت من ان القائل بالوجوب لا يرى حجية فتوى المجتهد الثاني للعامي فليس هناك حكم ظاهري له و لا

امارة على الواقع و إنما هو تخيل الأمارية مثل تخيله ان فتوى الفاسق تكون حجة عليه، و اما القائل بالجواز فهو يرى أن فتوى الأول قد انقطعت حجيتها بفتوى المجتهد الثاني فهو نظير تبدل الرأي بالفتوى الثانية فلا مجال لاستصحاب حجيتها و لا الاحكام التي دلت الفتوى عليها لدلالة فتوى المجتهد الثاني على خلافها و هي حجة فيكون نقضها بفتوى المجتهد الثاني نظير نقض مؤدى الامارة بأمارة قامت على خلافها فإنه لا وجه لاستصحاب مؤدى الأولى.

حجة القول الرابع

احتج القائل بالتفصيل بين صورة فتوى المجتهد الثالث بوجوب البقاء فيبقى على تقليد الأول و بين صورة فتواه بجواز البقاء فيبقى على الثاني بأنه في (الصورة الاولى) يكون في نظر المجتهد الثالث أن تقليد العامي للثاني فاسد لأنه يوجب البقاء و العامي لم يكن باقيا على الأول بالرجوع للثاني فيكون التقليد الصحيح في نظره هو الأول فلا بد أن يأمر العامي بالرجوع إلى الأول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 421

(إن قلت): ان تقليد العامي للمجتهد الثاني كان صحيحا جامعا للشرائط و ان تقليده للمجتهد الأول قد زال و المجتهد الثالث قد أوجب عليه البقاء على التقليد الصحيح و هذا التقليد الثاني كان صحيحا (قلنا) الميزان هو نظر المجتهد الثالث لأنه هو المفتي و نظر العامي تابع له و قد عرفت أن نظره وجوب البقاء و هو يقتضي بطلان تقليد العامي للمجتهد الثاني في الفروع و عدم صحته فلا يجوز البقاء عليه عند المجتهد الثالث لأنه ليس بتقليد صحيح في نظره.

(إن قلت): ان الموضوعات للأحكام لا يرجع فيها لنظر المفتي فلو كان العامي يرى القبلة جهة المشرق. و المفتي بوجوب الصلاة للقبلة يرى القبلة جهة المغرب كان على

العامي أن يتبع نظره لا نظر المجتهد كما تقدم في التقليد في الموضوعات و هنا موضوع وجوب البقاء هو التقليد. و العامي يرى التقليد للثاني صحيحا فالمتبع نظره لا نظر المفتي. (قلت): هذا في الموضوعات الخارجية مسلم و لكن في الموضوعات الشرعية غير مسلم كما لو أفتى بوجوب الصلاة على الميت فإن الصلاة يرجع فيها لنظر المفتي لا لنظر العامي و فيما نحن فيه كان الموضوع لوجوب البقاء هو التقليد و هو موضوع شرعي فيكون المتبع نظر المفتي فالحق أن يقال انه إن كان المتبع في مثل التقليد من الموضوعات نظر المفتي فلا يجوز البقاء على الثاني و إن كان المتبع هو نظر العامي فيجب البقاء على الثاني لأنه تقليد صحيح و لا يجوز التقليد للأول لأنه قد زال و لا يجري الاستصحاب بالنسبة إليه فراجع ما كتبناه في التقليد في الموضوعات هذا تمام الكلام في الصورة الاولى و أما (الصورة الثانية) و هي صورة ما إذا أفتى المجتهد بجواز البقاء فنقول ان المجتهد الثالث يرى صحة تقليد العامي للثاني فينقطع استصحاب تقليد الأول. و حرمة العدول عن الأول قد زالت بموته و بتقليد العامي للثاني تقليدا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 422

صحيحا في نظره و نظر المجتهد الثالث الحي الذي رجع له فعلا فيجري استصحاب تقليد الثاني فقط فلا بد للمجتهد الثالث أن يأمره بالبقاء على الثاني.

الثالث

جواز البقاء على تقليد الميت الذي يحرّم البقاء

(التنبيه الثالث) إذا قلد من يحرّم البقاء على تقليد الميت فمات فقلد من يجوز البقاء له على تقليد الميت

جاز له البقاء على تقليد الأول في جميع المسائل إلا مسألة حرمة البقاء أما جواز البقاء في المسائل العملية فمن جهة ان من رجع اليه قد أفتى له بذلك و لا بد من مراعاتها فان كان

أفتى له بالبقاء على خصوص المسائل التي عمل بها بقي عليها دون من لم يعمل بها و ان افتى له بالبقاء على خصوص المسائل التي التزم بها بقي على ذلك فمقدار المسائل العملية التي يبقى عليها تابع لنظر من رجع إليه لأن حجيتها كانت تابعة لنظره. و أما حرمة البقاء على تقليده في مسألة حرمة البقاء فقد قيل في وجهه ان العمل يعتبر في التقليد و هذه المسألة لم يعمل بها العامي فيكون تقليده فيها بعد موته من التقليد الابتدائي و الاولى أن يقال انه حتى لو لم نعتبر العمل في التقليد لا يجوز التقليد في هذه المسألة لاستلزامه المحال إذ يلزم من جواز تقليده إياه في مسألة حرمة البقاء عدم جوازه و كل ما لزم من وجوده عدمه فهو باطل و قد تقدم تحقيق ذلك منا ص 411.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 423

الرابع البقاء على تقليد الميت من دون اجتهاد أو تقليد

(التنبيه الرابع) إذا بقي على تقليد الميت من دون أن يقلد في هذه المسألة كان كمن عمل من غير تقليد إلا إذا اجتهد و أدى رأيه إلى صحة البقاء فان اجتهاده حجة له كما هو الحال في أصل التقليد فإنه إنما يصح منه إذا أدى اجتهاده إلى حجية التقليد و أما إذا لم يجتهد و إنما بقي غفلة أو من جهة عدم المبالاة فيكون بقائه غير صحيح بمعنى أنه إذا التفت ليس له مؤمن من العقاب على تقدير المخالفة لعدم قيام الحجة على صحة عمله نظير من يعمل بدون تقليد و الواجب عليه أن يجتهد في هذه المسألة أو يرجع لمن هو متيقن الحجية عنده أو يحتاط فيأخذ بأحوط القولين للحي و الميت أو بأحوط الاحكام.

(إن قلت): مع

الغفلة و اعتقاده بجواز البقاء يكون معذورا عند العقل و لا يستحق العقاب على مخالفة الواقع. (قلنا) معذوريته لا توجب صحة عمله كمن قلد غير المجتهد أو الفاسق غفلة فان غفلته لا توجب صحة تقليده و الثمرة في ذلك انه مع انكشاف الحال له يجب أن يجتهد في صحة البقاء أو يقلد المتيقن عنده أو يأخذ بأحوط القولين من الحي و الميت و ينظر في صحة أعماله السابقة نظير من عمل بدون تقليد غفلة.

(إن قلت): هذا إذا كان الحي يفتي بعدم جواز البقاء على تقليد الميت أما مع فتواه بجواز البقاء فيكون عمل العامي المذكور صحيحا لمطابقته لفتوى مجتهده الذي يجب عليه أن يرجع اليه. (قلنا) قبل رجوعه اليه و عدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 424

اعتماده عليه لا يصحح عمله لأن المراد بالصحة هنا هو المؤمن من العقوبة عند الالتفات فقبل رجوعه للمفتي ليس له مؤمن من العقوبة بالعمل بفتاوي مجتهده الميت إذا التفت الى ذلك فهو كمن أتى بالعمل مطابقا للواقع بدون تقليد أو اجتهاد أو احتياط فإنه ليس له مؤمن من العقوبة لكن قد عرفت انه قد يقال ان العدول الى تقليد الحي لما كان محتمل المنع كالبقاء على تقليد الميت لم يكن هناك له طريق يقيني فوجب عليه الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين. (إلا أن يقال) ان هذا إذا كان قد قلد الميت في مسألة البقاء فإنه حينئذ يكون تقليده للحي عدولا و أما إذا لم يكن قلد الميت فيكون الرجوع الى الحي في مسألة البقاء من المتيقن إذ ليس تقليد الحي في مسألة البقاء عدولا عن الميت حتى يدور أمره بين المحذورين.

(إن قلت): كيف يمكن أن يكون قد

قلد الميت في مسألة البقاء على تقليد الميت. (قلت): لا مانع منه لو قلنا بأن أخذ الرسالة و الالتزام بالعمل تقليدا أو قلده في البقاء على تقليد سابقة زمانا فيكون قلده في مسألة البقاء على تقليد الميت و عليه فيكون أخذ ذلك من الحي عدولا فيخرج عن كونه من المتيقن قال استاذنا (ره) لا إشكال في وجوب كون البقاء على تقليد الميت مستندا الى اجتهاد أو تقليد غير ذلك الميت و إلا كان تقليده بتقليده دورا واضحا و قد عرفت ان الأخذ في ذلك بتقليد الغير أيضا لا يمكن إلا أن يكون الغير من المتيقن و إلا فلا يجوز للعامي تقليده و لا يكون من المتيقن إلا إذا لم يشتمل على عدول من الميت و الا فمع احتمال حرمة العدول عنه كان أمر الرجوع الى الحي دائرا بين المحذورين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 425

الخامس العدول عن تقليد الميت إلى الحي المخالف له في الفتوى لا يوجب بطلان الأعمال السابقة

(التنبيه الخامس) لو عدل العامي عن المجتهد الميت إلى الحي و كان الحي مخالفا للميت في فتواه فلا يجب عليه إعادة اعماله و لا نقض الآثار السابقة حتى لو قلنا بوجوب نقض الآثار السابقة بتبدل الرأي و إنما يجب عليه العمل فيما يأتي بفتوى المجتهد الحي خلافا للمحكي عن الشيخ الأنصاري (ره) حيث ينقل عنه أن القول بالنقض في صورة تبدل الرأي يستلزم القول بالنقض في صورة العدول من الميت إلى الحي. و قد رد عليه الأستاذ المحقق الأصفهاني (ره) بأن الحق عدم الملازمة لأن وجه النقض في صورة التبدل ان الخبر حجة في مضمونه الذي لا اختصاص له بزمان دون زمان و ان كان يتنجز فعلا لا قبلا إلا أن أثر تنجزه فعلا تدارك ما فات منه

قبلا و عليه يظهر أنه لا وجه لتخصيص تأثيره بالوقائع المتجددة هذا بالنسبة لنفس المجتهد، و أما بالنسبة إلى مقلده فلأن المفروض أن فتواه النقض فيجب على مقلده النقض، و أما وجه عدم النقض في صورة العدول عن الميت إلى الحي أو من الحي إلى الحي الذي هون أفضل منه فهو أن حجية الرأي بالنسبة للعامي ليست تقتضي حجيته عليه من الأول بل هو حجة عليه من حين صحة الرجوع الى صاحبه فلا يؤثر إلا في الوقائع المتجددة فحجية الفتوى الأولى ينتهي أمدها لا أنه تزول و تضمحل حجيتها نظير ما إذا وجد أقوى منها فتكون الفتويان المتعاقبان على حد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 426

الخبرين المتعادلين الذين أخذ بأحدهما تارة و بالآخر أخرى حيث لا موجب لتوهم النقض عند الأخذ بالثاني، و حيث أنا قد أثبتنا ج 1 ص 279 عدم النقض عند تبدل الرأي فكل ما ذكرناه هناك من الأدلة يجي ء هنا لذا تركنا التعرض لهذه المسألة. و إن كان قد ادعي الإجماع و السيرة العملية بل ضرورة المذهب على عدم وجوب الإعادة و عدم نقض الآثار السابقة عند العدول إلى الحي إلا أنه قد حكي الإجماع على خلاف ذلك عن العلامة و العميدي.

السادس هل للعامي العدول إذا أفتى الثاني بجواز البقاء و الحي بوجوبه

(التنبيه السادس) إذا رجع لمجتهد يفتي بجواز العدول عن مجتهد لآخر فقلده في خصوص هذه المسألة و بقي على تقليد المجتهد الأول كما يتفق غالبا ثمَّ مات هذا المفتي الثاني فرجع لمجتهد يوجب البقاء على التقليد فهل لهذا العامي أن يعدل عن الميت الأول باعتبار انه كان مقلدا للثاني في هذه المسألة و هو لا يوجب البقاء عليه و كان يبيح العدول له أو لا يجوز

له العدول عن الميت الأول الذي قلده و عمل بفروعه لأن الحي الذي رجع اليه فعلا قد أوجب عليه البقاء فيحرم عليه العدول عنه. و الحق هو عدم جواز العدول لأنه قد عرفت في المقام الثاني ص 412 من التنبيه الثاني أنه لا يجوز للعامي أن يقلد الحي في البقاء على تقليد الميت في فتواه بجواز البقاء أو وجوبه أو حرمته فلا يصح للعامي المذكور أن يعمل بفتوى المجتهد الثاني الميت بجواز العدول لأنه بعد موته لم تكن حجة عليه و إنما الحجة عليه هي فتوى المجتهد الحي الثالث بوجوب البقاء.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 427

السابع هل المتبع نظر الحي أو الميت إذا اختلفا في حقيقة التقليد

(التنبيه السابع) إذا اختلف الميت و الحي المفتي بالبقاء في حقيقة التقليد من أنه عبارة عن نفس الالتزام أو نفس العمل فهل المتبع نظر الحي أو الميت؟

التحقيق أن يقال ان العامي عليه أن يتبع رأي الحي فيما يأمره به من الرجوع في تحديد التقليد لرأي الميت أو لرأيه، و أما حكم الواقعة الذي ينبغي للمجتهد أن يفتي به فهو أن يقال إن المتبع هو رأي الحي لأن موضوع كل حكم منوط بنظر الحاكم سعة و ضيقا و تعيينا و حيث ان التقليد موضوع لوجوب البقاء الذي حكم به الحي فيكون تحديده و تعيينه بنظره و لا وجه لاتباع غير الحاكم في تعيين موضوع حكمه.

(إن قلت): ان موضوع وجوب البقاء هو التقليد الصحيح و صحة التقليد منوطة بنظر الميت لا بنظر المفتي بالبقاء و لذا لا شبهة في لزوم البقاء بنظر الحي مع مخالفته في الفتوى الميت. (قلنا): إن الحي إن كان يفتي بوجوب البقاء على التقليد من جهة استصحاب التكاليف الثابتة في حق العامي فكل ما

يراه الحي ثابتا في حق العامي يستصحبه سواء صدق عنوان التقليد عليه أم لا كان تقليده صحيحا أم لا، لأن الاستصحاب متقوم بما يراه المستصحب (بالكسر) تام الأركان لديه لا لدى غيره فحينئذ يكون المستصحب (بالفتح) هو الذي يأمر الحي بالبقاء عليه و لو لم يصدق عليه عنوان التقليد.

(و أما إن كان) الحي يفتي بوجوب البقاء على التقليد من جهة أنه تقليد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 428

فلا بد أن يكون ما يراه الحي انه تقليد صحيح و لذا لا يستصحب تقليد المجتهد الفاسق لأنه لا يراه صحيحا و لا تقليد غير المجتهد فالصحة إنما هي بنظر الحي و ذلك لأن معنى وجوب البقاء على تقليد الميت هو البقاء على حجية قوله و رأيه بالنسبة إلى العامي فلا بد أن يكون ما يراه الحي انه حجة على العامي يأمر ببقاء حجيته، فأما الذي لا يراه حجة على العامي فكيف يأمر ببقاء حجيته عليه و لذا لو رأى عدم الحجية يأمر بالعدول عنه، و أما المخالفة في الفتوى فهي لا تنافي صحة التقليد بنظر المخالف لأن مطابقة الفتوى للواقع ليست شرطا لصحة التقليد و إلا لزم الدور.

(إن قلت): إن الميت إذا كان يفتي بأن التقليد معناه كذا فالعامي يبقى في هذه المسألة نفسها على تقليده بواسطة فتوى الحي بالبقاء على تقليد الميت. (قلنا): قد عرفت ان القول بالبقاء إنما هو من جهة رأي الحي ثبوت الأحكام في السابق للعامي فعلا أو من جهة حجية قول الميت في حقه و مع رؤية الحي بأن الأحكام غير ثابتة كيف يستصحب ثبوتها أو أنها ثابتة كيف يستصحب عدم ثبوتها، و هكذا إذا كان قول الميت ليس

بحجة للعامي في بعض المسائل كيف يثبت حجيته في زمان موته، و إذا كان حجة فكيف ينفي حجيته في زمان موته. فاذن لا يصح تقليد الميت في هذه المسألة و لا بد له من الرجوع فيها للحي. (و الحاصل) انه قد عرفت فيما تقدم انه لا يجوز للعامي تقليد الميت في حكم هذه المسألة أعني مسألة البقاء على تقليد الميت، فهكذا لا يجوز تقليد الميت في موضوعها و هو معنى التقليد لأنه معنى الموضوع تابع لرأي الحاكم الذي جعله موضوعا لحكمه و قد عرفت أن الذي يجعله موضوعا لحكمه هو ما كان ثابتا على وجه الصحة في نظره لا نظر الغير مضافا الى الوجه المتقدم في بيان عدم جواز تقليد الميت في مسألة جواز البقاء في المقام الثاني ص 412.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 429

الثامن من قلد في حال صغره ثمَّ مات مقلده

(التنبيه الثامن) لو قلد مجتهدا في حال صغره و قلنا بصحة تقليده لصحة عباداته ثمَّ مات المجتهد قبل بلوغ الصبي فبلغ فهل يجب عليه البقاء على القول المشهور بوجوب البقاء أم لا. قد تقدم الإشارة الى ذلك في شرائط المستفتي ص 37 و هذه المسألة نظير مسألة ما لو قلد الصغير مجتهدا جامعا للشرائط ثمَّ بلغ الصبي فهل يجوز له العدول عنه بناء على حرمة العدول أم لا. و قد تقدم الكلام فيها ص 171 و قد تعرض صاحب الفصول «قده» لهذين المسألتين في مبحث شرائط المستفتي. (و كيف كان) فقد يقال بعدم وجوب البقاء على الصبي إذا بلغ و جواز العدول له لوجهين:

(أحدهما) انه كان مخيرا في تقليد أي شخص كان فيستصحب ذلك الى ما بعد بلوغه. (و جوابه) انه لم يثبت في حقه التخيير، أما

في حال صغره فواضح لأن التخيير هو تكليف إلزامي بالأخذ بأحد الفتاوى و الصغير غير مكلف بذلك و أما بعد بلوغه فهو محل كلامنا.

(ثانيهما) انه في حال صغره يجوز له العدول الى الغير إذ هو ليس بمكلف بحرمة العدول فيستصحب ذلك الجواز الى ما بعد بلوغه. (و جوابه) إن الصغير لم يثبت في حقه حرمة العدول لا انه قد ثبت في حقه شرعا جواز العدول لأن التكليف مرتفع عنه و لا دليل على ثبوت الجواز الشرعي له حتى يستصحب.

(إن قلت): انا نستصحب عدم حرمة العدول فيثبت جواز العدول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 430

(قلنا): لا ينفعنا لأن الجواز لازم له لو سلمنا محالية خلو الواقعة عن حكم شرعي و عليه فيكون أصلا مثبتا على انك قد عرفت ان الصبي لا يثبت في حقه حكم شرعي فتكون الوقائع خالية عن الحكم الشرعي بالنسبة اليه و لو قلنا بعدم خلوها بالنسبة للمكلفين و استدلوا لوجوب البقاء بأن هذا الصبي قد صدر منه تقليد صحيح فيجب البقاء عليه مضافا الى أن التكاليف المعلقة على بلوغه في حال حياة مجتهده ثابتة بعد موته بنحو الاستصحاب التعليقي و مضافا الى الاستصحاب التعليقي لحرمة العدول الثابتة للصبي بنحو التعليق على البلوغ فيحكم بفعلية تحققها عند تحقق المعلق عليه عليه مضافا لاستصحاب حجية قول مجتهده في زمان حياته، (و جوابه) انه لا نسلم أن للصبي حكم إنشائي معلق على البلوغ و إنما الثابت في حقه عدم الحكم الفعلي و هو لا يستلزم ثبوت حكم إنشائي له معلق على البلوغ و بعضهم استدل على ذلك باستصحاب شرعية عباداته و محبوبيتها المستفادة من إطلاق المادة المصححة للعبادة و لا يخفى أن ذلك

لا يوجب وجوب البقاء و لا يهمنا الكلام في هذا المقام لأننا قد بنينا على جواز البقاء لا على وجوبه كما ان الانصاف أن من راجع أدلة جواز البقاء يجد بعضها موجودا في المقام فراجعها فمن تمت عنده جوّز البقاء له و إلا فلا.

التاسع من قلد المجتهد ثمَّ جن و قبل الإفاقة مات مجتهده

(التنبيه التاسع) ما إذا قلد العامي مجتهدا ثمَّ جن ذلك العامي و قبل إفاقته مات مجتهده فهل بعد الإفاقة يجب عليه البقاء على القول بوجوب البقاء أم لا يجب يتضح الكلام في هذه المسألة مما تقدم ص 37 و ص 171.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 431

العاشر عزل وكيل المجتهد و المأذون منه و المنصوب من قبله بعد موته

(التنبيه العاشر) المأذون و الوكيل و المنصوب من قبل المجتهد في التصرف في الأوقاف أو الوصايا أو أموال القاصرين إذا مات المجتهد هل ينعزل بموت ذلك المجتهد أم لا؟ و هكذا سائر تصرفاته هل تبطل بموته أم لا؟ قد تقدم تفصيل هذه المسألة و تنقيحها ج 1 ص 399.

الحادي عشر في صحة البقاء في صورة ما إذا كان الميت مفضولا

(التنبيه الحادي عشر) إذا قلنا بصحة البقاء فهل يصح حتى في صورة ما إذا كان الحي أفضل من الميت أم لا؟ و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى التعرض لهذا المسألة في تنبيهات اشتراط الأعلمية في المفتي لأن تحقيقها مبني على معرفة أدلة اشتراط الأعلمية و مقدار دلالتها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 432

الشرط الثامن عشر في المفتي الأعلمية
[نقل أقوال المسألة]

(الشرط الثامن عشر) فيمن يرجع اليه بالتقليد أن يكون أعلم المجتهدين الموجودين فيما إذا تفاوتوا في الفضيلة، و أما مع التساوي فالعامي مخير بينهم و هو المشهور بين الإمامية و المحكي عن العلامة في النهاية و القواعد و الإرشاد و الفاضل الهندي في كشف اللثام و المحقق في المعارج و العميدي في المنية و الشهيد في الدروس و الذكرى و المحقق الثاني في الجعفرية و جامع المقاصد و الشهيد الثاني في التمهيد و سبطه في المعالم و الشيخ البهائي في الزبدة و صاحب الرياض. و من العامة أحمد بن حنبل و ابن شريح و القفال على ما حكي عنهم و قيل بعدم الاشتراط و ان العامي مخير بين تقليد الأعلم و غيره و هو المحكي عن الشيخ الشريف و المحقق الثالث و النراقي «ره» و الشيخ حسن نجل كاشف الغطاء صاحب أنوار الفقاهة و صاحب الفصول و جمع من متأخري المتأخرين «ره». و من العامة الحاجبي و العضدي و القاضي. و قيل ان هذا القول حدث عند جماعة من الإمامية بعد الشهيد الثاني «ره».

ثمَّ ان الكلام فيه يقع في مقامين:

(أحدهما) في حكم العامي و ما هو وظيفته ابتداء قبل الرجوع لأحد

فنقول اما أن يكون متمكنا من الاجتهاد في هذه المسألة كأن كان مراهقا للاجتهاد و يتمكن من تحصيل دليل نقلي معتبر يقطع باستيفائه لشرائط الحجية أو لم يتمكن و لكنه استقل عقله بجواز الرجوع للمفضول أو وجوب الرجوع الى الأعلم فيتعين عليه الأخذ به لرجوع ذلك الى العمل بقطعه و لا أثر لفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 433

المجتهد الأعلم في حقه لعدم جهله بهذه المسألة و إن لم يتمكن من الاجتهاد في هذه المسألة رجع لمن ثبت عنده حجيته فاذا رجع

له فان جوّز له الرجوع لغير الأعلم فله أن يرجع لغير الأعلم و إلا قلده في باقي المسائل و لا يصح أن يرجع في هذه المسألة لغير الثابت حجيته عنده بأن يقلده في هذه المسألة حتى لو أفتى له بتقليد الأعلم لما عرفت من عدم حجيته رأيه عنده فلا يكون الرجوع إليه مبرئا للذمة. (و إن شئت قلت): انه يلزم الدور و يكون المقام من قبيل إثبات حجية الظن بالظن. و خبر الواحد بخبر الواحد لأن حجية قوله موقوفة على جواز الرجوع له و جواز الرجوع له موقوف على حجية قوله. و لعل نظر صاحب الكفاية «ره» الى ذلك. و عليه فلا وجه لإيراد استاذنا المشكيني «ره» عليه و الأمر سهل واضح. (و الحاصل) انه لا بأس برجوعه الى غير الأعلم إذا استقل عقله أو قام دليل نقلي معتبر عنده بحيث يقطع بحجيته أو أفتى المجتهد المتيقن الحجية له بذلك و بهذا ظهر لك انه لا وجه لجزم الكثير من أساتذة أهل العصر تبعا لجملة ممن تقدم عليهم في هذا المقام بوجوب تقليد الأعلم للعامي لكون العامي عالما بحجية فتوى الأعلم و شاكا في حجية فتوى غيره و الشك في الحجية كاف في الحكم بعدمها في الطرق و الامارات و ذلك لوضوح ان الواجب على العامي بحسب حكم عقله الاجتهاد في المسألة فما أدى نظره فيها فهو المتبع لأنه هو المبرئ للذمة في نظره و إن عجز عن الاجتهاد فيها كما هو الفرض فعقله يلزمه بالرجوع الى من يعتقد حجية قوله و انه مبرئ لذمته لأن اشتغاله اليقيني بالتكاليف الشرعية يستدعي الفراغ اليقيني، و حيث يعتقد من الضرورة و الفطرة و السيرة و العسر و

الحرج حجية التقليد و عدم وجوب الاحتياط عليه و حيث انه متردد فيمن يقلده و يرجع اليه وجب عليه بحكم عقله أن يرجع لمن يعتقد بأن العمل بقوله مبرئ للذمة و من المعلوم انه قد يعتقد ذلك في الأعلم و قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 434

يعتقد ذلك في من كان غير أعلم و لكن قد قلده سابقا ثمَّ مات و قد يعتقد ذلك بمن يكون غير أعلم و لكنه أورع تنكشف له الحقائق أكثر من الأعلم بواسطة مجاهداته النفسانية و قد يعتقد ذلك في الأعلم الميت لا الحي أو يعتقد ذلك لمطابقته للأصل أو الأمارات الدالة على انه يصيب الواقع أكثر من الأعلم منه لورود توصية من الامام (ع) في حقه. و ان اليوم بعض العوام يعتقدون في بعض بيوتات العلمية في النجف الأشرف ان المجتهدين منهم أوصل للأحكام الشرعية من غيرهم و إن كانوا أعلم منهم لمقام هذا البيت عند اللّه تعالى أو لأن فتوى غير الأعلم موافقة للشهرة أو لمن تقدم من العلماء المعروفين كالشيخ «ره» و العلامة «ره» و المحقق «ره» كما انه لا وجه لما ذكره بعضهم و يظهر من تقريراته من ان المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية مع انه عنده ان المتعارضين لا يشملهما دليل الحجية فإذا كانت فتوى الأعلم معارضة لفتوى المفضول لم يشملهما دليل الحجية أعني أدلة التقليد فلا بد من دليل للعامي يرجع له في حجية فتوى الأعلم عليه. (و الحاصل) ان الميزان هو رجوعه لمن يعتقد بأن العمل بفتواه مبرئ للذمة لا خصوص الأعلم، هذا و قد أورد غير واحد على جواز الرجوع للمفضول بفتوى الأفضل

بأن العامي يرجع للأفضل بحكم عقله المستقل فلا يرى فتوى المفضول حجة فكيف يرجع له.

(و جوابه) ان العامي إنما رجع للأفضل لعدم ثبوت حجية المفضول عنده فإذا أفتى الأفضل بحجية فتواه كانت حجية فتواه ثابتة عند العامي فصح رجوعه له. نعم لو كان العامي قد ثبت عنده عدم حجية فتوى المفضول لم يصح تقليده للأفضل في حجية فتوى المفضول لقيام الحجة عنده على عدم حجيتها.

(المقام الثاني) في تحقيق ما هو الحق في هذه المسألة ليفتي به المجتهد عند رجوع العامي له فيها
اشارة

ثمَّ نتكلم في ملحقاتها من بيان المراد بالأعلم و صورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 435

الاختلاف و الاتفاق و غير ذلك فنقول

[الأدلة على وجوب تقليد الأعلم]
اشارة

قد ذهب المشهور الى وجوب الرجوع الى الأعلم و استدلوا على ذلك بوجوه:

(الأول) الأصل الذي يقتضي تقليد الأعلم
اشارة

و قد تقدم تحريره في مسألة اشتراط الحياة في المفتي في الحجة الاولى و الثانية على المنع عن تقليد الميت و نتعرض لذلك مرة ثانية لما في الإعادة من الإفادة فنقول ذكر جملة من الأصوليين أن الأصل في المقام حرمة العمل بغير العلم للأدلة من الكتاب و السنة و الإجماع و العقل خرج عن هذا الأصل يقينا تقليد الأعلم للاتفاق من المجوزين و المانعين على صحة تقليده فيبقى غيره تحت هذا الأصل الى أن يثبت المخرج له عن هذا الأصل.

[ما يورد على الأصل الذي يقتضي تقليد الأعلم]
(و قد أورد على هذا الأصل أولا) كما عن صاحب القوانين بما حاصله

أن اشتغال الذمة لم يثبت إلا بوجوب العمل بقول المجتهد و هو متحقق في قول غير الأعلم و الأصل عدم لزوم الزيادة التي هي الأعلمية. فلا وجه لدعوى بقاء قول غير الأعلم تحت أصالة حرمة العمل بغير العلم.

و قد أجاب عنه في التقريرات للمرحوم الشيخ الأنصاري بما حاصله انه ان أراد منع قيام الدليل على حرمة العمل بما وراء العلم فهو باطل لوجود الدليل على ذلك من الكتاب و السنة و الإجماع و العقل و إن أراد أن انسداد باب العلم على العامي إنما يقتضي جواز العمل بالظن فهذا يقتضي أن يكون الأمر دائرا مدار حصول الظن، فربما يحصل من الأعلم و لا يجوز حينئذ الرجوع الى غيره و ربما يحصل من غير الأعلم فلا يجوز الرجوع الى غيره مع أنه لم تكن حجية قول المجتهد على العامي من باب الانسداد حتى يكون الأمر دائرا مدار الظن كما عرفت في مبحث تقليد الميت بل إنما هو من جهة قيام الضرورة الدينية على حجيته و يؤخذ بالقدر المتيقن منها. (و لا يخفى ما فيه) فان للخصم أن يدعي ان الضرورة الدينية لم تكن قائمة على ذلك

لمخالفة جماعة من أهل الدين في حجية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 436

التقليد و إنما هو من جهة الارتكاز الفطري و الأدلة السمعية و العقلية و هي تعم الأعلم و غيره فالدليل الذي أخرج تقليد الأعلم من أدلة حرمة العمل بغير العلم بنفسه يخرج تقليد المفضول منها لعدم أخذ قيد الأعلمية فيه و بعبارة أخرى ان الأعلمية نسبة اعتبارية فالشخص الواحد قد يصير أعلم في زمان و قد يصير مفضولا في زمان و أدلة التقليد لما لم يكن مأخوذا فيها الأعلم و لا عنوانا ملازما للأعلم كانت تعم كليهما بإطلاقها.

(و أورد على هذا الأصل ثانيا) بما يظهر من صاحب الضوابط ان أصالة حرمة العمل بما وراء العلم

قد انقطع بما دل على مشروعية التقليد في الجملة و لا ريب انه إذا كان المجتهدان متساويين في العلم كان كل منهما حجة و كان المكلف مخيرا بينهما، فاذا صار أحدهما أعلم قبل التقليد لأحدهما فإنه يستصحب بقاء التخيير بينهما و مقتضاه عدم وجوب تقليد الأعلم منهما و يتم الأمر في غير هذه الصورة بعدم القول بالفصل و لا أقل من بطلان الأصل المذكور أعني حرمة العمل بفتوى غير الأعلم في هذه الصورة و هكذا ينتقض بصورة ما إذا قلد شخصا لم يوجد أعلم منه ثمَّ بعد هذا وجد من هو أعلم منه فان الاستصحاب يقتضي البقاء على تقليده. و يمكن الجواب بل هو الظاهر من تقريرات الأنصاري «ره» عن الصورة الاولى ان الحاكم بالتخيير هنا هو العقل و موضوع حكمه هو اجتماع أمور:

(أحدها) عدم إمكان الجمع.

(و ثانيهما) عدم إمكان الطرح.

(و ثالثهما) عدم الأخذ بأحدهما على وجه التعيين لانتفاء المعين و استحالة الترجيح بلا مرجح فاذا فرض وجود أمر يحتمل المرجحية كأن يكون أحدهما أعلم يرتفع الأمر الثالث فلا وجه للحكم بالتخيير

لا حقيقة لارتفاع موضوعه و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 437

استصحابا لما قرر في محله من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية لاختلاف الموضوع فان العقل لما كان هو الحاكم فعلى تقدير عدم الاختلاف في موضوع حكمه لا يعقل الشك فيه من الحاكم و هو العقل و على تقدير الاختلاف فهو لا يحكم قطعا لأن العقل لا يحكم إلا بعد الإحاطة بحدود موضوعه و أطرافه فالشك في الحكم العقلي غير معقول.

(إن قلت): انا نستصحب جواز تقليد المفضول منهما الثابت قبل وجود الأعلمية للآخر منهما. (قلنا): هذا الجواز يرجع للتخيير العقلي المذكور.

(و أما الصورة الثانية) فنقول أيضا ان التعيين إنما صار بحكم العقل من جهة عدم وجود الأعلم فبعد وجوده زال موضوع حكم العقل فيرجع للقدر المتيقن و هو الأعلم، أقول سيجي ء إن شاء اللّه تعالى ما يوضح لك الحال في التنبيه المشتمل على صورة ما إذا كان مقلدا لميت ثمَّ صار الحي أعلم من الميت هذا مضافا الى أنه قد تحقق في محله أن التمسك بعدم القول بالفصل إنما يتم في مورد يثبت بالدليل فيتمسك في الباقي بعدم القول بالفصل لا في مورد ثبت بالأصل كما فيما نحن فيه.

(و أورد على الأصل المذكور ثالثا)

إن مرجع الأصل المذكور إلى ملاحظة الاحتياط في هذه المسألة و قد يعارض ذلك بالاحتياط في المسألة الفرعية كما إذا كان فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط و الاحتياط في المسألة الفرعية مقدم على الاحتياط في مدركها لأنه يدرك به الواقع. (و لا يخفى ما فيه) لما عرفته غير مرة من انه بعد اعمال الاحتياط في المدرك تقوم الحجة الشرعية على الواقع فتبرأ ذمته و لا يحتاج الى الاحتياط في المسألة الفرعية مضافا

الى أن ذلك إنما ينفع في غير العبادات و أما فيها فحيث يلزم الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي و يلزم منه ترك قصد الوجه أو يلزم منه التكرار فإنه خلاف الاحتياط في العبادة عند بعضهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 438

(و أورد على الأصل المذكور رابعا)
اشارة

ان الأمر دائر في المقام بين التعيين و التخيير فيما علم وجوبه في الجملة و هو التقليد فلا يدري ان المكلف به هو التقليد مطلقا حتى يكون مخيرا بين الأعلم و غيره أو خصوص تقليد الأعلم حتى يكون معينا فيكون من قبيل الشك في أن المكلف به مطلق الرقبة أو خصوص المؤمنة مع انتفاء إطلاق في البين و قد قرر في محله ان الحق هو التخيير لأصالة البراءة من الكلفة الزائدة فلا وجه للرجوع لأصالة حرمة العمل بغير العلم في فتوى غير الأعلم. و أجاب عن هذا الإيراد بعضهم ناسبا له للمرحوم استاذنا آغا ضياء العراقي بأن جعل المقام من صغريات تلك المسألة مبني على جعل التخيير فيه في المسألة الفرعية و هو باطل قطعا لامتناع الوجوب التخييري في العمل في كلية باب التعارض المنتهي فيه الأمر إلى التناقض في المدلول بل التخيير فيه راجع الى التخيير في المسألة الأصولية أعني الأخذ بأحد الفتويين الراجع إلى إيجاب التعبد بكل واحد منهما مشروطا بالأخذ. و عليه فيكون في المقام الأمر دائرا بين حجية فتوى الأعلم و وجوب العمل على طبقها من غير اشتراطها بالأخذ و الالتزام بمؤداها و بين حجية كل منهما مشروطا بالأخذ بها (و من المعلوم) ان لازم ذلك هو عدم اليقين بحجية فتوى الأعلم فإنه قبل الأخذ بها يشك في حجيتها و وجوب التعبد و كذا بعد الأخذ

بفتوى غيره و مع هذا الشك كيف يمكن دعوى اندراج المقام في مسألة التعيين و التخيير المستلزم لليقين بوجوب العمل على طبق المعين على كل تقدير انتهى. (و لا يخفى ما فيه) فان من يجعل المقام من هذه المسألة أعني مسألة دوران الأمر بين التعيين و التخيير فنظره الى أن كلا الفتويين حجة عليه على سبيل التخيير أو خصوص فتوى الأعلم حيث لا حجة غيرهما. (و إن شئت قلت): انه يدور الأمر قبل الأخذ بأحدهما بين وجوب العمل بفتوى الأعلم بعينه لو كانت هي الحجة بعينها و بين وجوب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 439

العمل بها أو بفتوى غيره لو كانت الحجة إحداهما تخييرا إذ لا يجوز العمل بغيرهما.

و قوله: ان لازم ذلك هو عدم اليقين بحجية فتوى الأعلم إلخ. في غاية الغرابة فإنه قبل الأخذ بفتوى أحدهما كما هو فرض البحث يعلم بوجوب العمل بفتوى الأعلم إما وحدها مطلقا أو بإحداهما بشرط الأخذ بها. و كون الأخذ شرطا لها على تقدير التخيير لا يخرجها عن كونها يجب العمل بها أو بفتوى غيره حيث أنه على تقدير التخيير يكون الأخذ واجبا بإحداهما حيث أنه لا يجوز الرجوع لغيرهما لعدم وجود حجة سواهما و الاحتياط فرض الكلام غير واجب. و قوله: و كذا بعد الأخذ بفتوى غيره فأيضا في غاية الغرابة فإنه في كل مورد يدور الأمر بين التعيين و التخيير يكون بالأخذ بالفرد الذي لا يحتمل فيه التعيين احتمال عدم وجوبه و يمكن أن يجاب عن هذا الإيراد أيضا بل لعله هو الظاهر من تقريرات الشيخ الأنصاري «ره» بأن الشك بين التعيين و التخيير يتصور على وجوه:

(منها) أن يكون التخيير شرعيا كالتخيير

بين خصال الكفارة مع احتمال تعيين أحدهما.

(و منها) ان يكون التخيير المشكوك فيه تخييرا عقليا من جهة تعلق الأمر بالطبيعة و احتمال تقييدها بحيث يكون غير المقيد ليس بواجب أصلا مثل ما إذا ثبت وجوب عتق الرقبة و شك في تقييدها بالمؤمنة.

(و منها) أن يكون التخيير عقليا ناشئا من جهة تزاحم الواجبين العينيين مع احتمال تعيين أحدهما كالتخيير بين إنقاذ العالم، و إنقاذ الجاهل مع احتمال تعيين العالم عليه.

(و منها) أن يكون التخيير عقليا بين فعل الشي ء و تركه بواسطة دوران حكمه بين الوجوب و الحرمة مع احتمال ترجيح أحدهما مثل موافقة الشهرة و هذا غير الشك الناشئ من التزاحم. و في القسمين الأوليين لو سلمنا جريان البراءة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 440

عن المكلفة الزائدة لكن في القسمين الأخيرين لا نسلم ذلك لأن الشك ليس في التكليف بالزائد حتى يدفع بالأصل بل إنما هي في تعيين المكلف به المردد بين شيئين و العقل حاكم بوجوب الأخذ بما يحتمل معه الترجيح لأن الاشتغال اليقيني بالتكليف يستدعي الفراغ اليقيني و هو إنما يحصل بالإتيان بما يحتمل معه الترجيح.

ثمَّ انه لا إشكال في أن المقام ليس من القسم الثاني لأنه فيما نحن فيه على تقدير التعيين لو فقد المعين و هو الأعلم يرجع لغيره و في القسم الثاني لو فقد المعين على تقدير انه هو المطلوب و هو المؤمنة فلا يرجع لغيرها و هو الكافرة لعدم التكليف بها. (و الحاصل) ان ما نحن فيه الحكم الشأني و الحجة الشأنية مقطوع بثبوتها لكل من المتعارضين بخلاف هذا القسم فان الحكم و لو شأنا ليس مقطوعا به لكل من الفردين المحتمل تعيين أحدهما. و لا من

القسم الأول لعين ما ذكرناه في القسم الثاني و لعدم الدليل من الشرع يكون مفاده التخيير بين الأعلم و غيره مثل ما ورد في خصال الكفارة فلا بد أن يكون المقام من القسم الثالث أو الرابع. و قد عرفت أن أصل البراءة لا يجري فيهما فيجب الأخذ بما هو محتمل التعيين هذا مضافا الى أن قياس ما نحن فيه مع المثال المعهود من دوران الأمر بين عتق الرقبة المطلقة أو خصوص المؤمنة قياس مع الفارق و الوجه فيه ان عدم وجوب الزائد في مسألة الرقبة يقتضيه أصل البراءة بخلاف المقام فان الشك في الزائد يرجع الى الشك في عروض التخصيص للعمومات الناهية عن العمل بغير العلم بفتوى غير الأعلم و أصالة العموم تقتضي عدم التخصيص بها.

و لا يخفى ما فيه (أولا) أنه يلزم من هذا اشتراط سائر الشروط المذكورة في المفتي التي لم يقم عليها دليل بل و يلزم من ذلك الترجيح حتى بمثل الجفر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 441

و الرمل و النوم و النجوم و نحو ذلك. و ربما يترجح في نظره بواسطة حسبه أو نسبه أو كبره أو اشتهاره بين العوام لأن المناط موجود و الفارق مفقود. و لا يخفى ما يلزم من ذلك من المفاسد العظيمة في هذا الدين و الهرج و المرج في شريعة سيد المرسلين.

(و ثانيا) و هو مبني على مقدمتين.

[تحقيق ان الأصل في الأمارتين المتعارضتين هو التخيير لا التساقط]

(إحداهما) ان الأصل في الأمارتين المتعارضتين هو التخيير. أما بناء على السببية فواضح لأنه يكونان من قبيل الواجبين المتزاحمين المتساويين لأن ملاك جعل الحكم الظاهري هو مجرد قيام الامارة و هذا المعنى موجود في كلا المتعارضين بجميع ما هو دخيل في تحققه نظير إنقاذ الغريقين

فيكون العبد مخيرا في سلوكهما.

(إن قلت) انه على السببية يكون الحال نظير الأصول العملية المتعارضة لأن في كل منها حكم ظاهري فكما أن مورد الأصل موجب لإنشاء حكم ظاهري فكذا قيام الخبر موجب لإنشاء حكم ظاهري و حكم الأصول العملية هو التساقط عند التعارض. (قلنا) إنما نقول في الأصول ذلك لأنها مغياة بالعلم بالخلاف الذي يشمل العلم التفصيلي و الإجمالي و إلا لو قلنا بعدم الشمول يكون مقتضى القاعدة هو التخيير بين الأصلين نظير المتزاحمين.

(إن قلت): إن عدم إمكان العمل بهما معا يوجب التقييد في أدلة الحجية لأن أدلة الحجية إنما تدل على الحجية بشرط القدرة على العمل بهما فيسقط الدليل عن الحجية عند عدم القدرة على ذلك. (قلنا) إن الاشتراط بالقدرة لا ينافي اعتبار الدليل على وجه الإطلاق و إلا لما وجد دليل يكون معتبرا على وجه الإطلاق فلا يوجب عدم القدرة سقوط الدليل عن الحجية المطلقة و ذلك لأن اشتراط القدرة أمر عقلي و هو إنما يقتضي معذورية المكلف عن العمل بهما معا لا سقوطهما عن الحجية و هذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 442

نظير ما لو كان الخبر بلا معارض و لم يتمكن من العمل به. نعم لو كانت حجية كل منهما مشروطة بعدم قيام مثله على خلافه سقط عن الحجية و لكن الأمر ليس كذلك و إلا لما وقع بينهما تعارض فان التعارض إنما يقع بين الدليلين الذين كان اعتبارهما على وجه الإطلاق من غير اشتراط الحجية أحدهما بعدم المعارض و إلا لما صح إطلاق التعارض عليهما و لذا لا يطلق التعارض على الأصل المخالف للأمارة المعتبرة. (و الحاصل) ان الأمارتين المتعارضتين يكون دليل الحجية قد دل على

اعتبار كل منهما على وجه الإطلاق. غاية الأمر أن العقل (بعد عدم إمكان العمل بهما حال التعارض و المشرّع لم يعين حجية أحدهما) يحكم بأن المشرع قد أو كل أمر العمل بهما الى اختيار العبد في الأخذ بأحدهما.

(إن قلت): ان أدلة حجية التقليد لا إطلاق فيها و لا تشمل المتعارضين لعدم شمول أدلة الامارات للمتعارضين. (قلنا) إن عدم الشمول إن كان من جهة الانصراف فهو باطل بدليل انها تشمل كل منهما في حد نفسه و إن كان من جهة التعارض فهو إنما يوجد بعد الشمول لكل منهما فكيف يمنع من الشمول و إن كان عدم الشمول من جهة عدم صلاحيتهما للحجية فهو باطل للإجماع على عدم سقوطهما معا في الفتوى المتعارضة و للأخبار الدالة على التخيير في تعارض الروايات فلو كانت الامارة تسقط عن الحجية بالتعارض لما دل الإجماع و الأخبار على التخيير بينهما التي هي ظاهرة في بقاء حجيتها لا إنشاء حجية جديدة لها و إن كان المراد عدم شمول أحدهما لا بعينه فهو ليس فردا من أفراد العام حتى يدعى عدم شموله.

(إن قلت): إن التزاحم إنما يكون بينهما فيما إذا كان كل منهما حكم إلزامي أما إذا كان أحدهما حكم لا اقتضائي كما لو دل أحدهما على وجوب شي ء و الآخر على اباحته فلا تزاحم بينهما فلا وجه للتخيير و وجوب تقديم ما دل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 443

الوجوب. (قلت): إن القائلين بالسببية في حجية الأمارات على ثلاثة وجوه:

(الأول) الوجه الذي ذهب إليه الأشاعرة و هو القول بخلو الواقع عن المصلحة رأسا و إن الحكم تابع لمؤدي الامارة و هذا تصويب باطل.

(الثاني) ما ذهب إليه المعتزلة و هو

أن الواقع مشتمل على المصلحة الموجبة لإنشاء حكم مشترك بين العالم و الجاهل و لكن بقيام الامارة تحدث مصلحة غالبة على مصلحة الواقع توجب إنشاء الحكم على طبقها بحيث يتبدل الحكم الواقعي إلى مؤدى الامارة لو قامت الامارة على الخلاف لأن المصلحة المزاحمة بمصلحة أقوى منها لا تصير منشأ للحكم فلا يعقل أن يقال للكذب النافع انه قبيح واقعا.

(الثالث) ما ينسب الى بعض الإمامية و هو أن قيام الامارة لا يوجب حدوث مصلحة في المؤدى و لا مغيرا لمصلحة الواقع و إنما يكون في سلوك الامارة و تطبيق العمل على مؤداها فيه مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها فلو قامت الامارة على وجوب الجمعة و صلى الإنسان الجمعة ثمَّ انكشف له في الوقت وجوب الظهر لم يتدارك بسلوك الامارة إلا المصلحة التي فاتته بعدم المبادرة لصلاة الظهر أول الوقت و لو انكشف له بعد خروج الوقت تتدارك له مصلحة الوقت. إذا عرفت ذلك فمحل كلامنا هو القول الثالث و أما القولان الأوليان فلا كلام لنا فيهما لقيام الإجماع و ضرورة المذهب على بطلانهما و إذا كان محل كلامنا هو ذلك فحينئذ تعرف ان المصلحة السلوكية تستدعي وجوب السلوك سواء كانت في الامارة القائمة على الوجوب أو في الامارة القائمة على الإباحة فإذا تعارضا كان كل منهما يجب سلوكه لوجود المصلحة السلوكية المقتضية للوجوب فيه و حينئذ فيكون المقام من قبيل المتزاحمين كإنقاذ الغريقين فلا محيص من التخيير بينهما سلوكا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 444

(إن قلت): من أين نعلم بأن المصلحة السلوكية موجودة في الأمارتين حتى في حال المعارضة. (قلنا) نعرف ذلك من الدليل الدال على اعتبار الامارة

فإنه يدل على أن موضوع الحجية توجد فيه المصلحة السلوكية أين ما وجد و إلا لقيد بحال المعارضة و قد عرفت شمول الدليلين للمتعارضين حال المعارضة.

(إن قلت): انه بناء على السببية يكون المجعول هو المؤدى و جعل المؤدي في المتعارضين يكون فيه التناقض فاذا قام خبر على وجوب الجمعة و آخر على حرمتها و قلنا بالسببية و شمول أدلة الحجية لهما فمعناه ان الشارع جعل وجوب الجمعة و حرمتها و هذا الإيراد يظهر من المرحوم السيد كاظم اليزدي في كتابه التعادل و التراجيح ص 81 و تبعه بعض أساتذة العصر. (قلنا) هذا لا يلزم على القول بالسببية التي ذهب إليها بعض الإمامية و هي محل كلام أصحابنا فإن سلوك كل أمارة موضوع غير سلوك أمارة أخرى فيكون التقابل بين السلوكين نظير التقابل بين الضدين كالغريقين و يكون حينئذ التكليف بهما إنما يتنافى في مقام الامتثال لا في مقام الجعل كما قررناه في المتزاحمين.

(إن قلت) ان المصلحة السلوكية الملزمة إنما تكون في الطريق باعتبار ان سلوكه فيه مصلحة ملزمة فطريقيته تكون بمنزلة الموضوع للمصلحة السلوكية و المتعارضان يتساقطان بالنسبة للمؤدي فلا تبقى طريقية لهما فيه. (قلنا) المصلحة السلوكية قائمة بنفس سلوك الطريق مع قطع النظر عن جعل الشارع له و طريقيته الذاتية لا تزول بالتعارض.

(إن قلت): على هذا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لأن الأدلة دلت على الوجوب العيني عند عدم المعارضة و على الوجوب التخييري عند المعارضة. (قلنا) ما نحن فيه نظير ما إذا خرج عن تحت القدرة بعض أفراد الواجب المخير كخصال الكفارة فإن وجوب الباقي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 445

يكون تعيينا مع أنه في الأصل تخييريا

و لا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحدا و السر واضح حيث ان التعيينية هنا و التخييرية هناك إنما لزمت من الأمور الخارجية و انحصار القدرة بأحدهما فحكم العقل بالإطاعة و الامتثال بهذا النحو نظير التزاحم بين أفراد الواجب التعيني كإنقاذ الغريق فاللفظ مستعمل في الوجوب التعيني إلا أن التخيير يأتي من جهة حكم العقل بسبب عدم إمكان العمل بالمتعارضين معا فيتخير في تطبيق العمل على أحدهما فكل من المتعارضين واجب تعيينا ثمَّ ان ما ذكرناه بأجمعه جاري حتى في الدليل اللبي كالإجماع فإن الموضوع فيه موجود في المتعارضين كما يوجد في غيرهما فلو لم تكن حجية كل منهما ثابتة بالإجماع لما وقعت المعارضة بينهما و بعبارة أخرى ان التعارض يكون في مرتبة متأخرة عن حجيتهما فهو لا يعقل أن يوجد إلا بعد حجيتهما و إلا فلا تعارض (و بعبارة أخرى) ان الشمول و الانطباق قهري و لو كان معقد الإجماع لا يشملهما بالذات لما كان التعارض بينهما يرتب عليه التعارض بين الحجتين من التخيير بينهما فإن الإجماع قد قام على التخيير بين الحجتين المتساويتين و هكذا الأخبار الدالة على التخيير. و أما (بناء على الطريقية) فلأن المناط في الحجية هو غلبة الإيصال إلى الواقع بأن تكون تلك الغلبة حكمة للجعل و النصب و من المعلوم عدم اعتبار الاطراد في الحكمة كيف و هي بذلك تفارق العلة و قضية ذلك عدم سقوط الدليل عن الاعتبار لو وقع التعارض بين أفراده لوجود مناط الاعتبار فيه بداهة عدم انتفاء الغلبة المذكورة بسبب المعارضة فكل منهما حين المعارضة متصف بتلك الغلبة باعتبار نوعه فلا وجه للحكم بالتوقف فضلا عن الحكم بالسقوط حال التعارض كيف

و التعارض يكون في مرتبة متأخرة عن حجيتهما فلا يعقل أن يوجد إلا بعد حجيتهما و إلا فلا تعارض كيف و لو كان بالتعارض يزول الملاك واقعا لما صح من الشارع أن يجعل التخيير بينهما أصلا كما لو زال ملاك الحجية عنهما فاللازم على المكلف حينئذ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 446

الأخذ بكل منهما عملا بعموم أدلة الحجية و إطلاقها لكن لما كان الفرض عدم التمكن من ذلك فالعقل يحكم بأن المشرع قد أرجع الأمر في سلوكهما الى اختيار العبد كما هو الحال بناء على السببية.

(إن قلت): كيف تدعي عدم التمكن من العمل بهما و الحال أن في بعض صور التعارض يمكن العمل بالدليلين كما لو قام أحدهما على وجوب الجمعة و الآخر على وجوب الظهر مع العلم بكذب أحدهما فلو كان يشملهما دليل الحجية لوجوب العمل بهما مع انه لم يقل بذلك أحد. (قلنا) المراد بذلك عدم إمكان سلوكهما و اتخاذهما طريقا للواقع لا عدم إمكان العمل بهما هذا كله مضافا الى ما نشاهده من ذهاب العلماء طرأ في باب تعارض المجتهدين في الفتوى عند التساوي إلى التخيير و لم يعهد من أحدهم القول بالتوقف أو التساقط مع عدم ورود دليل على التخيير في ذلك كما ورد في الأخبار المتعارضة و ليس ذلك إلا من جهة فهمهم عدم سقوط الحجية بالتعارض و عدم سقوط ملاك الحجية بالتعارض و عدم تقييد حجية أحدهما بعدم المعارض. (و دعوى) أن ذهاب العلماء الى ذلك من جهة كون حجية الفتوى من باب التعبد المحض و السببية الصرفة.

(فاسدة) ضرورة عدم اشتمال العمل بالفتوى على مصلحة غير مصلحة غلبة الوصول الى الواقع كيف و هو من الضروريات

عند المتقدمين فضلا عن قيام الإجماع عليه بل لو لم تشمل أدلة الحجية المتعارضين لما كان هناك دليل على حجية أحد المتعارضين حتى عند أرجحية أحدهما على الآخر. و الغريب ممن يقول بنفي الثالث بهما كيف يقول بعدم شمول دليل الحجية لهما. سلمنا زوال صفة الكشف عنهما عند التعارض فلا يقصر حالهما عن حال ما لو دار الأمر بين الوجوبين كإنقاذ الغريقين فإنه فيما نحن فيه أدلة الحجية تدل على وجوب العمل بكل واحد من المتعارضين و لا ريب ان ظاهرهم الاتفاق على التخيير في مورد دوران الأمر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 447

بين الوجوبين فكيف لا يحكم به في المقام. و توهم الفرق بينهما بأن المفروض هناك قيام الدليل على ثبوتهما بخلافه هنا. (فاسد) لأنه هنا أيضا كذلك بل هو أولى لاشتمال كل منهما على شرائط الحجية. (و دعوى) عدم كون كل منهما طريقا في مؤداة (ممنوعة) فإن مقتضى الأدلة كون كل منهما طريقا في مؤداة بجعل الشارع غاية الأمر أن التعارض يمنع عن السلوك فيهما و مع الأخذ بأحدهما يزول المانع لأنه يصير المأخوذ طريقا يسلك لمؤداه (فظهر) بهذا أن التفصيل بين اعتبار الأدلة من باب الطريقية فالتساقط و بين اعتبارها من باب السببية فالتخيير كما صدر عن المرحوم الشيخ الأنصاري «قده» و تبعه على ذلك جملة من المتأخرين و المعاصرين غير صحيح. نعم بناء على اعتبارها من باب الظن الشخصي و زوال الظن منهما معا حال التعارض يتجه الحكم بالتساقط لكن نحن لا نقول به، (و دعوى) استحالة جعل طريقين متخالفين في المؤدى للواقع لان الواقع واحد فكيف يجعل له طريقين مختلفين يكذّب أحدهما الآخر، (فاسدة) فإن ذلك ليس

أزيد من جعل الطريق الكاذب حجة فان الطرق و الامارات لم تكن بأجمعها صادقة و لكن الشارع قد جعلها بجعل عام باعتبار غلبة المطابقة و لا يضر أن يكون من بين أفراده فرد لم يطابق الواقع كان مجعولا بهذا الجعل تعميما للقانون و هكذا ما نحن فيه يكون كل منهما منجعلا بالجعل العام تعميما للقانون. (و دعوى) ان ما نحن فيه من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة للعلم بكذب أحدهما فيكون الصادق منهما هو الحجة و الكاذب ليس بحجة و في اشتباه الحجة باللاحجة لا يجوز التخيير للزوم جواز العمل باللاحجة. (فاسدة) لأنه لما كان كل منهما مستجمعا لشرائط الحجية و مندرجا تحت العنوان الذي دل الدليل على اعتباره كان كل منهما حجة. و (دعوى) ان العلم الإجمالي بكذب أحدهما مانع عن حجية أحدهما فيسقطان عن الحجية لاحتمال الكذب في كل منهما كما قاله صاحب الكفاية. (فاسدة) لأنه يلزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 448

أن يكون المقام من اشتباه الحجة باللاحجة مع ان هذا العلم الإجمالي لا يوجب خروج أحدهما عن الحجية حتى في الواقع لأنه ينطبق على كل منهما حقيقة و واقعا العنوان الذي دل الدليل على اعتباره فيكون كل منهما موجودا فيه موضوع الحجية حقيقة، مع ان الموجب لخروجه عن الحجية أما العلم بالكذب تفصيلا أو إجمالا أو وصف الكذب أو غيرهما أما الأول فليس بحاصل لان كل واحد منهما يحتمل صدقة و أما الثاني فلا يعقل أن يكون موجبا للخروج عن الحجية و إلا لزم خروج الامارات عن الحجية للعلم الإجمالي بكذب بعضها و أما الثالث فكذلك لا يعقل أن يكون موجبا للخروج عن الحجية و الا لزم أن يكون

كل امارة تكون حجة بشرط العلم بعدم كذبها. و هذا يقتضي عدم اعتبارها إذ مع العلم بعدم كذبها يكون الواقع معلوما فلا يحتاج إليها و أما الرابع فلفرض كون الأمارتين في الواقع على حد سواء قد جمعت شرائط الحجية فكل منهما حجة واقعا، مع ان العلم بالكذب إن كان مانعا عقليا فعليا فلا يعقل وجود التخيير بين كل أمارتين متعارضتين مع وجوده في الخبرين المتعارضين المتساويين و ان كان مانعا عقليا تعليقيا بمعنى انه مانع إلا إذا ورد من الشارع حجيتهما فنقول ان دليل الحجية هو الوارد من الشرع في حجيتهما.

و (دعوى) ان دليل الحجية لا يشمل مجموع المتعارضين لعدم المصلحة فيه كذلك. لأن المصلحة في الطريق هو التوصل للواقع و مجموعهما لا يوصل له و لا واحدا منهما معينا يوصل له عند المكلف للزوم الترجيح بلا مرجح و لا أحدهما لا على التعيين لأنه ليس فردا ثالثا للعام فيكون دليل الحجية غير شامل لهما. (فاسدة) فإنه شامل لكل واحد منهما على التعيين لوجود المصلحة و هو غلبة الإيصال. (و دعوى) ان التعارض من الحالات المتأخرة بعد عروض الحجية فهو إنما يثبت بعد وجود الدليل على حجيتها أي بعد تحقق الموضوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 449

و حكمه فلا يعقل أن يكون الحكم مطلقا بالنسبة إلى الحالات المتأخرة عنه و لا مقيدا بالنسبة إليها. (فاسدة) لأن المراد و محل البحث هو شموله لذات الدليلين لا بوصف تعارضهما. (و دعوى) كون أدلة الحجية قاصرة عن شمول المتعارضين لاستحالة الجمع بين المتناقضين كما صدرت عن المرحوم ميرزا حبيب اللّه الرشتي (فاسدة) لأن أدلة الحجية إنما هي في مقام الجعل و استحالة الجمع إنما هي

في مرحلة العمل و الامتثال فلا تؤثر المرتبة المتأخرة في المرتبة المتقدمة فلا توجب قصور أدلة الحجية عن الشمول لهما بل لا بد من القول بشمول دليل الحجية لهما حتى يصير بينهما تعارض و إلا فلا تعارض بينهما فلا بد من دليل آخر لاخراجهما عن أدلة الحجية.

(إن قلت): انه لا يمكن اراءة الواقع من طريقين متخالفين مع انه واحد لأنه معناه الحكم بأن الواقع هو مؤدى هذا الطريق و انه هو مؤدى ذلك الطريق و هو تناقض فلا يشملهما أدلة الحجية، ألا ترى انه لا يصح أن يقول صدّق زيد في اخباره بوجوب صلاة الجمعة و صدق عمر في اخباره بعدم وجوبها. (قلنا) مضافا الى تحقق ذلك في الأخبار فإن المتعارضين منهما مع التساوي بينهما قد جعل الشارع كل منهما حجة على سبيل التخيير فلو كان ذلك ممتنعا لما تحقق، انه في القضايا الشخصية إنما قبح الجعل لكون الجاعل لا فائدة له في الجعل بالخصوص بخلافه في الأمور العامة فإنه هناك فائدة في جعل قانون عام لموضوع عام يكون فيه آرائه الواقع المطلوب للجاعل فاذا انطبق على فردين متعارضين في المؤدى و لم يجعل الجاعل مرجحا لأحدهما فيعلم أنه أوكل الأمر إلى اختيار الإنسان في اتخاذ أي منهما كاشفا عن الواقع فان الكشف الناقص ذاتي لهما. و يدلك على الشمول إمكان أن يكون أحد المتعارضين حجة لمجتهد و الآخر حجة لمجتهد آخر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 450

(إن قلت): ان الأدلة منصرفة عن صورة التعارض. (قلنا) قد تقدم و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى في أدلة القائلين بجواز تقليد المفضول إنها تشملهما بإطلاقها.

(إن قلت): هذا يتم فيما إذا كان الدليل لفظيا، أما إذا

كان لبيا كالإجماع و نحوه فلا لأن المتيقن منه ما عدا المتعارضين. (قلنا) إنا نقطع بأن المجمعين لم يصدر منهم التقييد له بهذه الصورة فهو مطلق مضافا الى إمكان أن يقال انه لما كان معقد الإجماع موجودا فيهما بالنحو الموجود في غير المتعارضين و انما طرأ عليه في المتعارضين التعارض فقد كان منطبقا عليهما و شاملا لهما فلا وجه للرجوع للقدر المتيقن بل إنما صارا متعارضين بلحاظ الدليل اللبي باعتبار انطباق معقد الإجماع عليهما و إلا لما صارا متعارضين و يجري عليهما احكام التعارض لو كانت له أحكام. كيف و لو كان دليل الحجية لا يدل على حجيتهما لكانا من قبيل اللاحجتين المتعارضتين كقولي غير المجتهدين فإنهما لا يجري عليهما أحكام التعارض. (و إن شئت قلت): ان اجراء المجمعين احكام التعارض أو حكمهم بالتعارض هو أدل دليل على شمول معقد إجماعهم للمتعارضين.

(إن قلت): إن في صورة التعارض نعلم بكذب أحد الطريقين و لا يجب العمل على طبقه واقعا فتكون أدلة الحجية بالنسبة إليهما من قبيل العام المخصوص بالمجمل في سقوطه عن الاعتبار بالنسبة لأطراف العلم الإجمالي فعدم شمول أدلة الحجية ليس من جهة ان الحجة خصوص المطابق للواقع حتى يقال ان الملاك في الحجية وجود الشرائط لا مطابقة الواقع بل إنما هو للعلم الإجمالي المانع من التمسك بالعموم. (قلنا) مخالفة الواقع لا تمنع من حجية الطريق واقعا فان الطريق الكاذب إذا كان جامعا لشرائط الحجية هو حجة واقعا.

و كيف تكون المخالفة مانعة و لازم ذلك اختصاص حجية الطريق بخصوص

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 451

المطابق للواقع و لازمه سقوط الطريق عن الحجية لأنه مع اعتبار ذلك فلا بد من إحراز المطابقة و

مع إحرازها لا حاجة للطريق فاذا ظهر لك ذلك عرفت ان العلم الإجمالي بالمخالفة ليس علما إجماليا بالمخصص حتى يسقط العام عن الحجية في مورده و أما صورة العلم التفصيلي بالمخالفة فإنما تسقط أدلة الحجية معها لانكشاف الواقع و مع انكشاف الواقع لا أثر للطريق و لا جعل له.

(إن قلت): ان دليل الحجية مقيد بعدم العلم بالخلاف لا بنفس عدم الخلاف و في التعارض يوجد العلم بالخلاف كما في الأصول العملية. (قلنا) الدليل الشرعي لم يقيدها بذلك و إنما هو بحكم العقل. و العقل إنما يحكم في خصوص العلم التفصيلي دون الإجمالي و لو سلمنا عدم الشمول للمتعارضين فالمناط موجود فيهما و إلا لما جاز ان يثبت التخيير بينهما بدليل آخر.

(إن قلت): ان المقتضي لجعل الحجية هي المصلحة الواقعية و الامارة تكون بمنزلة الشرط لتأثيرها فلا بد من كون الواقع قابلا للتنجز بها. و المتعارضان المصلحة فيهما واحدة فلا تتنجز بكل منهما فلا يكون كل منهما حجة على الواقع.

(و بعبارة أخرى) ان سنخ المقتضي لا يقبل التعدد لأن تنجز الواقع الواحد على تقدير الإصابة لا يعقل فعليته في كليهما فان المفروض ان الواقع على تقدير ثبوته لا يكون إلا في ضمن أحدهما فهذا الأمر التقديري غير قابل للفعلية إلا في أحدهما فإذن لا بد في الحجية من كون الواقع قابلا للتنجز في كليهما مع انه واحد لا يتنجز إلا في ضمن أحدهما. (قلت) المقتضي للجعل هو احتمال الإصابة للواقع و ليست القابلية لتنجز الواقع هي المقتضية و إلا لما كان الكاذب مجعولا واقعا و لازمه تقييد أدلة الجعل بصورة عدم الكذب و هو لازم باطل لعدم إمكان إحرازه إلا بعدم العلم بالواقع و معه لا

حاجة للجعل.

و من هنا تعرف ما في دعوى مانعية العلم الإجمالي من شمول دليل الحجية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 452

لأن مانعيته إنما ترجع لتلك الأمور المذكورة و قد عرفت فسادها.

[عدم الترجيح بالمزية المحتملة]

(المقدمة الثانية) انه بعد ما كان الأصل في الأمارتين المتعارضتين هو التخيير فاحتمال التعيين بوجود مزية يحتمل الترجيح بها لا أثر له.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 452

أما بناء على السببية فواضح لوجوب سلوكهما لوجود المقتضي للوجوب في كل منهما فيكونان من المتزاحمين و وجود المزية إنما يوجب الشك في وجوب ترجيحه على الآخر فيدفع بأصل البراءة فلا أثر لوجود مزية يحتمل الترجيح بها.

(إن قلت): إن الأصل عدم حجية المرجوح. (قلنا) إنها معارضة بأصالة عدم التعيين للراجح. و دعوى أن أصالة عدم حجية المرجوح ترجع إلى أصالة الإطلاق في الأدلة المانعة من العمل بغير العلم فهي ترجع لأصل لفظي و هو مقدم على أصالة عدم التعيين للراجح لأنه أصل عملي. (مدفوعة) بأن أصالة عدم التعيين للراجح أيضا ترجع لأصل لفظي لأنها ترجع لأصالة عدم تقييد دليل الحجية بتلك المزية المحتمل الترجيح بها و لا وجه لدعوى إجمال أدلة التقليد لما عرفت من إطلاقها و لو سلمنا إجمالها فهذا المجمل لا بد من إحرازه في كلا المتعارضين و إلا لم يتعارضا أصلا فيكون المخصص لأدلة حرمة العمل بغير العلم موجودا في كليهما على حد سواء و (بعبارة أخرى) ان الشك في الحجية ان كان من جهة المعارضة فهو يقتضي الشك في الحجية في كليهما لوجود

المعارضة بالنسبة إليهما معا و إن كان الشك في الحجية من جهة احتمال تعيين ذي المزية فالأصل البراءة عنه و إن كان من جهة احتمال مانعية المزية فالأصل عدم مانعيتها و هو أصل عقلائي في كل مورد أحرز فيه العلية و تأثيرها فيه و أحتمل مانعية شي ء عنه فان العقلاء يجرون عدمه. و لو أبيت عن إجراء الأصل في عدم المانعية فيرجع الشك فيها الى الشك في التعيين و قد عرفت أن الأصل عدمه. هذا كله مع غض النظر عن انه مع فرض إجمال أدلة التقليد فهي غير شاملة للمتعارضين فمقتضى القاعدة سقوطهما لا ترجيح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 453

الأعلم كما هو مطلوب الخصم.

(إن قلت): إن أصالة عدم تعيين فتوى الأفضل و البراءة منه بخصوصه غير جارية لأن التعيينية عبارة عن شدة الملاك فهي جهة محتملة في الحكم الفعلي المقطوع و الجهة غير قابلة للرفع كما هو الاشكال المعروف على إجراء أصالة البراءة عن التعيين عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير. نعم لو كانت التعيينية بملاك آخر يوجب إنشاء حكم آخر فتجري البراءة عنها إلا أنه غير صحيح للزوم اجتماع حكمين متماثلين في مورد واحد و لا وجه لاستصحاب عدم التعيين لعدم الحالة السابقة كذلك. (قلنا) لو سلمنا ذلك فالبراءة العقلية جارية و هي تقتضي رفع العقوبة على خصوص ترك ذي المزية كما قرر في محله.

(إن قلت): إن العقل لا يحكم بالتخيير إلا بعد إحراز التساوي و مع وجود المزية المذكورة يشك في التساوي فكيف يحكم بالتخيير بينهما. (قلنا) أن حكم العقل بالتخيير يتولد من إحراز الموضوع للحكم في كل منهما و لا يتوقف على إحراز التساوي لأن احتمال عدم

التساوي احتمال للمانع عن وجوب أحدهما و الأصل عدم المانع و عدم وجوب الآخر بعينه فمتى لم يثبت الترجيح للآخر عليه كان وجوب الامتثال ثابتا له كثبوته للآخر المحتمل للأهمية و لازم وجوب كل منهما في حد ذاته استقلال العقل بالتخيير بينهما.

(إن قلت): مع احتمال أهمية أحدهما و هو ذو المزية يكون مقطوع الوجوب و الآخر مشكوك الوجوب فالأصل عدم وجوبه فيتعين وجوب ذي المزية. (قلنا) قد أجاب المرحوم مرزا حبيب اللّه الرشتي عن ذلك بما حاصله ان احتمال أهمية أحدهما لا يجعل وجوب الآخر مشكوكا في نفسه إذ المفروض إحراز مقتضي الوجوب في كل منهما على سبيل القطع و اليقين و إلا خرج المقام من باب التزاحم بل يرجع الى الشك في التكليف فلو وقع التزاحم بين إنقاذ غريقين لم يجز ترجيح أحدهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 454

باحتمال الأهمية لعلم أو شرف لأن وجوب إنقاذ أصل الغريق الصادق عليهما معلوم و مقتضاه وجوب إنقاذ كل منهما تخييرا بحكم العقل و لا يصرف عنه إلا بعد ثبوت وجوب إنقاذ أحدهما عينا حتى يكون وجوبه العيني الثابت بالدليل مانعا عن إنقاذ الآخر و لما لم يثبت الوجوب العيني كان وجوب القدر المشترك القاضي بالتخيير باقيا بحاله.

(إن قلت): انه بناء على السببية كما هو الفرض يكون المقام من تزاحم الواجبين و تزاحم الواجبين إنما يصحح التخيير بينهما إذا لم يكن ملاك الجعل أقوى في أحدهما و حيث كان ملاك الجعل في التقليد هو فتوى المجتهد كان الأعلم أشد اجتهادا من غيره و أقوى ملاكا. (قلنا) لم يحرز الملاك للجعل و إنما أحرز موضوعه و هو فتوى المجتهد و الجاعل قد اعتبر هذا الموضوع

من دون اعتباره للأزيد منه أو الأشد منه فيكون الموضوع للملاك محرزا في كليهما بهذا كله بناء على السببية.

و أما (بناء على الطريقية) فهكذا لا يجب الترجيح لذي المزية المحتمل رجحانه بها لاشتمال كل منهما على شرائط الحجية و شمول دليل الحجية لكل منهما على حد سواء كما تقدم فالمقتضي لحجية كل منهما موجود و ليس المانع إلا احتمال تعيين ذي المزية للحجية و هو منفي لعدم أخذ تلك المزية في أدلة الحجية فيكون اعتباره بخصوصه منافيا لما يقتضيه إطلاقها فيكون التخيير ثابتا بينهما كما لو لم تكن تلك المزية موجودة مضافا الى أنه لو كان احتمال الترجيح بذي المزية موجبا للترجيح لكان التساوي بين الطريقين في حكم العدم إذ كل طريق يوجد فيه مزية يحتمل فيها ذلك بل بناء على التوقف عند التساوي و الرجوع الى الأصل الموجود كما هو مذهب جماعة يكون الترجيح بذي المزية لم يثبت اعتبارها طرحا للأصل هذا مع تسليم إطلاق أدلة التقليد، و أما مع عدم إطلاقها فالكلام كما تقدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 455

في صورة البناء على السببية.

(إن قلت): إذا كان اعتبار الامارة من باب الطريقية للإيصال إلى الواقع و وقع التعارض بين فردين منه و كان أحدهما أقرب الى الواقع من الآخر كانت تلك الأقربية مقتضية لإيجاب العمل به لأنها هي الملاك لإيجاب العمل. و المانع عنه الذي هو السبب الموجب للعمل بالمرجوح مشكوك و الأصل عدمه (قلنا) المانع محرز وجوده و هو وجود موضوع الحجية في المرجوح قال المرحوم السيد كاظم اليزدي «ره» انا لا نسلم وجود المقتضي لإيجاب العمل بالراجح بعينه لأن تعلق الغرض بإدراك الواقع كيف كان ممنوع. بل مقطوع

العدم و إلا لم يكن معنى لجعل الأصول بل الأمارات في حال انفتاح باب العلم مع أن مجرد وجود المقتضي لجعل الحكم مع الشك في الحكم لأجل الشك في المانع لا يثمر في ترتب الأثر ألا ترى، انا لو علمنا أن الفضيلة مقتضية لوجوب الإكرام لكن لا ندري ان الشارع أمر بالإكرام أم لم يأمر به لأجل المانع فإنه لا يحكم بوجوب الإكرام كيف و لازم هذا حجية كل ظن لأن كلا من أفراده له كاشفية عن الواقع و المانع عن جعله مشكوك و الأصل عدمه و هذا لا يتفوه به أحد (نعم) لو وصل إلينا من الشارع ما يدل على أن كل كاشف حجة و شككنا في خروج بعض الأفراد عن هذا الدليل تمسكنا بالمقتضي أي العموم و لذا تمسكنا في مسألة المتزاحمين بإطلاق الدليل لا بمجرد وجود المقتضي لإيجاب كل واحد منهما و (الحاصل) أن وجود المقتضي و الشك في المانع لا يثبت الحكم و لذا ترى العقلاء لا يعملون به فإنك لو علمت ان عند مولاك ضيف و هو يقتضي شراء الطعام له و لكنك احتملت المانع فلا تشتري اللحم: هذا مع انا لا نسلم ان المقتضي للجعل مجرد الكاشفية عن الواقع و ان كان جعله من باب الكشف إذ لعل المقتضي للعمل به على وجه الطريقية شي ء آخر غير الطريقية أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 456

هي مع شي ء آخر سلمنا لكن الشارع اكتفى بهذا المقدار دون الزائد عليه كما اكتفى في صورة جعل الامارات عند الانفتاح.

(إن قلت): ان الإجماع قائم على ترجيح ذي المزية المحتمل رجحانها بها فقد حكي الإجماع عليه عن النهاية و عن غاية المبادي

و عن غاية المأمول و عن الاحكام و عن المختصر. و مخالفة بعض العلماء في مقابل جمهور العلماء لا يعبأ بها و إلا لم يبق للإجماع في غير الضروريات الفقهية مورد. (قلنا) ان هذا معناه رجوع للإجماع لا للأصل كما هو محل كلامنا مضافا الى مخالفة من هم فطاحل في العلم كالسيد المحقق صدر الدين شارح الوافية و المحقق القمي «ره» و لعله الظاهر المحكي عن رئيس المحدثين في أول أصول الكافي. مضافا الى ان المجمعين يحتمل استنادهم إلى أدلة القائلين بالترجيح مضافا الى أن المسألة لم تكن محررة في عصر الأئمة (ع) و عامة البلوى و يرجع فيها للترجيح بذي المزية مطلقا.

(إن قلت): ان ذي المزية أرجح من غيره و العدول من الراجح الى المرجوح قبيح عقلا. (قلنا) قد استدل بهذه القاعدة على المطلوب جملة من فطاحل العلم كما عن النهاية و التهذيب و المبادي و المنية فإن أرادوا إجرائها بالنسبة الى العبد المكلف فالعبد بعد ما يرى ان دليل الحجية متساوي بالنسبة إلى المتعارضين فيرجح ما كان يهوي العمل به فيكون عمله ترجيح للراجح.

و إن أرادوا إجرائها بالنسبة إلى الشارع المكلف فلا بد من دليل آخر يدل على أرجحية صاحب المزية عند الشارع و فرض الكلام عدم وجود الدليل على ذلك و إنما يحتمل الترجيح.

(إن قلت): ان مانعية ذي المزية بخصوصه عن فعلية الآخر محتملة بخلاف الآخر فإنه لا تحتمل مانعيته بالخصوص عن ذي المزية و لازم ذلك القطع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 457

بفعلية طلب ذي المزية و الشك في طلب الآخر. (قلت): لا نشك في طلب الآخر لشمول دليل الحجية له. و احتمال مانعية المزية من شموله له

يرجع الى احتمال التخصيص أو التقييد و الأصل عدمهما. مضافا الى أنا لو قلنا بإجراء أصالة عدم المانع فالأصل يقتضي عدم مانعية المزية من فعلية الآخر، و ان قلنا بعدم جريان أصالة عدم المانع فيكون المقام من الشك في التعيين و الأصل عدمه (إن قلت): ان ذي المزية المحتملة يكون أقوى الدليلين سندا أو دلالة، فلو لم يعمل بذي المزية لزم تعطيل الأحكام الشرعية أو تأسيس أحكام جديدة لأن جل الفقه بل كله ثابت بالترجيح المذكور فإن أغلب أحكام الفقه إنما ثبتت بتقييد المطلقات و تخصيص العمومات و سائر وجوه المجازات و كل ذلك من باب ترجيح أحد المتعارضين على الأخر بالاقوائية من الآخر كما هو المحكي عن صاحب المفاتيح مع الأمر منه بالتأمل و دعوى أن الشيخ الأنصاري «ره» قد ذكر ان التخصيص و التقييد و نحوهما. من وجوه تعارض النص و الظاهر، أو الظاهر و الأظهر خارج عن بحث التعارض لأن العام و الخاص مثلا لا يعدان من المتعارضين. (فاسدة) فإن كلامهم «ره» في وجوب العمل بأقوى الدليلين سندا أو دلالة بدليل ذكرهم المرجحات الدلالية و لا نسلم عدم صدق المتعارضين على العام و الخاص و المطلق و المقيد عرفا. (قلنا) لا يلزم تعطيل الأحكام الشرعية و تأسيس أحكام جديدة لو لم نرجح ذي المزية المحتملة و على المدعي إثباته و أما ترجيح الخاص على العام و نحو ذلك إنما هو لقيام الدليل على الترجيح. (مضافا) الى أن الغالب في الأدلة المتعارضة يكون جمعا دلاليا و مع عدمه يكون الدليل المعارض موهونا بإعراض الأصحاب عنه أو نحو ذلك من المرجحات فالرجوع الى التخيير عند التعارض بين ذي المزية المحتملة و بين غيره لا

يوجب اختلال نظام الفقه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 458

(إن قلت): ان المورد من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و الأصل هو الحكم بالتعيين كما صدر من جملة علماء العصر. (قلنا) ان أدلة الحجية إن كانت مطلقة مقتضى إطلاقها عدم اعتبار تلك المزية التي احتمل الترجيح و التعيين بها و إن كانت غير مطلقة فهي لا يحرز شمولها للمتعارضين و مقتضى القاعدة سقوطهما لا دوران الأمر بين التعيين و التخيير.

(إن قلت): إن العقلاء بنائهم على ترجيح ذي المزية على غيره كما هو المحكي عن كتاب الاحكام. (قلنا) لا نسلم ذلك و تعرف الكلام في ذلك مما ذكرناه في جواب (إن قلت) الاولى فراجع.

(إن قلت): ان العمل بذي المزية يوجب البراءة اليقينية للاتفاق على جوازه فيجب و لا كذلك العمل بالمرجوح فيجب العمل بالأول. (قلنا) بعد تساويهما في وجود موضوع الحجية كان كل منهما حجة و مقطوعية أحدهما في الحجية لا يوجب عدم حجية الآخر بعد وجود موضوع الحجية فيه.

(إن قلت): مع وجود المزية يكون أقوى ملاكا من الآخر بناء على السببية فيكون أهم منه فيقدم عليه. (قلنا) فرض الكلام ان المزية يحتمل الترجيح بها لا أنها مقطوع الترجيح بها و عليه فهي محتمل قوة الملاك بها و محتمل أهمية ذيها لا أنه مقطوع بذلك فلا يحرز معها فعلية الطلب في ذيها بعينه فيجري أصل قبح العقاب على ترك ذيها بخصوصه بلا بيان.

(إن قلت): ان العمل بأحد الدليلين لازم و باب العلم به منسد فيجب تعيينه بالظن. (قلنا) لا نسلم انه يجب تعيينه بالظن لحكم العقل بالتخيير بينهما و لو سلمنا انه يجب أن يعمل بأحدهما المعين فلا نسلم انه

يجب أن يشخص بالظن بل الواجب هو الاحتياط بالعمل بكليهما.

[الإيراد الخامس على الأصل الذي يقتضي تقليد الأعلم]

(و قد رد الأصل المذكور خامسا) بما حاصله أن مقتضى الأصل في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 459

المقام هو التخيير لرجوع الأمر إلى الشك في كون الأعلمية من المرجحات أم لا و الأصل عدم كونها منها و معه يثبت التخيير و هو المطلوب. و أجاب عنه في التقريرات بما توضيحه و حاصله ان الشك المذكور لما كان شكا في حجية المرجوح و الأصل عدمها لعدم قيام دليل من نقل أو عقل عليها أما عدم قيام النقل لعدم شمول دليل الحجية لصورة التعارض للقطع بمخالفة أحد المتعارضين للواقع و تعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح. و أما عدم قيام العقل فلأن العقل لا يذهب الى جواز الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح الظني في التخيرات التي تستند الى حكم العقل و ما قرع سمعك من ان المرجحية كالحجية محتاجة إلى الدليل فإنما هو في التخيير الشرعي الثابت بالدليل. (و بعبارة أخرى) ان التخيير المطلوب إثباته في المقام بين الأعلم و غيره أما شرعي أو عقلي لا سبيل للأول لعدم وفاء شي ء من الأدلة الشرعية بالتخيير بين قول الأعلم و غيره و لا الثاني لأن حكم العقل بالتخيير فرع التساوي في نظره و المفروض حصول الترجيح لأحدهما و لا سبيل الى القول بعدم اعتبار هذا الترجيح حيث ان المدار هو حكم العقل و مع احتمال الترجيح لا حكم للعقل بالتخيير. و أصالة عدم الترجيح لا ترفع نفس الاحتمال الذي من لوازمه العقلية عدم استقلال العقل بالتخيير و هو احتمال الترجيح هذا مضافا الى رجوع أصالة عدم الترجيح في المقام الى تخصيص العموم الذي دل

على حرمة العمل بما وراء العلم بدون مخصص. (و لا يخفى ما فيه) لما عرفت من أن دليل الحجية يشمل المتعارضين. و القطع بمخالفة أحدهما للواقع لا تمنع عن شمول دليل الحجية له لما عرفته في جواب. (الدعوى) ص 447.

و العقل يحكم بالتخيير لما رأى موضوع حكم الشارع موجودا فيهما بتمامه: و رجوع أصالة عدم الترجيح في المقام الى تخصيص العموم الدال على حرمة العمل بغير العلم بلا مخصص معارضة بأن تعيين الأعلم يرجع لتقييد أدلة الحجية بالأعلمية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 460

بلا مقيد و ذلك لأن الشك إنما كان في حجية المفضول حال التعارض لأنه في نفسه تشمله أدلة الحجية و لكن نشك أنه حال معارضته مع فتوى الأفضل حجه أم لا فان الفرض أن أدلة التقليد التي تدل على حجية الأفضل تدل على حجية المفضول في نفسه بحيث لو كانت فتوى هذا المفضول وحدها لما كانت أدلة التقليد قاصرة عن شمولها من دون فرق بينهما و إلا لما وقع التعارض بينهما و لكن نحتمل انه في هذه الحال أعني حال التعارض يسقط المفضول عن الحجية الثابتة له في نفسه و لكن هذا الاحتمال أما أن يكون من جهة أن التعارض هو المانع عن الحجية أو من جهة تقييد أدلة الحجية بالمزية الموجودة في الأعلم. و الاحتمال الأول لا وجه له و إلا لكان موجبا لتساقطهما لأن التعارض قائم بهما.

و الاحتمال الثاني لا وجه له لفرض أن الأدلة تشمل فتوى المفضول في حد ذاتها فليست مقيدة بمزية توجب اختصاصها بأحدهما و إلا لما كانت تشمل فتوى المفضول في حد ذاتها فلا بد لنا من الترجيح بالمزية من دليل خاص يدل

على أرجحية ذيها حال التعارض و مع فقده فأدلة الامارة المتعارضة تقتضي التخيير بينهما. (و بعبارة أخرى) أن الأمارتين المتعارضتين التي في إحداهما مزية لم يقم الدليل على اعتبار ذيها و لكن يحتمل اعتبار ذيها إن كان احتمال اعتبار ذيها من جهة أن نفس التعارض موجب لعدم شمول دليل الامارة لأنه موجب لذهاب الملاك أو موجب للمنع من الحجية فهو يستدعي سقوط كلا الأمارتين عن الحجية لا خصوص الفاقد للمزية لأن التعارض قائم بهما و هما على حد سواء من هذه الجهة مع أنه قد تقدم منا أن التعارض لا يمنع من شمول الأدلة للمتعارضين. و إن كان احتمال ذلك لا من جهة التعارض بل من جهة احتمال مانعية المزية من حجية فاقدها فهذا الاحتمال إن كان من جهة اعتبار المزية في أدلة حجية الامارة فهو باطل لفرض أن أدلة الامارة تشمل الفاقد لتلك المزية عند عدم المعارضة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 461

و تقتضي فعلية حجتها. و ان كان من جهة احتمال قيام دليل خاص على الترجيح بها و لا بد أن يكون هذا بعد فرض اقتضاء دليل الامارة الحجية الفعلية للمتعارضين حتى تصل النوبة إلى الترجيح بالمزية فان الترجيح إنما يكون لما هو الحجة لا لغيرها فهو منفي بالأصل بل ان دليل الامارة يستدعي الحجية الفعلية للفاقد للمزية كذي المزية على حد سواء و يمنع من وجود دليل الترجيح فيكون احتمال الترجيح لذي المزية منفيا به و لعل هذا مستند أصالة عدم المانع عن حجية الفاقد للمزية التي يثبت عدم الترجيح بها و هذا كله حتى لو قلنا بأن أدلة حجية الامارة لا إطلاق فيها فان الالتزام بوقوع التعارض بينهما

مع الترجيح لمحتمل المزية يستلزم ذلك لأنه لا بد أن يكون كل منهما حجة في نفسه حيث أن التعارض بنفسه لا يوجب السقوط من الحجية إذ التعارض فرع كون كل منهما حجة في نفسه. (و إن شئت قلت): إن الإطلاق في أدلة الحجية إن كان موجودا فأصالة الإطلاق تقتضي عدم اعتبار المزية في الحجية و هي حاكمة على أصالة حرمة العمل بالظنون.

و أما مع إجمال الأدلة فإن كان أحد الدليلين هو القدر المتيقن حجيته أخذ به لكنك قد عرفت انه على هذا لا يكون تعارضا بل يكون من قبيل الحجة و اللاحجة و لذا حتى مع عدم التعارض يكون الحجة هو القدر المتيقن.

و الحاصل إن من يقول بعدم شمول أدلة الامارة لمورد التعارض لا مجال له للرجوع لأصالة التعيين و جعل المقام من دوران الأمر بين التعيين و التخيير و من قال بالشمول لمورد التعارض فأصالة الإطلاق و العموم و الشمول تنفي احتمال ترجيح ذي المزية لأنه يرجع الى تقييد أدلة الحجية أو تخصيصها بذي المزية.

[تتمة]
اشارة

(ثمَّ بعد كتابتنا لهذا الفصل) رأينا لبعض أساتذة العصر كلاما في هذا الأصل فأحببنا التعرض له تتميما للفائدة. قال أما المرحلة الثانية فيما هو مقتضى الأصل العملي عند اليأس عن الدليل على كل من القولين، و استقرار الشك في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 462

اعتبار الأعلمية. و الكلام في ذلك إنما يقع بعد الفراغ عن عدم وجوب الاحتياط أما للإجماع أو لأجل بناء العقلاء أو لغير ذلك و عليه فالمرجع قاعدة الاشتغال لأن المقام من الدوران بين التخيير و التعيين في الحجية و قد مرّ أنه لا بد من الأخذ بمحتمل التعيين و هو فتوى الأعلم:

و في كلامه هذا مواقع للنظر

[المناقشة مع بعض المعاصرين]
(أولا) انه لا يرجع الى قاعدة الاشتغال في الطريق عند التعارض

إلا بعد الفراغ عن عدم تساقطهما لا عند عدم وجوب الاحتياط لأنا إذا قلنا بتساقطهما عند التعارض فيرجع الى الأصل العملي في الفروع و لا يكون قول الأعلم متيقن الحجية لسقوطه بالمعارضة و لعله اشتبه عليه الحال بالأخبار فتخيل ان المقام من قبيل الاخبار وفاته أن الأخبار قد قام الدليل على عدم سقوط المتعارضين فيها عن الحجية بواسطة أدلة التخيير. (و كيف كان) فما نحن فيه لا يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير بين الفتويين إلا إذا قلنا بعدم سقوطهما عن الحجية عند التعارض إما بقيام الإجماع على عدم السقوط و إما لشمول أدلة الحجية لهما عند التعارض. لأنا إذا قلنا بإجمال أدلة الحجية فلم يحرز شمولها لفتوى الأعلم عند التعارض لفرض عدم الإطلاق لها بالنسبة لحال التعارض.

و أما إذا قلنا بتقييدها بصورة عدم التعارض فالأمر واضح لخروج المتعارضين حينئذ عن الحجية قطعا، و إذا ثبت بأن ما نحن فيه لا يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير إلا إذا قلنا بعدم سقوطهما معا عن الحجية عند التعارض ظهر لك انه لا وجه لأن يبني قاعدة الاشتغال المذكورة على عدم وجوب الاحتياط و إنه كان عليه أن يبنيها على عدم تساقطهما عن الحجية في باب التعارض فإنه حينئذ يحتمل أن يكون أحدهما حجة أو كليهما حجة كما أنه لا يكون المقام بعد عدم وجوب الاحتياط إلا من قبيل دوران الأمر بين تعيين الأعلم و بين سقوطهما عن الحجية و الرجوع إلى الأصل و بين التخيير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 463

بينهما و معه لا يقين بالحجية لأحدهما بعينه.

(إن قلت): إن

الإجماع الذي أقيم على التقليد أو بناء العقلاء القدر المتيقن منه هو حجية فتوى الأعلم. (قلنا) أن الإجماع حاله حال الأدلة اللفظية لأنه إن كان لمعقده إطلاق يشمل صورة التعارض فهو يشملهما كليهما و هذا يقتضي التخيير لأن أصالة الإطلاق تقتضي عدم التقييد بالأعلمية و إن كان مجملا لا إطلاق له فهو كما يحتمل اختصاصه بغير المفضول في صورة التعارض يحتمل اختصاصه بغيرهما أعنى بغير المفضول و الأفضل في صورة التعارض لعدم الإطلاق في معقده و ان كان القدر المتيقن منه ذلك فهو رجوع للإجماع لا للأصل و هو خلاف الفرض مع انه يلزم منه عدم حجية فتوى المفضول عند عدم المعارضة و هو لا يلتزم بذلك مع انه إنما يتم إذا لم يكن دليل آخر له إطلاق. و عليه نفيه.

(و ثانيا) إن قوله قد مرّ أنه لا بد من الأخذ بمحتمل التعيين و هو فتوى الأعلم.

قد عرفت ما فيه فإنه قد مر منا عدم وجوب ذلك لما عرفته من عدم وجود قدر متيقن في البين لاحتمال عدم حجيتهما حال التعارض هذا إذا كان كلامه من جهة الرجوع للفطرة مع قطع النظر عن أدلة التقليد و أما مع النظر إلى أدلة التقليد و قطع النظر عن الأدلة على ترجيح الأعلم فإن قلنا بإطلاق أدلة التقليد و شمولها لمورد المعارضة فالأصل هو التخيير لأن الترجيح بالمزية موجب لتقييدها و أصالة الإطلاق تمنع من ذلك و لا تصل النوبة إلى التمسك بعموم أدلة حرمة العمل بغير العلم على عدم حجية المفضول حال المعارضة لأن أدلة التقليد المطلقة قد قيدتها و هي تقتضي حجية كل منهما و إن كانت أدلة التقليد مجملة فهي كما يحتمل عدم إطلاقها بالنسبة لفتوى المفضول حال المعارضة كذلك يحتمل عدم إطلاقها بالنسبة لفتوى الأفضل حال المعارضة فلم يكن

قدر متيقن في البين.

(إن قلت): إن بناء العقلاء قائم على تقليد الأفضل عند التعارض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 464

مع المفضول. (قلنا) لا نسلم ذلك و إلا لعطل ذوي المهن. نعم هو سبيل الاستحسان عندهم كما تقدم ذلك منا مضافا إلى أن هذا رجوع للأدلة على حجية فتوى الأعلم و هو خلاف الفرض. (ثمَّ قال): نعم هنا شبهة لعلها تختلج بالبال و هي أن مقتضى أصالة البراءة عدم العقاب على مخالفة فتوى الأعلم كما ان مقتضى حديث الرفع عدم اعتبار المزية لفتوى الأعلم إذ اعتبارها كلفة على المكلفين. (ثمَّ دفعها) بما حاصله ان الأمارات لا يعاقب على مخالفتها لأن شأنها الطريقية و ليس العمل على طبقها واجبا نفسيا و لذا لو خالف الامارة و أتى بالواقع اتفاقا لا يعاقب إلا على القول بالعقاب على التجري فالامارات يقطع بعدم العقاب على مخالفتها فلا يجري أصل البراءة فيها! و البراءة عن مخالفة الواقع لو صادفت فتوى الأعلم الواقع غير جارية لتنجز الواقع بالعلم الإجمالي أو بنفس الأمارتين إذ الأصل في كلا الطرفين معارض بالأصل في الطرف الآخر و منه يظهر الجواب عن الأصل بالتقرير الثاني لأن المزية في الحجية لا عقاب على مخالفتها في نفسها. (و لا يخفى ما فيه) فان العقاب على ترك ذي المزية مع فعل فاقدها مرفوع حتى لو كان بترك ذي المزية يكون الواقع قد ترك فالعقاب المرفوع إنما رفع عن ترك الواقع في هذه الحال نظير من شك في وجوب شي ء في حال خاص. فأصل البراءة المدعى في المقام هو أصل البراءة عن الواقع في حال إتيان فاقد المزية و هذا الأصل لا يعارضه أصل البراءة في الطرف الآخر

للقطع بعدم العقاب على ترك فاقد المزية مع فعل ذي المزية. و هذا هو أصل البراءة الذي يقتضي عدم تعيين ذي المزية لا أصل البراءة عن الواقع في ضمن فتوى الأعلم مطلقا إذ هو يرفع التكليف و نحن في المقام نريد رفع التعيين و من هذا يظهر ما في جوابه عن الأصل بالتقرير الثاني (ثمَّ ذكر أنه) قد حقق في بحث الترتب إن التزاحم بين الخطابين يوجب تقييد كل منهما بترك الآخر إذا كانا متساويين لعدم معقولية بقاء الإطلاق بالنسبة إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 465

فعل الآخر و تركه لأنه من طلب الجمع بين الضدين. و لا يحضرني كلامه في بحث الترتب و ما ذكره هنا لا يخفى ما فيه فإنه بالتقييد المذكور أيضا يلزم طلب الجمع بين الضدين قبل الإتيان بكل منهما فلا ينفع التقييد المذكور في رفع المحذور (ثمَّ ذكر) انه إذا كان أحدهما أهم يبقى خطابه على إطلاقه و يتقيد خطاب المهم بترك الأهم تحفظا للأهمية. و لا يخفى ما فيه فإنه إن أراد الخطابين المستفادين من أدلة التقليد المتعلقين بالفتويين فهما خطابان سلوكيان لا أهمية لأحدهما على الآخر إذ هما يرجعان الى خطاب واحد قد وقع التزاحم بين أفراده فكيف يتصور الإطلاق بالنسبة لأحد الفردين دون الآخر مع كون الخطاب واحد.

و إن أراد الخطابين الذين تضمنتهما الفتويين فالعقل إنما يحكم بترجيح ما هو موافق للاحتياط ترجيحا استحسانيا لفرض قيام الحجة عليهما و مقتضى ذلك هو التخيير بينهما. (ثمَّ ذكر) أن رجوع التعارض الى التزاحم على القول بالسببية كما هو ظاهر كلام الشيخ «ره» مما لا أساس له لأن التزاحم بين الحكمين إنما هو فيما إذا كان التنافي

ناشئا من عدم قدرة المكلف على امتثالهما معا بعد الفراغ عن إمكان جعل كلا التكليفين في نفسهما كما في إنقاذ الغريقين و أما مع فرض عدم إمكان اجتماع التكليفين في مقام الجعل فلا معنى لتحقق التزاحم لأنه قد يكون التنافي بين الدليلين بالتناقض في نفس الحكمين كالفتوى بوجوب شي ء و فتوى الآخر بعدم وجوبه و قد يكون بالتضاد بينهما كما إذا أفتى أحدهما بوجوبه و الآخر بحرمته و قد يكون من جهة التضاد في المتعلقين مع عدم ثالث لهما كما لو أفتى أحدهما بوجوب الحركة و الآخر بالسكون فان التكليف بكل منهما تعيينا تكليف بغير المقدور و تخييرا طلب للحاصل و قد يكون من جهة التضاد في المتعلقين مع وجود ثالث لهما كما لو دل أحدهما على وجوب الجمعة و الآخر على الظهر فإنه لا يصح لتنافي الدليلين بحسب الدلالة الالتزامية فإن كل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 466

منهما يدل على عدم الآخر التزاما للعلم إجمالا بكذب أحدهما فرضا فيرجع الى التناقض في مقام الجعل. (و لا يخفى ما فيه) لما قد تقدم من أن السببية التي يذهب إليها الشيخ «ره» هي السببية في السلوك فاذا قام طريقان؟؟؟ في سلوك كل منهما مصلحة و ملاكا لحدوث وجوب السلوك حتى لو كان أحدهما حكما لا اقتضائيا كما لو دل أحدهما على الإباحة و الآخر على الحرمة فيكون المقام من قبيل الواجبين المتزاحمين كوجوب إنقاذ الغريقين فقد اتضح رجوع التعارض بناء على السببية الى التزاحم بين وجوبي السلوكين للطريقين المتعارضين.

(الدليل الثاني لوجوب تقليد الأعلم) الإجماع

على ذلك المحكي في مجمع الفائدة. و عن ظاهر كلام الشهيد الثاني و عن السيد «ره» في الذريعة و البهائي و في المعالم انه

قول أصحابنا الذي وصل إلينا. (و لا يخفى ما فيه) فقد منعه غير واحد من المتأخرين و قد عرفت مخالفة المحقق الثالث و الشيخ الشريف و النراقي صاحب المناهج و يعزى ذلك للأردبيلي و غيرهم من متأخري المتأخرين.

و (بعبارة أخرى) ان المحقق من الإجماع غير محقق و المنقول منه ليس على وجه يمكن الاعتماد عليه لأن ما حكاه في مجمع الفائدة من حكاية الإجماع على ذلك عن بعض لم يعرف الناقل منه فلعله ممن لا يكون دعاويه و أخباره يعتمد عليها. مضافا الى احتمال استناد المجمعين إلى الأدلة الموهونة المذكورة.

(الدليل الثالث لوجوب تقليد الأعلم) الأخبار الدالة على ترجيح الأعلم
اشارة

على غيره (منها) مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة و لا وجه للمناقشة في سندها بعد ما كانت مقبولة معمولا بها فهي منجبرة بعمل الأكثر و قد تمسك بهذه الرواية غير واحد من الأعاظم منهم الفاضل الهندي و الفاضل المازندراني و الشيخ الأنصاري «ره» على ما حكي عنهم قال المحقق الداماد في الرواشح.

[نقل مقبولة عمر بن حنظلة بأجمعها و الدليل على اعتبارها]
اشارة

و مقبولات الأصحاب كثيرة منها مقبولة عمر بن حنظلة التي هي الأصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 467

عندنا في استنباط أحكام الاجتهاد و كون المجتهد العارف بالأحكام منصوبا من قبلهم (ع) و قال صاحب المعالم انه وجد بخط والده الشهيد «ره» ما صورته عمر بن حنظلة غير مذكور بجرح و لا تعديل و لكن الأقوى عندي انه ثقة لقول الصادق (ع) في حديث الوقت (إذن لا يكذب علينا) و قال المجلسي «ره» في مرآة العقول إن حديث عمر بن حنظلة موثق تلقاه الأصحاب بالقبول.

و بهذا يظهر جبران ضعف الرواية. و هي قال عمر بن حنظلة سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السلطان أو الى القضاة أ يحل ذلك قال من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم الى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و إن كان حقه ثابتا له لأنه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه أن يكفر به قال تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قلت فكيف يصنعان قال ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما

فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه و هو على حد الشرك باللّه قلت فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما و كلاهما اختلف في حديثكم قال الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما و لا يلتفت الى ما يحكم به الآخر قال قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر قال فقال ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمهما و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه و إنما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع، و أمر بين غيه فيجتنب، و أمر مشكل يرد علمه الى اللّه تعالى و الى رسوله (ص). قال رسول اللّه (ص) حلال بيّن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 468

و حرام بيّن و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات و من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم قال قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكم الكتاب و السنة و وافق العامة قلت جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ قال ما خالف العامة ففيه الرشاد فقلت جعلت فداك

فان وافقهما الخبران جميعا قال ينظر الى ما هم إليه أميل حكامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر قلت فان وافق حكامهم الخبرين جميعا قال إذا كان كذلك فارجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات. و وجه استدلالهم بها على وجوب تقليد الأعلم ان الامام قدّم قول الأعلم و الأفقه على غيره عند المعارضة و المخالفة و هو المطلوب.

[ما يورد على الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة]

(لا يقال) ان المراد بالحكم هو فصل الخصومة و القضاء لا الفتوى بقرينة السؤال عن منازعة الرجلين في دين أو ميراث فتكون الرواية أجنبية عما نحن فيه. لأنا نقول:

(أولا) الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم و الفتوى فكل من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه و قد اعترف بهذا الإجماع صاحب المفاتيح في ظاهر كلامه و اعترف به الشيخ الأنصاري «ره».

(و ثانيا) إن المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عند الفقهاء أعني القضاء بل الظاهر أن المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى مثل قوله تعالى في غير موضع وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* الآية. بدليل عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

(و ثالثا) ثبوت الملازمة بين الحكم و الفتوى في الشبهات الحكمية فإن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 469

القاضي في الشبهات الحكمية لا يحكم بشي ء إلا إذا أفتى به فاذا رجح الحكم بمناط الأعلمية فلا بد من ترجيح تلك الفتوى بهذا المناط مضافا الى قول الراوي:

«و كلاهما اختلفا في حديثكم» فان ظاهره كون الاختلاف بينهما ليس من جهة اختلاف البينات أو الايمان و إنما هو من جهة الاختلاف في الفتوى فان المنازعة قد تكون من جهة الاشتباه في الحكم الشرعي فيرجعان الى من يحكم بينهما

بالفتوى و قد يكون من جهة الاشتباه في الأمور الخارجية فيحكم بينهما بالبينات و الايمان كما أن علماء الفقه في عصر الأئمة (ع) اختلافهم بالفتوى يكون باختلاف الحديث الذي يستندون اليه و كانت فتاواهم غالبا بلسان الحديث.

(مضافا) الى قوله (ع): الحكم ما حكم به أصدقهما في الحديث فان صدق الحديث إنما يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث دون القضاء الذي هو إنشاء محض. مضافا الى أنه بعد ذكر المرجحات في الرواية قال الراوي:

فقلت إنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه قال فقال ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فإن الأمر بالنظر الى مدرك الحكمين من الروايات و الأخذ بالمشهور لا يلائم تعارض الحكم بمعنى القضاء و إنما يناسب الفتوى لأن شغل المترافعين ليس النظر الى مدرك الحكمين و الاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر بالإجماع مضافا الى انه إذا تعارض الحكمان و لم يكن في أحدهما مزية على الآخر فالمرجع هو أسبق الحكمين بل لا يبقى بعد صدور الحكم من أحد الحكام محل لحكم الآخر و لو حمل الرواية على ما إذا كان الحكمان يتساقطان حينئذ فلا وجه للأخذ بالمرجحات بخلاف الاختلاف في الفتوى المتعارضة فان السبق و اللحوق لا عبرة بهما أصلا مضافا الى أن الرواية فرض فيها اجتماع الحكمين في المسألة المتنازع فيها و الاجتماع يتصور على وجوه ثلاثة كلها بعيد إرادتها من الرواية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 470

لو أريد من الحكم القضاء بخلاف ما لو أريد منه الفتوى و ذلك لأن الاجتماع.

إما أن يكون المقصود منه صدور الحكم منهم أجمع و هذا الفرض

بعيدا جدا لم نسمع بوقوع مثله في شي ء من الأزمنة فلا وجه لحمل الرواية عليه. و إما أن يكون المقصود منه صدور الحكم من أحدهم و يكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدمات الحكم لئلا يخطأ و هذا لا وجه لحمل الرواية عليه لأن صريح الرواية صدور الحكم من كل من الحكمين و المفروض عدم صدور الحكم إلا من أحدهم. و إما ان يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم و تنفيذ الباقين له و إمضائهم له و هذا بعيد أيضا حمل الرواية عليه لعين ما ذكرناه في الوجه الثاني و حينئذ فيتعين حمل الرواية على الفتوى فإنها بذلك تنطبق على جميع الصور المذكورة في غاية الوضوح فان اختلاف الفتاوى لا ينافي شيئا من المقاصد الثلاثة فتلخص ان ظاهر الرواية هي إنشاء الفتوى في القضية المتنازع فيها و حلها بالفتوى المنطبقة عليها.

(إن قلت): لا وجه لحمل الرواية على التقليد و أخذ الفتوى أيضا فإن أعمال هذه المرجحات ليس من شأن المقلدين ضرورة ان اللازم في حق المقلد هو الأخذ بالفتوى من دون مراجعة مدركها حتى يحتاج إلى إعمال المرجحات (قلنا) هذا من جهة اختلاف المقلدين في زماننا مع المقلدين في زمن الأئمة عليهم السلام إذ يمكن أن يكون المقلدون في ذلك الزمان من أرباب الاجتهاد و لا ينافي ذلك تقليدهم لحصول الاطمئنان لهم بأن المذكور في مقام الفتوى هو مضمون الرواية المسموعة عن الإمام ألا ترى إن الصادق (ع) أمر عبد اللّه ابن أبي يعفور مع كونه من أصحاب الرواية بالرجوع إلى الثقفي فالظاهر انهم كانوا يعتمدون على ما عندهم من الروايات و إذا احتاجوا في واقعة إلى حكم كانوا يسألون بعضهم بعضا فيعتمدون

على جوابه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 471

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية أولا) بأن دعوى عدم التفكيك بين الحكم و الفتوى بالإجماع المركب فاسدة لأنه يجوز الحكم لحل النزاع بين مجتهدين و لا يجوز لهما التقليد. و يجوز صدور الفتوى من المجتهد بخلاف الحكم من المجتهد الآخر و لا يجوز للمجتهد الحكم بخلاف حكم الآخر (و لا يخفى ما في هذا الجواب) فان المدعي يدعي بواسطة الإجماع المركب ان كل من جعل الأفضلية شرطا للقضاء جعلها شرطا للفتوى فالأولى أن يقال بعدم تسليم الإجماع المركب لذهاب بعضهم الى اشتراط الأعلمية في القضاء دون الفتوى و أما الملازمة فهي باطلة لإمكان أن يقال ان الترجيح بالأعلمية في الحكم لحسم النزاع بخلاف نفس الفتوى حيث لا نزاع حتى يحسم بالمرجحات.

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية ثانيا) ان الحكم في الرواية ليس كما تخيله المستدل من ان المراد به الفتوى بل المراد به ما يفصل به الخصومة في مورد الترافع لقوله (ع) فيها و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا. و لكون موردها التنازع.

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية ثالثا) بأنها إنما تدل على تقديم فتوى الأعلم عند اختلافه مع غيره بعد رفع المتنازعين أمرهما اليه و لا دلالة فيها على المنع من الاستفتاء من غير الأعلم إذا لم يكن تنازع و لا على المنع عن اختيارهما غير الأعلم إلا أن يدعى القول بعدم الفصل و هو غير مسلم.

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية رابعا) ان هذه الرواية إنما تدل على اشتراط الأعدلية و الأورعية و الأصدقية في تقديم الأعلم لا تقديم الأعلم مطلقا و محل النزاع هو الأخير و القائل بوجوب تقديم الأعلم لا

يقول باشتراطها و لكن يمكن الجواب عنه بالقول بعدم الفصل.

(و ربما يشكل على الرواية خامسا) بأنها لا تدل على المطلوب إذ ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 472

المطلوب هو إثبات وجوب الرجوع في الفتوى الى أعلم المجتهدين و الرواية إنما تدل على وجوب الرجوع الى الأعلم ممن اختاره المتنازعان.

(و ربما يشكل على الرواية سادسا) كما عن المفاتيح أن ظاهر هذه الرواية هو اختصاصها بالرواية و عدم شمولها للفتوى و لا أقل من التشكيك بالنسبة إليها فإن المتبادر في زمن التكلم بها ليس إلا الأعلم بالرواية لعدم وجود الأعلم بالفتوى في ذلك الزمان أو ندرته و ليس فيها لفظ عام يشمل الفتوى و إنما المذكور فيها مطلقات فتنصرف عن الفرد النادر و عليه فحملها على الفتوى لا يخلو عن مجازفة فالظاهر من المقبولة هو فصل الخصومة بنقل الرواية لا بالفتوى بدليل أمر الإمام (ع) السائل بالتحري و النظر في مستند الحكمين و أمره (ع) بالترجيحات مع أن ذلك لا يصح في باب الفتوى إذ ليس على العامي أن يرجح احدى الفتويين على الأخرى.

(إن قلت): إن الترجيح بالأفقهية و الأعلمية في المقبولة يناسب الإفتاء. (قلنا) ان الترجيح بذلك لعله باعتبار تطبيق الرواية على المورد فان ذلك يحتاج إلى معرفة معناها و عدم المخصص لها و المعارض لها أو لما قيل من أن الأغلب نقل الرواية بالمعنى فيتفاوت النقل وضوحا و خفاء بالفقاهة و الأفقهية.

[بقية الأخبار الدالة على وجوب تقليد الأعلم و المناقشة فيها]

(و من الاخبار الدالة على تقديم الأعلم) رواية الصدوق عن داود بن حصين عن أبي عبد اللّه الصادق (ع) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم

قال عليه السلام ينظر الى قول أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت الى الآخر. و يعلم ما فيها مضافا لضعفها مما سبق فيما قبلها من مقبولة عمر بن حنظلة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 473

(و منها) خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد اللّه (ع) عن رجل بينه و بين آخر منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما، قال: و كيف يختلفان؟ قلت: حكم كل منهما للذي اختاره الخصمان فقال عليه السلام: ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه. و هذه الرواية مروية عن القيسري أيضا و لعله لقب موسى بن أكيل: و يعلم ما فيها مضافا لضعفها مما سبق في مقبولة بن حنظلة.

و (منها) المروي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) في كتابه إلى مالك الأشتر اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك و يعلم ما فيه مضافا لضعف سنده ما تقدم في مقبولة عمر بن حنظلة. مضافا الى ظهور سوقها مساق الاستحباب و إلا لكان اللازم تولي مالك الأشتر للقضاء لأنه الأفضل و لكان اللازم أن يختار للقضاء شخص واحد يرجع له الناس في كل البلدان لا انه يختار لكل بلد شخص واحد.

و (منها) المروي عن كتاب الاختصاص قال رسول اللّه (ص): من تعلم علما ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس الى نفسه يقول أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار: ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها فمن دعى الناس الى نفسه و فيهم من هو أعلم منه لم ينظر اليه يوم القيامة. و هو مضافا الى ضعف سنده انه ظاهر في الأعلمية بشؤون

الرئاسة و الإدارة لشؤون المسلمين و نحن قد سبق منا عدة مرات إن الزعامة الدينية التي هي منصب الإمامة غير المرجعية في معرفة الأحكام فإنها تستدعي الأعلمية بشؤون المسلمين و مصالحهم و مضارهم و ما يصلح شؤونهم و أمورهم في كل صقع صقع ففي البحار في باب استعمال العلم عن الباقر (ع) قال من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 474

و في المستدرك عن تفسير العياش بسنده عن أبي عبد اللّه عن أبيه (ع) قال:

من ضرب الناس بسيفه و دعاهم الى نفسه و في المسلمين من هم أعلم منه فهو ضال متكلف، قاله لعمرو بن عبيد حيث سأله أن يبايع عبد اللّه بن الحسن، و عن الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم نحوه و في كتاب الغيبة بسنده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد اللّه يقول من خرج يدعو الناس اليه و فيهم من هو أعلم منه و في نسخة من هو أفضل منه فهو ضال مبتدع و من ادعى الإمامة و هو ليس بإمام فهو كافر. و في فقه الرضا (ع) و أروي من دعى الناس الى نفسه و فيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضال. و في البحار عن كتاب البرهان بسنده عن علي بن الحسين (ع) في خبر طويل قال قال الحسن بن علي (ع) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ما ولت أمة أمرها رجلا و فيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى

يرجعوا الى ما تركوا. و عن رسول اللّه أيضا إمام القوم وافدهم فقدموا أفضلكم. مضافا الى انها انما تدل على حرمة دعوى العالم لنفسه لا على رجوع الناس اليه كيف و الاخبار متضافرة على ان اللّه أخذ على العلماء ان يعلموا و على الجهلاء ان يتعلموا و لعل المتأمل في الأخبار الواردة في في ذم علماء السوء و غيرها يرى ان هذا الخبر انما هو ناظر لعلماء العامة و ان المراد بالأعلم هو الامام المفترض الطاعة ففي المحكي عن معاني الاخبار و عيون أخبار الرضا (ع) عن ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان عن الهروي قال سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) يقول: رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا فقلت له و كيف يحيي أمركم قال يتعلم علومنا و يعلمها للناس فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا قال: قلت يا ابن رسول اللّه فقد روي لنا عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال من تعلم علما ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء أو ليقبل بوجوه الناس اليه فهو في النار فقال (ع): صدق جدي (ع) أ فتدري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 475

من السفهاء؟ فقلت لا. قال: قصاص مخالفينا. و تدري من العلماء؟ فقلت لا. فقال: هم علماء آل محمد (ص) الذين فرض اللّه طاعتهم و أوجب مودتهم ثمَّ قال: و تدري ما معنى قوله أو ليقبل بوجوه الناس اليه؟ قلت لا، قال:

يعني بذلك ادعاء الإمامة بغير حقها و من فعل ذلك فهو في النار. هذا مضافا الى أن اعراض الأصحاب عن التمسك بهذه الرواية على اعتبار الأعلمية في المفتي مما يدل على عدم فهمهم منها

ذلك. مضافا الى ان إطلاقها و سياقها يقتضي وجوب الرجوع الى الأعلم حتى مع موافقة المفضول في الفتوى له و هذا ينافي أمر الإمام عليه السلام بالرجوع لمثل يونس مع وجود الامام (ع) و هو أعلم منه.

(و منها) المروي عن عيون المعجزات انه لما قبض الرضا (ع) كان سن الجواد (ع) سبع سنين فاختلفت الكلمة في بغداد و كان وقت الحج فاجتمع فقهاء بغداد و الأمصار ثمانون رجلا و قصدوا المدينة فأتوا دار الصادق (ع) لأنها كانت فارغة و خرج إليهم عبد اللّه بن موسى فسألوه عن أشياء أجاب عنها بغير الحق فورد على الشيعة ما غمهم و حيرهم و قالوا لو كان الجواد (ع) كاملا لما كان من عبد اللّه من الجواب بغير الحق فلما هموا بالانصراف فتح عليهم باب من صدر المجلس و دخل موفق و قال هذا الجواد (ع) فقاموا بأجمعهم و سلموا عليه فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحق ففرحوا و دعوا له و قالوا له ان عمك عبد اللّه أفتى بكيت و كيت فقال لا إله إلا اللّه يا عم انه عظيم عند اللّه ان تقف غدا بين يديه فيقول لك لم تفتي عبادي بما لم تعلم و في الأمة من هو أعلم منك. (و فيه) ان ظاهر الرواية ان المراد بالأعلم هو العالم في مقابل الجاهل لأن عبد اللّه كان جاهلا بالمسائل و لذا الامام (ع) وبخه على الفتوى بدون علم فالمقابل له هو العالم فالإمام (ع) يقول له: ان باب العلم غير منسد حتى تحكم بمقتضى عقلك و مخيلتك فان في الأمة من هو عالم يمكن معرفة المسائل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص:

476

منه مضافا الى ان هذه الرواية تخص الإمامة فكأنه يقول له كيف تفتي بما لا تعلم و أمامك موجود فلا ربط لها بما نحن فيه. و لعله بالنظر في الجواب عن رواية الاختصاص المتقدمة عليها يظهر لك إيرادات أخرى على الاستدلال بها.

و من ذلك يظهر لك الجواب عن رواية الصدوق في معاني الأخبار بإسناده للباقر (ع) يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم و معرفتهم فان المعرفة هي الدراية للرواية و بالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان إني نظرت في كتاب علي فوجدت فيه ان قيمة كل امرئ و قدره معرفته.

ان اللّه يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا، هذا قدر الجهد في جمع الروايات التي يمكن أن يستدل بها للمقام و قد عرفت ما في الاستدلال بها.

(الدليل الرابع لوجوب تقليد الأعلم) العقل

و حاصله ان الظن الحاصل من قول الأعلم أقوى من قول غيره و أقرب الى الواقع لزيادة العلم المانعة من زيادة الخطأ فيجب العمل به عينا لأن اتباع أقوى الظنين واجب عقلا على العامي كما على المجتهد أن يتبع أقوى الأمارتين لما في خلافه من الضرر المظنون الواجب دفعه عقلا و نقلا و للزوم التسوية بين الراجح و المرجوح في الحجية و ترجيح المرجوح على الراجح في العمل بقول الأدون و العقل مستقل في الحكم بقبح كل منهما. (أما الصغرى) فوجدانية: لأن لزيادة العلم تأثيرا آخرا في إصابة الواقع. (و أما الكبرى) فللاتفاق عليها كما يظهر من تتبع أقوال العلماء في باب التعارض بين الأمارتين و لشهادة بداهة العقل عليها.

(و أورد على هذا الدليل) تارة بمنع الصغرى، و أخرى بمنع الكبرى.

(أما منع الصغرى) فقد صدر عن جماعة من المحققين

كالنراقي و القمي و صاحب المفاتيح و الفصول و قد سبقهم الى ذلك الشهيد الثاني في محكي المسالك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 477

و يرجع منعهم من الصغرى الى أن الظن من المفضول قد يكون أقوى بملاحظة المرجحات الخارجية كموافقة المشهور أو أعلم الأموات أو ان المفضول باحث الأفضل فأفحمه بحسب نظر العامي فيكون الظن في جانب المفضول أو أن المقلد يقف على مدارك الطرفين فيترجح في نظره فتوى المفضول فاذا فرض اطلاع المقلد على هذه المرجحات يكون فتوى المفضول أقرب عنده.

و (أجيب عنه أولا): بأن الظنون المذكورة التي تحصل للمقلد بملاحظة المرجحات الخارجية لا دليل على اعتبارها في ترجيح امارة على معارضتها فمن أين يحصل بسببها قوة في قول المفضول تتكافأ مع قوة الظن الموجود في قول الأفضل (و لا يخفى ما فيه) فان الظن المذكور نظير الظن من قول الأفضل أيضا لا دليل على اعتباره في ترجيح أمارة على أخرى فإنه هو محل الكلام.

(و أجيب ثانيا): بأن الظنون المذكورة مما لا تنضبط بضابط للعامي إذ ربما يحصل له ذلك من قول عامي آخر أو من الرمل أو الجفر أو النجوم أو نحو ذلك فلو جاز له الرجوع الى هذه الظنون في الترجيح للزم الهرج و المرج و مفاسد عظيمة في الدين. (و لا يخفى ما فيه) فان ذلك يؤيد كلامنا من أن الترجيح بالظن لا بد له من دليل خاص و الأفضل لا دليل على الترجيح به.

(و أجيب ثالثا): ان الظن إنما صار حجة باعتبار استناده الى قول المجتهد المستند إلى الحجة فالحجة شرعا أو عقلا هو الظن الحاصل من الفتوى لا الحاصل من غيرها و من هنا ظهر الفرق

بين الظنون الداخلية و الخارجية.

(و لا يخفى ما فيه) فان الظنون الداخلية عبارة عن قرائن داخلية توجب حصول الظن بالواقع من الفتوى فتكون القرائن الخارجية نظيرها في أنها توجب حصول الظن من الفتوى بالواقع نظير الخبر المقترن بالقرائن الخارجية الموجبة للقطع منه بالواقع.

سلمنا لكن بعض تلك الظنون تكون داخلية كما لو حصل الظن من فتوى المفضول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 478

بكثرة الفحص أزيد من الأفضل أو بالجفر أو الرمل القائم على صحتها.

(و أجيب رابعا): بقيام الإجماع على عدم اعتبار تلك الظنون (و لا يخفى ما فيه) فان الإجماع في مثل هذه المسألة غير مسلم مضافا الى أنه يستكشف منه ان الأقربية و الأقوائية ليست بمرجحة عند الشارع و إلا لرجح بهذه الظنون و عليه فالكبرى غير صحيحة لتخلفها في هذه الموارد فيكون حكم العقل غير فعلي فيها فلا بد من دليل آخر لإثبات الترجيح بالأفضلية.

(و أجيب خامسا): كما في التقريرات بأن ذلك المجتهد الموافق قوله لقول المفضول ان كان أعلم ممن فرض أعلميته من المجتهد المفضول تعين عليه العمل به و إلا فلا أثر في موافقته لأن الأنظار المتقاربة و الافهام المتشابه لا يحصل من توافقها ظن يترجح على الظن الحاصل من قول أصوبهم و أفضلهم و من هنا انقدح الفرق بين تعاضد الأخبار و بين توافق الأقوال فإن الأول ربما يوجب تقديم المتعاضدين على معارضهما بخلاف الثاني فإن وجوده و و عدمه سيان بالنسبة لوجوب الأخذ بالأفضل. (و لا يخفى ما فيه) فان توافق الأفكار يدل على صوابها و لذا تجد كل نظرية تكون الشهرة مؤيدة لها في كل فن و قد تمنع الصغرى بوجوه أخر:

(الأول) انه قد تقرر في

محله أن كل مزية يحتمل أنها مرجحة يجب الترجيح بها و ان لم يقم دليل على المرجحية بها و الظنون الخارجية المذكورة يحتمل الترجيح بها لفتوى المفضول على الأفضل فلا وجه لعدم الأخذ بها. و أجيب عن ذلك بأن ما نحن فيه يكون الأمر دائرا بين المتباينين لأنه يحتمل تعيين الأعلم و يحتمل تعيين المفضول بواسطة تلك الظنون الخارجية. و ما تقرر في محله إنما كان فيما لو دار الأمر بين التعيين و التخيير.

(الثاني) ان بناء القوم على الترجيح بالمرجحات الخارجية عند تعارض الاخبار و إن لم يقم دليل على اعتبارها إلا إذا قام دليل على عدم اعتبارها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 479

كالقياس و لا ريب ان فتوى المجتهد أيضا طريق ظني للمقلد فينبغي عند التعارض أن يؤخذ بالمرجحات الخارجية فيها.

(و أجيب عنه) بأن ترجيح الاخبار بالمرجحات المذكورة مستفاد من أدلة التراجيح المختصة بالأخبار فلا تشمل الفتوى مضافا الى أن حجية الاخبار إنما هي لأجل إفادتها الظن في نظر العاملين بها و حيث اعتبر نظرهم في جعل الطريق الظني اعتبر نظرهم في طلب المرجحات عند التعارض. و أما حجية الفتوى للعوام فليست لأجل إفادتها الظن في نظر العاملين بها بل لأجل غلبة مصادفتها للواقع نوعا فلا وجه لاعتبار نظرهم في طلب المرجحات عند التعارض. (و إن شئت قلت): ان الشارع لما وجد العوام قاصري النظر في الأمور العلمية جعل لهم أقوال العلماء طريقا تعبديا باعتبار ما فيها من غلبة المطابقة و أمرهم بالرجوع إليها من غير النظر و الفحص عن شي ء فكأنه صار نظرهم عنده ساقطا عن الاعتبار في جميع المقامات. مضافا الى أن اعتبار ذلك يلزم منه تدين كل واحد

من المقلدين بغير ما تدين به الآخر.

(إن قلت): لو تمَّ هذا لزم عدم الترجيح للفتوى بالأعلمية لأن نظرهم ساقط عن الاعتبار. (قلنا) هذا مرجح داخلي و هو قليل و إنما الساقط هو الترجيح بالخارجيات للزوم الهرج و المرج لكثرتها و اختلافها بخلاف الداخلي و قد تقدم ما يظهر لك منه تحقيق ذلك.

(الثالث) ان قول المفضول قد يكون مفيدا للظن الأقوى من حيث الأمور الداخلية مثل أن يكون قوة ظن العامي منه مستندة الى اطلاع العامي على فحصه و بذل جهده زيادة عما يعتبر في اجتهاد المجتهدين من الفحص و هذا الظن يكون معتبرا لحصوله من الطرق الشرعية و لا يتوهم أن الأعلمية تنافي نقصان فحص الأعلم عن فحص المفضول لأن التعدي عن المقدار اللازم في الفحص ليس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 480

بواجب على المجتهد فقد يقتصر الأعلم على ذلك المقدار في حين أن المفضول يزيد عليه فيصير الظن من قوله أقوى من قول الأعلم و معاقد الإجماعات لا نسلم شمولها لهذه الصورة. و ربما يجاب عنه بأنه إذا ثبت وجوب تقليد الأعلم فيما لو حصل الظن الأقوى من قوله فيثبت فيما عداه من الصور لعدم القول بالفصل. (لا يقال) يمكن معارضته بمثله فيما لو حصل الظن الأقوى من قول المفضول. (لأنه يقال): هذا حسن لو لم ينعقد الإجماع على عدم تعيين تقليد المفضول مطلقا حتى مع حصول الظن الأقوى منه.

و أما منع الكبرى فهو المحكي عن صريح القوانين و المفاتيح و ربما نقل عن مناهج النراقي أيضا و حاصله ان تعيين الأعلم لقوة الظن من قوله بالواقع إنما يصح إذا كان المناط في التقليد حصول الظن لا التعبد و لو من

باب الطريقية فإنه على تقدير كونه تعبدا يكون التقليد كالبينة و اليد و السوق عند القائلين إن حجيتها من باب التعبد بنحو الطريقية لا يلاحظ فيها قوة الظن و ضعفه. و أجاب عنه في التقريرات بما حاصله ان حجية جل الأمارات الشرعية بل كلها إنما هي من جهة إفادتها الظن شأنا و نوعا لا شخصا و لا فعلا و لا تعبدا محضا بل هي برزخ بينهما و بداهة العقول قاضية بمراعاة أقوى الأمارتين التي حجيتها من جهة الظن النوعي، و الذي يدل على اعتبار التقليد من باب الظن النوعي لا التعبد المحض هو اشتمال جملة من اخبار التقليد على وصف المفتي بالوثاقة و صدق الحديث.

و لكنه قد يقال: ان فتوى المجتهد حجة من باب التعبد المحض مثل اليد و البينة و الفراش و غيرها لإطلاق أدلة حجيتها و لسيرة المسلمين حيث يأخذون بقول مجتهدهم تعبدا و هذا لا ينافي كون حجيتها من باب الطريقية و الكاشفية (و أما دعوى) ان الأخذ بقول المفضول تخييرا يلزم منه التسوية بين الراجح و المرجوح فهي فاسدة إذ لو كان المراد بالراجح ما هو راجح عند المولى و المرجوح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 481

ما هو مرجوح عنده نسلم الكبرى و لكن نمنع الصغرى و هو ان قول الأفضل أرجح عند المولى و إن كان المراد ما هو راجح و مرجوح عند العامي نسلم الصغرى و نمنع الكبرى. و أما دعواه احتمال الضرر في الأخذ بقول المفضول.

(ففيها) انه بعد وجود الملاك للحجية و انطباق موضوعها عليه ليس في الأخذ به احتمال للضرر.

(إن قلت): انه لا اشكال على الطريقية يكون القرب للواقع له دخل في الطريقية فهو

له دخل في ملاك الحجية أما وحده أو بضميمة شي ء آخر اليه و لا اشكال ان فتوى الأفضل أقرب للواقع فيكون الملاك فيها أقوى فنترجح على غيرها. (قلنا) الأقربية المذكورة لما كانت زائدة على ما هو ملاك الحجية فهي لا توجب الترجيح بعد وجود الملاك في كل منهما بل إنما يستحسن معها الترجيح كيف و لو كانت أقوائية الأقربية للواقع توجب فعلية الترجيح لوجب الترجيح بكل ما يوجب ذلك كما لو تساوى المجتهدان في الفضيلة و لكن أحدهما تفوق بالبصر أو بقوة الجسد أو نحو ذلك على أنا لا نسلم انه بناء على الطريقية يكون القرب للواقع له دخل في الملاك فلعل الملاك يكون شيئا آخرا كالتسهيل على المكلفين و نحو ذلك و لكن مورده ما فيه القرب الى الواقع.

(الدليل الخامس على وجوب تقليد الأعلم)

ما ذكره صاحب القوامع و غيره و تبعهم بعض أساتذة العصر. السيرة العقلائية فقد قالوا لا ينبغي الريب في قيام السيرة على الرجوع الى الأعلم في مورد الاختلاف بينه و بين غيره.

(و لا يخفى ما فيه) فان العضدي و الحاجبي و غيرهم قد حكى السيرة بعكس ذلك و ان السيرة مستمرة في الأخذ بقول المفضول مع وجود الفاضل و لعله بين أرباب الصناعات كذلك خصوصا إذا كان المفضول العمل برأيه أقل كلفة أو كان أقرب تناولا أو ألين عريكة أو نحو ذلك فان العقلاء يرجعون إليه في ذلك الفن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 482

مع علمهم بمخالفة الأفضل له و إلا لبارت سلعة المفضولين في كل فن و لعلك تجد ذلك في رجوع الناس الى الأطباء المفضولين و المعمارين مع وجود الأفضل فيهم و علمهم بمخالفته له (نعم) لا يبعد أن يدعي

ان العرف و العقلاء يأخذون بالأعلم بنحو الأولوية و الاستحباب لا بنحو الوجوب و التعيين بحيث يكون الآخذ بالمفضول قد ارتكب شططا و لم يأخذ بالحجة.

(الدليل السادس على وجوب تقليد الأعلم)

هو فحوى ما ورد في تقديم الأفضل على غيره في باب الجماعة فإنه إذا كان في هذا المنصب البسيط يقدم الأفضل فبالطريق الاولى ان يقدم في هذا المنصب العظيم الخطير. و فيه ان هذا مستحب كما قرر في محله و لو أخذنا بالفحوى المذكور لكان الأقرء يقدم على الأفضل لأنه في الجماعة يقدم الأقرء على الأفضل.

(الدليل السابع على وجوب تقليد الأعلم)

ان تجويز تقليد المفضول لازمه التسوية بينه و بين الأفضل و هي منفية بقوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ. (و جوابه) ان المراد عدم الاستواء في الإكرام و المنزلة مضافا الى أن الظاهر مما لا يعلمون هو الجاهل الذي لا يعرف شيئا لأن النكرة المنفية تفيد العموم. و لا ريب ان المفضول عنده علم فلا يصدق عليه انه من الذين لا يعلمون و ربما يستدل بالآية على العكس بأن يقال لو لم يجز تقليد المفضول لزم مساواته مع الجاهل و الآية تنفي المساواة.

(الدليل الثامن على وجوب تقليد الأفضل)

من انه لو لم نقل بوجوب تقليده و قلنا بالتخيير لزم استعمال اللفظ الدال على وجوب التقليد في المعنيين الوجوب التعييني في مورد وحدة المجتهد و التخييري في مورد تعدده و وجود الأفضل و أجاب عن ذلك استاذنا المشكيني (ره):

(أولا) بلزوم ذلك حتى لو قلنا بوجوب تقليد الأعلم و ذلك فان في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 483

صورة تساويهما في العلم يكون العامي مخيرا بينهما.

(و ثانيا) بأن اللفظ مستعمل في الوجوب التعييني و يستفاد التخيير في صورة التعارض من الخارج و هو العقل كما في خصال الكفارة.

(و ثالثا) يلتزم ان المستعمل فيه نفس الوجوب الجامع بينهما.

[الدليل التاسع على وجوب تقليد الأعلم]

(الدليل التاسع لهم) ان التخيير بين المفضول و الأفضل ان كان عقليا فهو باطل لأنه فرع التساوي و المفروض رجحان أحدهما و إن كان شرعيا فأيضا باطل لفقد المقتضي. (و جوابه) ان التخيير شرعي و المقتضي موجود و هو إطلاقات أدلة التقليد و الإجماع على عدم وجوب الاحتياط.

[الدليل العاشر على وجوب تقليد الأعلم]

(الدليل العاشر لهم) ان الفطرة تقتضي الرجوع الى الأعلم فان الطباع بصرفها تختار أحسن الأشياء فالإنسان إذا علم بوجود الأعلم في المجتهدين طبعه يقتضي اختياره إياه و هذا الدليل لو تمَّ فهو يقتضي ان وجوب الرجوع الى الأعلم مشروط بالعلم بوجوده كوجوب الحج بالنسبة للاستطاعة و قد ذهب الى ذلك المرحوم الكاظمي محشي الكفاية و لكن الدليل المذكور (فيه ما تقدم) في الاستدلال على المقام ببناء العقلاء و انه أمر ندبي عندهم لا واجب و لذا لا يسفهون من يرجع لمن هو الأدنى.

[الحادي عشر على وجوب تقليد الأعلم]

(الدليل الحادي عشر لهم) ان لكل عصر امام واحد فلا بد أن يكون القائم مقامه أيضا واحدا و إلا لزم زيادة الفرع على الأصل فلو لم نشترط الأعلمية لتعدد القائم مقام الامام بخلاف ما لو اشترطناها كان القائم مقامه واحدا و هو الأعلم.

(و فيه ما لا يخفى) فإنه منقوض بصورة تعدد المجتهدين مع تساويهم في العلم مضافا الى انه أي مانع من تعدد القائمين مقام الإمام فإنه طالما كان للشخص الواحد عدة وكلاء مع ان ذلك من القياس و هو باطل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 484

[الأدلة على جواز تقليد المفضول]
[الدليل الأول إطلاق الكتاب و السنة الواردان في مشروعية التقليد]
اشارة

حجة المثبتين لجواز تقليد المفضول احتج المثبتون لجواز الرجوع للمفضول بوجوه:

(أحدها) إطلاق الكتاب و السنة الواردتين في مشروعية التقليد اما الكتاب فمثل آية السؤال حيث ان أهل الذكر فيها عام يشمل المفضول و الأفضل فيكون الأمر بالسؤال منهم يدل على قبول كل واحد منهم على حد سواء خصوصا بعد تفاوت مراتب العلم و ندرة مساواة أهله فيه و شيوع الاختلاف بينهم فإن الأمر بالرجوع إلى الطائفة المختلفين في الآراء و العلم دليل على اشتراك الجميع في المصلحة و هكذا آية النفر فإنها بإطلاقها تدل على مساواة المنذر بين في وجوب الحذر عقيب إنذارهم من دون ما يدل على اختصاصه بإنذار الأعلم مع جريان العادة بتفاوت مراتبهم في العلمية فتكون الآية تدل على حجية إنذار كل واحد منهم. و هكذا الكلام في باقي الآيات. (و أما السنة) كرواية التوقيع الشريف و هي قوله (ع): و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها لرواة أحاديثنا. و كقوله (ع): من عرف أحكامنا، و قوله (ع) و أما من كان من العلماء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام

أن يقلدوه. و كقوله (ع): اعتمدوا في دينكما على كل مسن في حبنا. و كقوله (ص): علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. و كقوله (ص):

أصحابي كالنجوم بأي اقتديتم اهتديتم (على تقدير صحته). و كقوله (ص) العلماء ورثة الأنبياء. و خبر عنوان البصري عن أبي عبد اللّه: سل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 485

العلماء ما جهلت. و عن روضة الواعظين عن النبي (ص): من تعلم بابا من العلم عمن يثق به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة و غير ذلك مما تقدم من أدلة التقليد التي استدللنا بإطلاقها على حجية قول الميت و بها يخرج عن الأصل القاضي بالاقتصار على الأفضل و هكذا روايات الحكومة كقوله (ع) في خبر أبي خديجة و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فإن إطلاق الرجل يشمل كل واحد من الأفضل و المفضول. و مثله ما في مقبولة عمر بن حنظلة لكن انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا الى غير ذلك مما دل بإطلاقه أو عمومه على حجية فتوى الأفضل و المفضول على سبيل التخيير حيث ان امتثال الأوامر المطلقة يحصل بإتيان بعض أفرادها مخيرا بينها لأن قاعدة الإطلاق و قبح الإغراء بالجهل يقتضيان البناء على التخيير في مقام الامتثال و لا ينافي كونه تخييرا شرعيا تسميته تخييرا عقليا أيضا لأن المراد به استناد التخيير الى حكم العقل المستند إلى إطلاق الأدلة الشرعية و قبح الإغراء بالجهل، و بعبارة أخرى انه لا وجه لدعوى إنكار عدم شمولها لصورة الاختلاف في الفضيلة و الفتوى كما عن بعض لكثرة الاختلاف في الفضيلة و الفتوى. (و دعوى) ان هذه الكثرة نادرة في العصور التي صدرت فيها

هذه الأخبار. (فاسدة) فإنه لو سلم ذلك فكلام المعصومين ليس بناظر فقط لعصورهم بل هو ناظر لسائر العصور.

(و أجيب عن ذلك أولا): بأن ليس فيها دلالة على مساواة الأفضل و المفضول عند اختلافهم في حكم المسألة لأن الحكم بدخول المتعارضين معا تحت الدليل ممتنع و تعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح مثل ما إذا وجب إنقاذ كل غريق عينا و وقع المزاحمة بين الانقاذين فان الدليل الدال على إنقاذ الغريق مما لا سبيل الى تناوله لهما معا و لا لأحدهما المعين بل الغير المعين فيرجع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 486

الأمر في الترجيح و التخيير الى ما رآه العقل و هو يحكم بترجيح ما فيه احتمال الرجحان كالأعلمية في المقام. (و لا يخفى ما فيه) فقد عرفت فيما تقدم ان الدليل يشمل المتعارضين ثمَّ انه على تقدير عدم شموله يتساقطان إلا أن يكون هناك دليل على التخيير بينهما أو الترجيح و حينئذ فيقتصر على المرجحات بمقدار ما دل الدليل عليه و لا يؤخذ بمحتمل الأرجحية و فيما نحن فيه إذا فرض عدم شمول دليل التقليد لا بد من التساقط و الرجوع الى الأصل و دعوى قيام الإجماع على عدم التساقط في هذا المورد لو سلمت فهي لا تقتضي الترجيح بالأعلمية فلا بد من التخيير بينهما (و أجيب ثانيا): إن مورد الإطلاقات هي الرواية دون الفتوى فان الإفتاء في الصدر الأول في مقام نشر الاحكام كان بنقل الروايات لا بإظهار الرأي و النظر و عليه فالاطلاقات غير متكفلة لحال الفتوى حتى يتمسك بإطلاقها كذا ذكره المرحوم الأصفهاني (ره). (و جوابه) ان هذا لا يمنع من شمولها للفتوى فان انحصار المطلق في فرد

حال صدوره لا يوجب اختصاصه به و لا يوجب انصرافه اليه مضافا الى أن الفتوى بنحو الرأي لا يمكن إنكار وجودها في ذلك العصر فان عوام الشيعة لما كانوا يرجعون للرواة في جزئيات قضاياهم لا يجيبونهم بالرواية بسندها إذ ليس عوامنا بأسوإ حال منهم مع أن عوامنا من العسر عليهم معرفة المعنى و صحة السند و كيف يعقل ان الامام (ع) يتعرض للفتوى بنحو الرواية و لا يتعرض للفتوى بنحو أعمال الرأي مع علمه (ع) بكثرة الابتلاء بها في العصور الآتية.

(و أجيب ثالثا): بأن مثل قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* إنما ورد في مقام جعل طائفة من العلماء مرجعا للجهال فلا يدل إلا على انحصار الحجة في هذه الطائفة و عدم الرجوع الى غيرهم اما ان كل واحد منهم حجة مطلقا أو عند فقد المعارض فهو بمعزل عن ذلك فإن إضافة اسم الجمع الى الجمع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 487

لا تفيد إلا تعلق الحكم بجنس الجمع فلا يستفاد منها إلا ثبوت الحجية لجنس العلماء حتى لو احتملنا اشتراط اتفاقهم في أصل المرجعية و انهم إذا اختلفوا كان المرجع غيرهم لم يكن دفع هذا الاحتمال بالإطلاق و العموم (و لا يخفى ما فيه) فإنه لا يعقل من الشارع أن يهمل بيان الموضوع و شروطه مع كثرة الابتلاء به و أهميته في الدين إذ عليه يتركز عبادة الناس و أعمال البشر فلو كان يعتبر في موضوعه شيئا كالاعلمية و نحوها لبيّنه الشارع بكثرة توجب وصوله إلينا كما منع من القياس منعا وصل إلينا هذا مع أن الآية المذكورة في مقام سن القانون فيستفاد منها حجية كل فرد ثمَّ انه إذا شككنا ان المتكلم

في مقام البيان أم لا فالأصل كونه في مقام البيان ثمَّ انه لم يكن جمع في الآية أضيف إليه اسم الجمع و إنما أضيف أهل إلى الذكر و هو ليس بجمع.

(و أجيب رابعا): بأن مثل رواية أبي خديجة و لكن انظروا الى رجل منكم و مثل مقبولة عمر بن حنظلة لكن انظروا الى من كان منكم و قول العسكري (ع) في رواية الاحتجاج المروية عن تفسيره (ع) و أما من كان من الفقهاء الى غير ذلك من الاخبار مما يشاركها في إفادة التعميم قد وردت نهيا عن الرجوع الى فقهاء المخالفين و رواتهم و حكامهم فلا يستفاد منها سوى جعل فقهاء الشيعة مرجعا لعوام الشيعة. و عليه فهي غير واردة في مقام بيان الحجية الفعلية حتى يتمسك بإطلاقها بل إنما هي في مقام تشخيص طائفة المرجع من غيرها في الجملة. (و لا يخفى ما فيه) فإنه كيف يتصور فيها ذلك و هي في مقام إيضاح القانون و ضرب القاعدة فهي نظير قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

[الكلام في مقبولة عمر بن حنظلة]

(إن قلت): ان في مقبولة عمر بن حنظلة وقع السؤال من الراوي ثانيا عن حكم صورة الاختلاف فقال: فان اختار كل منهما (أي المتنازعان) رجلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 488

من أصحابكم فاختلفا في حكمكم الخبر، فإنه لو كان قوله (ع) في المقبولة المذكور (انظروا الى من كان منكم) يشمل صورة التعارض لم يكن وجه لهذا السؤال ثانيا و لكان تعيين الامام (ع) الأعدل الأفقه عند المعارضة مقيدا للقول المذكور و لا يذهب اليه ذاهب. و بعبارة أخرى ان هذه المطلقات لو كانت تشمل صورة التعارض لكان المطلق الموجود في صور المقبولة يشمل

صورة التعارض و لو كان شاملا لها لما سأل الراوي عن حكمها فسؤال الراوي عن حكم صورة التعارض أدل دليل على عدم الشمول. (قلت): ان الامام ذكر أولا حكم المتنازعين و أمرهم بالذهاب لكل من روى حديثهم و هذا يدل على جواز رجوع المتنازعين لكل حاكم حتى لو خالفه آخر أفضل منه ثمَّ بعد هذا تعرض السائل لصورة أخرى و هي صورة ما إذا كان المتنازعان كلا منهما يريد حاكما غير ما يريده الآخر فبيّن حكمها. و الحاصل انه (ع) في الصورة الأولى بيّن أن وظيفتهم الرجوع الى كل حاكم لحل الخصومة سواء كان له مخالف في الحكم أفضل منه أم لا ثمَّ لما سأل السائل عن صورة أخرى و هي صورة اختلاف المتنازعين في اختيار الحاكم و هي غير الاولى و لا يمكن الإرجاع فيها لاختيار المتخاصمين أي حاكم كان لبقاء الخصومة إذ كل منهما يختار ما يوافق هواه لذا عين الامام (ع) من يرجع إليه في هذه الصورة و من هنا تعرف وجه سؤال السائل عن هذه الصورة. فإنه بالقرينة العقلية المذكورة (و هي عدم حل الخصومة في هذه الصورة بالرجوع لمطلق المجتهد) علم السائل عدم إرادة الإطلاق من كلام الامام (ع) الأول الذي أرجع فيها المتنازعين لمطلق المجتهد بحيث يشمل هذه الصورة الثانية فسأل عنها الامام (ع) مرة أخرى لمعرفة حكمها هذا مع انا لا نسلم عدم صحة السؤال عن بعض افراد المطلق.

(إن قلت): ان رواية الاحتجاج واردة في مقام بيان الفرق بين علماء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 489

اليهود و علمائنا لا في مقام بيان التكليف الفعلي المحتاج إليه لأن السائل كان يعلم ان تكليف عوامنا هو الرجوع

إلى علمائنا و إنما أشكل عليه ذم اللّه تعالى لعوام اليهود على الرجوع الى علمائهم فلا وجه للتمسك بإطلاق ما فيها من قوله عليه السّلام:

«أما من كان» بعد وروده في ذلك المقام (قلت) ان التفصيل الموجود فيه يظهر منه انه في مقام ضرب القاعدة و لا ينافي ذلك كونه في مقام بيان الفرق بين علمائنا و علماء اليهود و قد تقدم ص 29 الكلام في هذا الخبر بما يوضح لك حقيقة الحال إنشاء اللّه.

(إن قلت) ان التوقيع الشريف قد أمر فيه بالرجوع للرواة و هو ليس بتقليد بل هو تحصيل دليل (قلنا) ان الرجوع للرواة قد يكون تقليدا و قد لا يكون تقليدا. و التوقيع الشريف يشمل الأمرين.

(و أجيب خامسا) ان الإطلاقات و إن كانت شاملة للفتوى بالمعنى المصطلح و لصورة التفاوت في الفضل مع الاختلاف في الرأي لكن مقتضاها الحجية الذاتية الطبيعية لا الفعلية لأنه لا يلزم منها محذور الاستحالة (و فيه) ان الإطلاقات كما انه لها الظهور في شمول المتعارضين و في الحجية التعينية كذلك لها الظهور في الحجية الفعلية و ذلك لأن الإنشاء بداعي بيان الملاك خلاف الظاهر (و أجيب سادسا) ان الانصاف أن الاستناد في حكم مخالف للأصل و الإجماعات المعتضدة بالشهرة إلى مثل هذه الإطلاقات التي كانت بمرأى و مسمع من أصحابنا السابقين القائلين بعدم التخيير بين الأفضل و المفضول في غاية الاشكال (و لا يخفى ما فيه) فانا لو سلمنا ذلك فان هذا مجرد استبعاد و لعل كان فتوى الكثير منهم بالأعلم من جهة الاحتياط أو الأصل. و كم خفي على الأوائل ما ظهر للأواخر، أو لعل ذلك لعدم اجتماع شرائط الحجية في نظرهم في مطلقات أدلة التقليد بحيث

تشمل الأفضل و المفضول و قد تقدم الكلام فيها في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 490

أدلة التقليد فراجعه. مضافا إلى ما عرفت من كثرة الابتلاء بهذه المسألة و أهميتها في الدين فلو كان الاشتراط بالأعلمية معتبرا لبينه الشارع بنحو يصل إلينا. ثمَّ ان (بعض أساتذة العصر) قرر الاستدلال بإطلاق الآيات و الروايات بما حاصله ان هذه الأدلة إنما نخرجها من ظهورها في الحجية التعيينية إلى الحجية التخييرية في مورد المعارضة من جهة القرينة الخارجية و العقلية. أما الخارجية فهي كثرة الاختلاف في الفتوى مع التفاوت في الفضيلة خصوصا في عصر صدور الروايات الدالة على حجية الفتوى فتحمل على الحجية التخييرية عند المعارضة بل ربما يقال ان الإجماع على عدم وجوب الاحتياط هو القرينة على الصرف المذكور. و أما القرينة العقلية فهي انه في مقام المعارضة يدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الحجية في كل من المتعارضين أو عن أصلها، و لا ريب ان الأول أولى لأنه المتيقن و لا موجب لرفع اليد عن أصلها فتقيد حجية كل منهما باختياره (ثمَّ أجاب عنه) أولا بالمنع من كثرة وقوع الخلاف بين المفتين في تلك العصور لتمكنهم من مراجعة الأئمة (ع) و ثانيا انه لو سلم وقوع الخلاف بهذا المقدار حتى في تلك العصور فلا يصلح ذلك قرينة على صرف الإطلاقات إلى الحجية التخييرية لأن الأدلة الدالة على الحجية لا تشمل حال المعارضة و الشاهد عليه وقوع السؤال عن علاج الروايات المتعارضة فلو كانت الإطلاقات الأولية كافية لما احتاجوا للسؤال، و أما القرينة العقلية ففيها ان ترجيح التقييد المذكور على تقييد حجية كل منهما باختيار الآخر بلا مرجح إذ اللازم هو الخروج عن الإطلاق

حذرا عن أدائه إلى التعبد بالمتناقضين و اما نحو التقييد فلا دليل عليه و بما انه يمكن أن يكون التقييد على النحوين المذكورين أو أكثر و لا مرجح لبعضها على بعض فلا محالة يسقط الدليل على أصل الحجية في مورد المعارضة، انتهى.

(و لا يخفى) ما في استدلاله و ما في جوابه عنه. أما في الاستدلال فلأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 491

الأدلة بعد فرض إطلاقها و شمولها لمورد المعارضة تكون ظاهرة في ثبوت الحجية لكل منهما لا لأحدهما دون الآخر و حيث ان السلوك لا يمكن بهما معا فالعقل يخير بينهما في السلوك لا في الحجية لأن الجاعل حيث لم يرجح فلا بد أن يكون قد أرجع الأمر إلى العقل و هو يخير بينهما نظير ما إذا اختلف طبيبان في مرض فإن الإنسان يتخير بينهما و ليس يسقط قول الطبيب عن الحجية و يرجع لشي ء آخر و هكذا في كل فن و ليس ذلك إلا لعدم السقوط بالتعارض كما تقدم. ثمَّ كيف يجعل مجرد الإجماع على عدم وجوب الاحتياط هو القرينة على الصرف المذكور مع ان عدم وجوب الاحتياط يجتمع مع الرجوع الى الأصل. ثمَّ إن جعل القرينة العقلية هو الدوران المذكور ليس بصحيح مع فرض شمول الأدلة و إطلاقها فإنه مع الإطلاق يكون كل منهما حجة و لكن سلوكهما غير ممكن فالعقل لا محالة يتخير كما تقدم في سائر الحجج عند العقلاء إذا تعارضت. و أما ما أجاب به أولا ففيه ان كثرة وقوع الخلاف إن كانت قرينة فهي لا تخرج عن قرينيتها سواء كانت موجودة في تلك العصور السابقة أو بعدها لكون المتكلم عالما بالمستقبل لأنه المشرع الذي شرع الأحكام

على سبيل الدوام و نظره الى العصور على حد سواء. و أما ما أجاب به ثانيا فالتحقيق كما تقدم و سيجي ء إنشاء اللّه ان الأدلة الأولية تفي بحال المعارضة بواسطة شمولها بإطلاقها لها و هي تقتضي حجية كل من المتعارضين و لكن العقل يخير في سلوكهما، و أما ما استشهد به على عدم وفاء الأدلة بحال المعارضة (فلا يخفى ما فيه) فإنك لو نظرت الى الاخبار من أول الفقه الى آخره لرأيت من الإطلاقات الكثيرة التي وقع السؤال عن بعض مواردها و الامام (ع) يجيب و يستشهد بالمطلق و استشهاد الأئمة عليهم السلام بإطلاق الآيات في مورد السؤال عن بعض أفرادها أكثر من أن يحصى كيف و السؤال قد يكون من جهة غفلة السائل أو لعدم وضوح إطلاقها لديه أو لشبهة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 492

تعتريه. و قد عرفت فيما تقدم في مقبولة عمر بن حنظلة وجه سؤال السائل عن حكم المتعارضين في مبحث دلالة السنة على جواز تقليد المفضول.

(الدليل الثاني للمثبتين جواز تقليد المفضول)

أن الأئمة (ع) قد أمروا بالرجوع الى مثل الثقفي و ابان و زرارة و زكريا و عمير و يونس و نحوهم من دون التقييد بعدم وجود أفضل منه (و الجواب عنه) انه لم يثبت أن معاصري مثل الثقفي ممن أمر بالرجوع إليهم كان فيهم من يخالف الثقفي فيما يفتي به من المسائل الفرعية و كان أفقه و أعلم من الثقفي حتى يثمر إطلاق قوله عليه السّلام عليك بالثقفي و هكذا الكلام في سائر أصحابهم (ع) الذين أمروا بالرجوع إليهم بل الظاهر من وثاقتهم و اعتماد الامام عليه السّلام و تعيينهم للمرجعية كونهم أفضل من غيرهم أو مطابقة قولهم للواقع، و من

هنا قال في الشرائع و غيرها: ان نصب المفضول للقضاء جائز من الامام عليه السّلام لأن نقصانه مجبور بنظره، روحي و أرواح العالمين له الفداء.

[الدليل الثالث على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الثالث لهم) انه إذا لم يكن المفضول قابلا للتقليد كان مساويا للجاهل و الدليل دل على نفي المساواة قال تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ (و أجيب) انه يدل على العكس لأن المفضول جاهل في مقابل الأفضل في مقدار من العلم فلو جاز تقليده كالافضل كانا متساويين (و لا يخفى ما فيه) فان المراد من الآية نفي المساواة من جميع الجهات بمعنى انه لا مساواة بينهما من جميع الجهات و هذا لا ينافي ثبوت المساواة بينهما في بعض الجهات كجواز الصلاة خلفهم جماعة و صحة تزويجهم و نحو ذلك، فالآية لا دلالة فيها على عدم مساواة المفضول للأفضل في جواز الرجوع، و لو سلمنا انها تدل على عدم المساواة و لكنه لعله على سبيل الاستحباب و الأرجحية الاستحسانية و قد تقدم الكلام فيها في الدليل السابع على وجوب تقليد الأعلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 493

[الدليل الرابع على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الرابع لهم) أن نفرض شخصين مجتهدين في نفس الأمر أو في نظر المقلد و لم يقلد واحدا منهما حتى صار أحدهما أعلم اما باعتبار قوة ملكته أو نقصان ملكة الآخر ففي هذه الصورة كان العامي مخيرا في تقليد أي منهما شاء قبل حدوث الأعلمية في أحدهما و بعد حدوثها يشك في ذلك فيستصحب التخيير فاذا ثبت عدم لزوم تقليد الأعلم في هذه الصورة يثبت في سائر الصور بالإجماع المركب إذ لا قائل بالفصل (و لا يخفى ما فيه) فان الإجماع المركب غير مسلم و لو سلم فهو لا ينفع مع الأصل و إنما ينفع مع قيام الدليل كما قرر في محله (و قد أجيب أيضا) بأن الحكم بالتخيير حكم عقلي و مناط

الحكم العقلي عدم وجود المرجح و قد وجد المرجح و هو الأعلمية لأحدهما مضافا الى أن الاحكام العقلية لا يجري استصحابها (و لا يخفى ما فيه) فإنه مع قطع النظر عن إطلاقات الأدلة كما هو ظاهر حال المستدل المذكور يكون الحكم بالتخيير حكما شرعيا مستفاد من الإجماع أو من القطع بعدم تكليف العامي بالاحتياط كما عند بعضهم و لولاهما لما أمكن إثبات التخيير عقلا لإمكان الاحتياط فاذا كان التخيير حكما شرعيا صح استصحابه لاحتمال عدم المرجحية بالأعلمية إذ فرض الكلام انا نشك في المرجحية بها

[الدليل الخامس على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الخامس لهم) ما حكي عن صاحب الفصول من أن تقليد المفضول لو لم يكن جائزا لما جاز لمعاصري الامام عليه السّلام تقليد أصحابه بل كان عليهم الأخذ من الامام عليه السّلام بلا واسطة أو العمل برواياته لأن القائلين بوجوب تقليد الأعلم يقولون بوجوب الرجوع اما الى الأعلم أو الى الروايات أما الملازمة فواضحة و أما بطلان التالي فبالضرورة لان عوام الشيعة في زمن الامام عليه السّلام كانوا يأخذون معالم دينهم من الصحابة مع وجود الاختلاف بينهم و تفاوت مراتبهم فان في حديث منصور بن حازم عن الصادق عليه السّلام في اختلاف الحديث و الحكم ما يدل على أنه قد يقع الاختلاف بين أصحاب رسول اللّه في الاحكام و لم يكونوا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 494

مقتصرين على الأخذ من الامام عليه السّلام و رواية أبان بن تغلب كالصريحة في نفي ذلك و السيرة المستمرة شاهدة عليه (و لا يخفى ما فيه) فإنه إنما صح ذلك لتجويز الامام عليه السّلام نظير ما إذا جوز الأعلم الرجوع إلى المفضول ثمَّ انه لم يثبت من السيرة جواز الأخذ

من الصحابة مع العلم بالمخالفة للإمام كما هو مورد الكلام بل في هذه الصورة قامت الضرورة على بطلان الفتوى و عدم الأخذ بها.

[الدليل السادس على جواز تقليد المفضول]

(الدئل السادس لهم) و قد حكي التمسك به عن الحاجبي و العضدي و حكاه في النهاية و المنية عن جماعة و في المسالك عن بعض، السيرة المستمرة بين أهل التقليد من السلف الى هذا الآن فان عوام كل عصر لم يشتغلوا في طلب الأعلم في الذهاب إلى الأطراف و البلدان بل كانوا يعتمدون على فتوى المجتهد الجامع للشرائط و لم نسمع ان أحدا من الأئمة أو أصحابهم منع من الأخذ بفتوى المفضول مع ان التقليد من الأمور المهمة التي ينبغي كمال الاهتمام بشأنها (و الجواب عن ذلك) أولا بالمنع من تحقق السيرة المذكورة كيف و المشهور بين العلماء بل المدعى عليه الإجماع هو وجوب تقليد الأعلم و معلوم ان الإمامية كانوا مقلدين لأولئك العلماء فكيف يقال باستقرار سيرتهم على الرجوع لغير الأعلم و لو سلمناه فنقول: انا نمنع كشفها عن رأي المعصوم عليه السّلام لأنها ناشئة عن عدم المبالاة في الدين حيث ان أكثر العلماء يفتون بوجوب تقليد الأعلم (و ثانيا) أنا لم نحرز ان الامام عليه السّلام أو أصحابه قد علم بتقليد المفضول مع علم المقلد بمعارضة قوله مع قول الأفضل منه و لم يمنعهم عن ذلك (و الحاصل) انا لا نعلم باستمرار السيرة على الأخذ بفتوى المفضول مع العلم بالاختلاف مع فتوى الأفضل، هذا و ان السيرة المذكورة في زماننا ربما يمنع منها بدعوى انا لم نجد أحدا يقلد فقيها مفضولا في نظره و مخالفا للأفضل في فتواه إذ الغالب في تقليد المفضول إنكار مقلده أفضلية غيره عليه أو عدم

اختلافهما فيما يفتيان به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 495

لمقلديهم أو عدم علمهم باختلافهما.

[الدليل السابع على جواز تقليد المفضول]

(الدليل السابع لهم) لزوم العسر و الحرج في الاقتصار على تقليد الأفضل لعسر اطلاع العوام و النساء و المكلفين أوائل بلوغهم على المجتهد الذي هو أفضل أهل زمانه و قد حكي الاستدلال بذلك عن صاحب المصابيح و الفصول.

(و الجواب عنه) بأن العسر المدعى اما أن يكون من جهة تشخيص الأفضل أو في الرجوع اليه من البلدان النائية أو في العمل بفتواه و الكل كما ترى.

(أما الأول) فبالنقض بتشخيص نفس المجتهد فكما ان تشخيص المجتهد لا عسر فيه و لا حرج كذا تشخيص الأفضل، و حله أن الأفضلية موضوع من الموضوعات العرفية كالعدالة و الاجتهاد يمكن إحرازها بالطرق المذكورة لإحراز الموضوعات العرفية و الفحص عنه يتقدر بقدر الإمكان الغير البالغ حد العسر أو الحرج.

(و أما الثاني) فلأن الرجوع الى الأفضل يتقدر بقدر الإمكان الغير البالغ حد العسر فإن أمكن أخذ فتاويه مطلقا و لو بواسطة الرسالة أو إخبار وكلائه العدول تعين الأخذ بها و إلا تعين الرجوع لغيره مراعاة للأفضل فالأفضل و قد تقدم الكلام في تعسر العمل بفتاوى المجتهد الجامع للشروط فراجعه.

(و أما الثالث) فلأن الأفضلية لا توجب صعوبة العمل بالفتوى بل ربما يكون العمل بفتاوى غير الأفضل أصعب لكثرة فتاويه بالاحتياط باعتبار عدم اقتداره على استخراج حكم المسألة مثل الأعلم.

[الدليل الثامن على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الثامن لهم) ما هو المحكي عن المحقق القمي «ره» و حاصله الاستناد الى دليل الانسداد القاضي بوجوب الأخذ بفتوى العالم للعامي من دون فرق بين الأعلم و غيره (و جوابه) انه غير تامة مقدماته لأنه من جملتها لزوم العسر و الحرج في انحصار الأخذ بقول الأعلم و هذه المقدمة قد عرفت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 496

فسادها على أنه يتم

لو لم يقم دليل لفظي على التقليد كل هذا في غير الزعيم الديني الذي يتولى شؤون المسلمين فإنه لا بد و أن يكون أعلم الموجودين في تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها و تشخيص العناوين الثانوية في مواردها و أبصر بتدبير الأمور حسب القوانين الشرعية لئلا يوقع المسلمين في التهلكة و لئلا يفرط بأموالهم و أرواحهم و أعراضهم.

و ينبغي التنبيه على أمور لا بد لمن يذهب لوجوب تقليد الأعلم من اطلاعه عليها:
اشارة

المراد بالأعلم

«أحدها» أن المراد بالأعلم هل هو الأزيد إدراكا و أسرع من غيره معرفة

كما هو مقتضى وضعه اللغوي أو أكثر معلومات من غيره كما هو المتعارف إطلاقا أو الأقوى في ملكة الاستنباط من غيره بأعمال القواعد في مجاريها و تحصيل أدلة الوقائع في مواردها و معرفة نتائجها من معانيها و مبانيها كما هو مقتضى تفسير العلم بالملكة في تعريف الفقه. و لا بد لنا في تشخيص ذلك من الرجوع للأدلة التي أقامها القوم على وجوب تقليد الأفضل و الأعلم لأن المعنى الذي يثبت منها هو الذي يجب اتباعه و من راجع الأدلة ظهر له ان المعنى الثالث هو المراد خصوصا الأدلة اللفظية للتعبير فيها بالأفقه و لقوله عليه السّلام أنتم أعلم الناس إذا علمتم و فهمتم معاني كلامنا. و عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، الحديث. و عن بصائر الدرجات و الاختصاص للشيخ المفيد بسندهما لأبي عبد اللّه «ع» انه قال: أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 497

لينصرف على سبعين وجها. و قوله عليه السّلام ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و إن كان مقتضى الأصل ارادة جميع المعاني الثلاثة المتقدمة بأن يكون المراد الأفضلية في جميعها لأن مقتضى الأصل الذي ذكروه لترجيح الأفضل و بعض الأدلة الأخرى هو الترجيح بكل مزية يحتمل الأرجحية بها و بكل من المذكورات يحتمل المرجحية بها فراجعها فعلى أي منها اعتمدت فاحكم بما يقتضيه.

وجوب الرجوع للأعلم عند المخالفة لغيره في الفتوى

(ثانيها) إنما يجب الرجوع الى الأفضل عند مخالفته في الفتوى للمفضول

أما مع اتفاقهما فهو مخير في الرجوع لأيهما شاء خلافا لبعضهم حيث ألزم بالرجوع للأفضل مطلقا مدعيا انه المعلوم حجيته و غيره مشكوك الحجية حتى عند

موافقته له فان العقل إنما يحكم بمعذورية العبد إذا خالف الواقع فيما إذا استند الى ما هو حجّة عنده فمثلا لو كان يعلم بعدم حجية شي ء كخبر الفاسق و كان خبره موافقا لخبر العادل فلا يجوز الاستناد إليه لأنه لم يكن معذورا لو كان مخالفا للواقع كما كان معذورا لو استند الى خبر العادل فالواجب على المكلف بحكم العقل أن يستند في عمله الى ما يراه حجة و حجية غير الأعلم مشكوكة حتى لو وافق الأعلم. (و جوابه) ان المكلف إذا علم عدم الاختلاف بينهما فالثابت له من الحكم الشرعي ليس إلا ما دل عليه كل منهما و كان معذورا لو استند الى كل واحد منهما لأنه يقطع بدلالة الحجة عليه و خصوصية الدليل ليس لها مدخل في الحكم و لذا لا يلزم الاستناد إلى الرواية الصحيحة فيما إذا توافقت مع الضعيفة. سلمنا ذلك لكن نقول ان فتوى المفضول إنما كان المانع من شمول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 498

أدلة التقليد لها هي المعارضة و مع الاتفاق لا معارضة فيشملها الأدلة فهي بنفسها حجة و الاستناد إليها استناد إلى الحجة و أما الأدلة التي أقيمت على وجوب الرجوع للأفضل فهي اما ظاهرة في خصوص مخالفته للمفضول أو القدر المتيقن منها هو ذلك (نعم) لو بنينا على الموضوعية و قلنا بحجية قول الأفضل دون المفضول وجب الرجوع الى الأفضل حتى مع الاتفاق في الفتوى لأنه بناء عليها يكون العمل المستند الى فتوى الأفضل معنونا بعنوان فيه المصلحة التي يتدارك بها الواقع دون العمل المستند لفتوى المفضول.

(إن قلت) ان الفعل من حيث كونه مفتى به ذو مصلحة كما في مؤديات الامارات فمجرد تعلق الفتوى

بحكمه يوجب أن يكون موضوع الحكم ذا مصلحة مقتضية له فلا يجب الرجوع الى الأفضل بخصوصه مع الاتفاق في الفتوى كما لا يجب في الأمارات (قلنا) قد تقدم منا ان القول بالموضوعية معناه ان سلوك الامارة و تطبيق العمل عليها فيه مصلحة يتدارك بها ما يفوت من الواقع فالفعل من حيث كونه مفتى به لا مصلحة فيه و إنما المصلحة من حيث تطبيقه على الفتوى (نعم) يكون تقليد غير الأعلم بعنوان انه الحجة مع وجود الأعلم تشريعا محرما على مسلك من يقول بأن التقليد هو الالتزام كما هو مسلك السيد في عروته لأنه يكون قد التزم بحجية من ليس هو بحجة.

عدم وجوب الفحص عن الأعلم

(ثالثها) هل يجب الفحص عن الأعلم الظاهر عدم وجوبه لأصالة عدم الأعلمية

كما سيجي ء إنشاء اللّه بيان هذا الأصل في التنبيه الخامس (نعم) في صورة العلم الإجمالي بأعلمية أحدهما مع العلم باختلافهما يجب الفحص كما سيجي ء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 499

ذلك إنشاء اللّه في التنبيه السابع.

(إن قلت) ان أصالة عدم الأعلمية لا تنفع في إثبات حجية قول المفضول (قلنا) الأدلة على حجية الفتوى تشمله و إنما كان يمنع من ذلك فتوى الأفضل المخالفة لفتواه فبعد نفي ذلك بالأصل كانت شاملة له بلا مانع. نظير ما إذا شك في فسق زيد العالم فان الاستصحاب يثبت عدم فسقه فيكون مشمولا لوجوب أكرم العلماء، و عليه فلا وجه لما يقال من أن أصالة عدم الأعلمية لا تعين الحادث و ان احتمال التعيين الأصل لا يرفعه.

(إن قلت) يجب الفحص عن المعارض لفتوى المجتهد كما يجب الفحص عن المعارض للروايات عند العمل بها. (قلنا) السيرة مستقرة على عدم الفحص عن المعارض فإن العامي إذا أخذ الفتوى من المجتهد لا يجب عليه الفحص عنها

بخلاف الروايات. مضافا الى العلم الإجمالي في الروايات بوجود المعارض في أغلب محال الابتلاء بخلاف الفتاوى التي هي محل ابتلاء العامي فإنه لا يعلم إجمالا بذلك فيها.

(إن قلت) ان في رواية داود بن الحصين تنظر إلى أفقههما و لفظ «تنظر» يدل على وجوب الفحص (قلنا) ان لفظ «تنظر» ليس فيه دلالة على الفحص و إنما يراد به الأخذ. سلمنا لكن الرواية واردة في الخصومة و القضاء. سلمنا لكنها ضعيفة و قد تقدم الكلام فيها في أدلة الأعلم.

(إن قلت) انه قبل الفحص لا يعلم بالبراءة فيستصحب عدم براءة الذمة فيجب عليه الفحص (قلنا) باستصحاب عدم الأعلمية يحصل له العلم بالبراءة فلا مجال لاستصحاب عدم البراءة.

(إن قلت) ان وجوب الفحص موافق للقاعدة فإن التكليف معلوم إجمالا و يشك في أنه على وجه التعيين على تقدير الأعلمية أو على وجه التخيير على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 500

تقدير عدمها و ليس عنده ما يشخصه مع إمكان استعلامه فلا بد من الفحص حتى يعلم المكلف به (قلنا) أصالة عدم الأعلمية مع عمومات الأدلة الدالة على حجية العالم و الأعلم تشخص التكليف و ان العبد مخير في الأخذ بأيهما شاء، هذا كله مع إمكان إجراء أصالة البراءة عن وجوب الفحص لعدم العلم بوجوبه إلا اللهم أن يقال انه حكم عقلي مثل وجوب الامتثال و وجوب المقدمة لا يجري فيه الأصل و إنما موضوعه إذا جرى فيه الأصل كان وجوب الفحص تابعا له نظير وجوب المقدمة و وجوب الامتثال.

(إن قلت) انا نعلم إجمالا بوجود الأفضل بين المجتهدين و نعلم إجمالا بالاختلاف في الفتوى في بعض المسائل فيجب الفحص عن الأفضل نظير العلم الإجمالي بوجود المعارض و المخصص و

المقيد في الروايات الذي أوجب الفحص عنها عند الأخذ بالرواية (قلنا) ان المجتهدين الاحياء الجامعين للشروط الذين يجوز الأخذ بفتواهم و لا حرج في الرجوع إليهم في خصوص المسائل التي هي محل ابتلاء المكلف لا علم إجمالي كذلك يتعلق بهم و بفتاويهم حتى يجب الفحص عن أفضلهم و إنما هو أمر محتمل.

إذا لم تكن فتوى للأعلم في المسألة

(رابعها) إذا لم تكن للأعلم فتوى في مسألة يجوز الرجوع فيها لغيره ممن هو أعلم الموجودين

لشمول أدلة التقليد لها بدون معارض و لأنه القدر المتيقن عند التنزل من الأعلم بقول مطلق، و لعدم وجوب الاحتياط على العامي بالإجماع و لأنه كان وجود الأعلم كعدمه بل يكون المفضول أعلم منه لأنه يدري بحكم المسألة و ذاك لا يدري هذا بناء على جعل الفتوى المعارضة من الأعلم من قبيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 501

المانع عن حجية فتوى المفضول إذ مع عدم فتوى الأعلم لم يكن مانعا عن حجيته (نعم) لو قلنا بأن الأعلمية شرط فان مقتضى ذلك عدم حجية فتوى غيره لعدم حصول الشرط فيه.

طرق معرفة الأعلم و بيان أصالة عدم الأعلمية

(خامسها) ان طرق معرفة الأعلم هي الطرق المتقدمة لمعرفة الاجتهاد.

(نعم) قد يقال: ان الظن المطلق هنا كافي. و عليه فيجب تحصيله إذا لم يحصل العلم، بل قيل: انه يجوز التعويل على الظن بالأعلمية بل احتمالها مع إمكان تحصيل العلم إذا لم يحتمل أعلمية الآخر بل يحتمل مساواتهما إذ مع احتمال أعلمية الآخر يجب الفحص لاحتمال أنه هو الحجة الواجب اتباعها و ذلك لأن المقام يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير لان المظنون الأعلمية و محتملها في الصورة المذكورة يكون ذا مزية يحتمل رجحانه بها على الآخر، و قد يورد على هذا الأصل بأنه إنما يتم فيما لم يوجد أصل مقدم عليه ينفي الأعلمية كما لو كان سابقا مفضولا أو مساويا فيستصحب ذلك أو كان مقلدا للآخر فإنه يستصحب بقاء تقليده له (و التحقيق) إن الأصل جاري في نفي الأعلمية في سائر الموارد ما عدى صورة العلم الإجمالي بأعلمية أحدهما على الآخر فإنه يتعارض أصالة عدم الأعلمية في كل منهما. (و توضيح ذلك) ان كل منهما قبل بلوغه مرتبة الاجتهاد لم يكن أعلم

من صاحبه فيستصحب ذلك الى ما بعده (نعم) إذا علم إجمالا بأعلمية أحدهما تعارض الأصلان و إذا جرى أصالة عدم الأعلمية ثبت جواز الأخذ بفتواه و فتوى غيره لان هذا الجواز من آثار عدم أعلمية أحدهما على الآخر كما انه من آثاره عدم وجوب الفحص عن الأعلمية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 502

لأن هذا الأصل يثبت جواز الأخذ بكل منهما لا بواحد منهما حتى يفحص عنه.

و هو أصل في شبهة موضوعية و هي لا يجب فيها الفحص و هو نظير استصحاب عدم فسق زيد العالم ليندرج تحت وجوب أكرم العلماء.

(إن قلت) ان استصحاب عدم الأعلمية لا يثبت به التساوي بينهما الذي هو موضوع التخيير كما ذكره محشي الكفاية الشيخ محمد علي (ره) و تبعه بعض أساتذة العصر (قلنا) لا دليل على اعتبار التساوي في موضوع التخيير في باب التقليد و إنما في تعارض الأخبار ذكر الترجيح بالأفقهية في مقبولة عمر بن حنظلة فقط و هي لم يأمر الإمام عليه السّلام فيها بالتخيير بعد فرض التساوي و إنما أمر عليه السّلام فيها بالارجاء حتى يلقي الراوي أمامه (و إن شئت قلت) ان أدلة اعتبار الأعلمية إنما تدل على مانعية الأعلمية من تقليد المفضول لا على اعتبار التساوي في جواز الأخذ بأحدهما مخيرا فعدم الأعلمية كافي في التخيير.

(إن قلت) ان استصحاب عدم الأعلمية لأحدهما معارض باستصحاب عدم بلوغ المجتهد الآخر رتبة هذا المجتهد كما ذكره بعض أساتذة العصر (قلنا) هذا الاستصحاب لا أثر له لأن عدم جواز الأخذ إنما هو مرتب على أعلمية غيره منه لما عرفت من أن الأعلمية مانعة عن الأخذ و الاستصحاب المذكور لا يثبت ذلك إلا بناء على الأصل المثبت.

فظهر

من هذا كله ان الظن و الاحتمال للاعلمية لا أثر له و الأصل يقتضي التخيير بينهما و عدم الفحص عن الأعلم منهما (نعم) مع العلم الإجمالي بالأعلمية و الشك في الاختلاف في الفتوى يمكن أيضا أن يقال كذلك بإجراء الأصل في نفس الفتوى بأن يقال الأصل عدم صدور فتوى من الأعلم مخالفة لهذه الفتوى نظير أصالة عدم مخالفة الشرط للكتاب و السنة و أصالة عدم المعارض (نعم) الأصلين المذكورين لا يجريان في صورة ما إذا علم بأعلمية أحدهما و علم باختلافهما في الفتوى فان في هذه الصورة يجب الفحص عن الأعلم لأنه يعلم إجمالا بوجوب العمل بأحدهما و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 503

الأعلم منهما دون الآخر و إذا لم يعرف الأعلم بعد الفحص فيعلم حكم ذلك في التنبيه السادس الذي سيجي ء إنشاء اللّه (فتلخص) ان أصالة عدم الأعلمية جارية في المقام و تقدم على الأصل المذكور لأنه أصل اشتغال و أصالة عدم الأعلمية هي استصحاب جاري في الموضوع الخارجي و هو الأعلمية فيكون من الأصل الجاري في الشبهة الموضوعية، و قد تقرر في محله ان الأصول تجري في الشبهة الموضوعية بدون الفحص بخلاف الشبهة الحكمية. هذا مع إمكان أن يقال ان الظن تنفي اعتباره العمومات الدالة على عدم اعتبار ما عدى العلم.

(إن قلت) نعم لكن نحن في المقام لم نقدم المظنون أو المحتمل أعلميته من جهة اعتبار الظن أو الاحتمال بل من جهة انه يكون ذا مزية على غيره فيدور الأمر بين التعيين و التخيير (قلنا) الأدلة التي تدل على عدم اعتبار غير العلم تدل على عدم اعتباره حتى بنحو جعله موجبا للمزية كالقياس (و بعبارة أخرى) ان جعل ما

عدى العلم موجبا للمزية إنما يكون باعتبار الكشف الناقص فيه و الشارع قد ألغى هذا الكشف هذا كله مع ما عرفت من عدم جريان دوران الأمر بين التعيين و التخيير في المقام كما تقدم ص 438.

وجوب الرجوع الى الأعلم مشروط بعدم كونه حرجيا

(سادسها) ان ما ذكر من وجوب الرجوع إلى الأعلم إنما هو مع الإمكان

و عدم لزوم الحرج أما إذا كان الرجوع اليه حرجيا لبعده أو لعدم فهم كلامه أو لعسر الوصول اليه فليس بواجب تقليده لما دل من الكتاب و السنة على رفع الحرج و لجريان السيرة على ذلك و لا وجه لما ذكره بعضهم من الرجوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 504

إلى الاحتياط لقيام الإجماع على عدم وجوبه على العامي و لأن المقام من قبيل التزاحم فان فتوى المفضول لا تسقط عن الحجية بالتعارض و إنما تكون فتوى الأعلم مانعة عن فعلية حجيتها فاذا سقطت فتوى الأعلم عن الحجية الفعلية لم يكن هناك مانع عن فعلية الحجية لفتوى المفضول نظير الجهل المانع عن فعلية الحكم و بزواله تتحقق فعلية الحكم المجهول و مع سقوط فتوى الأعلم عن الحجية يرجع للأعلم بعده فالأعلم، لأدلة وجوب الرجوع إلى الأعلم و مع التساوي يتخير و مع عدم التمكن من الرجوع للمجتهد الحي يرجع للميت إذا قلنا بحجية فتواه عند عدم الحي و إلا فيرجع للاحتياط و مع عدم إمكان الاحتياط أو لتعسره يعمل بظنه الأقوى فالأقوى لانسداد باب العلم عليه و لا وجه لإرجاعه للعمل بقول المشهور لعدم ثبوت حجيته عليه إلا من باب الانسداد و الانسداد لا يقتضي إلا حجية ظنه و مع عدمه يتعين العمل بالاحتمال لعلمه بعدم سقوط الواقع عنه. ثمَّ انه إذا انكشف عدم مطابقة عمله لما هو فتوى الأعلم

فقد ذكر السيد (ره) في عروته انه عليه الإعادة و القضاء، و لكن لا يخفى ان ذلك لا يتم فيما لو رجع لغير الأعلم لما عرفت من أن قول غير الأعلم مع العجز عن الرجوع الى الأعلم حجة شرعية فلا وجه للإعادة أو القضاء مع المخالفة و هكذا لو رجع لفتوى الميت من جهة انها حجة شرعية عند تعذر الرجوع للحي، و أما عند الرجوع لظنه أو لاحتماله فلما كان وجه الرجوع ليس إلا من جهة حكم العقل بواسطة مقدمات الانسداد و هو لا يوجب كون ذلك حجة شرعية عليه بل من باب ان العقل يرى لا مناص له إلا ذلك فان وافق الواقع أو وافق حجة من حجج الشارع أجزأه و إلا فذمة المكلف مشغولة بعد رفع الانسداد كما تقدم في باب تبدل رأي المجتهد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 505

العلم الإجمالي باختلاف الفتوى بين المجتهدين

(سابعها) إذا علم اختلاف المجتهدين إجمالا و وجود الأعلم فيهم إجمالا من دون تشخيصه

فان تمكن من تعيينه وجب الفحص عنه لمعرفته تحصيلا للحجة الشرعية ما لم يبلغ حد الحرج و ان لم يتمكن من معرفته كذلك تخير بين المجتهدين و لا يجب عليه الاحتياط و لا الجمع بين فتواهم و لا الأخذ بأحوط أقوالهم فيما إذا أمكن للإجماع على عدم وجوب الاحتياط و لأنه مع سقوط فتوى الأعلم عن الحجية التعيينية يكون العبد مخيرا بينها في هذه الحال لأنه في هذه الحال بمنزلة عدم وجود الأعلم (و الغريب) ممن يلتزم في أن الرجوع الى الأعلم من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير يذهب إلى أنه في هذه الصورة المذكورة يتساقط الفتويان عن الحجية عند المعارضة و يؤخذ بأحوط القولين لأنه مبرئ للذمة و (وجه الغرابة) ان الأمر في

المقام من قبيل باب التزاحم لأن فتوى المفضول غير ساقطة عن الحجية الشأنية و كان المانع عن فعليتها هو حجية فتوى الأعلم الفعلية فإن فتوى المفضول حجة لو لا حجية فتوى الأعلم على سبيل التعيين فاذا سقط الوجوب التعييني صارت فتوى المفضول حجة و لو التزمنا بسقوط الفتويين فلا بد من الرجوع الى الأصل أو الاحتياط لا الرجوع الى أحوط الفتويين (إلا اللهم أن يقال) إنهما حجة في نفي الثالث و لكن هذا معناه عدم سقوطهما و شمول دليل الحجية لهما حال التعارض. هذا كله مضافا الى وجود السيرة القائمة على التخيير حتى لو قلنا بأن وجوب تقليد الأعلم من جهة بناء العقلاء فإنهم عند تعذر معرفته يتخيرون و يؤيد ذلك دعوى الإجماع على عدم وجوب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 506

الاحتياط على العامي عند التردد في الأعلم بين اثنين أو أكثر قال الأستاذ كا (ره): هذا كله بناء على اشتراط الأعلمية لجواز التقليد و أما بناء على ما ذكرناه من كون صدور الفتوى المخالفة من الأعلم مانعا من جواز تقليد المفضول فيمكن القول بالتخيير من أول الأمر، يعني بدون الفحص و ذلك لأصالة عدم صدور الفتوى المخالفة ممن هو أعلم من الذي رجع اليه.

و (دعوى) ان الأصل المزبور يجري في حق كل منهما مع العلم بكذب أحدهما لأن إحدى الفتويين فتوى مخالفة للأعلم من صاحبه بلا إشكال (مدفوعة) بأنه لا يلزم من جريان الأصلين مخالفة عملية للواقع إذا لم نجز التخيير الاستمراري مع تعدد المجتهدين المتساويين (نعم) إذا قلنا بالتخيير الاستمراري هناك كان مقتضى الأصلين هنا أيضا ذلك فيلزم مخالفة عملية للتكليف المعلوم. ثمَّ أعلم ان هذا كله مع عدم سبقه

بتقليد أحدهما و قلنا بوجوب البقاء للاستصحاب (نعم) إذا قلنا بأن الأعلمية شرط كان المقام من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة نظير أن يعلم بعدم اجتهاد أحدهما و لا يتمكن من تعيينه فإنه لا وجه للتخيير. إلا اللهم أن يقال: ان اشتراط الأعلمية مع التمكن و يسقط مع عدم التمكن من أخذ فتواه و حينئذ فيتخير بينهما، و هل الظن بالأعلم في هذه الصورة مع تعذر العلم يكون حجة يمكن أن يقال ان اعتبار الأعلمية ان قلنا انه من جهة قيام أدلة عليها بخصوصها فالظن بها ليس بحجة كما هو الحال في سائر الموضوعات الخارجية لأن الأدلة العامة الدالة على عدم اعتبار الظن تشمل المقام و تدل على عدم اعتباره فيه، و إن قلنا باعتبار الأعلمية من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير فالظن بأعلمية أحدهما بعينه بل و احتمالها فيه دون الآخر موجب للترجيح لأنه يكون ذا مزية فيدور الأمر بين التعيين و التخيير و لكن يمكن أن يقال أن الأدلة الدالة على عدم اعتبار غير العلم ظاهرة في نفي اعتباره حتى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 507

بنحو الترجيح به نظير الأدلة المانعة عن القياس مضافا الى ظهورها في إلغاء الكشف الناقص الحاصل منه مضافا لما تقدم ص 438 من عدم صحة التمسك في المقام بدوران الأمر بين التعيين و التخيير (ثمَّ اعلم) ان الظن ان كان الأخذ به في المقام من جهة كونه يوجب المزية في المظنون لا من باب قيامه مقام العلم فلا يجب تحصيله كما تخيله بعضهم إذ ليس من الواجب على العامي أن يحصل المزية في المجتهد الموجبة لترجيحه على غيره فمن الغريب من سلك هذا المسلك

و أوجب تحصيل الظن، و ان كان من باب قيامه مقام العلم و انه حجة وجب تحصيله لمعرفة الأعلم إذا قلنا بوجوب الفحص.

العلم بوجود الأعلم مع الشك في الاختلاف في الفتوى

(ثامنها) إذا علم وجود الأعلم فيهم مع الشك في اختلافهم في الفتوى

فقد عرفت انه يجري أصالة عدم صدور فتوى مخالفة لفتوى المجتهد الذي يريد أن يرجع اليه فيتخير في الأخذ بأيهما شاء و لا يجب عليه الفحص لأنه بالأصل المذكور عرف جواز الأخذ بكل منهما و الشبهة موضوعية لا يجب الفحص فيها.

العلم بالاختلاف في الفتوى مع الشك في الأعلمية

(تاسعها) أن يعلم باختلافهم في الفتوى و يشك في أعلمية أحدهما

بحيث يحتمل تساويهما فأصالة عدم الأعلمية جارية في المقام كما تقدم ص 501 فيتخير بينهما و لا يجب الفحص لأنه بالأصل المذكور عرف جواز الأخذ بكل منهما.

(إن قلت) ان وجوب الفحص في المقام بمنزلة الفحص عن نفس المرجع في الأحكام الشرعية (قلنا) قد تقدم في التنبيه الثالث عدم وجوب الفحص.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 508

الشك في الاختلاف في الفتوى و الأعلمية

(عاشرها) أن يحتمل الاختلاف بينهم و يحتمل الأعلمية لأحدهم

فأيضا أصالة عدم الأعلمية و أصالة عدم صدور فتوى مخالفة لفتوى المجتهد جاريتان فيتخير بينهما و لا يجب الفحص عن الحجة لكون كل منهما كان حجة عليه لو أخذ به بواسطة الأصلين المذكورين.

العلم بالأعلمية و بالفتوى المخالفة

(الحادي عشر) إذا عرف العامي الأعلم من المجتهدين تفصيلا و علم الاختلاف بينهم إجمالا

فلو رجع الى الأعلم فلا إشكال و لو رجع الى المفضول وجب عليه أن يميز المسائل فيأخذ بفتوى الأعلم في المسائل التي اختلف المفضول فيها مع الأعلم و يصح له الرجوع في المسائل التي لم يختلف فيها معه.

إذا تساوى المجتهدان في العلم

(الثاني عشر) إذا كان المجتهدان متساويين في العلم يتخير العامي في الرجوع الى أيهما شاء

سواء اختلفا في الفتوى أو اتفقا فيها اما على مسلكنا فواضح لشمول أدلة حجية التقليد لهما و أما على مسلك المشهور من التساقط عند التعارض فيشكل التخيير بينهما مع أنهم أجمعوا على التخيير بينهما و لعل ذلك للإجماع و هو في مثل هذه المسألة في غاية الإشكال ثبوته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 509

الموارد التي يجوز فيها الرجوع الى المفضول مع وجود الأفضل

(الثالث عشر) انه قد يجوز الرجوع للمفضول مع وجود الأفضل في موارد

منها فيما لو كان مجتهدون ثلاثة أحدهم مفضول و الاثنين في مرتبة واحدة ثمَّ صار المفضول أعلم منهم فإنه يستصحب التخيير بينهما الثابت أولا.

(إن قلت) ان التخيير بينهما عقلي لأنه إنما كان بواسطة القطع بعدم المرجح و هو منتف في الآن الثاني فلا يجري الاستصحاب لأنه لا مجرى له في الأحكام العقلية كذا ذكره استاذنا المشكيني (ره) و أجاب عنه ان الظاهر ان الحكم بالتخيير حكم شرعي مستفاد من الإجماع و القطع بعدم تكليف العامي بالاحتياط و لولاه لما أمكن إثبات التخيير عقلا لإمكان الاحتياط فليس الحكم بالتخيير عقلي محض، لكن التحقيق ان هذا الجواب إنما يتم لو قلنا بأن اعتبار الأعلمية من جهة الأصل الذي يرجع لقاعدة الاشتغال و أما لو قلنا انه من جهة قيام أدلة خاصة على اعتبار الأعلمية من إجماع أو غيره فالأصل لا أثر له و كان يجب العدول إلى الأعلم لعدم معارضة الأصل للدليل، و أما دعوى الإجماع على حرمة العدول فيعارضها دعوى الإجماع على وجوب تقليد الأعلم.

و (منها) ما إذا كان مجتهدان متفاضلين ثمَّ صار الأمر بالعكس فيستصحب حجية فتوى المفضول قال استاذنا المشكينى (ره) ان الثابت في هذا المورد و ان كان هو الحجية التعيينية سابقا للمفضول و فعلا الحجية التخييرية له

إلا أن الظاهر مسامحة العرف في ذلك، و التحقيق كما عرفته في المورد السابق ان الأصل المذكور إنما يجري لو كان اعتبار الأعلمية من جهة قاعدة الاشتغال و أما لو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 510

كان من جهة الدليل الخاص فيجب العدول لتقديم الدليل على الأصل.

و (منها) ما لو قلد المفضول لتعذر الوصول إلى الأفضل فإنه بعد التمكن منه لا يجوز له العدول لاستصحاب حجية قول المفضول في حقه و عدم الإطلاق في أدلة وجوب تقليد الأفضل حتى تقدم على الاستصحاب المذكور فلا معارض للاستصحاب المذكور لا من دليل العقل و لا من النقل هذا إذا كان حرمة العدول من جهة الاستصحاب، و أما إذا قلنا انها من جهة احتمال التعيين بالأخذ بفتوى المفضول للعمل بها سابقا فتكون هنا معارضة باحتمال التعيين بالأخذ بفتوى الأفضل.

(إن قلت) انه يحتاط على هذا (قلنا) ان الإجماع قائم على عدم وجوب الاحتياط فيكون مخيرا بينهما و كيف كان فان وجد دليل خاص في المقام على الأخذ بفتوى أحدهما أخذ به و إلا فالمرجع هو الاستصحاب لأنه مقدم على جميع الأصول (و بعبارة أخرى) انه لا مرجح لأحد الاحتمالين على الآخر و مقتضى ذلك هو الأخذ بالاحتياط مع الإمكان و التخيير مع عدمه و حيث ان الاحتياط قام الإجماع على عدم وجوبه على العامي فالتخيير هو الثابت (و منها) ما إذا كان مجتهدان متساويين ثمَّ صار أحدهما أعلم فقد يقال بوجوب العدول باعتبار انه يجب تقليد الأعلم ابتداء و استمرارا فاذا وجد الأعلم زال مناط الحجية في غيره فيجب عليه العدول لسقوط قول المفضول عن الحجية و قد يقال انه يحرم عليه العدول لأنه قلد المجتهد الأول

و الرجوع إلى الأعلم من جهة انه القدر المتيقن و فيما نحن فيه لم يكن قدرا متيقنا لاستلزامه للعدول المحرم فيستصحب تقليده للمفضول. و قد يقال بالأخذ بأحوط القولين مع التمكن و التخيير مع عدمه و قد يقال بالتخيير بين الفتويين لاشتمال كل منهما على جهة مميزة لها و لا ترجيح فيستصحب التخيير بمعنى حجية فتوى كل واحد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 511

تخييرا (و أورد) في تقريرات الشيخ (ره) على استصحاب جواز تقليد المفضول بأنه ليس الجواز أمرا وراء التخيير. و أجاب عنه أستاذنا المشكيني (ره) ان الجواز غيره بل هو أمر تعييني ينشأ من التخيير فكيف يكون التعييني عين التخييري. و لكن التحقيق أن يقال كما قدمناه في المورد السابق ان اعتبار الأعلمية ان كان من جهة الدليل الخاص وجب تقليد الأعلم لتقديم الدليل على الاستصحاب و أما إن كان من جهة قاعدة الاشتغال أو أنه القدر المتيقن فالاستصحاب المذكور مقدم عليها (و كيف كان) فالكلام تارة في وظيفة المقلد و أخرى في وظيفة المجتهد و ما يفتي به لو رجع له المقلد (أما الأول) فالمقلد لا يسعه التقليد في هذه المسألة أعني خصوص مسألة التقليد لا بهما كان لأنه أمره دائر بين الرجوع للأول الذي هو المفضول أو للثاني الذي هو الأفضل و لا ثالث في البين يقلده إذ ليس الأفضل إلا الثاني و إلا كان أمره دائر بين الأول و هذا الثالث الأفضل، و عليه فالواجب على العامي هو الاجتهاد في هذه المسألة و يأخذ بما استقل به عقله و إلا فعليه أن يأخذ بالمتيقن الحجية و (توضيح الحال و تنقيحه) هو ان كان كل من المفضول و

الأفضل يفتيان بجواز العدول فلا إشكال لأنه يكون العدول هو المتيقن و فتوى الأعلم هي المتيقنة الحجية و كذا لو كان كل منهما يفتي بحرمة العدول تكون فتوى المفضول متيقنة الحجية و كذا لو كان أحدهما متوقفا و الآخر قائلا بالجواز بناء على أن التوقف عبارة عن عدم الفتوى فيكون أيضا الأخذ بفتوى الأعلم متيقن الحجية و كذا لو كان أحدهما يقول بالتخيير بين العدول و عدمه و الآخر يعين أحدهما فإن الأخذ بما يعينه الآخر و لو كان هو البقاء على المفضول يكون هو طريق الاحتياط لحجية فتاواه في سائر المسائل بفتوى الأعلم (نعم) لو كان أحدهما يعين العدول و الآخر يمنعه فلا متيقن في البين و عليه فيجب الأخذ بالاحتياط أو بأحوط القولين في الموارد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 512

لأنه متيقن الحجية عند كليهما فان من يفتي بغير الاحتياط يفتي بجواز العمل بالاحتياط أو بأحوط القولين و ان لم يمكن الاحتياط تخير في الأخذ بأحدهما، و اما (وظيفة المجتهد) و ما يفتي به للعامي عندما يبتلي بهذه المسألة فهو إن كان له دليل على شي ء منهما أخذ به و إلا فيرجع للاستصحاب. و أما دعوى الرجوع الى الأعلم من جهة بناء العقلاء فلا يخفى ما فيها فإنه قد عرفت فيما تقدم عدم ثبوت بنائهم على ذلك و في هذه الأيام من يرجع للسيرة العقلائية في رجوعهم لأهالي الفن يجد شاهدا على دعوانا فإنك لا تجد المفضولين معطلين مع العلم بأنهم يخالفون الأفضلين و قد استدل الخصم بالرجوع للاطباء، و أنت إذا رأيت العقلاء فهل تراهم يتركون أطباء النجف و يرجعون لأطباء بغداد المعروفين مع العلم بالاختلاف معهم في الأدوية.

ثمَّ ان السيد (ره) في عروته في المسألة الرابعة و الثلاثين ذهب الى أن الأحوط هو العدول إلى الأعلم و إن أفتى المجتهد الأول بحرمة العدول (و لا يخفى ما فيه) فإنه كما يحتمل تعيين تقليد الأعلم لأعلميته كذلك يحتمل تعيين تقليد المفضول لأسبقيته في التقليد و حرمة العدول عنه فليس لأحدهما جهة ترجيح على الآخر فكما يحتمل اختصاص حرمة العدول بغير ما إذا كان المعدول إليه أعلم كذلك يحتمل اختصاص تقليد الأعلم فيما إذا لم يستلزم العدول. فاذن ليس لأحد الاحتمالين مرجح على الآخر حتى يكون المقام من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير و عليه فالأحوط هو الأخذ بالاحتياط أو بأحوط القولين (نعم) ان منع من الإطلاق في دليل حرمة العدول بحيث لا يشمل صورة ما إذا وجد الأعلم و سلم الإطلاق في دليل وجوب تقليد الأعلم كان الأحوط ما ذكره السيد (ره) و لعل الأمر كذلك عند المشهور لأن دليل حرمة العدول عندهم أما الأصل أو الإجماع و الثاني منتف في محل الخلاف و الأصل لا يعارض الدليل سواء كان الأصل استصحاب حجية فتوى الأول أو وجوب تقليده أو الحكم الفرعي المطابق لفتواه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 513

(إن قلت) ان تعبير السيد (ره) بالأحوط من جهة أن اعتبار الأعلمية في المفتي عنده من باب الاحتياط لا من جهة دليل خاص (قلنا) يعارضه إذن الاحتياط بعدم العدول فلم يكن العدول أحوط من البقاء.

(و منها) المستحبات فقد ذهب بعضهم الى جواز تقليد المفضول فيها للتسامح في أدلة السنن فان فتوى المفضول ليست بأدنى من الخبر الضعيف بل لعل السيرة على ذلك كما هو ظاهر. بل و يجوز الرجوع الى

الميت فيها (و لا يخفى ما فيه) فان محل كلامه هو صورة العلم بالاختلاف في الفتوى و معه لا يجوز الرجوع للمفضول لاحتمال فتوى الأفضل بالوجوب (نعم) لو أفتى الأفضل بالحكم الغير الإلزامي فيجوز الرجوع للمفضول فيما لو أفتى في ذلك المورد بالاستحباب من باب أخبار من بلغ لا من باب التقليد فلا يترتب عليه آثار التقليد فإن الأحكام الاستحبابية أحكام شرعية لا يجوز التعبد بها بغير الطرق الشرعية.

(و منها) ما إذا مات المجتهد و قلنا بوجوب البقاء على تقليده و كان الحي الموجود أعلم منه فإنه ذهب بعضهم الى وجوب البقاء على تقليد المفضول دون تقليد الحي الذي هو أفضل و يعرف الكلام فيه مما سبق في المورد الثاني من هذه الموارد.

(و منها) ما إذا قلد الأعلم فأجاز له الرجوع الى المفضول أو كان مقلدا لمجتهد هو أعلم زمانه ثمَّ صار مجتهدا أعلم منه و قلنا في هذه الصورة يجب تقليد الأعلم فقلد الأعلم ثمَّ ان الأعلم أمره بالرجوع إلى الأول الذي صار مفضولا.

(و منها) ما لو قلد المفضول مع عدم علمه بالخلاف للأفضل بناء على أن تقليد الأفضل إنما يجب مع العلم بخلافه للمفضول.

(و منها) ما لو قلد المفضول لعدم علمه بالأفضل منه بناء على أن تقليد الأفضل إنما يجب إذا علم بخلافه للمفضول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 514

الترافع عند المفضول

(الرابع عشر) انه يجوز الترافع عند المفضول مع وجود الأفضل

و قيل يحرم و بعضهم فصل في المقام بين صورة ما إذا كان القضاء يرجع لتشخيص الموضوعات الخارجية من جهة اشتباهها بالأمور الخارجية الذي يرجع حله لليمين و البينات فيجوز الرجوع للمفضول لعموم أدلة القضاء و بين صورة ما كان القضاء يرجع لبيان الحكم الشرعي من جهة عدم معرفته

كما لو كان النزاع في الزوجية من جهة نزاعهم في كون العشر رضعات توجب التحريم أم لا و علم باختلاف الأعلم مع المفضول في الفتوى فلا يجوز الرجوع للمفضول في القضاء بذلك لأنه يرجع لتقليد المتنازعين للقاضي. و ذهب المرحوم الشيخ حسن كاشف الغطاء في أنوار فقاهته الى جواز الرجوع للمفضول مع وجود الأفضل لدخول كل منهما تحت عموم أخبار النصب و الولاية لا سيما المرفوعة و المقبولة فإن الموجود فيهما (الى رجل منكم) لا إلى أفقهكم (نعم) ذكر الأفقه بعد ذلك عند الاختلاف بينهما. و للسيرة القطعية من زمن الأئمة (ع) مع تقريرهم أصحابهم على ذلك، و لم يثبت إجماع على لزوم تقديم الأفضل مطلقا (نعم) لو علم المقلد الاختلاف بينهما فلا يبعد القول بحرمة الرجوع الى المفضول لما يظهر من المقبولة في مقام اختلاف الراويين. قال (ره) بل قد يخص ذلك فيما لو رجع الترافع إليهما معا و اختلفا فلا بد من الترجيح و اما مع الرجوع للمفضول فإنه يلتزم بقوله و ان علم مخالفة الفاضل له، انتهى.

و يدل على ذلك أيضا ما في الوسائل في بيان صفات القاضي من روايتي موسى و داود.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 515

جواز الرجوع للمفضول في التصرفات الموقوفة على إذن الفقيه

(الخامس عشر) ان سائر التصرفات التي تختص بتدبير الأمور من الولايات

كما في أموال الأيتام و الغائبين و المجانين و الأوقاف التي لا متولي لها و الوصايا التي لا وصي لها و حق الامام (ع) و غير ذلك مما يرجع لولاة الأمور يجوز للمفضول القيام بها لشمول أدلتها للمفضول و الأفضل (و دعوى) اختصاص هذه التصرفات بالأفضل نظرا الى كونها من مناصب الإمامة فلا بد أن يقتصر فيها على مورد العلم بالاذن من الامام

(ع) و الأفضل معلوم إذن الامام له و الأصل عدم إذنه للمفضول (فاسدة) بأن إطلاق الأدلة حاكمة على هذا الأصل (و الحاصل) ان سائر ما دل على نيابة المجتهد العادل في تلك الموارد المخصوصة يقتضي عدم الفرق بين الأفضل و المفضول في صحة القيام بها حتى في مسألة القضاء لشمول أدلة القضاء أيضا إلا ان دعوى الإجماع في كلام بعضهم على وجوب الرجوع الى الأعلم أوجب الاحتياط فيه، إلا ان الأستاذ الشيخ كاظم أعلا اللّه مقامه قال انه لم يثبت عندنا هذا الإجماع و قوى جواز الرجوع الى كل مجتهد عادل في القضاء إلا أن يتحقق بينهما تعارض في الحكم على وجه جائز منهما فيقدم الأعلم. و قد يفصل بين الترافع في الشبهة الحكمية و بين الترافع في الموضوعية فيمنع اعتبار الأعلمية في الثاني دون الأول و منشأه ان حقيقة الترافع في الشبهات الحكمية تقليد المتحاكمين للحاكم و لكنه اشتباه لأن فصل القضاء بالفتوى ليس تقليدا منهما له و لذا لو تنازع المجتهدان رجعا للقاضي (نعم) يمكننا أن نقول بأن هذه المناصب تحتاج من هو أعرف بالأمور و أخبر بالأشياء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 516

و أبصر بالأحوال و (بعبارة أخرى) من له حسن التدبير و قوة التفكير فالأدلة المطلقة مخصصة بالأعلم بهذا المعنى بالقرينة العقلية و قد تقدم تحقيق ذلك و تنقيحه في أحكام المجتهد فراجعها لكي تعرف الحق في المقام.

الأعلم في مقدمات الفقه

(السادس عشر) انه لو كان أحدهما أعلم من الآخر في مقدمات الفقه كالنحو و الصرف

مع التساوي في الفقه ذهب صاحب الكشف الى وجوب تقليده و الحق انه ان كان مستند القول به هو قاعدة الاحتياط و دوران الأمر بين التعيين و التخيير فالحق مع صاحب الكشف و ان كان مستنده الأدلة

الخاصة فالظاهر ان المراد به هو الأعلم في الفقه لانصرافها إليه.

إذا عرضت على العامي المسألة و لا يمكنه تأخيرها جاز له الرجوع للمفضول

(السابع عشر) انه إذا عرضت مسألة على العامي و هو لا يعلم حكمها فيجوز الرجوع لأحد المجتهدين

و لو لم يكن هو الأعلم إذا لم يعلم اختلافه مع الأعلم في الفتوى تفصيلا أو إجمالا لما عرفت من أن الفتوى المخالفة من الأعلم مانعة عن تقليد غيره لا ان الأعلمية شرط و عليه فلا يجب عليه الاحتياط و لا تأخير السؤال عن الواقعة إلى ملاقاة الأعلم (نعم) لو قلنا بأن الأعلمية شرط أو علمنا بمخالفة فتواه لفتوى الأعلم و لو إجمالا فيما يبتلي به من الوقائع فان لم يتمكن من الرجوع للأعلم جاز له الرجوع لغيره كما عرفته في التنبيه السادس ص 504 و ان كان يتمكن من الرجوع اليه جاز له الاحتياط و جاز له

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 517

تأخير الواقعة إلى زمان ملاقاة الأعلم (نعم) صورة عدم إمكان تأخير الواقعة هل هي من صور عدم التمكن من الأعلم حتى يجوز الرجوع الى غير الأعلم أو أنها ليست منها حتى لا يجوز الرجوع لغير الأعلم و يجب الاحتياط يمكن أن يقال بالأول لفرض عسر الاطلاع أو عدم التمكن منه فعلا في هذه الواقعة و معه يسقط وجوب الرجوع إليه لأدلة الحرج و العسر فيجوز الرجوع لغيره و يمكن أن يقال بالثاني باعتبار ان عسر الاطلاع على فتوى الأعلم كان اتفاقيا من جهة فورية الواقعة مضافا الى انه مع إمكان الاحتياط لم يتعذر الرجوع الى الأعلم لأن الاحتياط يقول به الأعلم (نعم) مع تعذر الاحتياط يرجع لغير الأعلم و مع تعذر غير الأعلم يعمل بما ذكرناه في التنبيه السادس ص 504.

جواز الرجوع للمفضول عند فتوى الأعلم

بالاحتياط

(الثامن عشر) ان المسائل التي احتاط بها الأعلم و لم يكن له فتوى فيها

يتخير العامي بين العمل بالاحتياط فيها و بين الرجوع الى غيره الأعلم فالأعلم لأن معنى الاحتياط هو التوقف في الفتوى و مع توقفه في الفتوى لا معنى لتقليده مضافا الى ما عرفته من أن فتوى الأعلم المخالفة هي المانعة من الرجوع لغيره و مع عدم الفتوى منه يرتفع المانع و حينئذ فالعامى اما أن يحتاط أو يرجع لغيره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 518

الشرط التاسع عشر من شروط المفتي الأورعية
[المراد بالأورعية]

(الشرط التاسع عشر: الأورعية) و المراد بها هي شدة الاحتياط في أمور دينه فإنه ذهب جماعة إلى اعتبارها في المفتي مطلقا

[الأدلة على اعتبار الأورعية في المفتي]

و يمكن أن يستدل على ذلك (أولا) بالإجماع من صاحب كتاب القوامع حيث قال فيه ان ظاهر إطلاقات معاقد إجماعاتهم عدم جواز استفتاء المجتهد الغير الورع و هكذا في شرح المبادي لفخر الإسلام الإجماع على انه لا يجوز استفتاء من اتفق بل يجب أن يجمع وصفي الاجتهاد و الورع و لنقل الإجماع عن المحقق الثاني في اعتبار الأورعية مثل الأعلمية (و فيه) انه موهون بحكاية الخلاف عن قوم في المنية مضافا الى ان الظاهر ان المراد بالورع في كلمات المذكورين هو العدالة لا الورع بمعنى شدة الاحتياط و يمكن أن يستدل على ذلك برواية الاحتجاج المتقدمة في أدلة التقليد حيث دلت على اعتبار مخالفة الهوى فإنها منتهى الورع. و لكن الظاهر انه لم يقل أحد باعتبار مخالفة الهوى بمعناه الظاهر في مرجع التقليد. نعم المشهور اعتبار الورع فيما إذا تساوى مع غيره في العلم فإنه يقدم الأورع كما أفتى بذلك السيد (ره) في العروة و قد حكي القول به عن التهذيب و النهاية و الذكرى و الدروس و الجعفرية و المقاصد العلية و المسالك و التمهيد و شرح الزبدة للمازندراني و غيرهم.

و (ثانيا) بالأصل الذي ذكروه في ترجيح الأعلم على غيره و قد تقدم ما فيه و (ثالثا) بالمروي من أن الفتيا لا تحل إلا لمن كان أتبع أهل زمانه لرسول اللّه (ص) و هو يدل على شرطية الورع لأصل التقليد و جوابه انه خبر ضعيف مرسل.

و (رابعا) بالمروي عن علي بن الحسين (ع) ان أحق الناس بالاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 2، ص: 519

و الورع و العمل بما عند اللّه و يرضاه الأنبياء و أتباعهم (و فيه ما لا يخفى) من ضعف الدلالة و السند، و خامسا بالدليل العقلي المتقدم ص 476 من أن الظن الحاصل من قول الأورع أقوى من قول غيره لشدة ورعه و اتباع أقوى الظنين واجب عقلا (و فيه) ما تقدم في جوابه سادسا و بما في المقبولة من تقديم الأورع على غيره (و فيه) المناقشة المعروفة من أنها واردة في الحكومة و الخصومة و إلا فهي في الرواية، هذا و قد ذهب بعض المتأخرين انه مع العلم بالاختلاف في الفتوى بين الأورع و غيره يؤخذ بأحوط القولين لعدم ثبوت التخيير بينهما و لبناء العقلاء على الأخذ بالاحتياط إذا لم يكن أحدهما أعلم (و لا يخفى ما فيه) لما تقدم من شمول أدلة التقليد لمورد الاختلاف في الفتوى و لعدم تسليم بناء العقلاء على ذلك بنحو الالتزام لا بنحو الاستحسان و لو سلم أخذهم بالاحتياط في مثل هذه الصورة فهم إنما يأخذون بأحوط الاحتمالات لا بأحوط القولين كما هو ظاهر عبارته. و من هنا تعرف ان الحق أيضا عدم تقديم الأعدل على غيره.

تنبيه في تعارض الأعلم و الأورع

لو تعارض في الفتوى الأعلم و الأورع بأن أفتى الأعلم بشي ء و الأورع بخلافه فالمشهور على تقديم الأعلم لأن العلمية هي المناط في الفتوى دون الورع و الورع المعتبر في العدالة يكفي في اجتهاد الأعلم و لا يحتاج إلى الزيادة التي في الأورع فإن ذلك يمنعه عن التقصير في الاجتهاد و لكن زيادة العلم في الآخر يوجب زيادة الإتقان في الفتوى الأقربية للواقع (نعم) يمكن أن يقال ان في التعارض في الروايات بين الأعلم و الأورع تقدم رواية

الأورع لأن المناط في حجية الرواية هو صدق الراوي، و الأورع أصدق من الأعلم. و حكي في المنية عن قوم لزوم تقديم الأورع في الفتوى على الأعلم و لعل وجهه ان زيادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 520

ورعه توجب تحمل المشقة في استفراغ الوسع أزيد من تحمل غيره و ذلك يوجب أن يدرك الأورع من الأحكام الواقعية ما لا يدركه الأعلم مع ان احتمال الكذب و التقصير في الاجتهاد و الفحص الواجب أهون في الأورع من الأعلم فيقدم.

(إن قلت) ان احتمال ذلك لا يجي ء في الأعلم لفرض عدالته (قلنا) ان العدالة لا توجب العلم و القطع بذلك فالاحتمال موجود معه إذ ليست العدالة كالعصمة (و استدل) بعضهم على تقديم الأعلم ببناء العقلاء على ذلك. و هذا دليل كيفي للخصم أن يمنع منه نظير الاستدلال بالوجدان و نحوه. و قد سبق في البحث السابق ما فيه.

و استدل بعضهم بالإجماع على تقديم الأعلم و هو غير مسلم كيف و المحكي في المنية عن قوم القول بلزوم تقليد الأورع، و حكي عن قوم التخيير بينهما مضافا الى أن المسألة مستحدثة.

و استدل أيضا على ذلك بأن المقدار من الورع الموجود في الأعلم يحجزه عن الاقتحام على الحرام و الفتوى بغير العلم فيبقى ترجيح العلم سالما عن المعارض و فيه إنا نقول ان العلم الموجود في الأورع يصح اجتهاده و الرجوع اليه فيبقى ترجيح الورع سالما.

و استدل أيضا بأن الظن الحاصل من قول الأعلم أقوى من الظن الحاصل من قول الأورع (و فيه) ان اعتبار التقليد ليس من باب الظن بل من باب التعبد و إلا فالفاسق قد يحصل الظن بقوله أقوى من الظن من قول العادل.

و

استدل على ذلك أيضا بمقبولة عمر بن حنظلة و نحوها. و الجواب عنه بعدم معلومية اندراج محل الفرض تحت إطلاق الرواية و ذلك اما لوقوع التعارض بين إطلاقي قوله (ع) أعدلهما و أفقههما مع عدم الترجيح أو لأن المفروض في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 521

الرواية ترجيح من فيه جميع الصفات الأعدلية و الأفقهية و الأورعية، و قد تقدم انها واردة في القضاء فلا تشمل ما نحن فيه و حيث تقدم منا عدم اشتراط الأورعية في المفتي فلا تكون فيها معارضة للاعلمية.

الشرط العشرون من شرائط المفتي معرفة المفتي و تشخيصه
اشارة

الشرط العشرون في المفتي معرفته و تشخيصه فقد ذهب الكثير من علمائنا إلى اعتبار تعيين المفتي في العمل بالفتوى

[الأدلة على اعتبار الشرط المذكور]
اشارة

و يمكن أن يستدل عليه بوجوه:

(أحدها) ان فتوى المجتهد لا تكون حجة على العامي إلا إذا أخذ بها
اشارة

كما يظهر ذلك من صاحب الفصول (ره) و تبعه بعض محشي القوانين (ره) و انه قبل الأخذ بالفتوى لم تكن الفتوى حجة عليه و لو كان الاجتهاد منحصرا بصاحب تلك الفتوى مستدلين على اعتبار الأخذ بالفتوى في حجية الفتوى بأنه لو عصى المكلف و لم يأخذ بفتوى المفتي ثمَّ وجد مفت آخر جاز له الرجوع اليه بل قد يتعين، و على هذا لو لم يعين المفتي لم يكن آخذا بفتواه و إذا لم يأخذ بفتواه لم يكن آتيا بعمله على طبق الحجة فلا عذر له لو خالف الواقع و يكون عمله كالعمل الواقع على خلاف الفتوى (و لا يخفى ما فيه) فان ذلك لو تمَّ إنما يثبت وجوب الاستناد الى الفتوى لا وجوب تعيين المفتي فإنه لو علم بالفتوى و انها صادرة ممن جمع الشرائط، أو علم باتفاق المجتهدين عليها كلهم أو أكثرهم بحيث يعلم بوجود واحد فيهم جامع لشرائط المرجعية، أو لم يعلم بمخالفة أحد المجتهدين لها مع عدم تعيينه للمفتي بها فإنه يكون عمله قد استند للفتوى فتكون حجة عليه مع انه لم يعين المفتي.

[تحقيق دقيق في عدم اعتبار الاستناد الى الفتوى في حجيتها]
اشارة

هذا مع ان التحقيق ان الفتوى حجة في نفسها نظير الامارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 522

و الأخذ بها و الاستناد إليها في مقام العمل يكون نظير الاستناد إلى الإمارة في ان العمل كان بما هو حجة في نفسه و ذلك لأن أدلة التقليد نظير أدلة الأمارات لا تثبت أكثر من أن فتوى المجتهد حجة من دون تقييد ذلك بالأخذ بها و الاستناد إليها، و هذا لا ينافي ما سبق منا من كون التقليد هو الأخذ بالفتوى فان حجية الفتوى غير التقليد كما ان حجية

الامارة غير الأخذ بها و غير الاجتهاد في المسألة المستند إليها (و أما ما استدل) به الخصم من جواز رجوع العامي بعد العصيان لمفتى آخر وجد بعد المفتي الأول (ففيه) ان من كان فتواه حجة على العامي ان كانت حجيتها باقية عليه كان من باب تعارض الحجتين نظير من ظفر بأمارة معتبرة بعد أمارة أخرى كانت عنده و إذا زالت حجيتها كما لو كان الثاني أفضل و قلنا ان الأفضلية مانعة من حجية فتوى المفضول فيجب عليه أن يرجع للثاني نظير من ظفر بأمارة أرجح من الأولى

[الثمرة في النزاع في كون حجية الفتوى منوطة بالاستناد إليه أم لا]

(و قد يفرع) على ثبوت كونها حجة في نفسها بأنه إذا أتى المكلف بالعمل المطابق لها من غير استناد لها فقد أتى بما يبرئ ذمته و ان خالف الواقع لأنه هو الذي قامت عليه الحجة الصحيحة و هي الفتوى إذ هي إنما قامت على نفس العمل لا على العمل بشرط الاستناد فمفادها براءة الذمة بنفس العمل الموافق لها لا بشي ء زائد عليه (لكن لا يخفى ما فيه) فان المستفاد من أدلة الامارات و من جملتها أدلة التقليد ان العمل بالأمارة عذر للعبد عند مخالفة الواقع فاذا لم يستند إلى الامارة و الفتوى و خالف الواقع لم يكن له عذر في مخالفة الواقع و (بعبارة أخرى) العذرية إنما تتحقق إذا كان الشي ء اتخذ وجها للعمل المخالف و كانت مخالفة الواقع تستند اليه و إلا لم يصبح عذرا و في المقام لم تكن مخالفة الواقع مستندة للأمارة فلا تكون الامارة حينئذ موجبة لرفع العقاب على مخالفته للواقع

[لزوم الاستناد الى الفتوى عقلا]

(و الحاصل) ان الأخذ بالفتوى بل بكل امارة و الاستناد إليها و ان لم يكن دخيلا في صحة العمل لكنه يحكم به العقل من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 523

جهة صحة الاعتذار عند المولى على مخالفة الواقع فالعقل يحكم على العبد بالاستناد للفتوى حتى يصح للعبد أن يعتذر عند المولى لو صادف مخالفة العمل للواقع خصوصا بناء على الموضوعية كما تقدم ص 443 و عليه فيجب الاستناد للفتوى من باب دفع العقاب المحتمل.

(إن قلت) لو كان الأمر كذلك لوجب أن يكون العمل الصادر منه لو ظهر بعد ذلك مطابقته لفتوى المجتهد أن يعيده لعدم العذر له لو كان مخالفا للواقع لأنه حين ما أتى به لم

يكن مستندا لحجة فلم يكن عذرا له لو كان مخالفا للواقع و عند ظهور مطابقته للفتوى لم يعلم بأنه مطابق للواقع، و هكذا الحال في سائر الأعمال بالنسبة لسائر الامارات مع ان الإجماع على عدم وجوب الإعادة (قلت) نعم و لكن الفتوى التي اطلع عليها و استند إليها بعد ذلك و كان العمل مطابقا لها تقتضي انه قد أتى بالواقع فتكون بعد استناده إليها عذرا له في عدم الإعادة و القضاء (و الحاصل) انه لا بد من الاستناد إلى الحجة في الاكتفاء بالعمل اما قبله أو بعده لتتحقق له العذرية في مخالفة الواقع، فالاستناد إلى الحجة قبل العمل تكون عذرا للعبد بإتيانه بهذه الصورة و الاستناد إلى الحجة بعد إتيانه يكون عذرا له في عدم الإعادة و القضاء و ترتيب الآثار لأنها تدل على انه قد أتى بالواقع و مراد المولى (هذا و قد ذهب بعضهم) إلى انه في صور اختلاف المجتهدين في الفتوى و تساويهم في جميع شرائط التقليد أو كانوا مختلفين في الشرائط لكن قلنا ان ذلك لا يوجب الترجيح ففي هذين الصورتين يكون الأخذ و الاستناد لإحدى الفتويين مقوم لحجية المأخوذ منهما بحيث تكون غير المأخوذ بها ليس بحجة و ذلك لعدم إمكان حجيتهما معا لتكاذبهما أو تناقضهما و لا أحدهما المبهم لأنه ليس بفرد و لا المعين لبطلان الترجيح بلا مرجح و لا التساقط رأسا و طرحهما و الرجوع لغيرهما لكونه خلاف الإجماع و السيرة (و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 524

يخفى ما فيه) لأنه قد عرفت فيما سبق ص 442 من ان دليل الحجية شامل لهما و انهما حجة و ان التخيير إنما يكون في سلوكهما

و العمل بهما.

(الثاني) من الوجوه التي أقيمت على لزوم تعيين المفتي

ما أشار إليه في الضوابط من أن المسموع نقلا عن أفاضل المتأخرين لزوم تعيين واحد من المجتهدين و استدلوا على ذلك بالسيرة بين المسلمين على ذلك من دون فرق بين المتفقين في الفتوى أو المختلفين فيها (و لا يخفى ما فيه) فإنه مضافا الى أنه ليس إلا نقل لاتفاق أفاضل المتأخرين و هو ليس بحجة انه يحتمل استنادهم الى ما ذكر من الأدلة على لزوم تعيين المجتهد.

(الثالث) هو ان المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير

فيؤخذ بالقدر المتيقن و هو تعيين المفتي و قد تقدم الكلام في هذا الأصل مفصلا في مبحث اشتراط الأعلمية في المفتي، و الحق عدم وجوب تعيين المفتي إذ لا دليل عليه و هو خارج عن حقيقة التقليد و ليس عبادته العبادة متوقفة عليه و على فرض شرطية التعيين للتقليد فإنما هو شرط لصحة التقليد لا لصحة العمل و لا ملازمة بينهما فلا يلزم على من قال بشرطية التعيين أن يلتزم ببطلان عبادة الجاهل. (و بعبارة أخرى) ان صحة التقليد من قبيل صحة الدليل و هي غير صحة العمل في الواقع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 525

[الفروع التي تترتب على هذا الشرط و هو تعيين]
[الفرع الأول] لو قلد مجتهدا معينا أو مجتهدين معينين ثمَّ نسي ذلك

و مما ذكرناه يظهر لك التحقيق في فرعين آخرين أحدهما ما لو قلد مجتهدا معينا ثمَّ نسيه أو قلد مجتهدين معينين كزيد و عمرو كل في بعض من المسائل ثمَّ نسي المجتهد الذي قلده مع بقاء صورة المسألة في نظره مع القطع بعدم انتفاء الشرائط من المفتي بها أو الشك فيه فعلى القول بلزوم التعيين هل يبطل تقليده و يكون بمنزلة العامي الغير المقلد في هذه المسألة أو يبقى على تقليد فيها و لا يلزم التعيين الحق هو الثاني و ذلك للاستصحابات الثلاثة الحكم الوضعي و الحكم التكليفي الفرعي و الحكم التكليفي الأصلي أعني جواز العمل بالفتوى حين التعيين و للسيرة و لأن إلزام التعيين بقاء موجب للعسر و الحرج على من يرجع لعدة مجتهدين لصعوبة ضبط نسبة كل فتوى لمجتهد معين.

[الفرع الثاني] لو قلد شخصا بتخيل انه زيد فظهر انه عمرو

و مما ذكرناه أيضا يظهر التحقيق في الفرع الآخر المعروف و هو ما إذا كان العامي قد رجع الى شخص بتخيل انه زيد فظهر بعد أن أخذ الفتوى منه و عمل بها انه عمرو فهل عليه إعادة عمله، و الحق أن يقال ان التقليد إنما يكون عذرا للعبد عند المولى إذا خالف عمله للواقع و إلا فالتقليد ليس بمطلوب بالذات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 526

و لا أثر له غير ذلك. و عليه فان كان قد أخذ الفتوى من الشخص بقيد انه زيد بحيث لو ظهر انه غير زيد لم يعمل بها و لم يتخذها حجة له حتى لو كان ممن يصح تقليده كان استناده لهذه الفتوى في عمله بعد ما تبين ان المفتي ليس بزيد غير معذر له عند المولى لأنه في الواقع لم يستند إليها حيث كان قاصدا

قصدا حقيقيا لغيرها فهو لم يجعلها مستندا له حتى تكون الفتوى عذرا له و عليه فلا بد أن يرجع لزيد فان كانت الفتوى مطابقة لفتواه لم يجب عليه الإعادة و لا القضاء استنادا لفتوى زيد لا لفتوى ذلك الشخص و إلا أعاد عمله مستندا فيه لفتوى زيد أو يعدل لتقليد عمرو إذا كان هناك ما يصحح عدوله، و أما إذا كان قد أخذ الفتوى من الشخص لا بقيد انه زيد بحيث لو انكشف انه غيره ممن يصح تقليده عمل بها بمعنى أخذ الفتوى باعتبار انه ممن يصح تقليده و لكن تخيل ان المأخوذ منه هو زيد فحينئذ يكون الاستناد لفتوى هذا الشخص معذرا للعبد عند المولى لأنه قد استند لها حقيقة و قاصد للمعذرية بها عند المولى واقعا و لعل الصحة التي حكم بها هنا السيد (ره) في عروته في هذه الصورة المراد بها ذلك و هي المعذرية عند المولى لا صحة العمل لأن صحة العمل تابعة لمطابقته للواقع و لا صحة التقليد فإن صحة التقليد تابعة لجامعية صاحب الفتوى للشرائط و قد تقدم عدم لزوم تعيينه و بهذا ظهر لك انه لا وجه للإشكال عليه من أن التقليد هو العمل فاذا كان المجتهدان متفقين في الفتوى كان العمل مطابقا لكليهما و لا أثر للتقييد. و وجه الظهور ان المقصود حصول المعذرية له و بالتقييد لم تحصل المعذرية بالعمل بالفتوى و ان اتفقت مع فتوى الغير لعدم تحقق الاستناد الى ما هو الحجة في عمله فمن رجع الى عمرو بتخيل انه زيد فعمل بفتواه فظهر انه عمرو فعلى التقييد بأنها فتوى زيد بحيث لو كانت فتوى غيره لم يعمل بها فلا بد له من الرجوع

لفتوى زيد ليعرف الموافقة لها أو المخالفة لها لان نفس الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 527

من دون معرفة ذلك غير معذرة له بخلافه مع عدم التقييد فإنه لا يلزم عليه ذلك و هكذا لا وجه لما ذكره بعض أساتذة العصر من أن ظهور الخلاف فيما قصده إنما يكون في أمر خارج عن محقق التقليد و الاستناد، لما عرفته من أن الميزان هو حصول المعذرية له لو كان عمله مخالفا للواقع و بالتقييد لم يحرز المعذرية إلا بعد الرجوع لزيد و لا يكتفي بفتوى عمرو بخلاف صورة عدم التقييد فإنه يكتفي بذلك و لا يرجع لزيد، و هكذا ظهر فساد من فصل بين كون من عمل بفتواه مفضولا لزيد فيكون تقليده فاسدا و بين كونه أفضل أو مساويا فيكون تقليده صحيحا، و وجه الفساد ان فرض المسألة في الرجوع لمن يعلم بصحة الرجوع اليه لكنه بتخيل انه زيد.

الزعامة الدينية و حالات المجتهد الخمس

قد ظهر مما تقدم في مباحث الاجتهاد ان المجتهد له حالات خمسة فإنه من حيث استفراغ وسعه لتحصيل الحكم الشرعي من الأدلة تكون له حالة الاجتهاد و يسمى باعتبارها مجتهدا. و من حيث حصول العلم أو الظن المعتبر له بالحكم الشرعي أو التوقف فيه بعد الفحص يحصل له حالة الفقاهة و يسمى باعتبارها فقيها، و من حيث تشخيصه موضوعات الاحكام يحصل له حالة القضاء و يسمى باعتبارها قاضيا، و من حيث جوابه عن المسائل و رجوع العوام له في معرفة أحكامهم مع قطع النظر عن أشخاص موضوعاتها يحصل له حالة الإفتاء و يسمى باعتبارها مفتيا و مقلدا، و من حيث تسلطه على الرعية و إدارته لشؤونها العامة و الخاصة و ولايته على الأيتام و

السفهاء و الغيب و نحو ذلك يحصل له حالة السلطنة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 528

عليهم و يسمى باعتبارها وليا و حاكما و زعيما دينيا، و ما تقدم من الشرائط و المناقشة فيها إنما كان في المجتهد المفتي و الذي هو يرجع له في التقليد.

[لزوم توفر الشروط في الزعيم الديني]

و أما الزعيم الديني و المدبر لشؤون المسلمين، فقد مر منا غير مرة انه يجب أن تتوفر فيه الشروط الموجبة لتأهله لهذا المنصب من حسن التدبير و البصيرة بالمصلحة العامة و الخبرة بشؤونها و اللازم الالتزام بالأخذ منه و عقد القلب على العمل برأيه نظير البيعة و العهد و لا يجوز التجزي في اجتهاده لاحتياجه إلى الإلمام بالأحكام الشرعية فمثلا لا بد أن يعرف حكم الخمر من حيث النجاسة و الطهارة و حلية الاستعمال و حرمته و صحة بيعه و عدمها و مقدار الحد على شربها و جواز تزويج شاربها و إعطائه الزكاة و الخمس و عدمه الى غير ذلك و لا يجوز العدول عنه لغيره لما في ذلك من الفساد في النظام بل و لا يجوز الرجوع لغيره فيما يصدره من الاحكام و هو المعبر عنه بالولي و هو الذي يرجع إليه في الأمور التي تتعلق بحفظ النظام و لعل أغلب الشروط التي ناقشنا في اعتبارها في المفتي المجتهد لا بد من ثبوتها فيه لأنه المنصب الخطير الذي يتولى به شؤون المسلمين و حفظ نظامهم و هو له النيابة عن الامام لا مطلق المجتهد، و أما الإفتاء فليس بمنصب و قد اشتبه الأمر على بعض أهل العصر فخلط بين المجتهد المفتي و بين الزعيم الديني.

[الأخبار الدالة على صلاحية طالب الزعامة للمرجعية في الفتوى]
اشارة

(إن قلت) انه قد تقدم في الشرط الخامس عشر ص 211 ما يدل على عدم صلاحية طالب الدنيا لمرجعية الفتوى مضافا لقوله تعالى تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لٰا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فَسٰاداً وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ و لما في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) إياكم و هؤلاء الرؤساء الذين يترأسون فو اللّه ما خفقت النعال

خلف رجل إلا هلك و أهلك، و في الكافي أيضا بسنده عن جويرية بن مسهر قال: اشتددت خلف أمير المؤمنين (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 529

فقال يا جويرية انه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفهم، و في الكافي أيضا بسنده عن الرضا (ع) في رجل يحب الرئاسة و الزعامة انه قال (ع) ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من طلب الرئاسة.

و روي ان بعض موالي علي بن الحسين (ع) سأل أبا عبد اللّه (ع) أن يكلم الولاة على أن يوليه في بعض البلاد و أقسم بايمان مغلظة أن يعدل و لا يظلم و لا يجوز فرفع أبو عبد اللّه (ع) رأسه الى السماء فقال تناول السماء أيسر عليك من ذلك، و في الكافي أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه (ع): ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدث نفسه بها. و في الكافي و علل الشرائع أيضا بسنده عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه (ع) قال: إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم فان كل محب لشي ء يحوط ما أحب و قال: أوحى اللّه تعالى لداود (ع). لا تجعل بيني و بينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي فان أولئك قطاع طريق عبادي المريدين ان ادنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم، فان المراد بقوله «فاتهموه على دينكم» هو عدم الوثوق به و الركون اليه فيما يذكره من مسائل الدين، و المراد ب «يحوط» هو المحافظة على ما أحب و الاعراض عما سواه. و قد روي عن أمير المؤمنين (ع) من أحب الدنيا و

تولاها أبغض الآخرة و عاداها. و قد روي عن رسول اللّه (ص) حب الدنيا رأس كل خطيئة.

و في بعض الأخبار يتمنون الناس يوم القيامة كونهم من الفقراء. و في الخصال بسنده عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: قال عيسى ابن مريم: الدينار داء الدين و العالم طبيب الدين فإذا رأيتم الطبيب يجر الداء الى نفسه فاتهموه و اعلموا انه غير ناصح لغيره. و في الكافي عن أبي عبد اللّه:

من طلب الرئاسة هلك. و في الكافي أيضا بسنده الى أبي عبد اللّه (ع) انه قال:

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 530

من أراد الرئاسة هلك. و في الكافي أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) قال:

قال رسول اللّه (ص): أول ما عصي اللّه تعالى بست خصال: حب الدنيا، و حب الرئاسة، و حب الطعام، و حب النساء، و حب النوم، و حب الراحة.

[بيان وجه الجمع بين الاخبار الدالة على حرمة طلب الرئاسة و بين ما دل على وجوب التصدي لأمور المسلمين]

(قلت) ان ذلك ناظر للرئاسة الدنيوية التي يطلبها الإنسان لذاتها أو يطلبها لنيل الملذات و الظفر بفواتن الحياة و إن جرت لارتكاب المحرمات و ترك الواجبات لا للرئاسة التي يطلبها الإنسان لتنفيذ الأحكام الشرعية و نشر المعارف الإلهية.

فعن معاني الأخبار بسنده عن سفيان بن خالد قال: قال أبو عبد اللّه (ع):

يا سفيان إياك و الرئاسة فما طلبها أحد إلا هلك، فقلت: جعلت فداك قد هلكنا إذ ليس أحد منا إلا و هو يحب أن يذكر و يقصد و يؤخذ عنه، فقال (ع):

ليس حيث تذهب إليه إنما ذلك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال و تدعو الناس الى قوله. و عن معاني الأخبار أيضا بسنده عن الثمالي قال:

قال أبو عبد اللّه (ع): إياك و الرئاسة

و إياك أن تطأ أعقاب الرجال، فقلت:

جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها و أما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطأت أعقاب الرجال، فقال: ليس حيث تذهب إياك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كلما قال. و المراد بأعقاب الرجال هو باب دورهم و هو كناية عن أخذ العلم منهم. و في المروي عن أبى ذر قال: قلت يا رسول اللّه ألا تستعملني؟ فقال: فضرب بيده على منكبي ثمَّ قال: يا أبا ذر انك ضعيف و انها أمانة و انها يوم القيامة خزي و ندامة إلا من أخذ بحقها و أدى الذي عليه فيها. و عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلا من لا يصانع و لا يضارع و لا يتبع المطامع. و المصانع: هو المجامل في أموره و فسر بمن يستعمل الرشوة. و (المضارع) من يطلب الحاجة مهما كلفه الأمر. و في الكافي عن أبي جعفر (ع): من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 531

أو يصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها. و في معاني الأخبار بإسناده عن الهروي قال: سمعت أبا الحسن الرضا (ع) يقول: رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا، فقلت: و كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا و يعلمها الناس فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا، فقلت: يا بن رسول اللّه فقد روي لنا عن أبي عبد اللّه انه قال: من تعلم علما ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء أو ليقبل بوجوه الناس اليه فهو في النار، فقال (ع) صدق

جدي أ فتدري من السفهاء؟ فقلت: لا يا ابن رسول اللّه، فقال: هم قصاص مخالفينا و تدري من العلماء؟ فقلت: لا. قال: قال رسول اللّه: هم آل محمد (ص) الذين فرض اللّه طاعتهم و أوجب مودتهم و تدري ما معنى قوله: أو ليقبل بوجوه الناس اليه؟ قلت: لا. قال: يعني بذلك و اللّه ادعاء الإمامة بغير حقها و من فعل ذلك فهو في النار. و في معاني الأخبار بإسناده عن حمزة بن حمران قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول: من استأكل بعلمه افتقر. فقلت: جعلت فداك ان في شيعتك و مواليك قوما يتحملون علومكم و يبثونه في شيعتكم و لا يعدمون على ذلك البر و الصلة و الإكرام. فقال (ع): ليس أولئك المستأكلين إنما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه عز و جل ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا و في الكافي بسنده الى أبي عبد اللّه عن آبائه (ع) قال: قال رسول اللّه (ص): لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم مطاع أو مستمع واع.

و (الحاصل) ان هذه الاخبار المتقدمة إنما هي ناظرة للرئاسة الباطلة و الزعامة المزيفة و كسب المال الحرام و غصب منصب الإمامة و الخلافة و معارضة أئمة الحق فإنه على حد الشرك باللّه و إلا فالرياسة التي أعطاها اللّه تعالى للأولياء و الأنبياء و الأوصياء التي هي لإصلاح البشر و هداية الخلق و رفع الفساد و دفعه فإنه من اللازم طلبها و من الواجب الجهاد عنها فإنها مطلوبة للّه تعالى كما قال يوسف (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 532

اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. و كما قال سليمان (ع)

وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي كيف و هي واجبة إذا أمر بها الامام (ع) في زمن الحضور و بسط اليد كما لو نصبه للقضاء و الحكم بين الناس أو للولاية على قطر خاص أو للفتوى و التدريس أو للوعظ و الإرشاد أو لإمامة الجماعة و العيد و الجمعة. و أما في زمن الغيبة فالمشهور انه يجب على الفقيه الجامع للشرائط الفتوى و الحكم ارتكاب ذلك عينا أو كفاية و الفتوى و التدريس و الوعظ و من هذا الباب إمامة الجماعة و الجمعة فإنه إن كان الغرض منها محض الشهرة و جلب القلوب و تحصيل الأموال و المغالبة مع أهل الدين فهي محرمة و ان كان الغرض منها إقامة شعائر الدين و إظهار عظمة المسلمين و عبادة رب العالمين فهي مستحبة مطلوبة و حيث فرغنا من مباحث التقليد و شروطه أخذنا في الكلام على أحكام التقليد و المقلد.

أحكام التقليد و المقلد
أحدها- في وظيفة المقلد إذا صار المجتهد فاقدا لبعض شروط المرجعية في التقليد
اشاره

(أحدها) إذا صار المجتهد فاسقا أو كافرا أو مجنونا أو عاميا أو طعنا في السن بحيث اختل فهمه و ضعف إدراكه أو غير ذلك مما يوجب فقده لشرط من شروط المرجعية في التقليد و هذا الموضوع و ان تكلمنا فيه عند الكلام في بعض الشروط المذكورة عند فقدها بحيث يعلم منه الحال في باقي الشروط لكن لا بأس بإعادة الكلام فيه مستقلا تتميما للفائدة فنقول:

ان المحكي عن ظاهر غير واحد القول بوجوب العدول على العامي عن ذلك المجتهد و بطلان تقليده له حتى في المسائل السابقة التي قلده فيها نظير قول المشهور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 533

بوجوب العدول عند موت المجتهد فيكون عروض هذه الأمور عند المشهور نظير عروض الموت

عندهم بالنسبة للمسائل التي عمل بها سابقا و قد ذهب جدي في مقدمة كتابه كشف الغطاء الى عدم بطلان تقليده فقال و لو قلد حيا أو عاقلا أو عالما ثمَّ مات أو جن أو جهل بقي على تقليده و تبعه على ذلك شبله الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة، و هو الذي يظهر من المحكي عن صاحب الفصول

[الأدلة على بطلان تقليد المجتهد إذا فقد بعض الشروط]

و قد استدل القوم على البطلان بأمور:

(أحدها) ما اعتمد عليه استأذنا الشيرازي (ره) من أن ما كان شرطا في ابتداء التقليد فهو شرط في استمراره غير الحياة فبمجرد فقد أحد الشروط تسقط فتواه عن الحجية و يجب تتبع حجة أخرى (و فيه) إنما يقتضي ذلك عدم العمل بفتاواه المتجددة بعد فقد الشرط اما الفتاوى التي صدرت منه و كان الشرط موجودا فلا دلالة في الأدلة على عدم جواز استمرار العمل بها و عدم بقائه عليها و لا إطلاق لأدلة الاشتراط في اعتبار الشرط للعمل بالفتوى ابتداء و استمرارا و إنما هي ظاهرة في الابتداء بل الظاهر منها انها إنما تعتبر حال صدور الفتوى منه و مع الشك فيجري الاستصحاب بلا مانع نظير الاستصحاب في البقاء على الفتوى بعد موت المفتي فان المسألتين من باب واحد (و الحاصل) ان أدلة التقليد تقتضي بإطلاقها البقاء على تقليده و ليس عندنا مخصص أو مقيد يقيدها أو يخصصها بغيره، و لو سلمنا الشك فالأصل بقاء حجية الرأي.

(ثانيها) ما هو ظاهر المحكي عن الشيخ علي في حاشيته على الشرائع من ان العمل بفتوى الفاقد للشرط في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ و المفروض انه قد خرج عن الأهلية لذلك فكان تقليدا لغير الجامع للشرائط في حال البقاء على تقليده و ذلك

يقتضي أن يكون تقليده باطلا بالنسبة لمستقبل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 534

الزمان (و جوابه) ان الاستناد اليه كان حال جمعه للشرائط و أدلة الشرائط لا تقتضي أزيد من ذلك و خروجه عن الأهلية إنما كان يوجب عدم الاستناد إليه في المسائل الحادثة المتجددة.

(ثالثها) انه مع فقد الشرائط يشك في الحجية و الأصل عند الشك في الحجية و الطريقية عدمها و هو يقتضي الاشتراط (و جوابه) ان الاستصحاب و أغلب الأدلة الدالة على صحة البقاء على تقليد الميت تدل على الحجية في المقام لأن المسألتين من باب واحد.

(رابعها) دعوى الإجماع من غير واحد على بطلان التقليد (و جوابه) لعل مراد المجمعين بالنسبة للمسائل المتجددة مضافا الى احتمال استناد المجمعين للأدلة المذكورة على أنه معارض بإطلاق معاقد إجماعهم على حرمة العدول.

(خامسها) إطلاق ما دل على اعتبار بعض هذه الشروط كالعدالة و يتم في الباقي بعدم الفصل نحو قوله (ع) في رواية الاحتجاج: و أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه إلخ. يتناول الحالتين ابتداء التقليد و استمراره كما يتناولهما ما في الرضوي الدال على اشتراط الايمان من قوله (ع): لا تأخذوا معالم دينكم من غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين و مثله ما عن الغنية بسنده الصحيح الى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ أبي القاسم بن روح عن الشيخ أبي القاسم ابن روح حين سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني بعد ارتداده فقال الشيخ أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني فضال حيث قالوا ما نصنع بكتبهم و بيوتنا منها ملأ فقال: خذوا بما رووا و ذروا ما رأوا فإن النهي عن عن الأخذ بآراء بنى فضال

مع ترك الاستفصال بين الأخذ الابتدائي و الاستمراري يدل بعمومه على اعتبار الإسلام ابتداء و استمرارا و لا عبرة باحتمال إرادة النهي عما رأوا من الاعتقادات الفاسدة فإن ذلك خلاف الظاهر فإنه لا يتوهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 535

وجوب الأخذ بذلك فلا يكون موردا للسؤال بل الظاهر هو الآراء المستندة لاجتهادهم في الأحكام الشرعية، ثمَّ ان في قول العسكري (ع) و ذروا ما رأوا دلالة على اشتمال كتبهم على الفتوى و الرأي (و الجواب) اما عن رواية الاحتجاج فإنها ظاهرة في الابتداء فان قوله (ع) فللعوام أن يقلدوه هو الرجوع له في ابتداء التقليد على أنه عند عروض الفسق له يصدق على الآخذ بقوله حينما كان كذلك أنه آخذ بمن كان كذلك لان المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في حينه. نعم لا يجوز الأخذ بقوله في الأمور المستحدثة التي لم يكن أخذ بها قبل فسقه. و أما عن الرضوي فلأنه لا إشكال في شموله للرواية و لو كان يدل على اعتبار الايمان ابتداء و استمرارا للزم منه طرح الرواية لو فسق الراوي بعد روايتها و لا قائل بذلك بل هو ظاهر في الأخذ ابتداء لعين ما ذكرناه في الجواب عن رواية الاحتجاج، و أما رواية الغنية فقد تقدم الكلام فيها في عدة مواطن فراجعها تعرف عدم دلالتها في المقام.

هذا ما أمكن أن نظفر به من الأدلة على بطلان التقليد للمجتهد إذا عرض عليه فقدان ما يعتبر في صحة تقليده (ثمَّ ان بعض أساتذة العصر) ذكر ان مقتضى الأدلة هو جواز البقاء على التقليد إلا أن مذاق الشرع يقتضي عدم جواز البقاء على تقليده لان من زال عقله أو علمه أو عدالته

لا يليق بمنصب الزعامة و المرجعية في الدين (و لا يخفى) انه قد عرفت ان الزعامة الدينية غير المرجعية في المسائل الشرعية و نحن نتكلم في الثاني. و أما الأول فلا بد فيه من ذلك لتوقف الأمور الحسبية عليها.

[الأدلة على عدم بطلان التقليد عند فقد المجتهد بعض الشروط]

و أما أدلة المجوزين فهي الاستصحاب و هو أحرى بالجريان هنا من جريانه في صحة البقاء على تقليد الميت لان الموضوع عرفا باقي قطعا و هو المجتهد و إنما تبدل بعض حالاته بخلاف صورة الموت فان العرف يرى ان المجتهد قد انعدم و ان كان قد تقدم منا ان ذلك لا يضر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 536

بالاستصحاب في ذلك المقام فراجعه. مضافا الى ان أغلب الأدلة الدالة على جواز البقاء على تقليد الميت تدل هنا لأن المسألتين من باب واحد. و قد استدل جدي كاشف الغطاء (ره) على ذلك بما حاصله ان ما دل على الرجوع الى العلماء في قضاء أو إفتاء لا يفهم منه سوى الرجوع الى الاحياء و ان ماتوا في الأثناء بعد التقليد و كذا الى العقلاء و إن جنوا بعد ذلك و كذا إلى ذوي الملكات و إن زالت عنهم فالرجوع الى الميت و المجنون و المغمى عليه و الناسي و الجاهل و الساهي و النائم قبل أن تحصل فيه هذه الصفات يكون رجوعا للحي و العاقل و الصاحي و الذاكر و العالم و المتفطن و اليقظان لأنه حصل تعلق الافعال بالموضوعات على ذلك الاتصاف فيكون مشمولا للأخبار. (و استدل أيضا) بالاستصحاب و بأصالة عدم كون الطاري من موت أو جنون و شبههما مانعا من التقليد. (و استدل أيضا ره) بما دل على أن أحكام محمد (ص) مستمرة

إلى آخر الأبد فإنه يقتضي وجوب البقاء على التقليد إلا ما أخرجه الدليل كتبدل اجتهاد الحي. (و استدل أيضا) بما حاصله ان فتواه تعلقت بالاستمرار فان المفهوم منه عند الفتوى عدم اشتراطها بالحياة فيجب إمضائها على ذلك لوجوب التقليد عليه على نحو الفتوى (و استدل) ولده المرحوم الشيخ حسن بأن ما دل على تحريم العدول من إطلاق إجماع أو حكمة يقضي به قال (ره) و أيضا سهولة الشريعة و سماحتها و رفع العسر و الحرج يقضي به.

(تنبيه) [لو قلد شخصا ثمَّ شك في انه جامع للشرائط أم لا]

لو قلد شخصا ثمَّ شك في انه جامع للشرائط أم لا فان كان مسبوقا بالجامعية استصحب جامعيته لها و إلا وجب عليه الفحص و قد تقدم ذلك ص 63.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 537

تعذر المجتهد الحي على العامي

(ثانيها) لو تعذر عليه تقليد المجتهد الحي فهل له تقليد الميت الجامع للشروط ما عدى الحياة على القول بحرمة تقليد الميت أو يتعين عليه العمل بالاحتياط أو يجب عليه الأخذ ببعض الظنون المعتبرة عند البعض كالشهرة و الإجماع المنقول و شبههما و قد تقدم تنقيح البحث في ص 387 تحت عنوان حجة القائلين بالتفصيل بين التمكن من الرجوع الى الحي و بين عدمه.

تعذر المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء على العامي

(ثالثها) لو تعذر وجود المجتهد الجامع لشرائط المرجعية في التقليد فهل يجوز للعامي الرجوع الى الميت الجامع للشرائط أم لا و حيث ان العامي لا بد له من الرجوع لما يحكم به عقله و ليس يوجد الحي الجامع للشرائط الذي يصح أن يرجع له فيدور أمره بين الرجوع للميت الجامع للشرائط و بين الحي الفاقد لبعض الشروط فيكون حكم العامي ما ذكرناه في الحكم الثاني للتقليد أو المقلد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 538

من ليس له أهلية الإفتاء يحرم عليه الإفتاء
اشارة

(رابعها) ان من ليس له أهلية الفتوى ان كان من جهة انه ليس بعالم بها يحرم عليه الإفتاء من عند نفسه حتى لو كان عنده ملكة الاجتهاد و لكنه لم يعملها لتحصيل معرفة الحكم الشرعي في المسألة بل أفتى من جهة رأيه أو من جهة القياس أو الاستحسان أو من جهة فتوى مجتهده أو مجتهد آخر بها من دون نسبتها لذلك المجتهد فإنه يحرم عليه الإفتاء بها للأدلة الأربعة العقل باعتبار انه تعدي على مقام المولى بنسبة ما لم يعلم نسبته اليه فهو تقول على المولى و افتراء عليه و الإجماع و الكتاب لقوله تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ و السنة كرواية أبي الحسن (ع) من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء، و عن الصادق (ع) مثله بإضافة ملائكة الأرض، و عن النبي (ص): من أفتى الناس بغير علم فليتبوأ مقعده من النار و من هنا ظهر انه لا وجه لما ذكره بعض أساتذة العصر من أخذ الموضوع في الحكم المذكور هو من ليس بمجتهد فإنه حتى المجتهد إذا لم يعلم لم يجز له الفتوى كما ان غير المجتهد إذا علم بالحكم الشرعي

من ضرورة أو إجماع أو دليل خاص معتبر عنده جاز له الفتوى لأن الأدلة لا تمنع من صدور الفتوى من العالم بها كيف و في رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه (ع) عن آبائه قال قال علي (ع): ان العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحا تلعنه كل دابة من دواب الأرض الصغار.

(إن قلت) على هذا يجوز ان يفتي العامي إذا سمع من مجتهده الفتوى لأن الفتوى حجة شرعية فيكون ممن علم بالحكم الشرعي من طريق معتبر (قلنا)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 539

التقليد ليس من العلم و المعرفة لا عرفا و لا لغة و لذا ترى أهل اللغة لا يسمون المقلد عالما و لو سلمنا فالأدلة منصرفة عن ذلك مضافا لقيام الإجماع على عدم جواز الإفتاء من جهة فتوى مجتهده (و لكن المشهور) ان غير المجتهد إذا علم بالحكم من دليل معتبر لا يجوز له الإفتاء لأنه تقول على اللّه بلا اجتهاد و لأنه إضلال و إغراء بالجهل (و لا يخفى ما فيه) فان المحرم هو التقول على اللّه تعالى بدون علم و المفروض انه يعلم بذلك و لأن الإضلال و الإغراء بالجهل إنما يحرم من الذي يعلم بأن ذلك إضلال و جهل و اما العالم بالمسألة فلم يكن ذلك منه إضلال أو إغراء بالجهل بل إرشاد للواقع في نظره. و قد يخص حرمة الإفتاء بصورة ما إذا أفتى لأجل عمل الغير بها مع عدم توفر شروط المرجعية المتقدمة فيه دون ما إذا أفتى لأجل عمل نفسه أو لبيان رأيه في المسألة بل لا يجوز له العمل بفتوى الغير و تقليده لفرض علمه بالمسألة و لعل المستند في ذلك

انه اعانة على الإثم لأن عمل الغير بها حرام فيكون الإفتاء لهذه الغاية اعانة على الإثم (و لا يخفى ما فيه) فان الإعانة على الإثم إنما تتحقق لو كان الغير يرى ان العمل بهذه الفتوى أثم فيكون اعانة على الإثم اما إذا لم يرى ذلك فلم تكن الإعانة عليه اعانة على الإثم.

[قاعدة حرمة التسبب للوقوع في الحرام]
اشارة

و قد يستدل على ذلك بأن المستفاد من الأدلة هو حرمة التسبب للحرام الواقعي. و هذا المفتي بالعمل للغير قد سبب وقوع الغير في الحرام الواقعي و هو العمل بفتوى من ليس بجامع لشرائط المرجعية في التقليد فإنه حرام واقعا و بالإفتاء بالعمل للغير قد أوقع الغير في هذا الحرام و ان لم يدري به الغير و هذه القاعدة أعني حرمة التسبب للحرام الواقعي يدل عليها وجوب إعلام البائع المشتري بنجاسة الدهن معللا ذلك في الشرع بأنه ليستصبح به فإن غاية الاعلام و التنبيه ليس تحقق الاستصباح إذ ربما لا يترتب الاستصباح على الاعلام بل هو عدم استعمال الدهن في الأكل لئلا يقع في الحرام الواقعي و إلا فلا حرمة على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 540

المشتري لجهله بالنجاسة فليس بالنسبة إليه حرمة فعلية بل في مكاسب الشيخ الأنصاري (ره) و يشير الى هذه القاعدة كثير من الاخبار المتفرقة الدالة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرمات مثل ما دل على أن من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه. و قوله (ص): ما من إمام صلى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلا كان عليه أوزارهم. و في آخر فيكون في صلاته أو صلاتهم تقصير إلا كان إثم ذلك عليه. و في ثالث لا يضمن الامام صلاتهم

إلا أن يصلي بهم جنبا. و مثله رواية أبي بصير المتضمنة لكراهة أن يسقى البهيمة أو تطعم ما لا يحل للمسلم أكله و شربه فان في كراهة ذلك في البهائم اشعار بحرمته في المكلفين. و يؤيده حرمة الإيقاع في القبيح الواقعي بل ربما يقال بوجوب الاعلام و التنبيه و ان لم يكن للشخص أي تسبب كما عن العلامة في أجوبة المسائل المهنائية حيث أجاب بوجوب الاعلام على من رأى في ثوب المصلي نجاسة معللا بوجوب النهي عن المنكر (قلنا) ان غير ما علم من دليله انه مبغوض الوقوع من المكلف بحيث يريد الشارع من كل أحد عدمه في الخارج لا دليل لنا على حرمة التسبب له إذ أقوى ما يستدل به هو وجوب إعلام البائع للدهن النجس بالنجاسة معللا بقوله ليستصبح به بالتقريب الماضي و هو لا يخلو من نظر لأنه يحتمل التعبد من جهة ان الشراء يقع فيه باعتبار الأكل و هو محرم واقعا فيكون باطلا فإذا أعلم بذلك وقع الشراء لا باعتبار تلك المنفعة المحرمة بل بإزاء منافعه المحللة فيصح الشراء مضافا الى ان الدهن النجس ماليته الواقعية تنقص بالنجاسة من جهة عدم جواز الانتفاع به في غير الجهة الخاصة فالجهل به جهل بمقدار ماليته

[وجه عدم جواز بيع الدهن المتنجس إلا إذا اعلم المشتري بالنجاسة]

فيجب الإعلام لأمرين:

أحدهما- نقصان المالية له باعتبار حرمة المنافع التي هي غير الاستصباح.

ثانيهما- وقوع البيع باعتبار منافعه المحرمة فإن منفعته الظاهرة التي يقع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 541

البيع باعتبارها هو الاستعمال للأكل. و من هنا ظهر لك ان المفتي إذا كانت عدم أهليته للفتوى من جهة فقده لشروط المرجعية الأخرى مثل الأعلمية و العدالة و الحرية و طهارة المولد جاز له الفتوى لنفسه

بل لغيره. نعم لا يجوز للغير الرجوع له فالافتاء جائز و لكن رجوع الغير له غير جائز لأن أدلة الاشتراط تقتضي حرمة الرجوع لغير واجد الشرط بل لو فرض سكوتها عن فاقد الشرط كان الرجوع لفاقد الشرط حرام لأنه يكون عملا بغير العلم الذي لم تثبت حجيته كما ظهر لك ما في عروة المرحوم السيد كاظم في (المسألة الثالثة و الأربعين) من أن من ليس له أهلية الفتوى يحرم عليه الإفتاء و لو أبدل حرمة الإفتاء بحرمة الرجوع لكان أولى (نعم) الجلوس للإفتاء للناس أو تلبسه بالزعامة الدينية حرام فإنها من المناصب الإلهية التي لا يثبت الأول منها إلا لمن له أهلية الإفتاء للناس و لا يثبت الثاني منها إلا لمن له أهلية الإدارة لأمور المسلمين مع معرفته أحكام سيد المرسلين فيكون من ليس له الأهلية غاصب لهذا المقام.

تخيير العامي في تقليد المجتهدين المتساويين

(خامسها) انه يجوز للعامي أن يقلد أي من المجتهدين المتساويين على سبيل التخيير سواء كانا متوافقين في الفتوى أو متخالفين للإجماع و للسيرة و لما تقدم في الأعلمية ص 441 من أن الأصل في المتعارضين هو التخيير من دون فرق بين القول بالطريقية أو السببية وفاقا لاستاذنا كا (ره) و أما بناء على ما ذهب اليه المشهور من كون الأصل في تعارض الحجتين بناء على الطريقية التساقط فيشكل الأمر عند تعارض الفتويين لكون الظاهر ان حجية الفتوى من باب الطريقية عندهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 542

لتمسكهم على حجيتها برجوع الجاهل الى العالم، و الارتكاز الفطري أو من جهة انسداد باب العلم على العامي و مقتضى التساقط هو الرجوع الى الاحتياط في المسألة كما ذهب اليه بعض المتأخرين أو نلتزم بالأخذ بأحوط القولين

لو كان و إلا فالاحتياط باتيانهما معا (نعم) بناء على أن سقوط الطريقين إنما هو في خصوص ما يتعارضان فيه دون ما يجتمعان فيه و هما يجتمعان على نفي الاحتياط نظير العامين من وجه فالقاعدة هو التخيير و يمكن أن يكون فتواهم بالتخيير من جهة الإجماع عليه عندهم.

التخيير بين المجتهدين المتساويين ابتدائي لا استمراري

(سادسها) انه بعد ما ثبت التخيير بين المتساويين فهل يجوز للعامي العدول من أحدهما إلى الآخر بمعنى ان التخيير ابتدائي أو استمراري قد تقدم بيان ذلك في مبحث العدول عن مجتهد لآخر ص 144 و هل ان الملزم للبقاء هو مجرد اختيار المكلف قول المجتهد و عقد قلبه على العمل به أم لا بد فيه من العمل و هل يكفى الاختيار الإجمالي بأن يختار أحد المجتهدين في التقليد له في سائر أموره حتى في الفتاوى التي لم يستنبطها فعلا أو لا يكفي إلا الاختيار التفصيلي أو الإجمالي للفتاوى التي استنبطها بالفعل ثمَّ انه هل يكفي الاختيار و لو قبل زمان العمل أو بشرط حضور وقت العمل و ان كان موسعا بشرط ضيق وقت العمل أو حين ارادة العمل كل ذلك يعلم مما تقدم في مبحث العدول عن مجتهد لآخر ص 144.

وجوب التقليد مقدمي

(سابعها) ان التقليد أن كان بمعنى الأخذ بفتوى الغير كان وجوبه تخييريا مقدميا لأنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 543

مخير بينه و بين الاجتهاد و الاحتياط مقدمة لامتثال الأحكام الواقعية و ان كان عبارة عن نفس العمل استنادا لفتوى المجتهد كان وجوبه نفسيا لأنه حينئذ لا يكون إلا عبارة عن نفس الصلاة الواجبة مثلا استنادا لفتوى المجتهد، و لكن يمكن أن يقال انه أيضا وجوبه مقدمي لأن عمل الصلاة باعتبار استناده لقول المجتهد يكون تقليدا و باعتبار انه المطلوب الواقعي يكون واجبا فله حيثيتان إحداهما الاستناد لقول المجتهد و الأخرى قيام المصلحة الإلزامية فيه و الحيثية الأولى إنما وجدت من جهة تحصيل الثانية.

حجية التقليد من باب التعبد لا من باب الوصف و الظن

(ثامنها) ذهب بعضهم الى أن اعتبار التقليد من باب الوصف أعنى باعتبار افادته الظن كامارات القبلة كما عن المقدس الأردبيلي (ره) و صاحب الضوابط (ره) و المحقق القمي (ره) و ذهب جل العلماء الى ان اعتباره من باب التعبد فقول المجتهد حجة و ان لم يفد الظن كاليد و الشهادة و حكم الحاكم هكذا حرر القوم هذا المبحث و الاولى جعل الموضوع هو فتوى المجتهد و ان اعتبارها من باب إفادتها الظن أم لا (و كيف كان) فتظهر الثمرة فيما لو حصل الظن بخلاف قول المجتهد فإنه على الأول لا يجوز تقليده بخلاف الثاني و الحق هو الثاني فإن أدلة التقليد ليس فيها ما يدل على اعتباره من باب افادته الظن مع ان سيرة المسلمين على ذلك فانا لم نر أحدا من العلماء أفتى بوجوب حصول الظن على العامي من قول مفتيه مضافا الى أنه لو كان قول المفتي للعامي حجة من حيث كونه مظنونا فاما أن يكون ظنه

قبل الفحص أو بعده، و الأول باطل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 544

للزوم كون ظن العامي أقوى من ظن المجتهد ضرورة انه لا عبرة بظن المجتهد بالحكم قبل الفحص بالإجماع المحقق و المنقول من أصحاب الظنون المطلقة و أصحاب الظنون المخصوصة فكيف يجوز للعامي أن يعمل بظنه قبل الفحص.

(و الثاني) مستلزم للعسر العظيم و الحرج الشديد على العوام لا سيما النساء و أهل البوادي و الصبيان في أوائل بلوغهم و هما منفيان في الشريعة مع ان سيرة المسلمين على عدم التفحص عن ذلك (و توهم) عدم انحصار الدليل على لزوم التقليد على العوام في الإجماع و الاخبار، بل يدل على التقليد عندهم الدليل العقلي المعروف بدليل الانسداد بل هذا هو عمدة دليل المقلد في تعويله على قول مفتيه لأن الأخبار ليس له اطلاع على حجيتها و الإجماع لا يعلم بثبوته و العسر و الحرج لا يعرف مقداره و لا تشخيص موارده فليس عنده إلا الدليل العقلي و هو دليل الانسداد و هو لا يقتضي إلا العمل بالظن (فاسد) فإن العامي له دليل غير ذلك و هو الارتكاز و الضرورة الدينية الثابتة لكل أحد و لعمري انه ليس علم العامي بأنه يجب الرجوع الى العالم في معرفة أحكامه أضعف من علمه بوجوب الصلاة و الصوم و غيرهما من الضروريات فيكون دليله على التقليد هو ذلك و أما ما ذكره من الدليل العقلي فهو على فرض تماميته لا يصلح ان يكون دليلا للمقلد ضرورة أن تمسكه به موقوف على فهم كل واحدة من مقدماته للعامي فهما قطعيا و إلا كانت نتيجته غير قطعية لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات و فهمه لها قطعيا من أصعب

الأشياء مع أن نوع مقدماته معركة لأصحاب الآراء ثمَّ يتوقف على فهمه انسداد باب العلم فهمه وجب العمل بالظن ثمَّ على فهمه انه يجب عليه العمل بالظن فهمه العمل بكل ظن حتى الظن الحاصل من فتوى المجتهد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 545

جواز التبعيض في التقليد

(تاسعها) يجوز التبعيض في التقليد بأن يقلد مجتهدين فصاعدا فيأخذ بعض مسائل الصلاة من بعض و بعضها من آخر و تحقيق ذلك قد تقدم في ص 180 في الأمر الثالث عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها.

وجوب التقليد على العامي طريقي

(عاشرها) لا يخفى أن العامي يجب عليه التقليد لأنه يتعسر عليه الاحتياط و تحصيل الاجتهاد و لكن وجوبه عليه طريقي نظير إيجاب العمل بخبر الواحد و ليس بشرط في صحة العمل كما يظهر من كلمات بعضهم حيث ذهب الى بطلان عمل تارك الاجتهاد و التقليد و قد تقدم في صدر الكتاب ج 1 ص 9 تحقيق المطلب و توضيحه بل قد ذكرنا هناك ان العامي الملتفت الغير المقلد يتمكن من قصد القربة فلا وجه لما ذكره بعض مقرري بحث المرحوم آغا ضياء العراقي من عدم تمكن الجاهل الملتفت من قصد القربة في عباداته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 546

عدم جواز التقليد للمجتهد إذا علم العامي بخطئه في فتواه أو في مدركها

(الحادي عشر) انه قد تقدم ص 65 ان العامي إذا علم بخطإ المجتهد في الفتوى لا يجوز له تقليده فيها و هكذا إذا علم بخطئه في مدركها و هكذا لو عرف ذلك بعد تقليده له فيها فإنه يجب عليه العدول عنه فيها و ان احتمل صحة الفتوى في الواقع فمثلا المجتهد اعتمد في فتواه على خبر لاعتقاده انه خبر العادل و العامي يراه انه خبر الفاسق فلا يجوز له تقليده في هذه الفتوى و لا بقاؤه على تقليده فيها و ان احتمل صحة الفتوى في نفسها و مطابقتها للواقع لأن المجتهد إنما يفتي للعامي بما هو المأمور به العامي و العامي لما اعتقد عدم صحة هذا المدرك لم يكن مأمورا بالعمل به، و إن شئت قلت: ان أدلة الأحكام يشترك فيها العامي و المجتهد غاية الأمر ان العامي عاجز عن تحصيلها فيقوم المجتهد مقامه في تحصيلها و يكون نائبا عنه في معرفة الحكم منها فاذا كان العامي لا يرى هذا الشي ء دليلا على الحكم

و يعتقد بعدم صحته فلا يكون المجتهد قائما مقامه في تحصيله و لا نائبا عنه في معرفة الحكم منه لأنه إنما يقوم مقامه و ينوب منابه في الأدلة و هذا ليس بدليل عنده حتى يقوم مقامه و ينوب منابه في معرفة الحكم منه (و بعبارة أخرى) ان الحكم الظاهري الذي يفتي به المجتهد و يجب على المقلد متابعته فيه إنما موضوعه الأدلة الصحيحة لأنه إنما يستفاد من صغرى وجدانية و هي هذا ما قام عليه الدليل الصحيح و كبرى برهانية و هي و كلما قام عليه الدليل الصحيح فهو حكم اللّه تعالى في حقي و حق مقلدي ينتج من هذين المقدمتين هذا حكم اللّه في حقي و حق مقلدي فثبوت كونه حكما لمقلده باعتبار اندراجه في موضوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 547

الكبرى و هو ما قام عليه الدليل الصحيح و العامي حسب الفرض لا يراه مندرجا تحت هذا الموضوع في الواقع و ان مجتهده مشتبه في اندراجه تحته فالدليل غير تام المقدمات فلا يثبت الحكم الظاهري في نظر العامي.

(إن قلت) على هذا لو طلق أمام شاهدين عدلين في نظره أن لا يجوز لمن يجهل حالهما أو يعلم بفسقهما أن يتزوج من المرأة المطلقة لعدم صحة موضوع الطلاق عنده لعدم كونه أمام شاهدين عدلين (قلنا) مضافا لأصالة الصحة عند الجهل بالحال فيما ذكر من المثال ان ما نحن فيه أجنبي عن ذلك فان ما نحن فيه كان التكليف الواحد متوجه للمجتهد و العامي و ينوب أحدهما عن الآخر في معرفته بخلاف ما ذكر من المثال فان التكليف متوجه للمطلق و العدالة إنما هي شرط لتكليفه فاذا أحرزها صح عمله عند نفسه و

الشخص الآخر إنما هو مكلف بما هو صحيح عند الفاعل فموضوعه متحقق بالنسبة اليه.

(إن قلت) على هذا إذا كان العامي جاهلا بأدلة المجتهد و لم يعرفها أن لا يقلده في الفتوى و ان كان أعلم الموجودين لأنه لم يحرز صحة مدركه للفتوى و هو مخالف للإجماع (قلنا) لما كان المجتهد نائبا عن العامي في تحصيل الحكم كان إحراز المجتهد للشرائط كافيا عن إحراز العامي لها و بدلا عنه و إنما ذهبنا الى عدم الكفاية في صورة علم العامي بفساد مدرك المجتهد لعدم صلاحيته للنيابة عنه في هذه الصورة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 548

من قلد غير جامع للشروط

(الثاني عشر) إذا قلد من لم يكن جامعا للشرائط و مضى عليه مدة من الزمن كان كمن لم يقلد أصلا فحاله حال الجاهل القاصر إذا كان معذورا في تقليده و إلا فكالمقصر و قد تقدم ذلك ص 173.

وقت وجوب التقليد على العامي

(الثالث عشر) ان التقليد إنما يجب على العامي فيما إذا احتمل العقاب على مخالفة الواقع كما في الأفعال التي يحتمل حرمتها أو وجوبها إذا لم يحتط فيها لأنه بتركه للتقليد و الاحتياط يحتمل الضرر الأخروي و هو العقاب و دفعه واجب عقلا و كما في المعاملات إذا لم يحتط فيها و احتمل استحقاقه للعقاب فيما لو خالف الواقع فيها و كما فيما إذا دار العمل بين الواجب و الحرام فإنه يجب عليه التقليد لاحتماله العقاب بارتكاب أحد طرفيه و كما في شرطية شي ء أو جزئيته أو مانعيته إذا احتمل ان عدم تقليده في ذلك ينجر الى العقاب على مخالفة الواقع اما إذا كان العمل لم يحتمل فيه ذلك كالتسبيح فلا يجب التقليد فيه لعدم احتمال الضرر بمخالفة الواقع و كالمعاملة التي لا يحتمل أن ينجر عدم التقليد فيها على مخالفة الواقع كالهبة بالنسبة إلى الواهب و كالشرطية أو المانعية أو الجزئية في العمل المستحب الذي يدري انه مستحب كما لو شك في جزئية السورة في صلاة الزيارة فلا يجب التقليد لعدم احتماله العقاب على مخالفة الواقع في ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 549

الشك في التقليد و صحته
اشارة

(الرابع عشر) انه تارة الإنسان يشك في أصل صدور التقليد في أعماله الماضية بمعنى انها صدرت منه عن تقليد أم لا؟ فأصل الصحة لا يثبت صدورها عن تقليد و لكنك قد عرفت ص 36 ج 1 انه يثبت صحتها واقعا فيما إذا لم يعرف أنها بأي كيفية وقعت و اما مع علمه بكيفيتها و لكنه لا يدري بمطابقتها للواقع فأصل الصحة لا يجري فيها لأنه لا يجري في الشبهة الحكمية إذ لا يثبت به الحكم الشرعي و إنما يثبت

به مطابقة المأتي للحكم الشرعي الذي هو معنى الصحة كما قرر في محله (و أخرى) يشك في صحة التقليد بعد القطع بصدور أعماله عن تقليد و لكن يشك في أن تقليده كان صحيحا أم لا نظير من شك بعد صلاته ان طهارته كانت صحيحة أم لا فهو يعتقد صدور الطهارة منه و لكن شك في صحة الصلاة من جهة الشك في صحة الطهارة لا في أصل وجودها و هذا يتصور على وجوه:

(أحدها) أن يكون شكه في الصحة من قبيل الشك في الشبهة الحكمية كأن يكون قد قلد الأصم أو الاعمى ثمَّ شك في صحة ذلك ففي هذه الصورة لا بد له من الفحص و المعرفة لصحة تقليد مثل ذلك أم لا لأنه شك في أصل حجية تقليده.

(ثانيها) أن يشك في الصحة فعلا مع العلم بتحققها سابقا كما في صورة ما إذا شك في عروض الفسق و الجنون على المفتي و في هذه الصورة يبني على البقاء على الصحة استصحابا لها أو استصحاب لسببها و قد تقدم الكلام في ذلك ص 63 ج 1 و ص 532 ج 2.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 550

(ثالثها) أن يشك في صحة تقليده فعلا بنحو الشك الساري بأن يحتمل ان تقليده من أصله فاسد كأن احتمل ان مجتهده من أول الأمر فاسق أو مجنون أو ليس بمجتهد ففي هذه الصورة و ان تقدم الكلام منا فيها ص 63 ج 1 إلا أنه كان مجملا فنقول انه إذا علم بأن تقليده لم يكن مستندا لميزان شرعي فلا إشكال في فساد تقليده و تكون أعماله الماضية كمن عمل بلا تقليد أو اجتهاد و وجب عليه الفحص و ان علم

بأنه استند لميزان شرعي فلا إشكال أيضا في صحة تقليده بواسطة قيام الميزان الشرعي عليه و ان شك في استناد تقليده لميزان شرعي فيكون شاكا في صحة تقليده فيجب عليه بالنسبة إلى إعماله المستقبلة الفحص لان الشك في الطريق موجب لعدم حجيته و أصالة الصحة لا تجري في الأعمال المستقبلة. و عليه فيجب عليه الفحص (إلا اللهم أن يقال) ان أصالة الصحة لو كانت جارية في الأعمال نفسها صح ما ذكر لأنه لا بد من طريق لإحراز صحة أعماله في المستقبل و التقليد المذكور مشكوك صحته فلا بد من الفحص و اما إذا قلنا بجريان أصالة الصحة في نفس التقليد كما هو التحقيق كان التقليد صحيحا و لا حاجة الى الفحص لوجود الطريق الصحيح عنده بالنسبة لأعماله المستقبلة نظير ما إذا شك في صحة الصلاة من جهة صحة الوضوء فإن جرى أصل الصحة في الصلاة و قلنا بعدم جريانه في الوضوء وجب الوضوء للصلوات الأخرى و أما إذا قلنا بجريانه في الوضوء صار الوضوء هو الصحيح فتصح الصلوات الأخرى و لا يجب اعادة الوضوء بالنسبة إليها فهكذا فيما نحن فيه فان أصل الصحة لما جرى في التقليد كان التقليد صحيحا فيصح صدور الاعمال المستقبلة على طبقه و لا يجب الفحص (نعم) في المسائل التي لم يقلده فيها يجب عليه الفحص.

(ان قلت) ان التقليد بالنسبة للأعمال المستقبلة يكون عملا مستقبلا فلا يجري فيه أصل الصحة بالنسبة للأعمال المستقبلة (قلت) ان التقليد هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 551

نفس الاستناد و هو قد تحقق فيما مضى و الأعمال المستقبلة تستند اليه لا انه يتجدد بالنسبة إليها و اما بالنسبة إلى إعماله الماضية فلا مجرى

لأصل الصحة فيها لان الشك إنما كان فيها من جهة الشك في صحة التقليد فأصل الصحة لا يجري فيها. و إنما هو يجري في نفس التقليد فتكون صحيحة بواسطة أصالة الصحة في التقليد (نعم) لو قلنا ان أصل الصحة لا يجري في التقليد بالنسبة للأعمال المستقبلة و انه يجب الفحص بالنسبة إليها فإذا تفحص فان انكشف له بواسطة الفحص ان تقليده صحيح فلا كلام في بقائه عليه و صحة أعماله الماضية و ان انكشف له ان تقليده فاسد غير صحيح قلد غيره و رجع له في صحة أعماله الماضية و ان لم ينكشف له شيئا كان أصل الصحة في نفس تقليده جاريا لأنه عمل من الاعمال و معنى صحته انه عذر له لو كانت الاعمال الماضية التي أتى بها على طبق قول مقلده مخالفة للواقع و لكنه لا يبقى على تقليده لأن أصل الصحة كما هو الفرض لا يجري بالنسبة للعمل المستقبل (و الحاصل) ان نفس أعماله الماضية الواقعة على طبق تقليده المذكور بواسطة أصالة الصحة في تقليده فيها يكون حاله بالنسبة إليها كمن عدل عن تقليد مجتهد لآخر مخالف له في الفتوى لأنه ببركة أصالة الصحة في تقليده الماضي كانت واقعة عن تقليد صحيح فيكون حالها حال من أتى بأعمال مقلدا بها لمجتهد جامع للشرائط ثمَّ رجع لغيره لموته أو جنونه أو هرمة فأفتى بصحتها (نعم) في صورة الرجوع قد تكون معلومة المخالفة لفتوى المجتهد الحالي و قد تكون موافقة و قد تكون مشكوكة الحال و قد بنينا فيما سبق على عدم وجوب الإعادة أو القضاء في جميع الصور كما ان السيرة على ذلك و (دعوى) أن أصالة الصحة لا تجري في التقليد لاختصاص

أصالة الصحة بما إذا كان الشك في انطباق المأمور به على المأتي به دون ما إذا شك في وجود الأمر كما فيما نحن فيه للشك في وجود الأمر الظاهري للشك في حجية الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 552

(فاسدة) لوضوح ان الشك في صحة التقليد نظير الشك في صحة اجتهاده بعد انقضاء أمده لأنه شك في انطباق الأمر بالتقليد للعامي على تقليده المذكور (نعم) لو كان شكه في التقليد شكا في الشبهة الحكمية صح ما ذكره المدعي كما تقدم لكن محل الكلام هو الشك بنحو الشبهة الموضوعية و (دعوى) ان هذا إنما يتم في صورة معرفة الواقع مع عدم الالتفات من العامي الى ان الصادر منه مطابق له أم لا كما لو صدر منه تقليد لكن لا يدري انه كان لزيد المستجمع للشرائط أو لعمر الفاقد لها ففي هذه الصورة تجري أصالة الصحة و كما لو شخص الماء المطلق من الماء المضاف و لكنه بعد الوضوء شك انه توضأ من المضاف أو من المطلق أو ميز جهة القبلة عن غيرها و بعد الصلاة شك في انه صلى لجهة القبلة المعلومة لديه أم لغيرها فإنه تجري أصالة الصحة و أما في صورة ما إذا قلد شخصا يعرفه بعينه لكنه تردد في أنه مستجمع للشرائط أم لا فلا تجري أصالة الصحة نظير ما إذا صلى إلى جهة معينة و لكنه تردد أنها القبلة أو غيرها أو توضأ بماء معين و لكنه تردد انه ماء مضاف أو مطلق فلا تجري أصالة الصحة (فاسدة) لما تقدم ج 1 ص 37.

(رابعها) أن يشك في صحة تقليده الماضي مع العلم بصحة تقليده فعلا كأن يعلم فعلا ان هذا

المجتهد الذي رجع إليه أعلم الموجودين فعلا و لكنه يشك في أعلميته سابقا حينما قلده و في هذه الصورة لا يجب عليه الفحص بل يبني على صحة تقليده الماضي ببركة أصالة الصحة فتكون أعماله الماضية واقعة عن تقليد صحيح و مع مخالفتها لتقليده الفعلي يكون حاله كمن عدل عن تقليد مجتهد لآخر مخالف له في الفتوى، و قد أورد على هذا المطلب بعدة إيرادات (أحدها) ما وجدته بخط المرحوم أستاذي و والدي الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء نقلا عن أستاذه المرحوم آقا ضياء العراقي من أن في جريان أصالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 553

الصحة في الأخذ بالحجج الشرعية على الأحكام الكلية نظر، للشك في موضوع الحجية الشرعية الذي هو عنوان نفس العمل (نعم) في التقليد و إن كان جهة الصحة صفة زائدة لكن التقليد ليس موضوعا للحكم الشرعي و إنما هو موضوع إلزام العقل بمناط لزوم تحصيل الحجة و مثل هذا الحكم من الأحكام العقلية الخارجة عن مورد التعبدات الشرعية كما لا يخفى كما ان لنفس العمل بعنوان نفسه أيضا جهة صحة و فساد لكن الشك فيها من جهة راجع إلى الشبهة الحكمية الغير الجاري فيها الأصل المزبور، انتهى. و لا يخفى ما فيه فان الأصول تجري في المجعولات الشرعية إذا كانت لها آثار عقلية فيستصحب الوجوب و يرتب عليه الأثر العقلي و هو استحقاق العقاب على المخالفة و عدم استحقاق العقاب مع الموافقة و فيما نحن فيه أصالة الصحة في التقليد عبارة عن إثبات أن التقليد المذكور هو من التقليد المجعول شرعا حجيته و لازم التعبد بذلك هو عدم استحقاق العقاب بالمخالفة للواقع نظير التعبد بصحة العمل فان معناه مطابقة

العمل للأمر المولوي تعبدا و يثبت به أثره العقلي و هو عدم العقاب لو خالف الواقع.

ثاني الإيرادات: ان أصالة الصحة لا عموم لها للمورد (و لا يخفى ما فيه) فإنها إن كانت مستندها بناء العقلاء، فالعقلاء إذا شكوا في أن أعمالهم المتقدمة وقعت عن مستند صحيح يبنون على انهم قد أتوا به عن مستند صحيح و إن كانت من جهة الأخبار فلعموم قوله (ع): إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه و للعموم المستفاد من التعليل في قوله (انه حين ما يتوضأ اذكر) فإنه يستفاد منه انه كلما كان أذكر لم يعتد بشكه.

ثالث الإيرادات: ان أصالة الصحة سواء أخذناها من بناء العقلاء أو من الأخبار فهي إنما تجري في العمل بعد انتهائه، و اما لو شك في الصحة في أثنائه فلا تجري فيه كما يرشد اليه قوله (ع): إنما الشك في شي ء إذا لم تجزه. و عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 554

فأصالة الصحة لا تجري في نفس التقليد لأن التقليد أمر استمراري فهو ليس بعمل قد انتهى فلا يجري فيه أصل الصحة (و فيه) ان التقليد بالرجوع إلى الفتوى قد تحقق و وقعت الأعمال على طبقه من جهة الاستناد اليه لا انه يتجدد بتجددها نظير إجراء أصالة الصحة في الطهارة عند الشك فيها مع أنها مستمرة فإن ذلك باعتبار عملها الابتدائي و هكذا بالنسبة إلى التقليد فإنما تجري فيه أصالة الصحة في عمله الابتدائي و الاستمرار عليه من آثاره الشرعية أو ليس إلا عبارة عن العمل به

تنبيه ينفع فيما تقدم إذا جهل المكلف مقدار الفائت منه من الواجبات
اشارة

قد تقدم ج 1 ص 41 الكلام فيه و لا بأس بالإعادة فإنها لا تخلو عن الإفادة فنقول: إذا شك الإنسان في

مقدار الفائت منه من الفرائض كأن لا يدري انه قد فاته خمس سنين من الصوم أو الصلاة أو أكثر أو شك في أنه فعل ما يوجب عليه كفارة إطعام عشرة مساكين أو كفارة إطعام ستين مسكينا بنحو الشبهة الموضوعية أو الواجب كان عليه في السابق من الزكاة و الخمس ما يساوي خمسة دنانير أو أكثر و نحو ذلك

[راي المشهور فيما إذا جهل مقدار الفائت و حججهم على ذلك]

، فالمعروف بين الأصحاب بل قيل انه المقطوع به في كلامهم كما عن المدارك بل ذكر المرحوم المحقق الشيخ جواد ملا كتاب ظهور الإجماع عليه. و عن الشيخ الأنصاري أنه المقطوع به من المفيد الى الشهيد الثاني (ره) هو الإتيان بالعمل حتى يظن بفراغ ذمته منه و مستندهم كما يظهر من الكثير منهم إنما هو قاعدة الاشتغال و مقتضاها هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 555

الإتيان بالعمل حتى يحصل له اليقين بفراغ ذمته لكنهم إنما اكتفوا بالظن بالفراغ من وجوه:

(أحدها) ان الظاهر من حال المسلم أن لا يفوت منه الواجب.

(ثانيها) ان الظن هنا يقوم مقام العلم بالفراغ للعسر و الحرج و الضرورة تقدر بقدرها.

(ثالثها) صحيحة عبد اللّه بن سنان الواردة في قضاء النوافل قال قلت لأبي عبد اللّه (ع) أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع؟ قال فليصلي حتى لا يدري كم صلى من كثرتها فيكون قد قضى بقدر علمه من ذلك فإنه بواسطة التعليل يفهم منها ان الرجوع الى المظنة في مثل ذلك هو الوجه الأتم و انه نهاية الاحتياط في فراغ الذمة و تدل بمفهوم الأولوية على عدم الاكتفاء بالإتيان بالقدر المتيقن في الواجبات لأنه إذا في النوافل لا يكتفي بذلك فبالطريق

الاولى أن لا يكتفي بذلك في الفرائض.

و نظير ذلك خبر علي بن جعفر المروي عن قرب الاسناد عن أخيه موسى (ع) قال سألته عن الرجل ينسى ما عليه من النافلة و هو يريد أن يقضي كيف يقضي؟

قال (ع) يقضي حتى يرى انه قد زاد على ما عليه و أتم.

(رابعها) المرسل الدائر على ألسنتهم (من أن المرء متعبد بظنه).

(خامسها) خبر إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن الصلاة تجتمع علي؟ قال: تحر و اقضها.

(سادسها) نقل الإجماع على ذلك الى زمان الشهيد الثاني كما يظهر من الشيخ الأنصاري و صاحب المدارك و الشيخ ملا كتاب كما تقدم نقل كلامهم (ره) فالتحقيق أن يقال ان ما كان منه موقتا كالصلاة و الصيام فالشك في الزائد يكون شكا في خارج الوقت و شكا فيما مضى و مقتضى القاعدة عدم الالتفات اليه لما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 556

في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه (ع) إذا خرجت من شي ء و دخلت في غيره فشكك ليس بشي ء. و صحيح إسماعيل كل شي ء شك فيه و دخل في غيره و جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه، و أما غير الموقت كمثال الكفارة و الزكاة و الخمس فالأصل عدم وجوب الزائد لعدم العلم بوجوبه عليه سابقا فلا يستصحب وجوبه نظير ما إذا شك في أنه مقروض لزيد مائة دينار أو ألف دينار فان الواجب عليه أن يدفع مائة دينار.

(إن قلت) انه في صورة الموقت إذا علم الوقت و شك في أنه أتى بالواجب فيه في جميع أجزائه أم في بعضها دون بعضها الآخر فاستصحاب عدم الإتيان بالعمل الواجب في تلك الاجزاء يقتضي وجوبها عليه

فمثلا لو شك ان في الخمس السنين التي كان في المدرسة صلى ثلاثة سنين منها فقط أو صلى فيها بأجمعها فيستصحب عدم الإتيان بها في سنتين منها فيجب عليه قضائها (قلنا) انه منقوض بصورة ما إذا شك في إتيان العمل الموقت بعد أن خرج الوقت فإنه لا يستصحب عدم الإتيان فيه و لا يقضي العمل فكذا ما نحن فيه فإنه يكون الشك من قبيل هذا الشك حرفا بحرف مضافا الى أن موضوع القضاء هو صدق الفوت لا مجرد عدم الإتيان و باستصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت لأنه أمر وجودي و هو ذهاب الشي ء عنه في جميع الوقت أو من قبيل عدم الملكة و لذا قبل الوقت و في أثناء الوقت يصدق عدم الإتيان بالعمل و لا يصدق فوته، و لا ريب ان الذهاب أو عدم العمل المقيد بجميع الوقت ليس له حالة سابقة حتى يستصحب و إنما الذي له الحالة السابقة هو عدم الإتيان بالعمل الغير المقيد بوقت بل المستصحب العدم الأزلي للفوت (و الحاصل) ان عدم الإتيان و إن كان له حالة سابقة إلا أنه ليس بموضوع للتكليف بالقضاء، و الفوت و ان كان موضوعا للقضاء لكنه ليس له حالة سابقة حتى يستصحب بل المستصحب عدمه، و لو سلمنا جريان الاستصحاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 557

فهو محكوم بما ذكرناه من الأدلة الدالة على عدم الالتفات للشك في الواجب بعد خروج وقته.

(إن قلت) هذا يتم ان قلنا بأن القضاء تكليف آخر جديد موضوعه الفوت، و لكن الظاهر ان الأمر بالقضاء كاشف عن بقاء الأمر السابق فان لسانه لسان الأداء للتكليف السابق لا انه تكليف آخر، و عليه فالتكليف السابق الثابت

في السنتين المشكوك أدائه فيهما في المثال المتقدم يستصحب بقائه و عدم أدائه (قلنا) مضافا الى عدم تسليم ذلك هو منقوض بصورة ما إذا شك في فوت فريضة معينة منه بعد خروج وقتها، و حله انه إنما يستكشف به بقاء التكليف السابق في مورد الفوت، و الفوت غير محرز عندنا بل الأصل عدمه، مضافا الى أن الاخبار الصحيحة المتقدمة الدالة على إلغاء الشك بعد خروج الوقت حاكمة على مثل هذا الأصل.

[صورة ما إذا جهل مقدار الفائت مع سبق العلم بمقداره ثمَّ نسيه]

(إن قلت) هذا لا يتم فيما إذا علم بمقدار الفائت ثمَّ طرأ عليه النسيان فلم يعرف مقدار الفائت كما إذا فرض انه كان عالما بمقدار الذي فاته من الصلاة ثمَّ طرأ عليه النسيان فلم يتذكر ان الذي كان عالما بفوته صلاة خمس سنين أو ثلاثة سنين فإنه ينسب الى المحقق صاحب الحاشية على المعالم الشيخ محمد تقى (ره) انه ذهب في هذه الصورة إلى وجوب الاحتياط بإتيان الزائد بأن يصلي في المثال المذكور خمس سنين لان العلم السابق بمقدار الفرائض قد نجزها على المكلف فلا يكون عروض النسيان موجبا لارتفاع التكليف المنجز عليه فهو بعد عروض النسيان يحتمل أن الزائد قد تنجز عليه و عروض النسيان لا يرفعه فيكون شكه في الزائد شكا في تكليف لو كان موجودا لكان منجزا عليه لأنه لا يرفعه النسيان نظير الشك في التكليف قبل الفحص، و أصل البراءة لا يجري في التكليف المتنجز لو كان موجودا فلا محالة يحكم العقل بوجوب الاحتياط دفعا للضرر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 558

المحتمل (قلنا) ان العلم إنما ينجز ما دام موجودا فان زال زال تنجيز التكليف إذ لا دليل عليه حينئذ فلم يكن التكليف حال ارتفاع العلم به

واصل إلينا و لذا لو حدث العلم بالتكليف ثمَّ حدث بعده الشك الساري لم يتنجز التكليف بعد حدوث الشك المذكورة لعدم الدليل فعلا عليه فنحن لا ندعي أن عروض النسيان موجب لزوال التكليف و إنما ندعي ان الزائد بعد النسيان لا دليل عليه فيرفعه أصل البراءة أو أدلة إلغاء الشك بعد خروج الوقت (و دعوى) ان العلم الإجمالي إذا حصل و نجز التكليف الذي هو متعلقه ثمَّ فقد بعد ذلك أحد أطرافه أو خرج عن محل الابتلاء فيصير الطرف الآخر مشكوكا لا معلوما و مع هذا يبقى التكليف الذي هو متعلقه منجزا لو كان موجودا فصار العلم حدوثا مؤثرا لا بقاءا (فاسدة) فإن العلم الإجمالي لم يتبدل بذلك و إنما زال تنجز التكليف في أحد أطرافه و بقي تنجزه على حاله في طرفه الآخر فالعلم المنجز لم يزل بخلاف ما نحن فيه فان العلم قد زال و عليه فلم يبق دليل على الزائد على القدر المتيقن فيقبح العقاب عليه لأنه عقاب بلا بيان و يكون غير معلوم وجوبه فيكون مرفوعا لأنه رفع عن العباد ما لا يعلمون.

[المناقشة في أدلة المشهور]

(و أما ما تقدم من الأدلة للمشهور) ففي الأول منها انه لا دليل على حجية هذا الظهور. و في الثاني منها انه لا عسر و لا حرج غالبا و في مورد تحققه يقتصر على ما يرتفع به الحرج لا على حصول الظن بالوفاء كما هو المدعى على أن العسر و الحرج إذا حدث من سوء اختيار العبد فلا دليل على رفعه لأن أدلته واردة في مقام التخفيف عن العباد. و في الثالث منها ان الظاهر من الرواية الاكتفاء بمقدار علمه و يقينه إذ (مقدار علمه) هو القدر المتيقن،

مع انها في النافلة فلا وجه لقياس الفريضة عليها مع انها غير دالة على الاكتفاء بالظن و الأولوية ممنوعة لأن في قضاء الفريضة إلزام و تحتيم بخلاف قضاء النافلة فإنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 559

ليس فيه ذلك، ألا ترى انه في النافلة يستحب البناء على الأقل فيلزم التكليف الزائد بخلاف الفريضة فإنه يبني على الأكثر و فيه تخفيف للكلفة فتأمل.

و في الرابع منها انه ضعيف مرسل على أنه غير واضح الدلالة. و في الخامس منها انه خبر ضعيف. و في السادس منها انه إجماع منقول ليس بحجة على انه يحتمل فيه استناد المجمعين إلى الأدلة المذكورة التي عرفت فسادها.

عدم جواز فتوى العامي لغيره

(الخامس عشر) لا يجوز للمجتهد و لا العامي المقلد أن يفتي للغير حتى بما أفتى له مرجع تقليده على نحو تكون له لا بنحو النقل عن مجتهده و الحكاية عنه و إلا فلا إشكال في الجواز. لأنها منه فتوى بلا علم و قد قام الإجماع على حرمتها و الروايات المتظافرة على النهي عنها كما قد تقدم ص 538.

(إن قلت) ان الروايات الدالة على النهي عن الفتوى بغير العلم لا تشمل المقلد المفتي بفتوى مرجعه لأنه عالم بالحكم من أمارة معتبرة و هو فتوى مجتهده كما ان المجتهد يعلم به من الكتاب و السنة (قلنا) ان معرفة الحكم من الفتوى ليس من المعرفة بالعلم أو العلمي و لذا التقليد لا يسمى بالعلم و لا بالعلمي لا لغة و لا عرفا فالأدلة الدالة على النهي عن الفتوى بغير العلم تشمله و يؤيدها العمومات الدالة على حرمة الكذب إذ فيه تلبيسا على الغير إذ العالم إنما يسئل عما عنده و ما استفاده باجتهاده لا عما

قلد به الغير و قد أرسل علمائنا الاعلام هذا الحكم بدون ذكر الخلاف فيه من أحد منا كما في المعارج و التهذيب و المنية، خلافا للعامة فقد حكي الخلاف عنهم فيه (نعم) للعامي أن ينقل فتوى مجتهده لغيره كما يجوز له نقل سائر الحوادث.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 560

وجوب الفحص عن المجتهد الجامع للشرائط على العامي و في زمن الفحص يجب عليه العمل بالاحتياط

(السادس عشر) انه قد عرفت انه يجب على العامي الفحص عن جامعية المجتهد الذي يريد تقليده للشرائط لأن الأخذ بفتواه بدون إحراز الشرائط أخذ بما لم يحرز حجيته، و هل يجب عليه الاحتياط في زمن الفحص أم لا، ظاهر عبارة السيد في عروته وجوب الاحتياط زمن الفحص حتى عن الأعلم (و التحقيق أن يقال) انه في زمان الفحص عن المجتهد حيث انه لم يطلع على المجتهد و لا دليل على حجية قول غيره و قد ابتلي بالمسألة فيجب عليه الاحتياط لعدم الأمن من العقاب بدونه، و الاحتياط الواجب هنا هو الأخذ بأحوط الفتاوى التي يعلم بوجود من يصح تقليده لا بأحوط الاحتمالات للعلم بأن ما عداها ليس بحجة عليه، و مع عدم إمكان الاحتياط لا يبعد وجوب اختيار ما هو الأقرب للواقع كالفتوى التي توافق المشهور أو ما حصل الظن أو الاطمئنان بها لأنها الأقرب للواقع بعد العلم بعدم سقوط التكليف و عدم وجود طريق اليه، و اما زمان الفحص عن الأعلم فلا يبعد جواز الأخذ بفتوى كل من المجتهدين الى أن يتبين عنده الأعلم منهم بناء على ان العلم بالفتوى المخالفة من الأعلم هو المانع من جواز الأخذ بفتوى غيره، و المفروض انه لم يعلم بذلك لأنه في زمن الفحص (و الغريب) ان من بنى على هذا المطلب و لكنه لم يلتفت

في هذا المقام الى ذلك فأفتى بوجوب الفحص، و أما بناء على أن تكون الأعلمية شرطا، فعليه الاحتياط بين الفتاوى ان علم بأعلمية أحدهم إجمالا و إلا فيتخير مع تساوي الاحتمالات و مع وجود الاحتمال في أحدهم دون البقية يتعين الأخذ بمحتمل الأعلمية على التفصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 561

المتقدم. هذا كله في التقليد الابتدائي، و أما مثل ما لو قلد شخصا ثمَّ مات ففي زمان الفحص عمن يرجع اليه فله أن يبقى على تقليده السابق إذا كان عنده حجة على جواز البقاء.

الاستفتاء فيما يتعلق بالوصايا و غيرها

(السابع عشر) لا يجوز أن يستفتي فيما يتعلق بالوصايا و الأقارير و الايمان و نحوها مما يتعلق بمراد اللافظ إلا من كان خبيرا بمرادات بلد الموصي و المقر و الحالف بحسب العادة الجارية بينهم كما انه لا يجوز للمفتي أن يفتي إلا إذا كان خبيرا بمراداتهم لأن الألفاظ المستعملة فيها إنما تكون حجة في ذلك قال الشهيد الثاني (ره) لا يجوز أن يفتي بما يتعلق بألفاظ الايمان و الأقارير و الوصايا و نحوها إلا من كان من أهل بلد اللافظ أو خبير بمرادهم في العادة.

وجوب معرفة كلام المفتي

(الثامن عشر) ان المستفتي عليه أن يعرف كلام المفتي إذا شافهه بالسؤال فيأخذ بظاهره و عامه و مطلقه و ان لم يعرفه ترجم له و هل يكفي في الترجمة الواحد أو لا بد من الاثنين الظاهر كفاية الواحد و اما إذا كاتبه فلا بد له من إحراز انها كتابته و الظاهر كفاية الاطمئنان و لذا يعمل برسالته و قد تقدم ذلك في الشرط السابع ص 53

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 562

خاتمة في حقوق العلم و آداب المعلم و المتعلم

اشارة

و لا بأس بختم هذا الموضوع بذكر آداب المعلم و المتعلم و حقوق العلم و آدابه التي قد استفدناها من كلمات العلماء الاعلام و هي و ان كانت لا تخص العامي المقلد و ينتفع بها الفقيه و غيره إلا انها فيها النفع العظيم للعامي المقلد و ما يلزمه عند طلبه المسألة من مجتهده و ما ينبغي له إذا عرف الحكم الشرعي من مورده.

[ (أحدها) إخلاص النية في طلب العلم و الفتوى]

اشارة

(أحدها) ان حق العلم إخلاص النية للّه تعالى في طلبه و بذله و في تعليمه و تعلمه فإن الأعمال بالنيات و بها تحسن الأمور و تطيب كما ان بها يقبح الخير و يشين و بسببها تكون الأفعال تارة وبالا على صاحبها مكتوبا في ديوان السيئات و أخرى سعادة يرتقي بها أعلى الدرجات، فعلى طالب العلم و باذله أن يقصد بعمله وجه اللّه تعالى و امتثال أمره و استصلاح نفسه و إرشاد غيره و لا يقصد بذلك شيئا من أغراض الدنيا و أعراضها من مال أو جاه أو عجب أو رياء أو حب المدح و الثناء أو شهرة بين الأصحاب أو امتياز عن النظائر و الأشباه أو افتخار على الناس أو ترفع على الأقران أو غير ذلك من المقاصد الفاسدة التي ثمرتها الخذلان من اللّه تعالى و البعد عن دار الجنان فيصير من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون انهم يحسنون صنعا. قال النبي (ص): إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته الى اللّه و رسوله فهجرته الى اللّه و رسوله و من كان هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 563

ما هاجر

اليه، قال الشهيد الثاني (ره) و هذا الخبر من أصول الإسلام و أحد قواعده و أول دعائمه قيل و هو ثلث العلم (و وجهه بعض الفضلاء) بأن كسب العبد يكون بقلبه و لسانه و نياته فالنية أحد أقسام كسبه الثلاثة و هي أرجحها لأنها تكون عبادة بانفرادها بخلاف القسمين الأخيرين

[ما يستفتح به السلف كتبهم.]

و كان السلف و جماعة من تابعيهم يستفتحون المصنفات بهذا الحديث تنبيها للمطالع على لزوم حسن النية و تصحيحها و اهتمامه بذلك و اعتنائه به. و روي عنه (ص): إنما يبعث الناس على نياتهم و ان نية المرء خير من عمله.

و في الكافي عن أبي جعفر (ع): من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار أن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها. و في الكافي أيضا عن أبي عبد اللّه (ع): من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب و من أراد به خير الآخرة أعطاه اللّه خير الدنيا و الآخرة. و في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع): من تعلم العلم و عمل به و علم للّه دعي في ملكوت السموات عظيما، فقيل تعلم للّه و عمل للّه و علم للّه. و في الكافي في خبر سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع): و من أخذ العلم من أهله و عمل بعلمه نجا و من أراد به الدنيا فهي حظه.

[ما نقله لي جدي الهادي قدس سره في إخلاص النية في طلب العلم]

و إخلاص النية مما يحق في كل عمل و ان كان في العلم أحق. إلا أنه لا يخفى قد نقل لي جدي الهادي كاشف الغطاء عن آبائه الكرام عن جدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء انه يقول انه طالب العلم و ان طلبه للدنيا و لكن بعد ذلك تنقلب نيته الى طلب الآخرة و يؤيد ذلك ما ورد عنهم (ع): اطلبوا العلم و لو لغير اللّه فإنه ينجر الى اللّه تعالى. و ما ورد في شرف العلم و فضله من قوله (ع) سلك اللّه به طريقا إلى الجنة فهو ظاهر في ذلك

[حكاية الشاه عباس (ره) مع ملا عبد اللّه التوني (ره)]

(و يحكى) ان الشاه عباس الثاني الصفوي المتوفى سنة 1077 هجرية دخل مدرسة المولى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 564

ملا عبد اللّه التوني المتوفى سنة 1071 هجرية صاحب الوافية في الأصول و كان معاصرا للسيد الداماد فرأى أن المدرسة خالية من طلبة العلم فسأل الشاه المولى ملا عبد اللّه عن السبب في ذلك فقال له انى أجيب السلطان بعد أيام، فلما كان بعد أيام ذهب ملا عبد اللّه المذكور لمجلس السلطان فأكرم قدومه و قال له السلطان اطلب مني ما يهمك فقال الملا ما يهمني شي ء فأصر عليه السلطان فقال له لي إليك حاجة واحدة و هي انى أركب فرس السلطان و السلطان يمشي قدامي راجلا حتى يجتاز الميدان الفلاني فسأله السلطان عن الغرض من ذلك فقال الملا أبينه لك بعد أيام، ثمَّ ان السلطان فعل ما سأله الملا و بعد أيام عاد السلطان إلى المدرسة فرآها مملوءة من الطلاب مشحونة بالتلاميذ و هي مجدة في التحصيل غاية الجد فسأل السلطان عن السبب في تغير الحالة فقال الملا السبب فيما يراه حضرة السلطان و فيما طلبت منه ان الناس ما كانوا عارفين قدر العلم و فضيلة العلماء حتى إذا رأوا بعيونهم من فعل السلطان مع العالم و مشيه قدامه راجلا و هو راكب فعلموا من ذلك ان مرتبة العالم في الدنيا أعلى من مرتبة السلطان، فطلبا لهذه المرتبة و طمعا في الجاه و الجلال و جمع المال اجتمعوا في المدرسة وجدوا في تحصيل العلم و ان تمَّ لهم ذلك و بلغوا بعض المراتب العلمية تتبدل نياتهم و تصلح سرائرهم و تحصل لهم القربة في سائر العبادات.

[ (ثانيها) العمل بالعلم أو الفتوى و عدم العمل بدونهما]

(ثانيها) العمل بالعلم و عدم العمل

بدونه فيما يطلب للعمل إذ بدون ذلك لا ينفعه علمه في سلامة العاقبة و كان كمن به مرض شديد و هو يعلم كيفية العلاج و ترتيب الأدوية فيظن ان ذلك يكفيه في خلاصه عن مرضه و يشفيه بدون العمل به فلا يزال يزداد مرضه حتى يهلكه. قال في المعالم: و يجب على العالم العمل كما يجب على غيره لكنه في حق العالم آكد و من ثمَّ جعل اللّه تعالى ثواب المطيعات من نساء النبي (ص) و عقاب العاصيات منهن ضعف ما لغيرهن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 565

و في الحديث في الكافي لا تطلبوا علم ما لا تعلمون و لما تعملوا بما علمتم فان العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفرا و لم يزدد من اللّه إلا بعدا.

و في الكافي ان العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا ا ه و لو فرض ان آحادا من الأكياس ممن لا خبرة لهم بحاله اهتدوا بعلمه كان ذلك حسرة و وبالا عليه كما في الكافي عن النبي (ص) العلماء رجلان رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج و عالم تارك لعلمه فهذا هالك و ان أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه و ان أشد الناس ندامة و حسرة رجل دعا عبدا الى اللّه فاستجاب له و قبل منه فأطاع اللّه فأدخله اللّه الجنة و أدخل الداعي إلى النار بتركه لعلمه و اتباعه الهوى و طول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و طول الأمل ينسي الآخرة ا ه. على أن العمل عقال العلم و هو بدونه في معرض الذهاب. و في الكافي

بسنده الى أبي عبد اللّه (ع): العلم مقرون الى العمل فمن علم عمل و من عمل علم، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلا ارتحل و في الكافي أيضا بسنده الى هاشم بن البريد قال: جاء رجل الى علي بن الحسين (ع) فسأله عن مسائل ثمَّ عاد ليسأل عن مثلها فقال (ع): مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون و لما تعملوا بما علمتم فان العالم إذا لم يعمل بعلمه لم يزدد صاحبه إلا كفرا و لم يزدد من اللّه إلا بعدا، هذا في العلم بلا عمل، و اما العمل بدون العلم. ففي الكافي و الفقيه بسندهما عن أبي عبد اللّه (ع): ان العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا و روي في أمالي الصدوق و المحاسن و فقه الرضا و في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال رسول اللّه (ص) من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

[ (ثالثها) القول بما يعلم و الوقوف عند ما لا يعلم و حرمة الفتوى بلا روية و القضاء بلا بصيرة]

(ثالثها) القول بما يعلم و الوقوف عند ما لا يعلم فلا يتسرع بالفتوى و القول و يغلب عليه حب الدنيا الدنية و تفتنه محاسنها المادية فيزج نفسه في الفتوى بلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 566

بصيرة و يجلس للقضاء من دون معرفة و روية شوقا للرئاسة و طلبا للزعامة، فان حب الشي ء يعمي و يصم و المساهلة و المسامحة في ذلك فيها أعظم الخطر و أشد الضرر و لقد أخبر اللّه تعالى عن أعز خلقه عنده و أقربه منزلة لديه و هو رسول اللّه (ص) بقوله تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ

لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ. و في الكافي عن زرارة بن أعين قال سألت أبا جعفر (ع) ما حق اللّه على العباد قال أن يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون. و في الكافي مثله عن أبي عبد اللّه (ع) و زاد فان فعلوا ذلك فقد أدوا الى اللّه حقه. و في الكافي الموثق عن أبى جعفر (ع) و ما علمتم فقولوا و ما لم تعلموا فقولوا اللّه أعلم و في الكافي كالصحيح عن أبى عبد اللّه قال: للعالم إذا سئل عن شي ء و هو لا يعلمه أن يقول اللّه أعلم و ليس لغير العالم أن يقول ذلك. و في الكافي الصحيح عن أبى عبد اللّه (ع): إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل لا أدري و لا يقل اللّه أعلم فيوقع في قلب صاحبه شكا و إذا قال المسؤول لا أدري فلا يتهمه السائل. و عن علي (ع) إذا سئلتم عما لا تعلمون فاهربوا، قالوا و كيف الهرب؟

قال: تقولون اللّه أعلم. فعليك الاحتراز عن الفتوى بالرأي و عن التدين بما لا تعلم ففي الصحيح في الكافي عن أبى عبد اللّه (ع): إياك و خصلتين ففيهما هلك من هلك إياك أن تفتي الناس برأيك و تدين بما لا تعلم. و في الكافي الصحيح بسنده الى أبي جعفر (ع) من أفتى الناس بغير علم و لا هدى لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه. و عن الصادق (ع) كل مفتي ضامن. و عن علي (ع) في ذم علماء السوء و قضاتهم تبكي منه المواريث و تصرخ منه الدماء و يستحل بقضائه الفرج الحرام و يحرم بقضائه الفرج الحلال

[ (رابعها) التفهم للمسألة و السؤال عن المشكلة]

اشارة

(رابعها)

التفهم للمسألة و السؤال عما أشكل أمره من العلم بأن يستوضح في كل مقام ما يليق به من تفهم المسألة و تعرّفها دون الاقتصار على مجرد حفظ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 567

الألفاظ و الأقوال فيكون مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا. و في الكافي عن أمير المؤمنين (ع) «لا خير في علم ليس فيه تفهم». و في الكافي بسنده عن زرارة و محمد و العجلي قالوا: قال أبو عبد اللّه (ع) لحمران بن أعين في شي ء سأله إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون.

[ما ينسب لمولاي أمير المؤمنين (ع) من الشعر في هذا المقام]

و عن أمالي الشيخ (ره) روى منيف عن مولاه جعفر (ع) عن أبيه عن جده قال: قال علي (ع):

صبرت على مر الأمور كراهة و أيقنت في ذاك الصواب من الأمر

إذا كنت لا تدري و لم تك سائلا عن العلم من يدري جهلت و لا تدري

[ (خامسها) الاستبصار في أنحاء الحق و متشابهاته]

(خامسها) الاستبصار في احناء الحق و متشابهاته حتى لا ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة كما في حديث أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد النخعي في وصف حملة العلوم المعروف.

(سادسها) بذل العلم لأهله.

قال اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ. و عن الكافي بسنده الى أبى عبد اللّه (ع) قال: قرأت في كتاب علي ان اللّه لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال لان العلم قبل الجهل. و روي عنهم (ع) من كتم علما ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار. و عن أبى جعفر (ع) في الكافي من علّم باب هدى فله مثل أجر من عمل به و لا ينقص أولئك من أجورهم شيئا. و من علم باب الضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به و لا ينقص أولئك من أوزارهم شيئا و في حديث آخر في الكافي و ان مات. و عن رسول اللّه (ص): علماء هذه الأمة رجلان رجل أتاه اللّه علما فبذله للناس و لم يأخذ عليه طمعا و لم يشتريه ثمنا فذلك يستغفر له حيتان البحر و دواب البر و الطير في جو السماء و يقدم على اللّه سيدا شريفا حتى يرافق المرسلين، و رجل أتاه اللّه علما فبخل به على عباد اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 568

و أخذ عليه طمعا و شرى به ثمنا فذلك يلجم يوم القيامة بلجام من نار و ينادي مناد: هذا الذي أتاه اللّه علما فبخل على عباده و أخذ عليه طمعا و اشترى به

ثمنا حتى يفرغ من الحساب. و روي عن النبي (ص) إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنه اللّه. و أيضا العلم يقوى بالبذل و يتكامل كما ورد عن أمير المؤمنين (ع) العلم يزكى بالإنفاق. و في الكافي بسنده الى أبى جعفر (ع) قال زكاة العلم أن تعلمه عباد اللّه.

و كما يراعى في زكاة المال استحقاق المبذول له و أهليته لها حتى يترتب على إعطائه ما وعد اللّه المزكين من المثوبات فيمنع غير المستحق الذي لا يليق به العطاء و ان سأل إلحافا كذلك يراعى في بذل العلم كونه لأهله المستوجبين له المنتفعين به.

[ (سابعها) منع الفتوى و العلم عن غير أهلها]

اشارة

(سابعها) منعه عن غير أهله حذرا عن الظلم و الكدر و تعليق الدر على أعناق أهل سقر. و في الكافي عن أبى عبد اللّه (ع) قال انه قام عيسى بن مريم (ع) خطيبا في بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

[ما ينسب للإمام زين العابدين (ع) من الشعر في هذا المقام]

و نسب الى الامام زين العابدين (ع)

أني لا أكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

و بهذا يظهر لك وجه كتمان أهل العلم بعض علومهم كما يتضح لك

[رد ابي جعفر (ع) على الحسن البصري]

وجه جواب الامام (ع) في ما رواه الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سليمان انه كان عند أبى جعفر (ع) رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الاعمى يقول ان الحسن البصري يزعم ان الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار فقال أبو جعفر (ع) فهلك إذن مؤمن آل فرعون ما زال العلم مكتوما منذ بعث اللّه تعالى نوحا فليذهب الحسن يمينا و شمالا فو اللّه ما يوجد العلم إلا هاهنا. و حكي عن صدر الدين الشيرازي ليس الظلم في إعطاء غير المستحق أقل منه في منع المستحق بل هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 569

في الثاني أقل لأنه تأخير يمكن أن يتدارك بخلاف الأول لأنه تفويت. و لقد أحسن القائل:

و من منح الجهال علما إضاعة و من منع المستوجبين فقد ظلم

قال الشهيد الثاني (قده) لا يمتنع المعلم من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية فربما عسر على كثير من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النية لضعف نفوسهم و انحطاطها عن إدراك السعادة الآجلة و قلة أنسهم بموجبات تصحيحها فالامتناع من تعليمه يؤدي الى تفويت كثير من العلم مع انه يرجى ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم لكن يجب على المعلم إذا شعر من المتعلم فساد النية أن يستدرجه بالموعظة الحسنة و ينبهه على خطر العلم الذي لا يراد به وجه اللّه و يتلو عليه من الاخبار الواردة في ذلك حالا فحال حتى يقوده الى القصد الصحيح فان لم ينجع

ذلك و يئس منه قيل يتركه حينئذ فإن العلم لا يزيده إلا شرا و فصل آخرون فقالوا إن كان فساد نيته من جهة الكبر و المراء و نحوهما فالأمر كذلك و إن كان من جهة حب الرئاسة الدنيوية فينبغي مع اليأس من إصلاحه أن لا يمنعه لعدم ثوران المفسدة و تعديها و لأنه لا يكاد يخلص من هذه الرذيلة أحد في البداية فإذا وصل الى أصل العلم عرف أن العلم إنما يطلب للسعادة الأبدية بالذات و الرئاسة لازمة له قصدت أم لم تقصد. انتهى.

و قد تقدم في الأمر الأول و هو إخلاص النية ما ينفع في المقصود.

[ (ثامنها) الشفقة في التعليم و بيان الفتوى]

اشارة

(ثامنها) الشفقة في التعليم ففي من لا يحضره الفقيه و الخصال من رسالة علي ابن الحسين (ع) الى بعض أصحابه في تعداد الحقوق الواجبة ثمَّ حق رعيتك في العلم فان الجاهل رعية العالم، الى أن قال: فان تعلم ان اللّه إنما جعلك قيما لهم فيما أتاك من العلم و فتح من خزائنه لك فإن أحسنت في تعليم الناس و لا تخرق بهم و لا تضجر عليهم زادك اللّه من فضله و إن أنت منعت الناس من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 570

علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على اللّه أن يسلبك العلم و بهاؤه و يسقط من القلوب محلك، الحديث. و أيضا فإن المتعلم بالنسبة إلى المعلم ولد روحاني فينبغي أن ينظر اليه نظر الوالد الشفيق الى الولد البار المسترشد و يؤدبه أحسن الأدب و أول ذلك أن يحضره على الإخلاص للّه في علمه و سعيه و مراقبته تعالى في جميع اللحظات و يعلمه ان بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف و

ينشرح صدره و تنفجر من قلبه ينابيع الحكمة و يبارك له في حاله و علمه و يوفق للإصابة و يتلو عليه الآثار الواردة في ذلك و يزهده في الدنيا و يصرفه عن التعلق بها و الاغترار بزخارفها و يرغبه في العلم و يذكره بفضائله و فضائل العلماء و انهم ورثة الأنبياء و ان مدادهم يرجح دماء الشهداء و ان الملائكة لتضع أجنحتها لهم و انهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء و الشهداء و نحو ذلك مما ورد في فضل العلم و أهله من الاخبار و الاشعار و الأمثال ففي الأقاويل الخطابية و الكلمات الشعرية هز عظيم للنفوس الإنسانية كما يرى. و يتلطف في موعظته بالاقتصار على الميسور و قدر الكفاية من الدنيا و القناعة بذلك عما يشغل القلب عن طلب العلم و يزيد الهم. و يحب و يكره له ما يحب لنفسه و يكره، و يزجره عن سوء الأخلاق و ارتكاب المناهي و كل ما يؤدي الى فساد حال أو بطالة عن اشتغال أو إساءة أدب أو كثرة كلام لغير فائدة أو معاشرة من لا يليق أو نحو ذلك بطريق التعريض ما أمكن فان لم ينجع نهاه سرا ثمَّ جهرا و غلظ عليه القول بحسب اقتضاء الحال لينزجر هو و غيره و يتأدب به كل سامع فان لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده و الاعراض عنه الى أن يرجع لا سيما إذا خاف على بعض رفقته من الطلبة موافقته. و ان لا يسامح في نشر العلم و تقريبه الى ذهنه متلطفا في الإفادة برفق و نصيحة و تحريض على حفظ ما يبذله له من الفوائد النفيسة و لا يدخر عنه من فنون العلم شيئا

يحتاج اليه أو يسأل عنه إذا كان أهلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 571

لذلك فان لم يتأهل بعد لما سأل عنه نبهه على أن ذلك يضره و انه لم يمنعه عنه شحا بل شفقة و لطفا ثمَّ يرغبه بعد ذلك في الاجتهاد و التحصيل ليتأهل لذلك و لغيره،

[تفسير الرباني]

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 571

و قد ورد في تفسير (الرباني) انه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، و يأمر الطلبة بالاجتماع في الدرس لما يترتب عليه من الفائدة التي لا تحصل مع الانفراد و ينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم و ان كان صغيرا و يسمع السؤال من مورده على وجهه و لا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة و يطرح عليهم أحيانا من النكات و الدقائق الغريبة ما يشحذ به أذهانهم

[ (تاسعها) الاقتصار على مقتضى الحال و قدر الفهم]

(تاسعها) الاقتصار على مقتضى الحال و قدر الفهم و بيان المسائل و توضيح المشكلات التي لها وجوه متعددة متفاوتة على ما يبلغه فهمه و يكتم عنه ما لا يبلغه فهمه لأنه يفرق عليه الهم و ينفر الطبع و يفسر الحال و في الحديث النبوي نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم فنكلمهم على قدر عقولهم.

و فيه ما احد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم الا كان فتنة على بعضهم و لا يفوته الاقتصار على ما يبلغه فهمه من المراتب متدرجا من كل مرتبة الى ما فوقها و لا يخالف الترتيب فيتبلد ذهنه و يضيع سعيه.

[ (عاشرها) قطع الطمع حتى عن المتعلمين عنده]

اشارة

(عاشرها) قطع الطمع حتى عن المتعلمين عنده فلا يستأكل بعلمه و لا يسألهم الأجر عليه لمنافاة ذلك للإخلاص و تأسيا بالأنبياء فان العلماء ورثتهم بل يعلمهم لوجه اللّه لا يريد منهم جزاء و لا شكورا بل و لا يرى لنفسه منة عليهم و ان كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم لان ثوابه في التعليم أكثر من ثوابهم في التعلم عند اللّه و لولاهم لما نال هذا الثواب الجسيم و عن معاني الأخبار بسنده عن حمزة بن حمران قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول من استأكل بعلمه افتقر فقلت جعلت فداك ان في شيعتك و مواليك قوما يتحملون علومكم و يبثونها في شيعتكم فلا يعدمون على ذلك البر و الصلة و الإكرام فقال (ع) ليس أولئك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 572

بمستأكلين إنما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه عز و جل ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا

[ما أنشده القاضي أبو الحسن الجرجاني]

و ما أحسن ما أنشده القاضي أبو الحسن بن عبد العزيز الجرجاني لنفسه.

يقولون لي فيك انقباض و انما رأوا رجلا عن موضع الذل احجما

ارى الناس من داناهم هان عندهم و من أكرمته عزة النفس أكرما

و ما كل برق لاح لي يستفزني و لا كل من لاقيت أرضاه منعما

و اني إذا ما فاتني الأمر لم أبت أقلب كفي نحوه متندما

و لم أقضي حق العلم ان كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما

إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى و لكن نفس الحر تحتمل الظما

و لم ابتذل في خدمة العلم مهجتي لاخدم من لاقيت لكن لأخدما

أ أسقي به عزا و

اسقيه ذلة أذن فاتباع الجهل قد كان أحزما

و لو ان أهل العلم صانوه صانهم و لو عظموه في النفوس لعظما

و لكن أذلوه فهانوا و دنسوا محياه بالاطماع حتى تجهما

[ (الحادي عشر) التواضع في طلب العلم و معرفة الفتوى]

(الحادي عشر) التواضع بخفض الجناح و حسن اللقاء و التلطف و بشاشة الوجه إلى غير ذلك من المعلم و المتعلم فإنه يكون باعثا لمزيد التوجه و الاستفادة ففي الكافي و معاني الاخبار عن ابي عبد اللّه (ع) اطلبوا العلم و تزينوا معه بالحلم و الوقار و تواضعوا لمن تعلمونه و تواضعوا لمن طلبتم منهم العلم و لا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم. مضافا الى ان ذلك هو مطلوب بنفسه فعن النبي (ص) ما تواضع احد للّه الا رفعه، و قد قال تعالى وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مخاطبا لأحب خلقه اليه، و عن الصادق (ع) ان في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع رفعاه و من تكبر وضعاه و قوله تعالى تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لٰا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فَسٰاداً وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 573

[ (الثاني عشر) التملق للمعلم و للمفتي]

(الثاني عشر) التملق و هو التودد و لين الجانب و التواضع للمعلم زيادة على غيره من ذوي الحقوق حتى الأبوين لأنهما و ان تسببا لوجوده فان ذلك انما اتفق منهما من غير قصد له في الأغلب بل بمقتضى الشهوة البهيمية المركوزة فيهما و هو وجود ناقص في أخس المراتب يشترك فيه الديدان و الخنافس. و المعلم المرشد يتسبب بقصده و عنايته لتكميل هذا الوجود الناقص و إيصاله إلى أقصاه و استخراج ما فيه بالقوة إلى الفعل فحقه أعظم و نعمته أحق بالشكر. و الموفق لا يألوا جهدا في تعظيمه.

[ (الثالث عشر) حسن الأدب مع المعلم و الخدمة له]

(الثالث عشر) حسن الأدب مع المعلم و الخدمة له في محضره و مغيبه و في الحديث النبوي ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم. و سئل الإسكندر ما بالك توقر معلمك أكثر من والدك فقال لان الوالد سبب لحياتي الفانية و المعلم سبب لحياتي الباقية. و في المجلي لابن ابي جمهور الأحسائي انه قد روي عنه (ص) قال من علم شخصا مسئلة فقد ملك رقبته فقيل يا رسول اللّه أ يبيعه فقال لا و لكن يأمره و ينهاه.

[ (الرابع عشر) التسليم للمعلم و المفتي]

(الرابع عشر) التسليم بأن يلقي اليه زمام أمره بالكلية و يذعن له في كل ما يعين له من العلم المناسب لمرتبته و حاله حتى يجعل نفسه بين يديه كالمريض الجاهل بين يدي الطبيب الحاذق يداويه بما يشاء من الدواء بل كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء فيذعن لما ينقله من علم الى علم.

[ (الخامس عشر) إحضار القلب و الإقبال بكليته عليه]

اشارة

(الخامس عشر) إحضار القلب و الإقبال بكليته عليه في مجلسه متعقلا لقوله بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام و لا يلتفت من غير ضرورة و لا سيما عند بحثه معه أو كلامه له

[ (مرسلة الجعفري المشتملة على جملة من آداب المتعلم]

و قد اشتمل على جملة من آداب المتعلم مرسلة الجعفري في الكافي عن ابي عبد اللّه (ع) قال كان أمير المؤمنين يقول ان من حق العالم ان لا تكثر عليه السؤال و لا تأخذ بثوبه و إذا دخلت عليه و عنده قوم فسلم عليهم جميعا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 574

و خصه بالتحية دونهم و اجلس بين يديه و لا تجلس خلفه و لا تغمز بعينيك و لا تشر بيدك و لا تكثر من القول قال فلان و قال فلان خلافا لقوله و لا تضجره بطول صحبته فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها متى يسقط عليك منها شي ء الحديث.

[الرواية عن علي بن الحسين (ع) المشتملة على جملة من آداب المعلم و المتعلم]

و في الحديث المشتمل أيضا على جملة من آداب المتعلم عن الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان عن الشيخ الصدوق بسنده عن الثمالي عن علي بن الحسين (ع) انه حق سائسك «1» بالعلم التعظيم له و التوقير لمجلسه و حسن الاستماع اليه و الإقبال عليه و ان لا ترفع عليه صوتك و لا تجيب أحدا يسأله عن شي ء حتى يكون هو الذي يجيب و لا تحدث في مجلسه أحدا و لا تغتاب عنده أحدا و أن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء و أن تستر عيوبه و تظهر مناقبه و لا تجالس له عدوا و لا تعادي له وليا فاذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة اللّه عز و جل بأنك قصدته و تعلمت علمه للّه جل اسمه لا للناس و حق رعيتك بالعلم ان تعلم ان اللّه عز و جل انما جعلك قيما لهم فيما آتاك من العلم و فتح لك من خزائنه فإن أحسنت في تعليم الناس و لم تخرق بهم

«2» و لم تضجر عليهم زادك اللّه عز و جل من فضله و أن أنت منعت الناس من علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على اللّه عز و جل أن يسلبك العلم و بهائه و يسقط من القلوب محلك. و عن الصادق (ع) و تواضعوا لمن تعلمونه العلم و لمن طلبتم منه العلم و لا تكونوا علماء جبارين. و عن تحف العقول في مواعظ السجاد (ع) في رسالته المعروفة برسالة الحقوق و اما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له و التوقير لمجلسه و حسن الاستماع اليه و الإقبال عليه و المعونة له على نفسك فيما

______________________________

(1) اي المدبر أمر تعليمك.

(2) عن تحف العقول عن أمير المؤمنين (ع) انه قال لولده الحسين (ع) يا بني رأس العلم الرفق و آفته الخرق. و الخرق هو الدهشة و التخويف و لو بحدة النظر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 575

لا غنى بك من العلم بان تفرغ له عقلك و تحضره فهمك و تجلي له بصرك بترك اللذات و نقص الشهوات و ان تعلم انك فيما القى إليك رسوله الى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه و لا تخنه في تأدية رسالته و القيام بها عنه إذا تقلدتها.

[ (السادس عشر) ترك الحياء في الاستفسار عن المسئلة و عما أشكل عليه امره]

(السادس عشر) ينبغي ترك الحياء في الاستفسار عما أشكل عليه امره و ترك الاستنكاف عنه فان من رق وجهه رق علمه و من رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال. و في الصحيح في الخصال عن أمير المؤمنين (ع) قوام الدين بأربعة عالم ناطق مستعمل له و غني لا يبخل بفضله على أهل دين اللّه و فقير لا يبيع أخرته بدنياه و

جاهل لا يتكبر عن طلب العلم فاذا كتم العالم علمه و بخل الغني بماله على مستحقه و باع الفقير آخرته بدنياه و استكبر الجاهل عن طلب العلم رجعت الدنيا على ورائها القهقرى. الحديث.

[ (السابع عشر) تجنب الإكثار و الإلحاح في المسئلة]

(السابع عشر) تجنب الإكثار و الإلحاح في المسئلة كما في الحديث المتقدم و في حديث آخر في الكافي نهى رسول اللّه (ص) عن القيل و القال و إفساد المال و كثرة السؤال عما لا يهمه فإنه من الخوض فيما لا يعنيه.

[ (الثامن عشر) ان يتحر الوقت المناسب لمعرفة المسئلة]

(الثامن عشر) ان يتحرى الوقت المناسب و يغتنمه عند طيب نفس المعلم و فراغ باله و الخلو و هذا حسن السؤال و في الحديث النبوي حسن السؤال نصف العلم. و كأن النصف الآخر حسن الحفظ أو حسن التفكر.

[ (التاسع عشر) تقديم الأهم فالأهم من العلوم و المسائل التي أشكل أمرها عليه]

(التاسع عشر) تقديم الأهم من العلوم فالأهم فإنها و إن كانت مرتبطة بعضها ببعض الا ان لكل منها مرتبة و مقاما معلوما فلا يشتغل بالغايات قبل المبادي و لا بالمقاصد قبل المقدمات و لا باختلاف العلماء في العقليات و السمعيات قبل إتقان الاعتقادات فيختل ذهنه و يحير عقله و يضيع سعيه و يعسر عليه طلبه بل يلاحظ الترتيب اللائق و يؤت كل ذي حق حقه فيكون ممن أتى البيوت من أبوابها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 576

و عند ذا يسهل عليه درك البغية و نجح الامنية.

[ (العشرون) الكتابة للعلم و الفتوى]

(العشرون) الكتابة له فان كل علم ليس في القرطاس ضاع و لولاها لاندثرت كوامن الحكمة و رموزها و خفيت معادن المعارف و كنوزها و لبنت على اسرار العلوم عناكب النسيان و يدل على فضيلة الكتابة جعل اللّه تعالى من نعمه على الإنسان تعليمه الكتابة بالقلم في قوله تعالى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ و وصفه تعالى للحافظين بأنهم كاتبين في قوله تعالى وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحٰافِظِينَ كِرٰاماً كٰاتِبِينَ و عن أمالي الصدوق و عن خط الشهيد الثاني نقلا من خط قطب الدين و عن كتاب الدرر الباهرة من الاصداف الطاهرة ان رسول اللّه (ص) قال المؤمن إذا مات و ترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه و بين النار و أعطاه اللّه تبارك و تعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة و ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم الا ناداه ربه عز و جل جلست إلى حبيبي و عزتي و جلالي لأسكننك الجنة معه و لا أبالي. و عن غوالي اللئالي بسنده عن رسول اللّه قلت يا رسول اللّه اكتب كل ما اسمع

منك قال نعم قلت في الرضا و الغضب قال نعم فإني لا أقول في ذلك كله الا الحق. و في الكافي بسنده الى الفضل بن عمر و عن كشف المحجة لابن طاوس عن الفضل بن عمر أيضا قال قال لي أبو عبد اللّه (ع) اكتب و بث علمك في إخوانك فإن مت فورّث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج ما يأنسون فيه الا بكتبهم.

و في منية المريد للشهيد الثاني عن النبي (ص) انه قال قيدوا العلم قيل و ما تقيده قال كتابته و مثله عن غوالي اللئالى. و روي ان رجلا من الأنصار كان يجلس إلى النبي (ص) يستمع منه الحديث فيعجبه و لا يحفظه فشكا ذلك الى النبي (ص) فقال له النبي (ص) استعن بيمينك و أومأ بيده اى خط. و عن الحسن بن علي (ع) انه دعا بنيه و بني أخيه فقال انكم صغار قوم و يوشك ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 577

تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم ان يحفظه فليكتبه و ليضعه في بيته. و في الكافي بسنده عن ابن بصير قال سمعت أبا عبد اللّه يقول اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا. و في الكافي بسنده عن ابي عبد اللّه (ع) قال القلب يتكل على الكتابة و في الكافي بسنده عن عبيد بن زرارة قال قال أبو عبد اللّه (ع) احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها.

(ان قلت) ان الكتابة للعلم لو كانت صفة حسنة لا تصف بها النبي (ص) قلت لا نسلم عدم اتصاف النبي (ص) بها فقد روى في بصائر الدرجات عن احمد بن محمد عن ابي عبد اللّه البرقي

عن جعفر بن محمد الصوفي قال سألت أبا جعفر (ع) محمد بن علي الرضا (ع) و قلت له يا ابن رسول اللّه لم سمي النبي الأمي قال ما يقول الناس قال قلت له جعلت فداك يزعمون انما سمي النبي الأمي لأنه لم يكتب فقال كذبوا عليهم لعنة اللّه أنى يكون ذلك و اللّه تبارك و تعالى يقول في محكم كتابه هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ.

فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن و اللّه لقد كان رسول اللّه (ص) يقرأ و يكتب باثنين و سبعين أو بثلاثة و سبعين لسانا و انما سمي الأمي لأنه كان من أهل مكة و مكة من أمهات القرى و ذلك قول اللّه تعالى في كتابه لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا* و عن عبد اللّه بن محمد عن الحسن بن موسى الخشاب عن علي بن أسباط أو غيره قال قلت لأبي جعفر (ع) أن الناس يزعمون أن رسول اللّه لم يكن يكتب و لا يقرأ فقال كذبوا لعنهم اللّه أنى ذلك و قد قال اللّه هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ فكيف يعلمهم الكتاب و الحكمة و ليس يحسن أن يقرأ و يكتب قال قلت فلم سمي النبي (ع) أميا قال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 578

نسبة إلى مكة و ذلك قول اللّه عز و جل لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا*، فأم القرى مكّة فقيل أمي لذلك.

و عن الحسن بن علي عن احمد بن هلال عن

خلف بن حماد عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال قال أبو عبد اللّه (ع) أن النبي (ص) كان يقرأ و يكتب و يقرأ ما لم يكتب.

(ان قلت) انه في غوالي اللئالي عن النبي (ص) انه قال: خذوا العلم من أفواه الرجال و قال (ص) و إياكم و أهل الدفاتر و لا يغرنكم الصحفيون، و في علل الشرائع أنه أعاب أبو حنيفة على جعفر الصادق (ع) بأنه صحفي و لما بلغ الامام (ع) قال صدق قرأت صحف إبراهيم و موسى.

قلت سيجي ء إنشاء اللّه في الخامس و العشرين ما يوضح لك المراد من ذلك

[ (الحادي و العشرون) مجالسة أهل العلم و الفتوى]

(الحادي و العشرون) مجالسة أهل العلم فان فيها شرف الدنيا و الآخرة ففي ثواب الاعمال و الخصال و أمالي الصدوق مسندا إلى الصادق (ع) عن آبائه (ع) عن رسول اللّه (ص) انه قال مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة قال المجلسي (ره) أهل الدين علماء الدين و العاملون بشرائعه. و عن أمالي الشيخ بسنده إلى علي (ع) قال قال رسول اللّه (ص) المتقون سادة و الفقهاء قادة و الجلوس إليهم عبادة. و عن روضة الواعظين عن بعض الصحابة قال جاء رجل من الأنصار إلى النبي (ص) فقال يا رسول اللّه إذا حضرت جنازة و مجلس عالم أيهما أحب إليك ان اشهد فقال رسول اللّه (ص) إذ كان للجنازة من يتبعها و يدفنها فان حضور مجلس عالم أفضل من حضور ألف جنازة و من عيادة ألف مريض و من قيام ألف ليلة و من صيام ألف يوم و من ألف درهم يتصدق بها على المساكين و من ألف حجة سوى الفريضة و ألف غزوة سوى الواجب تغزوها في سبيل اللّه بمالك و

نفسك و اين تقع هذه المشاهد من مشهد عالم اما علمت ان اللّه يطاع بالعلم و يعبد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 579

بالعلم و خير الدنيا و الآخرة مع العلم و شر الدنيا و الآخرة مع الجهل. و عن العدة عن علي (ع) قال جلوس ساعة عند العلماء أحب إلى اللّه من عبادة ألف سنة و النظر إلى العالم أحب إلى اللّه من اعتكاف سنة في البيت الحرام و زيارة العلماء أحب الى اللّه تعالى من سبعين طوافا حول البيت و أفضل من سبعين حجة و عمرة مبرورة مقبولة و رفع اللّه له سبعين درجة و انزل عليه ملائكة الرحمة و شهدت له الملائكة ان الجنة وجبت له.

[ (الثاني و العشرون) المذاكرة و المناظرة في العلوم الدينية و المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية]

اشارة

(الثاني و العشرون) المذاكرة و المناظرة مع أقرانه من الطلبة الصالحين فإنها نعم المعين على الحفظ و رسوخ العلم في الذهن و انتعاش النفس و توسع القلب كيف لا و الحقيقة لا زالت تبرق من تصادم الآراء و اللئالي المكنونة انما تستخرج بالغوص في بحار الأفكار. و لا بأس ان يمتحن العالم بالمحاورة و المباحثة لتظهر فضيلته. و يصلى الياقوت لتبان مزيته و في (الكافي) عن رسول اللّه (ص) ان اللّه عز و جل يقول تذاكر العلم بين عبادي مما تحيي عليه القلوب الميتة إذا هم فيه انتهوا إلى أمري. و في (الكافي) عن رسول اللّه (ص) أيضا تذاكروا و تلاقوا و تحدثوا فان الحديث جلاء للقلوب ان القلوب لترين كما يرين السيف الحديث. و في الكافي بسنده عن ابي جعفر (ع) انه قال: رحم اللّه عبدا أحيا العلم، قيل: ما إحياؤه؟ قال ان يذاكر به أهل الدين و أهل الورع و في الكافي

بسنده عن ابي جعفر (ع) تذاكر العلم دراسة و الدراسة صلاة حسنة هذا (و قد يتراءى) كون المجادلة من جملة أنواع المذاكرة بل أقوى أنواعها لما تلزمه غالبا من استحضار الذهن و تذكر الأدلة و تنقيحها و الفحص عن دلالتها و تشحيذ الخاطر و رياضة الفكر و تقوية النفس لدرك المآخذ و ترغيب الناس في العلم و نحو ذلك و هو كذلك لكنها كثيرة الآفات غير مأمونة التبعات و التحفظ على شروطها و آدابها على وجه السلامة في غاية التعسر و الصعوبة إلا ما رحم ربي ففي فقه الرضا و أمالي الصدوق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 580

بسنده الى الحذاء قال قال أبو جعفر (ع) إياك و الخصومات فإنها تورث الشك و تحبط العمل و تردي صاحبها و عسى ان يتكلم الرجل بشي ء فلا يغفر له، و عن الأمالي أيضا بسنده عن ابى عبد اللّه الصادق (ع) إياكم و الخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر اللّه عز و جل و تورث النفاق و تكسب الضغائن و تستجيز الكذب و عن كتاب الاعتقادات ما رواه الصدوق عن أمير المؤمنين (ع) انه قال (من طلب الدين بالجدل تزندق) قال المجلسي (ره) ان الذي يظهر من الاخبار ان المذموم من الجدال هو ما كان الغرض فيه الغلبة و إظهار الكمال و الفخر و التعصب و ترويج الباطل و اما ما كان لإظهار الحق و رفع الشبهة عن الدين و إرشاد المضلين فهو من أعظم أركان الدين لكن التمييز بينهما في غاية الصعوبة و الاشكال و للنفس فيه تسويلات خفية لا يمكن التخلص منها الا بفضله تعالى، و عليه فالأولى ترك النزاع الا مع

الحاجة كتجدد قضية واقعة أو مترقبة لا يسعه الجهل بحكمها و لا يثق بنفسه إذا انفرد بالنظر فيها فلا بد له من الاستعانة بنظر غيره من الثقات المأمونين فيقتصر على قدر الحاجة و هي معرفة حكم ذلك المشكل الواقع و إذا كانت في الخلوة كانت اجمع للفهم و أحرى بصفاء الفكر و درك الحق و أبعد من حركة دواعي الرياء و الحرص على طلب الافحام و ان يكون في طلب الحق كمنشد ضالة يكون شاكرا متى وجدها و غير مقصر إذا فقدها و لا يفرق بين أن يظهر على يده أو يد غيره فيجعل مخاطبة بمنزلة المشير الناصح و المعين المساعد و يكون التنازع بنحو التشاور و التناصح و التعاون دون الخصومة و المغالبة شاكرا للمصيب إذا عرّفه خطأه كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبهه غيره عليها في طريق آخر معترفا بالخطاء إذا ظهر منه غير مهم بظهوره من الطرف الآخر فإنه من المراء المذموم

[أقسام المناظرة و شروطها]

(و عليه) فينبغي في المناظرة أولا تحرير محل النزاع و تشخيصه و تقرير المذاهب المتخالفة فيه ان كان فيه خلاف ثمَّ بيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 581

دلائلها بأحسن تقريب و أحسن توضيح و يذكر مختاره. و المناظرة معه ان كانت في الطرق النقلية فإنما تنصب في صحة النقل أو في دلالته أو فيما يعارضه و الأول يسمى بالسند و الثاني بالمتن و الثالث بالمعارض و ان كانت في الطرق التصويرية الكسبية فإنما يكون مصبها في اطراد التعريف اعنى مانعيته عن دخول الأغيار في المعرف و في انعكاسه بمعنى جامعيته لافراد المعرف دون خروج بعض منها و لذا قد يعبرون عن الاطراد بالمانعية و

عن الانعكاس بالجامعية و في اجلائيته عن المعرف بمعنى ان يكون اعرف و أظهر عند العقل من المعرف كما ان النقاش في كونها حدا أو رسما ناقصا أو تاما لا بد و ان يكون منصبا على بيان عدم توفر ما يعتبر فيها و اما ان كانت في الطرق التصديقية الكسبية فإنما يكون مصبها على عدم صحة مقدماتها أو هيئة شكلها و تسمى مناقضة ان كانت منعا عن بعض مقدماتها على سبيل التعيين أو جميعها على سبيل التفصيل سواء كان منعا مجرد أو مع السند و اما لو منع من مجموع الدليل فلا يسمى مناقضة بل ان كان منعه من مجموعه مقترن بشاهد يدل على المنع فيسمى نقض إجمالي و الا فيسمى مكابرة و هي غير مسموعة في باب المناظرة و تسمى معارضة فيما إذا أقام الدليل على ما ينافي ما استدل عليه كما إذا أقام شخص الدليل على قدم العالم و الآخر يقيم الدليل على حدوثه. كما انه تعارف عند المصنفين ان يسمون ابطال الدليل بتخلف الحكم الذي أقيم عليه في بعض الصور بالنقض كما انهم يسمون الابطال بالدليل لمقدمات الدليل أو بعضها على سبيل التعيين (بالحل) فتعيين موضع غلط الدليل بالحجة يكون حلا.

[ (الثالث و العشرون) ضبط اللسان في المجالس و المجامع و عدم التسرع في الفتوى]

(الثالث و العشرون) ضبط اللسان في المجالس و المجامع فان في إرخاء اللسان مزالق طالما أوقعت العبقري في المهالك و أسقطت العالم النحرير في الأندية و المجالس، و لا تكن ثرثارة في كل نادي تخطب.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 582

فعن النبي (ص) كما في الكافي انه جاء اليه رجل فقال يا رسول اللّه أوصني فقال احفظ لسانك قال يا رسول اللّه أوصني قال احفظ لسانك، قال يا رسول

اللّه أوصني قال احفظ لسانك ويحك و هل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم و عنه (ص) انه خرج على أصحابه فقال من ضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه ضمنت له الجنة.

و عنه (ص) يعذب اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول اي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا من الجوارح فيقال له خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض و مغاربها فسفك منها الدم الحرام و انتهب بها المال الحرام و انتهك بها الفرج الحرام و عزتي و جلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من الجوارح و عن أمير المؤمنين (ع) انه مر برجل يتكلم بفضول الكلام فوقف عليه فقال يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا الى ربك فتكلم بما يعنيك.

و عنه (ع) في حديث ما خلق اللّه شيئا أحسن من الكلام و لا أقبح منه. بالكلام ابيضت الوجوه و بالكلام اسودت الوجوه و اعلم ان الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فاذا تكلمت به صرت في وثاقه فاخزن لسانك كما تخزن ورقك و ذهبك فان اللسان كلب عقور فإن أنت خليته عقر و رب كلمة سلبت نعمة و عنه (ع) من كثر كلامه كثر خطأه و من كثر خطأه قل حياؤه و من قل حياؤه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه و من مات قلبه دخل النار و عن الكاظم (ع) يأتي على الناس زمان تكون العافية في عشرة أجزاء تسعة منها في اعتزال الناس و واحدة في الصمت.

هذا و لكن ما ذكر في غير الكلام في رضاء اللّه تعالى و آلائه و نعمائه و في الأمر بالمعروف و النهي

عن المنكر و إرشاد الضالين و نشر العلوم في الصالحين و الدعاء و التلاوة و الصلاة و الاستغفار و نحو ذلك مما ورد الحث عليه و الطلب له.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 583

و قد سئل السجاد (ع) عن الكلام و السكوت أيهما أفضل فقال (ع) لكل واحد آفات فاذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت قيل و كيف ذاك يا ابن رسول اللّه (ص) قال لان اللّه عز و جل ما بعث الأنبياء و الأوصياء بالسكوت انما بعثهم بالكلام و لا استحقت الجنة بالسكوت و لا استوجبت ولاية اللّه بالسكوت و لا توقيت النار بالسكوت و لا يجنب سخط اللّه بالسكوت انما ذلك كله بالكلام ما كنت لأعدل القمر بالشمس انك تصف فضل السكوت بالكلام و لست تصف فضل الكلام بالسكوت.

[ (الرابع و العشرون) الدعاء عند الخروج للدرس من المنزل و الدعاء عند الشروع في التدريس]

اشارة

(الرابع و العشرون) ان المدرس للعلم يدعو عند خروجه من منزله مريد للدرس بالدعاء المروي عن النبي (ص) اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل و أزل أو أزل و أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي عز جارك و تقدست أسماؤك و جل ثناؤك و لا إله غيرك ثمَّ يقول بسم اللّه حسبي اللّه توكلت على اللّه و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم اللهم ثبت جناني و أدر الحق على لساني.

و ان يجلس مستقبل القبلة لقوله (ص) خير المجالس ما استقبل بها و قبل الشروع في التدريس و البحث يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم و يسمي و يحمد اللّه و يصلي و يسلم على النبي و آله و أصحابه الطيبين الطاهرين قال الشهيد الثاني أن هذا و ان لم يرد فيه نص على

الخصوص لكن فيه خير عظيم و فيه اقتداء بالسلف الصالح فقد كانوا يستحبون ذلك و قد ذكر بعض العلماء إنه يقول عند الشروع بالبحث اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل على اللهم انفعني بما علمتني و علمني ما ينفعني و زدني علما و الحمد للّه على كل حال. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع و من قلب لا يخشع و من نفس لا تشبع و من دعاء لا يسمع. و كان بعض العلماء يقرأ سورة الأعلى و يزعم انه متأس و متفئل بما فيها. و روي أنه من اجتمع مع جماعة و دعا يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 584

من دعائه إليهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معصيتك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثارنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل دنيانا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.

[ما نستحسنه عند الشروع في الدرس]

(و اني لأستحسن) عند الشروع في الدرس أن تقرأ فاتحة الكتاب لما فيها من الحمد للّه و تعظيمه و الدعاء بالهداية للصواب

[ما يختم به الدرس من الدعاء و الآيات الشريفة]

و ان يختم الدرس بما ورد عن النبي (ص) بما كان يختم به مجلسه فيقول اللهم اغفر لنا ما أخطأنا و ما تعمدنا و ما أسررنا و ما أعلنا و ما أنت اعلم به منا أنت المقدم و أنت المؤخر لا إله إلا أنت.

[ما يقرأ عند القيام من المجلس]

و ان يقول إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم و بحمدك اشهد ان لا آله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين. قال الشهيد الثاني (ره) رواه جماعة انه من فعل النبي و في بعض الروايات أن الايات الثلاث كفارة المجلس و كما يستحب ذلك للعالم يستحب لكل من من مجلسه قائم لكنه في حقه آكد.

[الخامس و العشرون) أخذ العلم من أفواه الرجال لا من الكتب و الأقوال]

اشارة

(الخامس و العشرون) ان يأخذ العلم من أفواه الرجال و يستفيده من الحضور عند الاساتذة المهرة فيه و ليحترز من أخذه من بطون الكتب من غير قراءة على أربابه من مشايخ عصره خوفا من وقوعه في التصحيف و الغلط و التحريف قال بعض من تقدم من الأصحاب من تفقه من بطون الكتب ضيع الاحكام

[ذم الصحفيين]

و قال آخرون إياكم و الصحفيين الذين يأخذون علمهم من الصحف و الكتب فان ما يفسدون أكثر مما يصلحون و عن غوالي اللئالي عن النبي (ص) خذوا العلم من أفواه الرجال و انه قال (ص) و إياكم و أهل الدفاتر و لا يغرنكم الصحفيون و في علل الشرائع في حديث تضمن أعابه أبي حنيفة لجعفر الصادق (ع) بأنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 585

صحفى و لما بلغ ذلك الامام (ع) قال صدق قرأت صحف إبراهيم و موسى و بهذا ظهر لك وجه الجمع بين ما ورد من الحث على طلب كتابة العلم كما تقدم ص 578 و بين ما ورد من الإعابة على الصحفيين و أهل الدفاتر.

[ (السادس و العشرون) الصبر و المثابرة على تحصيل العلم]

(السادس و العشرون) الصبر و المثابرة على تحصيل العلم فان العلم يحتاج الى الكد و التعب و الجد و الاجتهاد و هذا يستدعي ترك الملذات و توطين النفس على المذلات قال تعالى وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا قال والدي الرضا (ره) ان النجاح ان كان في السماء فلا نناله الا بسلم الثبات و ان كان في الأرض فلا نظفر به الا من طريق التصميم و المثابرة و قد روي عن النبي (ص) انه قال لا تنالوا ما تحبون الا بالصبر على ما تكرهون و لا تبلغوا ما تهوون الا بترك ما تشتهون و مما ينسب لأمير المؤمنين (ع)

لا تعجزن و لا يدخلك مضجرة فالنجح يهلك بين العجز و الضجر

قد تمَّ بهذا الجزء الثاني من كتابنا النور الساطع في الفقه النافع الكلام في طرق امتثال الاحكام بحمد اللّه تعالى و منه و كرمه و به تمت مباحث الاحتياط و الاجتهاد و التقليد

و سيجي ء بعده إنشاء اللّه تعالى الجزء الثالث في مبادي علم الفقه و المدخل له و الباب لمدينته و اللّه الموفق للإنجاز و الصواب

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.